ضِمْنَ الجهود المبذولة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في إضعاف وتحطيم حلف الأحزاب وبخاصّةً الحلف الخيبري منه، وتأديباً لقبيلة بني مرّة الغطفانية التي شاركت بفعالية في غزوة الأحزاب:
[1] "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد الأنصاري، أخا بني الحارث ابن الخزرج، نحو بني مرَّة بفدك"1، في دورية قتال صغيرة، قوتها ثلاثون رجلاً، كما يذكر الواقدي، وابن سعد2".
[2] "فخرج، فلقي رعاء3 الشاء، فسأل: "أين الناس؟ فقالوا: "هم بواديهم، والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وعاد منحدراً إلى المدينة، فخرج الصريخ4 فأخبرهم"5".
__________
1 أخرجه البيهقي (دلائل 5/462، 464) ، بسنده، من طريق أبي الأسود، عن عروة. ومن طريق محمّد بن فليح عن موسى بن عقبة، عن الزهري. ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ومحمّد بن فليح، عن موسى بن عقبة. وهو من مراسيل عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، وهم من أئمة المغازي الثقات المشهورين. كما أنه يتقوّى ببعضه. والله أعلم.
2 المغازي 2/723، الطبقات 2/118.
3 جمع راعٍ.
4 الصريخ: المستغيث.
5 أخرجه الواقدي (مغازي 2/732) .
وبسرعةٍ استطاع بنو مرّة تكوين قوة مطاردة تعقُّبيَّة كبيرة أدركت السرية عند الليل، فاشتبكوا معهم في قتالٍ تراشقي بالنبال استمرَّ طوال الليل".
[3] "حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا، فحمل المُرِّيون عليهم"1، في قتالٍ قوي غير متكافئٍ بين الطرفين، إذ أطبق المرِّيون على بشير وأصحابه فيما لا قبل لهم به، حيث سقط أصحاب بشير الواحد تلو الآخر بعد أن قاوموا ببسالة وقاتلوا بشجاعة، ولكن كثرة المرِّيين لم تتح لهم الفرصة".
[4] "وولَّى منهم مَن ولَّى، وقاتل بشير قتالاً شديداً"2، أبدى فيه شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، حتى أثخنته الجراح، وسقط مغشياً عليه من شدَّتها، حتى إنَّ المرِّيّين ظنوا أنه قد مات، حينما ضربوا كعبه3 فرأوه بلا حراك، فرجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم علبة بن زيد الحارثي4 - الذي ربما كان من الذين تحيَّزوا من ميدان المعركة - بخبر السرية ومصابها على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 2/119) ، عن شيوخه.
2 من رواية الواقدي، وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
3 الكعب: هو العظم الناشز فوق القدم من جانبيها. وضربه هنا هو للاستدلال على حياة الجريح من عدمها، فإذا تحرّك بعد الضرب عرفوا أنّ به حياةً، والعكس صحيح.
4 عُلْبَة - بضم أوّله، وسكون اللام، بعدها موحدة - ابن زيد بن عمرو بن زيد ابن جشم بن حارثة، الأنصاري الأوسي، ذكر ابن إسحاق، وابن حبيب في المحبر في البكائين في غزوة تبوك، وإنّه تصدّق بعرضه على كلّ مسلمٍ ناله. (ابن حجر: إصابة 2/499 - 500) .
أمَّا قائد السرية بشير بن سعد - رضي الله تعالى عنه - فإنَّه لمَّا
[5] "أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهودي1 بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثُمَّ رجع إلى المدينة"2".
__________
1 ربّما كان هذا اليهودي صديقاً له، أو كان بينهما علاقات سابقة أيام الجاهلية. وذلك للعلاقة الوثيقة التي كانت تربط الأوس والخزرج باليهود قبل الإسلام. والله أعلم.
2 من رواية الواقدي، وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
,
كانت الأجواء التي تمَّ فيها إرسال هذه السرية تفيض علماً، وتفوح عبقاً مباركاً، وقد كانت فرصة مناسبة للتعرُّف على مجالس العلم التي كانت تُعقد في المسجد النبوي، وكذلك معرفة المراسم التي يتم من خلالها بعْث السرايا، وتولية الأُمراء عليها، وذلك من خلال راوي الحديث الذي كان شاهد عيان يصف لنا ذلك كُلّه بأدقّ عبارة، وأسهل جملة، يقول عبد الله ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما:
[1] "كنت عاشر عشرة رهط1 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده: "أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"2".
__________
1 رهط: جماعة.
2 ذكره ابن هشام: (سيرة 4/631 - 632) عن ابن إسحاق الذي رواه بسند فيه مبهمان عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. وأخرجه البزَّار كما في (كشف الأستار، حديث رقم: 1676) ، بإسناده عن الهيثم ابن حميد بن حفص بن غيلان، وأخرجه بان ابن ماجه (السنن 2/1332-1333) . بعضه باختصار عن ابن أبي مالك عن أبيه، كلاهما عن عطاء بن أبي رباح عنه. قال عنه الهيثمي (المجمع 5/318) :وابن حجر (مختصر مسند البزّار1/711) .رجاله ثقات.
قلت: الهيثم وشيخه حفص بن غيلان صدوقان، وابن أبي مالك هو: خالد بن يزيد ابن عبد الرحمن ضعيف. كما قال الحافظ وأبوه صدوق. فيكون الإسناد حسناً إن شاء الله. وقد يرتفع إلى الصحيح لغيره بالمتابعة. والله تعالى أعلم.
وقال عنه الألباني (صحيح سنن ابن ماجه 2/370) : حسن.
[2] "فجاء فتى من الأنصار، فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جلس، فقال: "يا رسول الله! أي المؤمنين أفضل؟ قال: "أحسنهم خُلُقاً". قال: "أي المؤمنين أكيس؟ 1 قال: "أكثرهم للموت ذكراً، وأكثرهم له استعداداً قبل أن ينْزل بهم - أو قال: "ينْزل به - أولئك الأكياس، ثُمَّ سكت"2 الفتى3
و [3] "أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين! 4، خمسٌ إذا ابتليتُم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ: "لم تظهر الفاحشة في قومٍ
__________
1 أي أعقل. والكَيِّس هو العاقل الفطن.
2 زيادة من البزَّار. انظر: كشف الأستار، حديث رقم: 1676، ومختصر مسند البزَّار حديث رقم: 1317) .
قلت: لكن في إسناده الهيثم، وحفص بن غيلان (صدوقين، ورُميا بالقدر) .
والله تعالى أعلم.
3 زيادة من ابن إسحاق (ابن هشام: سيرة 4/631) .
4 هكذا وقع في رواية ابن ماجه، وكذلك رواية ابن إسحاق، ولعلَّه دعاهم بذلك تغليباً لأنَّ أكثرهم في ذلك المجلس كانوا من المهاجرين، وإلاَّ فإنه كان فيهم من الأنصار أيضاً. ووقع في رواية الواقدي: "يا أيها النَّاس"، بينما في رواية البزَّار لم يعين أحداً في خطابه، وإنَّما قال مباشرةً: "لم تظهر الفاحشة في قومٍ ... " الخ.
قطّ حتَّى يعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاَّ أُخِذُوا بالسنين وشِدَّة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاة أموالهم إلاَّ مُنِعُوا القَطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلاَّ سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا1 مِمَّا أنزل الله إلاَّ جعل الله بأسهم بينهم"2".
[4] "قال: "ثُمَّ أمر عبد الرحمن بن عوف يتجهَّز لسريةٍ أمَّره عليها، فأصبح قد اعتمَّ بعمامة كرابيس3 سوداء، فدعاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فنقضها وعمَّمه وأرسل مِن خلفه أربع أصابع، ثُمَّ قال: "هكذا يا ابن عوف، فاعتمَّ بها فإنه أعرب4 وأحسن"5".
__________
1 هكذا وقعت في رواية ابن ماجه. وفي رواية ابن إسحاق: "وتجبَّروا فيما أنزل الله". ولعلَّه حصل تصحيف في اللفظة. وفي رواية البزَّار قال: "ولم يحكم أئمتهم كتاب الله إلاَّ جعل بأسهم بينهم".
2 هكذا في رواية ابن ماجه (سنن 2/1332 - 1333) .
3 عمامة من قطن غليظة.
4 هكذا وقعت في رواية البزَّار، بينما وقعت في رواية ابن إسحاق: "فإنه أحسن وأعرف".وربما تصحَّفت اللفظة عند أحدهما. أمَّا في رواية الواقدي فإنَّه لم يعلِّق شيئاً.
5 من رواية البزَّار، وقد سبق تخريجها برقم [2] .
ثُمَّ بدأت مراسم تولية عبد الرحمن بن عوف-رضي الله تعالى عنه- على الجيش، وهي مراسم بسيطة جداً ولكنَّها ذات مغزى عظيم ومؤثّر".
حيث أمر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله تعالى، ثُمَّ قال: "خذه يا ابن عوف:
[5] "اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا مَن كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّته فيكم"1".
فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه اللواء، وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبعمائة رجل - كما يذكر الواقدي2- وأمره بالمسير إلى دومة الجندل، فيدعوهم إلى الإسلام، وأشار عليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قائلاً:
[6] "إن استجابوا لك فتزوَّج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل3".
[7] "فلمَّا حلَّ بها دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أوَّل ما قدم يعطونه إلاَّ السيف، فلمَّا كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً، وكان رأسهم"4".
__________
1 من رواية البزَّار، وقد سبق تخريجها برقم [2] .
2 مغازي: 2/560 – 561.
3 أخرجه ابن سعد (طبقات 2/89) عن شيوخه بلفظ: قالوا.
4 أخرجه الواقدي (مغازي 2/560 - 562) ، وعزاه ابن حجر (إصابة 1/108) للدارقطني في الافراد، من طريق محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، عن سعيد بن مسلم بن فاتك (مالك) شك النَّاسخ، وهي تصحيف (قمارين) كما وردت عند الواقدي، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقال الدارقطني: تفرَّد به محمَّد الحسن عن سعيد، ولم يروه عنه غير أبي سليمان. قال ابن حجر: رواية الواقدي له عن سعيد ترد على هذا الإطلاق. والله أعلم.
قلت: قال ابن أبي حاتم (الجرح 7/227) : سمعت أبي يقول: وجدت في كتاب السير لمحمَّد بن الحسن صاحب الرأي، عن الواقدي أحاديث، فلم يضبطوا عن محمَّد ابن الحسن، فرووا عن محمَّد بن الحسن، عن الواقدي، أحاديث، ورووا الباقي عن مشايخ الواقدي، وهذا كُلّه عن الواقدي، فجعلوه عن محمَّد ابن الحسن عن هؤلاء المشايخ. انتهى.
قلت: أخشى أن يكون هذا الحديث منها، لأنه مطابقٌ تماماً لرواية الواقدي في المغازي. والله تعالى أعلم.
وذكر السيوطي (خصائص 2/23) أنَّ ابن عساكر أخرجه من طريق الزبير ابن بكار، حدَّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري، عن عمومته: موسى، وعمران، وإسماعيل نحوه.
قلت: هذا مرسل، وعبد الرحمن بن عبد الله الزهري، ذكره ابن أبي حاتم (الجرح 5/205) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
[8] "وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام مَن أقام على إعطاء الجزية، وتزوَّج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة، وهي أُم أبي سلمة بن عبد الرحمن"1".
__________
1 من رواية ابن سعد، وقد سبق تخريجها برقم [6] .
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قد بعث قبله رافع ابن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً، يخبره بما فتح الله عليهم، وبإسلام الأصبغ وقومه".
,
بينما كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى خيبر - كما يُفهم من رواية الواقدي2 - وصلت إليه معلومات مفادها أنَّ هناك تحرُّكات تحشديَّة معادية للمسلمين، يقوم بها رجل من بني سعد بن بكر يُدْعَى: "وبَر بن عُليم، في جمعٍ من قومه بني سعد، بالقرب من فدك، وذلك لمناصرة يهود خيبر ضد المسلمين، وأنَّهم بصدد الاتفاق معهم على إمدادهم بقوَّةٍ منهم مقابل جزء من تمر خيبر يُجْعَل لهم".
وكعادته صلى الله عليه وسلم في استرتيجيته المتبعة دائماً مع أعدائه وبخاصّةً الأعراب، في مباغتتهم وضربهم قبل استكمال تحشُّدهم، وتطوُّر استعداداتهم، سارع صلى الله عليه وسلم في تجهيز سرية، عبارة عن دورية قتال تعرُّضية3 قوَّتها مائة رجل بقيادة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه ".
__________
1 بما أنَّ الواقدي، وابن سعد، هما مَن أسهبا في الحديث عن أحداث هذه السرية، بينما ذكرها ابن إسحاق بشكلٍ مقتضبٍ وموجزٍ، لذلك فسوف يكون الاعتماد بعد الله عزَّ وجلَّ إن شاء الله تعالى، على روايتيهما في سرد الأحداث على ما فيهما من الضعف، لحاجتنا إليهما، لأنَّهما تكملان الإطار التاريخي للواقعة. والله تعالى أعلم.
2 انظر ص 105.
3 التعرُّض: هو التوجه بصورة عامَّة إلى طلب الخصم بقصد ملاقاته ومقاتلته في ساحات القتال. (العقيد محمَّد صفاء: الحرب 21) .
[2] "فسار الليل، وكمن النَّهار، حتَّى انتهى إلى الهمج"1، فأصاب عيناً، فقال: "ما أنتَ؟ هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟ قال: "لا علم لي به، فشدُّوا عليه فأقرَّ أنه عين لهم بعثوه إلى خيبر، يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم، ويقدمون عليهم، فقالوا له: "فأين القوم؟ قال: "تركتهم وقد تجمَّع منهم مائتا رجل، ورأسهم وبَر ابن عُلَيْم". قالوا: "فسر بنا حتى تدُلَّنا". قال: "على أن تُؤَمِّنوني". قالوا: "إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم أمَّنَّاك، وإلاَّ فلا أمَانَ لك". قال: "فذاك، فخرج بهم دليلاً لهم"2". بعد أن كان عيناً عليهم، فسار بهم في فدافد3، وآكام4، حتى ساء ظنهم به، واعتقدوا أنه ربَّما كان يخدعهم، حتى أفضى بهم إلى سهلٍ من الأرض".
[3] "فإذا نعَم كثير، وشاء5، فقال: "هذه نَعمهم وشاؤهم، فأغاروا عليه فضموا النعم والشاء، قال: "أرسلوني". قالوا: "حتى نأمن
__________
1 الهَمَج - بالتحريك، والجيم -: ماء وعيون عليه نخل. (الحموي: معجم 5/410، السمهودي: وفاء 4/1327) .
2 من رواية الواقدي (مغازي 2/562) .
3 الفدفد: الفلاة، والمكان الصّلب الغليظ والمرتفع. (قاموس: الفدفد) .
4 الأكمة - محرَّكة: التل من القف من حجارة واحدة، أو هي دون الجبال، أو الموضع يكون أشدّ ارتفاعاً مِمَّا حوله، وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجراً. (القاموس: الأكمة) .
5 الشاء: جمع شاة.
الطلب، ونذر بهم الراعي رعاء الغنم والشاء، فهربوا إلى جمعهم فحذَّروهم فتفرَّقوا"1".
[4] "وهربت بنو سعد بالظَّعن، ورأسهم وَبَر بن عُلَيْم"2".
فقال الدليل للقائد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: "علامَ تحبسني؟ قد تفرَّقت الأعراب وأنذرهم الرعاء، قال علي - رضي الله عنه: "ليس بعد، فإنَّا لم نبلغ معسكرهم".
[5] "فانتهى بهم إليه فلم ير أحداً، فأرسلوه وساقوا النعم والشاء، النعم خمسمائة بعير، وألفا شاة"3".
[6] "فعزل علي صفيّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم4 لقوحاً5 تُدْعَى الحفذة، ثُمَّ عزل الخُمُس، وقسَّم سائر الغنم على أصحابه"6، ثُمَّ مكث ثلاثاً أوقَعَ أثناءَها الرُّعْبَ في قلوب الأعراب".
يُحَدِّثنا أحد شهود العيان، كما يروي الواقدي، فيقول:
[7] "إني لبوادي الهَمَج، إلى يديع7، ما شعرت إلاَّ ببني سعد يحملون
__________
1 من رواية الواقدي (مغازي 2/562) .
2 من رواية ابن سعد (طبقات 2/90) ، عن شيوخه.
3 من رواية الواقدي (مغازي 2/562) .
4 الصَّفِيُّ: ما كان خالصاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
5 اللقوح: الناقة الحلوب. (القاموس: لقوح) .
6 من رواية ابن سعد (طبقات 2/90) ، عن شيوخه.
7 يديع: أرض من فدك، وهي مال للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، ويذكر البلاذري أنّها تُسَمَّى اليوم: (الحويط) . (البكري: معجم 4/144، البلاذري: رحلات 19) .
الظُّعُن وهم هاربون، فقلت: "ما دهاهم اليوم؟ فدنوت إليهم فلقيت رأسهم وبَر بن عُلَيم، فقلت: "ما هذا المسير؟ قال: "الشرُّ، سارت إلينا جموع محمَّد، وما لا طاقة لنا به، قبل أن نأخُذَ للحرب أُهبتها، وقد أخذوا رسولاً لنا بعثناه إلى خيبر، فأخبرهم خبرنا، وهو صنَعَ بنا ما صَنَع". قلت: "ومَن هو؟ قال: "ابن أخي، وما كُنَّا نعُدّ في العرب فتىً واحداً أجمع قلب منه".
فقلت: "إني أرى أمر محمَّد قد أمن وغلظ، أوْقَعَ بقريش فصنع بهم ما صنع ثُم أوقع بأهل الحصون بيثرب، قينُقَاع، وبني النَّضِير، وقريظة، وهو سائرٌ إلى هؤلاء بخيبر". فقال لي وبَر: "لا تخش ذلك". إنَّ بها رجالاً، وحُصُوناً منيعة، وماءً واتناً1 لا دنا منهم محمَّدٌ أبداً، وما أحراهم أن يغزوه في عُقْرِ داره". فقلت: "وترى ذلك؟ قال: "هو الرأي لهم"2".
وهكذا نجح عليّ - رضي الله عنه - في مهمَّته نجاحاً باهراً".
[8] "وقدم المدينة ولم يلق كيداً"3".
__________
1 وتن الماء: أي: دام ولم ينقطع. (الصحاح 2212) .
2 من رواية الواقدي (مغازي 2/563) .
3 من رواية ابن سعد (طبقات 2/90) .
,
,
...
المطلب الأول: الخلاف في السرية:
اختلف في هذه السرية، في قائدها، وفي سببها، وفي الوجهة التي أُرْسِلَت إليها، في عِدَّة أقوال بين روايات أهل المغازي، وروايات أهل الحديث، حيث:
يرى ابن إسحاق، والواقدي: "أنَّ هذه السرية هي سرية غالب ابن عبد الله الليثي - رضي الله عنه - إلى أرض بني مُرَّة بفدك، وأنَّ أُسامة ابن زيد - رضي الله تعالى عنه - خرج فيها، وأنَّه قتل مرداس بن نهيك بعد أن قال: "لا إله إلاَّ الله".
وأضاف الواقدي: "أنَّ سبب السرية هو تأديب المرِّيين الذين أصابوا أصحاب بشير بن سعد في السرية السابقة1".
أمَّا ابن سعد فعنون لها بـ"سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك". وذكر خروج أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنه - فيها، ولكن دون أن يشير إلى أنه قَتَل فيها المتعوِّذ، وذلك لأنه يرى أنَّ أُسامة لم يقتل ذلك الرجل في هذه السرية، وإنَّما في سرية أُخرى لغالب بن عبد الله الليثي كانت لبني عوال، وبني عبد ثعلبة بالميفعة2".
__________
1 ابن هشام: سيرة 4/622، والواقدي: مغازي 2/723.
2 ابن سعد: طبقات 2/119، 126.
وتابعه في ذلك ابن سيد الناس1، والقسطلاني2، والقطب الحلبي في المورد العذب3".
وقد أخذ ابن حجر برأي ابن سعد هذا ونسبه خطئاً إلى أهل المغازي4 حيث لم يذكر ذلك غير ابن سعد، ومَن تابعه كما أسلفنا".
وعَنْوَنَ الطبريُّ للسرية بقوله: "وفيها "سرية غالب بن عبد الله في شهر رمضان إلى الميفعة"". ثُمَّ ذكر بسنده عن ابن إسحاق أحداث سرية غالب بن عبد الله الكلبي، إلى أرض بني مرَّة5".
ومعلومٌ عند أهل المغازي أنَّ الميفعة ليست أرض بني مرّة، بل أرض
بني عوال، وبني عبد ثعلبة، وهي وراء بطن نخل إلى النقرة، قليلاً بناحية نجد6، أمَّا بنو مرَّة فكانوا يسكنون بالقرب من فدك".
كما أخرج ابن سعد قصَّة أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - في مكانٍ آخر، فساق بسنده إلى الحضرمي، رجلٌ من أهل اليمامة قال:
[1] "بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أُسامة بن زيد، وكان يحبه ويحب أباه قبله، فبعثه على جيش".".". فذكر الحديث"7".
__________
1 عيون الأثر 2/196.
2 المواهب اللدنية 1/548.
3 ذكر ذلك الشامي: سبل 6/211.
4 فتح الباري 7/518.
5 تاريخ الأمم والملوك 3/22.
6 انظر: ابن سعد: طبقات 2/119.
7 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/69) وسنده منقطع، وفيه جهالة الحضرمي.
فقوله: "فبعثه على جيش" يُشْعِر أنه كان قائداً لذلك الجيش، وكأنَّ الحاكم يرى ذلك - أيضاً - حيث ذكر في الإكليل، كما نقل عنه القسطلاني:
[2] "أنَّ أُسامة فعل ذلك في سرية كان هو أميراً عليها في سنة ثمان"1".
وكذلك بوَّب لها البخاري في الصحيح بما يفيد أنه كان أميراً عليها حيث قال: ""باب بعث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة"2، ثُمَّ ساق بسنده الحديث إلى أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - فقال:
[3] "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة"34".
وقد نفى ابن حجر وبناءً على قول أسامة - رضي الله تعالى عنه
__________
1 عزاه القسطلاني (المواهب 1/538) للحاكم في الإكليل، وكتاب الإكليل مفقود.
2 البخاري: الصحيح 3/88، ابن حجر: فتح 7/517.
3 قال ابن هشام: الحُرَقة فيما ذكر أبو عبيدة. وقال السهيلي: قال ابن حبيب: في يشكر، حرقة بن ثعلبة، وحرقة بن مالك، كلاهما من بني حبيب بن كعب بن يشكر، وفي قضاعة: حرقة بن جذيمة بن نهد، وفي تميم حرقة بن زيد بن مالك بن حنظلة. وقال القاضي أبو الوليد: هكذا وقعت هذه الأسماء كلها بالقاف، وذكرها الدارقطني كلها بالفاء. وقال السويدي في نسبة الحميس: بنو الحميس بطن من جهينة ويسمون الحرقة، سُمُّوا بذلك لأنَّهم أحرقوا بني مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بالنبل، أي قتلوهم. انظر: ابن هشام: سيرة 4/623، السهيلي: الروض 7/527، السويدي: سبائك الذهب 91.
4 أخرجه البخاري (الصحيح 3/88) ، وأخرجه مسلم (الصحيح 1/133) .
- "بعثنا" أن يكون دليلاً على إمارته للجيش1".
وكذلك أخرج الحديث مسلم بسنده عن أُسامة - رضي الله تعالى عنه - إلاَّ أنه قال فيه:
[4] "فصبَّحنا الحرقات من جهينة"".23".
والسؤال هنا هو هل هذه السرية التي خرج فيها أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - وقَتَل فيها ذلك الرجل المتعوِّذ: "سرية غالب ابن عبد الله الليثي - رضي الله عنه - إلى بني مرّة بفدك، كما ذكر ابن إسحاق والواقدي؟ أم سرية غالب بن عبد الله الليثي - أيضاً - إلى بني عوال، وبني عبد ثعلبة بالميفعة كما ذكر ابن سعد ومتابعوه؟ أم هي سرية أخرى كان أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما هو قائدها، كما أشار لذلك البخاري، والحاكم؟!
__________
1 ابن حجر: فتح 7/518 وقال في مكان آخر: وترجم البخاري في المغازي " بعث النَّبِيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة "، فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه: " تأمير مَن لم يبلغ ". وتُعُقِّبَ من وجهين:
أحدهما: ليس فيه تصريح بأنَّ أُسامة كان الأمير، إذ يُحتمل أن يكون جعل الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير.
والثاني: أنها كانت سنة سبع أو ثمان، فما كان أُسامة يومئذٍ إلاَّ بالغاً، لأنَّهم ذكروا أنه كان له لمَّا مات النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثمانية عشر عاماً. (فتح 12/194) .
2 قال الزرقاني (شرح المواهب 2/251) ، والجمع في الترجمة باعتبار بطون تلك القبيلة.
3 أخرجه مسلم (الصحيح 1/134) . وأخرجه أبو داود (سنن 3/102 - 103) .
وأيضاً هل كانت وجهة هذه السرية إلى بني مرة، أو إلى بني عوال
وبني عبد ثعلبة، أو إلى الحرقات من جهينة؟!
وكما وقع هذا الخلاف بين أهل المغازي، كذلك وقع خلاف آخر بين أهل التفسير في تفسير قوله تبارك وتعالى {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاً تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاة الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمَ كَثِيرَة كَذَلِكَ كُنْتُم مِنْ قَبْل فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُم} . [سورة النساء، الآية: "94] ".
فقد أخرج الطبري بسنده عن السدّي1. والثعلبي2 من طريق الكلبي3، عن أبي صالح4، عن ابن عباس".
وهذا حديث ابن جرير بسنده من طريق أسباط5،عن السدّي قال:
__________
1 إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السُدِّي - بضم المهملة وتشديد الدال - أبو محمَّد الكوفي (صدوق يهم، ورُمِيَ بالتشيُّع) من الرابعة، مات سنة سبعٍ وعشرين. (تقريب 108) .
2 أحمد بن محمَّد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي، شيخ التفسير، كان أحد أوعية العلم، وكان صادقاً موثقاً بصيراً في العربية، توفي سنة سبعٍ وعشرين وأربعمائة. (الذهبي: سير 17/436 - 437) .
3 محمَّد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر، الكوفي، النسابة، المفسر (متَّهم بالكذب، ورُمِيَ بالرَّفْض) من السادسة، مات سنة ستٍ وأربعين. (تقريب 479) .
4 باذام - بالذال المعجمة - ويقال: آخره نون، أبو صالح، مولى أُمّ هانئ (ضعيف، يرسل) من الثالثة. (تقريب 120) .
5 أسباط بن نصر الهمْداني - بسكون الميم - أبو يوسف، ويقال: أبو نصر (صدوق، كثير الخطأ، يغرب) من الثامنة. (تقريب 98) .
[5] "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أُسامة بن زيد إلى بني مرة1، فلقوا رجلاً يُدْعَى مرداس بن نهيك، معه غنيمة له وجمل أحمر، فلمَّا رآهم أوى إلى كهف جبل، واتَّبعه أُسامة، فلمَّا بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثُمَّ أقبل إليهم، فقال: "السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، فشدَّ عليه أسامه فقتله من أجل جمله وغنيمته" ... فذكر الحديث 2.
وأخرج الطبري - أيضاً - بسنده عن قتادة في قوله: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنواْ} الآية". قال: "هذا الحديث في شأن مرداس، رجل من غطفان، ذكر لنا:
[6] "أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك وبه ناس من غطفان، وكان مرداس منهم، ففرَّ أصحابه، فقال مرداس إني مؤمن، وإني غير متبعكم، فصبَّحته الخيل غدوة، فلمَّا لقوهسلَّم عليهم مرداس، فتلقاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه
__________
1 في الأصل: (بني ضمرة) وهو تصحيف.
2 أخرجه الطبري (تفسير 5/224) من حديث أسباط عن السُدِّي، والثعلبي (الجزء الثاني / لوحة 18) من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وسند الطبري مرسل ضعيف، السُدِّي صدوق يهم، وأسباط كثير الخطأ والاغراب، وذلك واضح في متنه حيث الاغراب والوهم والخلط بحديث عامر بن الاضبط. أمَّا متابعة الكلبي عن أبي صالح فلا يُعتد بها، لأنه متَّهم بالكذب، وابو صالح ضعيف.
وقد ذكر الزرقاني (شرح 2/251) أنه أخرجه ابن أبي حاتم، عن جابر، وأبو نعيم عن أبي سعيد نحوه.
وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله جلَّ وعزَّ في شأنه {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلام لَسْتَ مُؤمِناً} . [سورة النساء، الآية: "94] ".لأنَّ تحية المسلمين السلام بها يتعارفون، وبها يُحَيِّي بعضهم بعضا"1".
وقد رُوِيَ من وجهٍ آخر عن قتادة، وأخرجه الطبري من حديث عبد الرزَّاق بسنده عنه وقال فيه:
[7] "بلغني أنَّ رجلاً من المسلمين أغار على رجلٍ من المشركين فحمل عليه، فقال له المشرك: "إني مسلم، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، فقتله المسلم بعد أن قالها، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال للذي قتله: "أقتلته وقد قال لا إله إلاَّ الله؟ فقال وهو يعتذر: "يا نبي الله إنَّما قالها متعوِّذاً وليس كذلك، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فهلاَّ شققت عن قلبه؟ ثُمَّ مات قاتل الرجل فقُبِرَ، فلفظته الأرض، فذُكِرَ ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يقبروه، ثُمَّ لفظته الأرض، حتى فُعِلَ به ذلك ثلاث مرَّات، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الأرض أبت أن تقبله، فألقوه في غارٍ من الغيران".
قال معمر: "وقال بعضهم: "إنَّ الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبرة2".
__________
1 أخرجه الطبري: (تفسير4/224) بسنده عن قتادة، وسنده حسن إليه، لكنَّه مرسل.
2 أخرجه الطبري (تفسير 5/224) من حديث عبد الرزَّاق بسنده عن قتادة، وسنده صحيح، لكنَّه مرسل.
قلت: "هذه القصة هي بعينها قصة محلم بن جثامة مع عامر بن الأضبط المشهورة عند أهل المغازي التي حدثت في سرية أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه - إلى إضم، وهي تعتبر أحسن ما رُوِيَ في سبب نزول الآية، كما قال الشوكاني1".
وهذه القصة أخرجها ابن جرير من حديث ابن إسحاق بسنده عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال:
[8] "بعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة2 مبعثاً، فلقيهم عامر بن الأضبط فحيَّاهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة3 في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلَّم فيه عيينة4،
__________
1 الشوكاني: فتح القدير 1/502.
2 قال ابن حجر: "محلم بن جثامة الليثي، أخو الصعب بن جثامة، قال ابن عبد البر: يُقال: إنه الذي قتل عامر بن الأضبط، وقيل: إنَّ محلماً غير الذي قتل، وأنَّه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه الذي مات في حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ودُفِنَ فلفظته الأرض مرّة بعد أُخرى، وجزم بالأول ابن السكن".
(ابن حجر: إصابة 3/369) .
3 الإحنة - بالكسر - الحقد، والغضب. (القاموس: الإحنة) .
4 عيينة بن حصن بن حذيفة بن زيد الفزاري، أبو مالك، يقال: كان اسمه حذيفة فلُقِّبَ عُيَيْنَة لأنه أصابته شجة فجحظت عيناه. قال ابن السكن: له صحبة، وكان من المؤلَّفة، ولم يصِحّ له رواية، أسلم قبل الفتح وشهدها وشهد حنين والطائف، ثُمَّ كان مِمَّن ارتد في عهد أبي بكر ومال إلى طليحة فبايعه، ثُمَّ عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاء البوادي، وكان من الجرارين في الجاهلية، يقود عشرة آلاف. وقد قال عنه النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (هذا الأحمق المطاع - يعني في قومه) . عاش إلى خلافة عثمان. (ابن الأثير: أُسْد 4/331 - ابن حجر: إصابة 3/54 - 55) .
والأقرع1، فقال الأقرع: "يا رسول الله سُنَّ اليوم وغَيِّر غداً، فقال عيينة: "لا والله حتَّى تذوق نساؤه من الثُّكل2 ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت سابعة حتَّى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "إنَّ الأرض تقبل مَن هو شرّ من صاحبكم، ولكنَّ الله جلَّ وعزَّ أراد أن يعظكم، ثُمَّ طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت آية {يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ} الآية". [سورة النساء، الآية: "94] 3".
__________
1 الأقرع بن حابس بن عقال التميمي المجاشعي الدارمي، سُمِّي الأقرع لقرع كان في رأسه، وكان شريفاً في الجاهلية وفي الإسلام. قال ابن إسحاق: وفد على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكَّة، وحنيناً، والطائف، وهو من المؤلَّفة، وقد حسُنَ إسلامه.
وقال الزبير في النسب: "كان الأقرع حكماً في الجاهلية، وقد ذكر أنه كان في وفد بني تميم الذين نزلت فيهم سورة الحجرات، وشهد الأقرع مع خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه اليمامة وغيرها، واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيَّره إلى خراسان فأُصيبَ هو والجيش بالجوزجان، وذلك في زمن عثمان".
(ابن الأثير: أُسْد 1/128 - 130، ابن حجر: إصابة 1/58 - 59) .
2 الثُّكل - بالضم - الموت والهلاك، وفقدان الحبيب أو الولد (القاموس: الثكل) .
3 وقد أخرجه الطبري (تفسير 5/222) وسنده فيه أبو وكيع (صدوق يهم) كما في التقريب ص 138 وفيه أيضاً عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلِّس.
وقد أخرجه الطبري أيضاً من حديث ابن إسحاق أيضاً بسنده عن عبد الله بن أبي حدرد1 قال:
[9] "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي2، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم3، مرَّ بنا عامر بن
__________
1 عبد الله بن أبي حدرد، له ولأبيه صحبة. وقال ابن منده: لا خلاف في صحبته. وقال ابن سعد: أوَّل مشاهده الحديبية، ثُمَّ خيبر. وقال ابن عساكر: "روى عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعن عمر، وشهد الجابية مع عمر. وقال ابن البرقي: جاءت عنه أربع أحاديث، وتوفي سنة إحدى وسبعين".
(ابن سعد: طبقات 4/310، ابن حجر: إصابة 2/295) .
2 أبو قتادة الأنصاري، هو الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان، بن رِبْعِي - بكسر الراء وسكون الموحدة - السَّلَمي - بفتحتين - المدني، شهد أُحُداً وما بعدها، ولم يصح شهوده بدراً، وكان يقال له: فارس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثبت ذلك في صحيح مسلم، ومات سنة أربعٍ وخمسين.
(ابن حجر: إصابة 4/158، تقريب 666) .
3 إضم: قال البكري: وادٍ دون المدينة. وقال أبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي: إضم جبل لأشجع وجهينة، وقيل: وادٍ لهم، وذكر الشريف: أنَّ وادي إضم من أعظم أودية الحجاز، ويُسَمَّى اليوم وادي الحمض، وهو يسيل من الجنوب الشرقي لحرَّة خيبر، ويسير نحو الجنوب الغربي حتَّى يقارب المدينة، حيث تتصل به أودية فرعية منها وادي العقيق، ويبلغ طوله زهاء 900 كيلو متر.
وقال البلادي: إضم هو وادي المدينة إذا اجتمعت أوديتها الثلاثة: بطحان، وقناة، والعقيق، بين أُحُد والشرثاء، يُسَمَّى الوادي الخليل إلى أن يتجاوز كتانة فيُسَمَّى وادي الحمض، إلى أن يَصُبَّ في البحر بين الوجه وأملج.
(البكري: معجم1/165 - 166،الشريف: مكَّة والمدينة26، البلادي: معجم 29) .
الأضبط الأشجعي على قعودٍ له معه متيع له ووطب من لبن1، فلمَّا مرَّ بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيءٍ كان بينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلمَّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن"2".
كما ورد عن المفسرين أنَّ الآية نزلت في المقداد بن الأسود - رضي الله عنه، أخرج ذلك الطبري من حديث سعيد بن جبير قال:
[10] "خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فمرَّوا برجلٍ في غنيمةٍ له، فقال: "إني مسلم، فقتله المقداد، فلمَّا قدموا ذكروا ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية"3".
هكذا أخرجه مرسلاً عن سعيد، وقد ورد مطولاً موصولاً عند البزار من حديث سعيد أيضاً عن ابن عباس، حيث قال فيه:
__________
1 الوطب: سقاء اللبن، وهو جلد الجذع فما فوقه. (القاموس: الوطب) .
2 أخرجه الطبري (تاريخ 5/223) ، وسنده مداره على ابن إسحاق الذي عنعنه عند الطبري في روايتي سلمة، والمحاربي عنه، ولكنَّه صرَّح بالتحديث في الروايات الأخرى عند كُلٍّ من أحمد، والطبراني، وابن هشام، والبيهقي. (انظر: بريك بن محمَّد أبو مايلة: السرايا والبعوث النبوية بين مكَّة والمدينة 276) فهو حسن وإن كان الهيثمي قال عنه: رجاله ثقات.
3 أخرجه الطبري (تفسير 5/225) مرسلاً عن سعيد. وسعيد لم يدرك النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
الأضبط الأشجعي على قعودٍ له معه متيع له ووطب من لبن1، فلمَّا مرَّ بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيءٍ كان بينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلمَّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن"2".
كما ورد عن المفسرين أنَّ الآية نزلت في المقداد بن الأسود - رضي الله عنه، أخرج ذلك الطبري من حديث سعيد بن جبير قال:
[10] "خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فمرَّوا برجلٍ في غنيمةٍ له، فقال: "إني مسلم، فقتله المقداد، فلمَّا قدموا ذكروا ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية"3".
هكذا أخرجه مرسلاً عن سعيد، وقد ورد مطولاً موصولاً عند البزار من حديث سعيد أيضاً عن ابن عباس، حيث قال فيه:
__________
1 الوطب: سقاء اللبن، وهو جلد الجذع فما فوقه. (القاموس: الوطب) .
2 أخرجه الطبري (تاريخ 5/223) ، وسنده مداره على ابن إسحاق الذي عنعنه عند الطبري في روايتي سلمة، والمحاربي عنه، ولكنَّه صرَّح بالتحديث في الروايات الأخرى عند كُلٍّ من أحمد، والطبراني، وابن هشام، والبيهقي. (انظر: بريك بن محمَّد أبو مايلة: السرايا والبعوث النبوية بين مكَّة والمدينة 276) فهو حسن وإن كان الهيثمي قال عنه: رجاله ثقات.
3 أخرجه الطبري (تفسير 5/225) مرسلاً عن سعيد. وسعيد لم يدرك النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
[12] "مرَّ رجلٌ من بني سليم بنفر من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له، فسلَّم عليهم، فقالوا: "لا يسلِّم علينا إلاَّ ليتعوَّذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية"1".
وأخرج الطبري بسنده عن ابن زيد2 قال:
[13] "نزل ذلك في رجلٍ قتله أبو الدرداء".. فذكرمن قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذُكِرَت عن أُسامة"3".
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة جزء بن الجدرجان، أنَّ ابن منده أخرج بسنده عنه:
[14] "أنَّ أخاه فداد بن الجدرجان وفَدَ على رسول الله فلقيته سرية له فقتلوه بعد أن قال لهم: "إنه مؤمن، فنزلت فيه الآيات"4".
قال ابن عبد البر: ""والاختلاف في المراد بهذه الآية كثير مضطرب فيه جداً، قيل: "نزلت في أُسامة بن زيد، وقيل: "في محلم بن جثامة، وقال ابن عباس: "نزلت في سرية ولم يسمّ أحداً، وقيل: "نزلت في غالب
__________
1 انظر: المسند، حديث رقم: 2022، وسنن الترمذي 8/386، والمستدرك للحاكم 2/235.
2 محمَّد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ - بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة - التميمي المدني (ثقة) من الخامسة. (تقريب 279) .
3 أخرجه الطبري (التفسير 5/225) وسنده إلى ابن زيد صحيح لكنَّه منقطع، محمَّد ابن زيد من الخامسة.
4 عزاه ابن حجر (إصابة 1/233) لابن منده، ثُمَّ قال عن إسناده: هذا إسنادٌ مجهول.
الليثي، وقيل: "نزلت في رجل من بني ليث يقال له: "فليت، كان على سرية، وقيل: "نزلت في أبي الدرداء، وهذا اضطراب شديد جداً"1".
وقال القرطبي: "واختلف في تعيين القاتل، والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سيرة ابن إسحاق، ومصنَّف أبي داود، والاستيعاب لابن عبد البر: "أنَّ القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط، ولا خلاف أنَّ الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة الذي ذكرناه، ولعلَّ هذه الأحوال جرت في زمان متقارب، فنزلت الآية في الجميع"2".
وقال القريبي: "والأحاديث مجموعها تدل على أنَّ هذه القصة حصلت لمحلم بن جثامة الليثي في قتله عامر بن الأضبط الأشجعي، بعد أن ظهر منه ما يدل على أنه مسلم، وأنه نزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ} 3".
وقال ابن حجر: "وإن ثبت الاختلاف في تسمية من باشر القتل مع الاختلاف في المقتول احتمل تعدُّد القِصَّة4".
وقال الزرقاني: "يُحْتَمَل تعدُّد القِصَّة، وتكرير نزول الآية5".
__________
1 ابن عبد البر: الاستيعاب، هامش الإصابة لابن حجر 3/497 – 498.
2 الجامع لأحكام القرآن 5/336 – 338.
3 مرويات غزوة حنين وحصار الطائف 2/627.
4 إصابة 3/401.
5 شرح المواهب 2/286.
وقال المراغي: "ولا مانع من تعدُّد الوقائع قبل نزول الآية، وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأها على أصحاب كُلّ واقعة، فيرون أنَّهم سبب نزولها1".
قلت: "إن ثبت تعدُّد هذه القصة، فإنَّ الآية لا يمكن أن تكون نصّاً عليها جميعها، فإنَّ هنالك اختلافاً بيِّناً في بعض عناصرها، وإن بدت وكأنَّ نتيجتها واحدة، وهي زجر رسول صلى الله عليه وسلم عن قتل مَن بدت منه شبهة تدرأ عنه ذلك حتَّى يتم التأكد من حقيقته، فمثلاً قصة أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، لا تنطبق عليها هذه الآية من عِدَّة وجوه:
- الأحاديث التي أوردت قصة أُسامة - رضي الله تعالى عنه، ومنها أحاديث الصحيحين لم تتطرَّق لذكر نزول آية في قصَّته، ولو كانت الآية نزلت فيه فعلاً لما أغفلتها تلك الأحاديث نظراً لأهمية الآية فيموضوع القصة وتدعيماً لها، ونظراً لاستقصاء المحدثين وتتبعهم الشديد والمتقن لمثل هذه الأمور".
- الآية نفسها لا تنطبق على أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، لأنه لم يك مشركاً في يومٍ من الأيام، بل إنه وُلِدَ في الإسلام، كما شبَّ وترعرع في عزه ودولته في المدينة، فلم يك هنالك داعٍ لكتمان إيمانه، كما أوضحت بعض الروايات قصة المقداد".
__________
1 تفسير المراغي 5/126.
- التقريع والتوبيخ الوارد في الآية لا يتناسب - أيضاً - مع ما صحَّ في قصَّة أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، من أنه قتل ذلك الرجل المتعوِّذ اجتهاداً منه في أنه لم ينطق بالشهادة إلاَّ خوفاً من السيف، بخلاف ما وقع في قصَّة محلم بن جثامة، فالدوافع التي جعلته يقتل عامر ابن الأضبط تختلف عنها في قصَّة أسامة حيث إنَّ قتله لعامر لم يكن اجتهاداً منه بقدر ما كان طمعاً في ماله، وبسبب ما كان بين الاثنين من إحن وتخاصُم في الجاهلية".
الأمر الآخر، وهو الذي يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو عدم إمكان تعدُّد قصَّة أُسامة - رضي الله تعالى عنه - في عِدَّة مواطن، كما أشار بذلك الحلبي1". بل هي قصَّة واحدة حدثت في موطنٍ واحدٍ". ولكنَّ السؤال هو: "أين حدثت؟ ".
فالذي في الصحيحين، وكتب الحديث الأخر: "أنَّ البعث كان إلى الحرقات من جهينة، والذي في المغازي أنه كان لبني مرة بالقرب من فدك، وأنَّ المقتول كان حليفاً لهم من الحرقة".
فهل يُعد ذلك تبايناً بين الروايتين، رواية أهل الحديث، ورواية أهل المغازي؟ ".
__________
1 سيرة 3/194.
فالذي تشير إليه كتب الأنساب أنَّ ديار الحرقات كانت قريبة من ديار بني مرة، بدليل أنَّ الحرقة، وهم بنو الحميس لُقِّبوا بالحرقة لأنهم أحرقوا بني مرّة قتلاً بالنبل في حربٍ دارت بينهما، ومعلومٌ بداهةً أنَّ كلتا القبيلتين غطفانيتان، ومنازل غطفان تمتد حول منطقة خيبر، ووادي القرى، وفدك".
كما أنَّ ما ذكر في روايات أهل المغازي من أنَّ المقتول كان حليفاً لبني مرة، وما أخرجه البخاري في التاريخ، والبيهقي بسندٍ لا بأس به، عن أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - قال:
[15] "أدركت أنا ورجل من الأنصار - يعني مرداس بن نهيك - ثُمَّ ذكر الحديث" ... 1.
فالنَّص على تسمية الرجل هنا، وموافقة ذلك لروايات أهل المغازي السابقة، كُلُّ ذلك يعدّ قرائن على اتحاد قصَّة أهل الحديث بقصة أهل المغازي، وأنَّهما قصة واحدة، رويت بأسانيد مختلفة، وسياق مختلف نوعاً ما". والله تعالى أعلم".
__________
1 أخرجه البخاري (تاريخ 1/20) ، والبيهقي (دلائل 4/297) من حديث محمَّد بن أُسامة بن محمَّد بن أُسامة، عن أبيه، عن جده أُسامة بن زيد.
المطلب الثاني: "تاريخ السرية:
أرَّخ ابن سعد لسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في شهر صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم1".
وأرَّخ لسرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة التي ذكر فيها أنَّ أسامة ابن زيد - رضي الله عنهما - أصاب فيها الذي قال: "لا إله إلاَّ الله، بشهر رمضان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم2".
وتابعه في ذلك ابن سيد الناس3، والقسطلاني4، والحلبي5".
ولم يذكر لها الواقدي تاريخاً - وذلك خلاف عادته -، وذكرها مباشرةً بعد سرية بشير بن سعد إلى فدك، بل إنه لم يجعل لها عنواناً مستقلاً، وإنَّما تحدَّث عنها بعد فراغه من سرية بشير، وكأنه يرى أنَّها متعلِّقة بها، وأنَّها كانت في نفس التاريخ6. وتابعه في ذلك ابن كثير7.
__________
1 طبقات 2/126.
2 المصدر السابق 2/119.
3 عيون 2/190، 197.
4 المواهب 1/538.
5 سيرة 3/192 - 193، 197.
6 مغازي 2/723.
7 بداية 4/222.
أمَّا ابن إسحاق فلم يذكر لها تاريخاً حيث ذكرها في جملة السرايا والبعوث، ورتَّبها بعد غزوة مؤتة، وسرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر، وقبل ذات السلاسل1.
وذكر البيهقي رواية ابن إسحاق بعد رواية الواقدي، بعد سرية بشير ابن سعد إلى بني مرَّة بفدك، وقبل سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوّح، وسريته أيضاً إلى الميفعة2.
وجمع الطبري بين رواية ابن إسحاق حول السرية، وبين عنوان سرية غالب الأخرى إلى الميفعة، وهو وهم كما ذكرنا سابقاً، لكنَّه أرَّخ لها بشهر رمضان من السنة الثامنة3.
وذكرها خليفة بن خياط في سرايا سنة خمس، مباشرةً بعد سرية
بشير بن سعد إلى فدك4.
وذكرها البلاذري - أيضاً - بعد سرية بشير، دون أن يجعل لها تاريخا5، وكذلك فعل ابن القيم، ولكنه اقتصر على رواية المحدثين حول سرية الحرقات6.
__________
1 ابن هشام: سيرة 4/621 – 623.
2 دلائل 4/296 – 297.
3 تاريخ 3/22.
4 تاريخ 78.
5 أنساب الأشراف 379.
6 زاد المعاد 3/361.
وجمع الشامي كعادته بين رواية ابن إسحاق، ورواية الواقدي، وأرَّخ لها في صفر سنة ثمان1.
ونقل القسطلاني عن الحاكم في الإكليل أنَّها كانت في سنة ثمان2.
قال الزرقاني: "وفي البخاري ما يوافقه، فإنه قال بعد غزوة مؤتة (باب بعث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُسامةَ بن زيد إلى الحرقات) 3.
قال ابن حجر: "وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة - بتحتانية ساكنة وفاء مفتوحة - وهي وراء بطن نخل، وذلك في رمضان سنة سبع، وقالوا: "إنَّ أُسامة قَتَلَ الرَّجُلَ في هذه السرية، فإن ثبت أنَّ أُسامة كان أمير الجيش فالذي صنعه البخاري هو الصواب، لأنه ما أُمِّرَ إلاَّ بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة، وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجَّح ما قال أهل المغازي4".
وذكر الزرقاني، عن بعض شُرَّاح البخاري، أنه "لعلَّ المصير إلى
ما في البخاري هو الراجح، بل الصواب"5". انتهى".
قال الزرقاني: "وليس الترجي من وجوه الترجيح، نَعَم! روى ابن جرير عن السُدّي بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها أُسامة بن زيد فذكر القصَّة،
__________
1 سبل الهدى 6/221.
2 المواهب اللدنية 1/538.
3 شرح المواهب 2/251.
4 فتح الباري 7/518.
5 شرح المواهب 2/252.
وروى ابن سعد عن جعفر بن برقان قال: "حدَّثني الحضرمي". قال: "بلغني أنه صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد على جيش فذكر القِصَّة، فإن ثبتتا ترجَّح صنيع البخاري1".
قلت: "كل ما ذكروه لا يثبت إمارة أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - للجيش. والروايتان اللتان ذكرهما الزرقاني ضعيفتان كما وضَّحنا سابقاً2".
أمَّا صنيع البخاري - رحمه الله تعالى - فقد أوَّله ابن حجر بغير ما ذكروه، كما مرَّ بنا سابقاً".
والذي يترجَّح عندي هو أنَّ هذه السرية كانت بعد سرية بشير بن سعد مباشرةً، لأنَّها أُرْسِلَت لتأديب الأعراب الذين أصابوا سريته، وأنَّ أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - خرج فيها، فأصاب ذلك الرجل المتعوِّذ، فهي في سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما في رمضان منه، كما أشار إلى ذلك ابن حجر، وعزاه إلى ابن سعد عن شيخه الواقدي3".
وإن كان هنالك خلاف بين الاثنين حول سريتي غالب بنعبد الله الليثي، وأيهما التي قتل فيها أسامة رضي الله تعالى عنه المتعوِّذَ، وقد وضَّحنا ذلك فيما سبق".
__________
1 المصدر السّابق.
2 سبق تخريجهما فيما مرَّ برقم [1] ، ورقم [5] .
3 فتح الباري 12/195.
,
عندما قدم علبة بن زيد الحارثي الأوسي بخبر سرية بشير بن سعد، ومصابها على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[16] "هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وقال له: "سِر حتَّى تنتهي إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد، فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم، وهيأ معه مائتي رجل، وعقد له لواء"1.
[17] "فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفَّره الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام: "اجلس، وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل2، فخرج أُسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشير وأصحابه، وخرج معه علبة بن زيد"3". و [18] "عقبة بن عمرو أبو مسعود4، وكعب بن
__________
1 من رواية ابن سعد (طبقات 2/126) من حديث شيخه محمَّد بن عمر الواقدي.
2 ذكر خليفة بن خياط (تاريخ 78) أنهم كانوا ستين فقط.
3 من رواية الواقدي (مغازي 2/723) .
4 عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، أبو مسعود البدري، مشهورٌ بكنيته، اتَّفقوا على أنه شهد العقبة، واختلفوا في شهوده بدر، وجزم البخاري بأنه شهدها، ونزل الكوفة، وكان من أصحاب عليّ، مات بالكوفة بعد سنة أربعين.
(ابن حجر: إصابة 2/491) .
عجرة"12". وأبو سعيد الخدري3".
[19] "فلمَّا دنا غالب منهم بعث الطلائع، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة محالهم، حتى أوفى على جماعة منهم، ثُمَّ رجع إلى غالب، فأخبره فأقبل غالب يسير حتَّى إذا كان منهم بمنظر العين ليلاً، وقد اجتلبوا وعطَّنوا4، وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثُمَّ قال: "أمَّا بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمراً، فإنَّه لا رأي لمن لا يُطاع، ثُمَّ ألَّف بينهم5 فقال: "يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان، لا يفارق كُلّ رجل زميله"6".
__________
1 كعب بن عجرة بن أُمَيَّة البلوي، وقيل: القضاعي، حليف الأنصار. قال البخاري: مدنيٌّ له صحبة، روى عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحاديث، وشهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية. وأخرج ابن سعد بسندٍ جيدٍ عن ثابت بن عبيد أنَّ يد كعب قُطِعَت في بعض المغازي، ثُمَّ سكن الكوفة. قيل: مات بالمدينة سنة إحدى، وقيل: ثنتين، وقيل: ثلاثٍ وخمسين. (إصابة 3/298) .
2 من رواية ابن سعد (طبقات 2/126) عن شيخه الواقدي.
3 سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، أبو سعيد الخدري، له ولأبيه صحبة، واستُصْغِر بأُحُد، ثُمَّ شهد ما بعدها، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة ثلاثٍ أو أربعٍ أو خمسٍ وستين، وقيل: سنة أربعٍ وسبعين. (تقريب 232) .
4 أي سقوا الإبل ثُمَّ أناخوها وحبسوها عن الماء. (لسان العرب 17/158) .
5 في رواية أُخرى للواقدي (مغازي 2/725) ذكر فيها أنَّ أمير السرية آخى بينهم.
6 من رواية الواقدي (مغازي 2/724) .
فلمَّا كان قرب الفجر انقضوا عليهم في هجوم فجري خاطف، وهم يتصايحون بشعارهم المُتَّفَق عليه مسبقاً: "أمت! أمت! 1".
وارتبك الأعراب بادئ الأمر، إلاَّ أنَّهم تمالكوا أنفسهم بعضاً من الوقت حيث أبدوا بعض المقاومة، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة، وكان منهم رجل من أشدِّهم، فكان:
[20] إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين، قصد له فقتله2، حتَّى أوجع في المسلمين، غير أنَّ قوة وتنظيم المسلمين في هجومهم المباغت، وهول المفاجأة من ذلك الهجوم الفجري غير المتوقَّع أفقد الأعراب توازنهم، فانهزموا هاربين، ووضع المسلمون سيوفهم فيهم حيث شاءوا3.
يقول أُسامة - رضي الله تعالى عنه - في وصف ذلك:
[21] فصبَّحنا القوم فهزمناهم4.
[22] فكان منهم رجلٌ إذا أقبل القوم كان من أشدِّهم، وإذاأدبروا كان حاميتهم، قال: "فغشيته أنا ورجلٌ من الأنصار5.
__________
1 من رواية الواقدي (مغازي 2/724) .
2 أخرجه مسلم (الصحيح 1/136) من حديث جندب بن عبد الله البجلي.
3 انظر: الواقدي: مغازي 2/724.
4 أخرجه البخاري (الصحيح3/88) ، من رواية عمرو بن محمَّد.
5 أخرجه أحمد (المسند، حديث رقم: 21739) . وسنده رجاله رجال الصحيح.
[23] "فلمَّا غشيناه قال: "لا إله إلاَّ الله، فكفَّ الأنصاري، فطعنته برمحي1".
[24] "فوقع في نفسي من ذلك"2".
ثُمَّ تمكَّن المسلمون من السيطرة على الأعراب بسرعة، حيث استحوذوا على حاضر القوم بعد أن قتلوا منهم مَن قتلوا، وهَرَبَ الباقون أمامهم فاستاقوا:
[25] "النَّعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرة لكل رجل، أو عدلها من الغنم، وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم"3". وكان ذلك القتال يعدّ أوَّل تجربة عسكرية قتالية لأُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما4، حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا جاء البشير بخبر النَّصر والفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلَّل وجهه فرحاً، وازداد فرحه صلى الله عليه وسلم حينما أخبره البشير عن شِدَّة بأس أُسامة، واستبساله في القتال، ولكنَّه حينما أخبره بخبر الرجل الذي قتله أُسامة تغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى أُسامة".
__________
1 أخرجه البخاري من رواية عمرو بن محمَّد، وقد سبق تخريجها برقم [21] .
2 أخرجه مسلم (الصحيح 1/134) من حديث أبي ظبيان عن أُسامة.
3 من رواية الواقدي (مغازي 2/725) .
4 من رواية ابن سعد، وقد سبق تخريجها برقم [18] .
[26] "فدعاه فسأله، فقال: "لِمَ قتلته؟ قال: "يا رسول الله! أوجَعَ في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً، وسمَّى له نفراً، وإني حملت عليه، فلمَّا رأى السيف قال: "لا إله إلاَّ الله". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته؟ قال: "نعم". قال: "كيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: "يا رسول الله استغفر لي". قال: "وكيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: "فجعل لا يزيده على أن يقول: "كيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة" 1.
قال أُسامة:
[27] "فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم2".
__________
1 من رواية جندب عند مسلم، وقد سبق تخريجها برقم [20] ، وفي رواية أخرى لمسلم
(الصحيح 1/133) قال: " قلت: يا رسول الله إنَّما قالها خوفاً من السلاح.
قال: أفلا شققت عن قلبه حتَّى تعلم أقالها أم لا؟ ". وفي رواية البخاري (الصحيح 3/88) : "فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلاَّ الله؟ قلت: كان متعوِّذاً".
2 من رواية عمرو بن محمَّد عند البخاري، وقد سبق تخريجها برقم [21] .
المطلب الرابع: "الأحكام المستنبطة والعبر والدروس المستفادة:
أولاً: "الأحكام المستنبطة:
قال الخطابي: "فيه من الفقه أنَّ الكافر إذا تكلَّم بالشهادة وإن لم يصف الإيمان وَجَبَ الكَفُّ عنه والوقوف عن قتله سواء أكان بعد القدرة أم قبلها1".
وقال ابن التين تعليقاً على قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأُسامة: ""أقتلته بعدما قال؟ "". في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحَد على قتلِ مَنْ تلفَّظ بالتوحيد2".
وقال القرطبي: "تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك3".
وقال النووي: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه"، فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأُصول أنَّ الأحكام يعمل فيها بالظواهر، والله يتولَّى السرائر4".
وقال ابن حجر: "وفيه دليل على ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة5".
__________
1 الخطابي: حاشية سنن أبي داود 3/102.
2 انظر: ابن حجر: فتح 12/195.
3 المصدر السابق 12/196.
4 النووي على مسلم 2/107.
5 فتح الباري 12/196.
وقال الخطابي: "وفيه أنه لم يلزمه - مع إنكاره عليه - الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه، أنَّ أصل دماء الكُفَّار الإباحة، وكان عند أُسامة أنه إنَّما تكلَّم بكلمة التوحيد مستعيذاً لا مُصَدِّقاً به، فقتله على أنه كافرٌ مبَاح الدَّم، فلم تلزمه الدية، إذ كان في الأصل مأموراً بقتاله، والخطأ عن المجتهد موضوع، ويحتمل أن يكون قد تأوَّل قول الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُم إِيمَانهُم لَمَّا رَأَواْ بَأْسَنَا} . [سورة غافر، الآية: "85] ، وقوله في قِصَة فرعون: {ءالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . [سورة يونس، الآية: "91] ".
فلم يُخلِّصهم إظهار الإيمان عند الضرورة والإرهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم1".
قال ابن حجر: "كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وآخرة، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعاً مقيَّداً بأنْ يجب الكفّ عنه حتَّى يختبر أمره، هل قال ذلك خالِصاً من لبه، أو خشيةً من القتل؟ وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء، فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة، وهو المراد من الآية، وأمَّا كونهلم يلزمه دية ولا كَفَّارة فتوقَّف فيه الداودي وقال: "لعلَّه سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكَفَّارة".
__________
1 الخطابي: حاشية سنن أبي داود 3/103.
وقال القرطبي: "لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بُعْد لأنَّ العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: "فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء، لأنه كان مأذوناً له في أصل القتل، فلا يضمن ما أتلف من نفسٍ ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأنَّ المقتول كان من العدوِّ ولم يكن له وليٌّ من المسلمين يستحق ديته، قال: "وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأنَّ أُسامة أقرَّ بذلك، ولم تقم بذلك بيِّنة فلم تلزم العاقلة الدية، وفيه نظر1".
وقال النووي: "أمَّا كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أُسامة قصاصاً ولا دية ولا كَفَّارة، فقد يُستدَلُّ به لإسقاط الجميع، ولكن الكَفَّارة واجبة والقصاص ساقط للشبهة فإنه ظَنَّه كافراً، وظَنَّ أنَّ إظهاره كلمة التوحيد في هذه الحال لا يجعله مسلماً".
وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء.
ويجاب عن عدم ذكر الكَفَّارة بأنَّها ليست على الفور، بل هي على التراخي وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول، وأمَّا الدية على قول من أوجبها فيحتمل أنَّ أُسامة كان في ذلك الوقت معسراً بها فأُخِّرَت إلى يساره2.
__________
1 فتح الباري: 12/196.
2 النووي على مسلم 2/106.
وقال الزرقاني: "روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "أمر صلى الله عليه وسلم لأهل مرداس بديته وردّ ماله إليهم". وقيل: "قال له: "اعتق رقبة". والله أعلم 3".
قلت: "بالإضافة إلى ما ذكروه، فإنَّ أسامة - رضي الله تعالى عنه - كان في ذلك الوقت صغيراً في السنِّ، وأنَّ ما حمله على قتل ذلك الرجل هو قِلَّة خبرته الفقهية، وبخاصّةً فقه الجهاد، باعتبار أنَّها أوَّل مشاركة جهادية، كما ورد في رواية ابن سعد السابقة1، ولأجل ذلك عذره النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّه أبلغ في اللوم والعتاب عليه سدّاً للذريعة، والتثبُّت، وبخاصّةً وأنَّ الأمر يتعلَّق بحياة إنسان بدت منه شبهة تدرأ عنه القتل". والله تعالى أعلم".
ثانياً: "العبر والدروس المستفادة: "
إنَّ حُبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد - ولأبيه من قبله - رضي الله تعالى عنهما - لم يشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخطأ، فكان اللوم والتقريع والمحاسبة الشديدة على الخطأ".
وفي ذلك دليل على أنه لا محاباة، ولا محسوبيات في دين الإسلام، فالكل سواسية أمام الشارع، يحاسبهم على أخطائهم، لا فرق بين قريب أو بعيد، ولا غني أو فقير".
__________
1 سبق تخريجها برقم [18] .
استمرار سياسة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العسكرية ضد الأعراب مِمَّا أدَّى إلى حصد النتائج السريعة المتوخاة من تلك السياسة العسكرية المتبعة ضدَّهم، نصر، وغنائم، وتأديب، ورعب".
كان الشعار في المعركة من مبتكرات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غزواته وبعوثه وسراياه وتتضح أهمية الشعار في القتال الليلي، أو الفجري الخاطف، وبخاصّةً إذا علمنا أنَّ العرب في ذلك الوقت يتشابهون فيما بينهم في اللباس والملامح، حيث لم تكن هنالك بزَّات1 عسكرية خاصّةً لكل جيش كما هو الحال اليوم في المؤسسات العسكرية الحديثة، فكان الشعار ينوب مناب اللباس الخاص للتفريق بين المسلمين وأعدائهم في ميدان المعركة، كما أنَّه يبث روح الحماس في نفوس الجند وهم يتصايحون به أثناء الانقضاض على العدوّ، كما حدث في هذه السرية". والله تعالى أعلم.
اتَّبع المسلمون الهجوم الفجري ضد الأعراب "فكان هذا الهجوم مباغتة كاملة أثَّرت على معنوياتهم، وأجبرتهم على الفرار".
"إنَّ الهجوم فجراً يؤَمِّن المباغتة، لأنَّ العدوَّ يكون بين نائم لا يفيد في القتال، أو مستيقظٍ غير مُتَهَيئٍ له، وهؤلاء جميعاً غير متهيئين للقتال، ولا جدوى منهم للنهوض بأعباء الحرب".
__________
1 جمع بزة: وهي البدلة العسكرية.
ولكن الهجوم فجراً يحتاج إلى قوة مددية تستطيع معرفة أهدافها، فلا يصطدم بعضها ببعض، فيؤدي ذلك إلى خسائر في الأرواح دون مبرر، مِمَّا يدل على تدريب المسلمين تدريباً متميزاً على فنون القتال، كما يحتاج الهجوم فجراً إلى قيادة مسيطرة وإلى ضبط شديد لتنفيذالأوامر"1".
وذلك واضح في الخطاب الذي ألقاه قائد السرية عليهم، وتأكيده على الضبط العسكري، ومبدأ طاعة الأوامر، ثُمَّ في تأليفه بين الجند ومؤاخاته بينهم، والحثّ على الاجتماع وعدم التفرُّق، وترك الإمعان في العمق دون مبرِّر".
"إنَّ نجاح المسلمين بهذا الهجوم معناه وصولهم إلى درجة عالية في التدريب والضبط، وهما أهمّ عناصر الجيش القوي الرصين"2".
__________
1 خطَّاب: الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - القائد 217.
2 خطَّاب: الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - القائد 217.