,
...
المطلب الأوَّل: التعريف بالجناب، ويمن، وجبار:
قال البكري: "الجِنَاب - بكسر أوّله، وبالباء المعجمة بواحدة1".
وقال الحموي: "يقال فرسٌ طوع الجِناب - بكسر الجيم - إذا كان سلس القياد، ويُقال: "لجَّ فلانٌ في جِنَابٍ قبيحٍ، إذا لجَّ في مجانبة أهله2".
وقال ابن سعد: "والجِناب يعارض سلاح، وخيبر، ووادي القرى3".
وقال البكري: "أرض لغطفان". هكذا قال أبو حاتم الأصمعي". وقال في موضعٍ آخر: "الجِنَاب: "أرض لفزارة وعُذْرَة". وقال إبراهيم بن محمَّد بن عرفة: "الجِنَاب أرض بين فزارة وكلب، ويدُلُّ أنَّ لِعُذْرَة فيها شركة قول جميل لبثينة: "ما رأيت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان على البلاط إلاَّ غِرْتُ عليكِ وأنتِ بالجِنَاب، وكان فائق الجمال4".
وقال ياقوت: "وقيل: "هو مِن منازل بني مازن، وقال نصر: "الجِناب من ديار بني فزارة بين المدينة وفَيْد، وقال ابن حبيب: "الجناب مِن بلاد فزارة، والحضارم من ناحية اليمامة5".
__________
1 معجم ما استعجم 2/395.
2 معجم البلدان 2/164.
3 طبقات 2/120.
4 معجم ما استعجم 2/396.
5 معجم البلدان 2/164 – 165.
وقال البلادي: "الجناب أرض واسعة تقع شمال خَيْبَر، وتمتد إلى تيماء، يُعْرَف جُلّها اليوم باسم (الجهراء) ، كانت منازل قضاعة، وهي اليوم لعنْزة بن أسد1".
وقال في موضعٍ آخر: "صحراء تمتد من حفيرة الأيدا2، إلى تيماء3".
أمَّا يمن وجبار، فقال ياقوت: "جُبَار - بالضم - وهو في كلام العرب الهدر، ذهب دمه جُبَاراً كما تقول هدراً، وهو ماء لبني حُمَيس بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، بين المدينة وفيد، قال:
ألا مِن مُبَلِّغ أسماء عني إذا حلَّت بيمنٍ أو جُبَار4
وقال في موضعٍ آخر: "يمن - بالفتح، ويروى بالضم - ثُمَّ السكون، ونون، ماء لغطفان بين بطن قوٍّ ورُؤاف على الطريق بين تيماء وفيد، وقيل: "هو ماء لبني صرمة بن مرَّة، وسمَّاه بعضهم: "أمْن، وينشد قول زهير:
عفا من آل فاطمة الجواء فيُمن فالقوادم فالحِساء
__________
1 معجم المعالم الجغرافية في السيرة 86.
2 هي بئر حفرها فرحان الأيدا أمير ولد علي من عنْزة في وادٍ صغير هو أحد روافد وادي الزهيراء من أودية خيبر، من أعلاه، فاتخذها قاعدةً له وحصَّنها.
(انظر: البلادي: رحلات في بلاد العرب 28) .
3 رحلات في بلاد العرب (في شمال الحجاز والأردن) 64.
4 معجم البلدان 2/98.
وقال:............ ولو حلَّت بيمنٍ أو جُبار1
وقال ابن سعد: "هي نحو الجناب2".
وقال البكري: "يُمْن - بضم أوَّله، وإسكان ثانيه - ماء، قال عامر ابن الطفيل:
ألا مِن مُبَلِّغ أسماء عنِّي ... ولو حلَّت بيمنٍ أو جُبَار
قال ابن دريد: "يمن وجبار من الحجاز3".
وقال الحلبي: "جَبار - بفتح الجيم - وادٍ قريب من خيبر4".
وقال البلادي: "جبار وادٍ تراه من مشراف العشاش5 (سلاح) شمالاً شرقياً، والاسم لماء هناك".
ويمن ماء - أيضاً - في نفس الوادي، وسيل الوادي يصب في وادي العشاش من أعلاه، والمكانان شمالاً شرقياً من العشاش يُريان بالعين6".
__________
1 المصدر السابق 5/449.
2 الطبقات 2/120.
3 معجم ما استعجم 4/1400 – 1401.
4 تاريخ 1/194.
5 العشاش: قرية من قرى محافظة خيبر، بُنِيَت في طرف أنقاض قرية سلاح القديمة.
6 رحلات في بلاد العرب 26 – 27.
,
ذكر أهل المغازي الذين رووا أخبار هذه السرية أنَّ السبب الذي أهاج هذه السرية، هو ذلك التقرير المهم الذي جاء به عين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في منطقة خيبر وما جاورها، ودليله إليها من قبل، حُسَيْل بن نويرة الأشجعي، عن التحرُّكات العدوانية التي يقوم بها زعيم قوي ومؤثِّر من زعماء قبيلة غطفان، هو عُيَيْنة بن حصن الفزاري، ومحاولته حشد جمعٍ من غطفان في منطقة الجناب القريبة من خيبر، استعداداً للزَّحف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الإغارة على بعض أطراف الدولة الإسلامية1.
وبما أنَّ عُيَيْنَة بن حصن قد كانت له سابقة من قبل مع المسلمين، كانت سبباً في غزوة ذي قَرَد2، لذلك أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تقرير حُسَيْل مأخذ الجد، وسارع ببعث هذه السرية لضرب ذلك الحشد في عُقْرِ داره، قبل أن تستكمل استعداداتهم للتحرُّك ثُمَّ الهجوم، كما فعلوا من قبل".
والله تعالى أعلم".
__________
1 انظر: الواقدي: مغازي 2/728، ابن سعد: طبقات 2/120، الطبري: تاريخ 3/23.
2 في السنة السادسة أغار عُيَيْنَة بن حصن، وابنه عبد الرحمن في فوارس من غطفان
على لقاح النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كانت في الغابة، فقتلوا أحَد الرّعاة، واستاقوا اللقاح، فنذر بهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبعض الصحابة، ولحقوا بهم واستنقذوا اللقاح.
,
مشروعية اتخاذ الأدلاَّء من غير المسلمين وإغرائهم بالمال لمساعدة المسلمين، وفي قصة الهجرة، وقصة هذه السرية، وفتح خيبر دليلٌ على ذلك.
مشروعية اتخاذ العيون للتجسس على الأعداء، وتزويد المسلمين بأخبارهم وتحركاتهم ضد المسلمين، وقصة هذه السرية، وفتح مكَّة، وغير ذلك من قصص السرايا والغزوات والأخبار التي تصل تباعاً إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن تحرُّكات الأعداء وحشودهم دليلٌ على ذلك.
إنَّ استخدام المسير الليلي كمسير اقترابي1 إلى أرض العدو، واتخاذ الدليل طليعةً في أرض العدو، يُعَدُّ من الأُسس العملية المهمَّة للمباغتة، وهي أساليب تُعَدُّ من مبتكرات الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.
استمرار نجاح سياسة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم العسكرية الهجومية في حربه مع أعدائه من الأعراب بضرب حشودهم في قواعدها، والإغارة عليهم قبل استكمال استعداداتهم، مِمَّا كان له أبلغ الأثر في تلك النتائج المدهشة من إدخال الرعب في قلوبهم، والقضاء على مخططاتهم العدوانية - التي كانت موجَّهة ضد المسلمين - في مهدها، وبسط نفوذ المسلمين على أراضيهم، وبالتالي التمهيد للانطلاق فيما وراء ذلك لتحقيق أهداف المسلمين واستراتيجياتهم بعيدة المدى من نشر
__________
1 المسير الاقترابي هو الحركة من القاعدة إلى الهدف. (خطَّاب: الرسول القائد 116) .
الإسلام خارج نطاق الجزيرة العربية فيما وراء مناطق نفوذ الأعراب.
وضح من خلال هذه السرية، والسرايا قبلها، ذلك الترتيب الذكي الذي كان يتبعه القائد الملهم، الخبير بخبايا الحرب وأمورها الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال اختياره الرجل المناسب للمهمَّة المناسبة في المنطقة المناسبة، ذلك الاختيار كان يتم وفق معايير خاصّة تتعلَّق بقدرات الرجل المختار، وخبرته في المنطقة المبعوث إليها، ومعرفته التامة بها وبأهلها". فكما رأينا في هذه السرية وما قبلها من السرايا في منطقة خيبر وما حولها، كان المبعوث على رأسها في غالب الأحيان هو بشير بن سعد الأنصاري، - رضي الله تعالى عنه، - فالتركيز على بشير دون غيره من الصحابة". وغالب بن عبد الله الليثي - رضي الله تعالى عنه، وغيرهما من القادة لم يكن من فراغ، وإنَّما كان بناءً على ما كان يتمتع به أولئك من قدرات أهليتهم لذلك مِمَّا ذكرنا، والله تعالى أعلم.
إنَّ في استشارة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لصاحبيه أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه، وعمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه، لها أكثر من دلالة!. فمن كون ذلك يدل على فضلهما ومكانتهما ومنْزلتهما الرفيعة عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حتَّى إنَّهما كانا بمثابة وزيرين له، وكانا من ألصق النَّاس به في كُلِّ أموره، في سفره وإقامته، في سلمه وحربه، وكان دائم الاستشارة لهما، المصاحب لهما في كُلِّ الأوقات، وكان
دائم الحديث عنهما، كما يقول علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه: "وحسبت أني كثيراً أسمع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"1 ". وقد عرف الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ذلك لهما، فكان أن قدَّموهما على غيرهما في الخلافة.
أيضاً يدل ذلك على مكانة الشورى في الإسلام، باعتبار أنَّ المُشَرِّع صلى الله عليه وسلم كان يُطَبِّقها في كل زمان ومكان، وذلك تنفيذٌ لأمر الباري - عزَّ وجلَّ - له {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} . [سورة آل عمران، الآية: 159] . وتعليمٌ لأمَّته من بعده بتطبيق هذا المبدأ الهام والحيوي في حياتهم بمختلف شؤونها، وما أصاب المسلمين من الضياع وتسلُّط الأعداء إلاَّ عندما تركوا هذا المبدأ، واستبدَّ قادتهم بالرأي دونهم، فكان ذلك وبالاً على الأُمةِ بأسرها.
كذلك يدل على ما كان يتمتَّع به الشيخان الجليلان - رضي الله تعالى عنهما، من الحنكة والمعرفة بأمور الحرب والسياسة، حيث نصحا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بالإسراع بإرسال سرية إلى تلك المنطقة، يقودها رجلٌ مُحَنَّكٌ ذو خبرة ومعرفة بأحوالها وأهلها.
والله تعالى أعلم.
__________
1 أخرجه البخاري (الصحيح: 4/199) .
,
قال الحلبي: "لم أقف على السبب الذي اقتضى البعث إلى ذلك المحل1".
قلت: "لم تُصَرِّح الروايات التي نقلت خبر هذه السرية بالسبب الذي مِن أجله أُرسلت إلى تلك المنطقة التي تقع في عمق المناطق الخاضعة لنفوذ القبائل الحليفة والموالية للروم من قضاعة وغيرها".
ولكن يمكن أن نستشِفَّ السبب من خلال بعض أحداثها: "فمثلاً ما ورد في الروايات حول قوَّة السرية، وأنَّها كانت بقوَّة خمسة عشر رجلاً فقط، يثير لدينا تساؤلاً مفاده: "كيف تكون سرية قتالية مبعوثة إلى تلك المناطق البعيدة عن قاعدة المسلمين، ومناطق نفوذهم بقوة خمسة عشر رجلاً فقط؟!
إلاَّ إذا كانت لغرضٍ آخر غير القتال، إذاً ما هو ذلك الغرض؟ ".
قال في الخبر: "فوَجَدُوا جَمْعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم" ... الخ2".
فقوله: "فدعوهم إلى الإسلام"، يعطينا دلالة قوية أنَّ السرية كانت عبارة عن بعثة دعوية لأهل تلك المنطقة، وربَّما يقول قائل: "إنَّ مِن سُنَّة القتال في الإسلام أن تكون الدَّعوة قبل القتال". وذلك
__________
1 السيرة 3/198.
2 انظر: الواقدي: مغازي 2/753، ابن سعد: طبقات 2/127.
اعتراضٌ وجيهٌ يمكن أن نُسَلِّم به، لولا القرينة التي ذكرناها سابقاً، وهي عدم التسليم بفرضية بعث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سرية قتالية إلى ذلك العمق من أراضي العدو بهذه القوَّة الضئيلة جداً، لأنَّ ذلك يعد مغامرة عسكرية غير محسوبة، وهو الأمر الذي لم نعهده من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القائد العسكري المُحَنَّك الذي كانت خطواته العسكرية ضد أعدائه على اختلاف نوعياتهم محسوبةً بدقةٍ، ومنَظَّمَةٌ ومُخَطَّطٌ لها تخطيطاً مسبقاً صلى الله عليه وسلم".
إذاً كانت البعثة دعوية بحتة، ولكن الأعراب الذين كانت تمتلئ قلوبهم غِلاًّ وحِقْداً ضد المسلمين، لم يكونوا ليدعوا هذه الفرصة بالبطش والفتك بالمسلمين تفلت من أيديهم، فاستفزُّوهم وألجأوهم للقتال، دفاعاً عن أنفسهم، ليكون في ذلك ذريعةً للفتك بهم وهم قِلَّة، وحَدَثَ ما حَدَثَ، والله تعالى أعلم".
يقول أحمد عادل كمال: "ولم يكن بَعْث كعب وأصحابه للغزو، وإنَّما كان للدعوة، وقُوبِلَ الدُّعاة بالسيف والنبل حتى اسْتُشْهِدُوا1".
__________
1 الطريق إلى دمشق 145.