ونمت بذلك الاخبار اجتمع رأي من بمكة من المشركين الاغمار ان يوجهوا خلفهم من يردهم عليهم ليفتنوهم فبعثوا عبد الله بن ابى ربيعة المخزومي وعمرو بن العاصي السهمي ووجهوا معهم هدايا للنجاشي وخواصه فقدما على النجاشى وقدما له ما عندهما من الهدايا وكلماه في شأنهم وصدقهما وزراؤه لما أصابوا من الهدايا فعصم الله النجاشى وثبته وردهم خائبين بهداياهم* ولما علم ابو طالب بما أجمعوا عليه من البعث الى النجاشى قال أبياتا وبعث بها الى النجاشى يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم قال
الا ليت شعري كيف في النأي جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الاقارب
وهل نالت افعال النجاشي جعفرا ... واصحابه او عاق ذلك شاغب
(النجاشي) بفتح النون وكسرها وآخره مشدد ومخفف كما مر (ونمت) بالنون مخفف ومشدد (الاغمار) بالمعجمة جمع غمر بالضم وهو الجاهل (الهدايا) كانت من أدم وغيره (وخواصه) هو من يختصه لقربه ومشورته. وللبغوي وبطارقته بفتح الموحدة جمع بطريق بكسر الباء. قال الشمنى نقلا عن ابن الجواليقي هو بلغة الروم القائد أي مقدم الجيوش وأميرها (وزراؤه) بضم الواو وفتح الزاي ممدود جمع وزير وهو في الاصل المعين والموازر ثم استعمل في كل من كان مقربا عند السلطان (فعصم الله) أي فحفظ (النجاشى) من الكفر قال البغوي وذلك ان كلا من الفريقين عرض عليه دينه فقال لجعفر تكلمت بامر عظيم فعلى رسلك ثم أمر بجمع كل قسيس وراهب فأنشدهم بالله هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبيا مرسلا فقالوا اللهم نعم فسأل النجاشى جعفرا عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه فاخبره بانه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرأ عليهم كتاب الله فقال اقرأ على مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم وقيل سورة مريم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع فاستزاده فقرأ سورة الكهف فقال عمرو انهم يشتمون عيسى وأمه فسأل النجاشي عن ذلك فقرأ عليه سورة مريم فلما أتى ذكرهما رفع النجاشي نفثة من سواكه وأقسم ما زاد المسيح على ما يقولون هذا ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فانتم سيوم بارضي بضم المهملة أى آمنون ثم بشرهم وقال ابشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب ابراهيم فقال عمرو ومن حزب ابراهيم قال هؤلاء وصاحبهم ومن اتبعهم فانكر ذلك المشركون ثم رد النجاشى عليهما المال الذى حملوه وقال انه رشوة وقال ان الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر وانصرفنا فكنا في خير دار واكرام جوار وأنزل الله ذلك اليوم في خصومتهم في ابراهيم ان أولى الناس بابراهيم الآية (يحضه) باهمال الحاء واعجام الضاد يحثه وزنا ومعنى (ألا) هي كلمة تنبيه (ليت) تمن (شعرى) أى علمي (في النأي) أى في البعد مصدر نأى ينأى اذا بعد (نالت أفعال) بكسر التاء من نالت وبوصل الهمزة ليتزن البيت وان كانت التاء في الاصل ساكنة والهمزة مفصولة (أو عاق) بالمهملة والقاف أي منع (ذلك شاغب) بالمعجمتين فالموحدة صائح بأعلى صوته
تعلم أبيت اللعن انك ماجد ... كريم ولا يشقى لديك المجانب
تعلم بان الله زادك بسطة ... واسباب خير كلها بك لازب
وانك فيض ذو سجال غزيرة ... ينال الاعادي نفعها والاقارب
(قال المؤلف كان الله له) هكذا ذكره ابن هشام رواية عن ابن اسحق ان المرسل مع عمرو هو عبد الله بن ابي ربيعة. وذكر في تفسير البغوى نقلا عن ابن اسحق ايضا ان المرسل معه عمارة بن الوليد ولعل ذلك من رواية غير ابن هشام عنه وكان عمارة معهما او في رسالة اخرى لكن في سياق القصتين إيهام من حيث اتحاد جنس الهدية واشتباه اللفظ من جعفر والنجاشى وهما في القصتين واحسن ما يقال تعدد الرسالتين فالاولى عقيب هجرتهم والثانية بعد بدر لطلب الثأر بمن اصيب منهم بها كما هو مصرح به في القصة وفيها ان عمرا وعمارة تخلونا في سفرهما ثم تكايدا عند النجاشى فكاد عمرو عمارة عنده حتى اتهمه ببعض نسائه فتحاشا النجاشي من قتله وأمر السواحر فسحرنه فتوحش من الانس وهام على وجهه مع الوحش حتى هلك هناك والله أعلم ثم ان مهاجرة (تعلم) بمعنى اعلم (أبيت اللعن) أي الذم. قال ابن السكيت أي أبيت ان تأتي من الامور بما تلعن عليه وهي تحية الملوك التي عناها من قال
ولكل ما نال الفتي ... قد نلته الا التحيه
(ماجد كريم) مترادفان (فلا يشقى) أي لا يخيب ولا يتعب (لديك) أي عندك (المجانب) أى الذى جانبك (بسطة) أى فضلة وسعة في الملك (لازب) أى لازمة لك لاصقة بك والباء والميم يتعاقبان (فيض) أى ذو فيض وهو الماء الكثير استعاره لكثرة جوده وعطائه (ذو سجال) بكسر المهملة بعدها جيم جمع سجل بالفتح وهو الدلو المملوءة ماء واستعير أيضا لما مر (غزيرة) بتقديم الزاى على الراء والغزير الكثير من كل شيء (ينال الاعادي) فاعل (نفعها) مفعول (والاقارب) عطف على الاعادى (وذكر في تفسير) الامام الحافظ محيى الدين حسين بن مسعود الفراء (البغوى) قال النووى منسوب الى بغ مدينة بين هراة ومرو. وفي القاموس ان اسمها بغشوب بفتح الموحدة قال وهي بلد بين هراة وسمرقند النسبة اليها بغوى على غير قياس معرب كرسور أى الحفرة المالحة (نقلا عن ابن اسحاق) عن ابن شهاب باسناده ورواه أيضا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (في سياق) بكسر المهملة فتحتية خفيفة مصدر ساق يسوق (ايهام) مصدر أوهم يوهم (الثار) بالمثلثة والراء مهموز (اتهمه) الضمير للنجاشى (فتحاشا من قتله) أى قال حاشا ما أقتله (فأمر السواحر) جمع ساحرة وهو المتعاطي عمل السحر (مهاجرة) جمع مهاجر كمقاتلة (بلغهم ان أهل مكة قد أسلموا) كان سبب ذلك سجودهم مع النبى صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة
الحبشة بلغهم ان أهل مكة أسلموا فاستخف ذلك الخبر منهم ثلاثة وثلاثين رجلا فأقبلوا راجعين حتى اذا دنوا من مكة بان لهم فساد ذلك الخبر فلم يدخل احد منهم مكة الا بجوار أو مستخفيا فمنهم من أقام بها حتى هاجر الى المدينة وشهد بدرا ومنهم من حبس حتى فاتته ومنهم من مات بها وكان عثمان بن مظعون دخل في جوار الوليد بن المغيرة فانفذت قريش جواره ودخل أبو سلمة بن عبد الاسد في جوار أبى طالب لكونه ابن أخته برة بنت عبد المطلب فتعرضت له بنو مخزوم وأبت ان تنفذ جواره وقالوا لابى طالب هذا منعت ابن اخيك محمدا فما لك ولصاحبنا فقال انه استجار بى وأنا ان لم أمنع ابن اختى لم امنع ابن اخى فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد اكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن عنه او لنقو من معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما اراد فتركوه مراعاة لابي لهب فطمع ابو طالب حينئذ بابى لهب وقال يحرضه على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وان امرأ لابو عتيبة عمه ... لفى روضة ما ان يسام المظالما
والنجم وكانت أوّل سجدة نزلت في القرآن على ما قيل وكان سبب سجود المشركين ليعارضو المسلمين بالسجود لمعبودهم أو كان ذلك منهم بلا قصد أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم أقوال وقيل سبب ذلك ما ألقى الشيطان في أثناء قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من قوله تلك الغرانيق العلى وان شفاعتها لترتجي قال البرماوى وغيره ولا صحة لهذا الخبر عقلا ولا نقلا انتهى (قلت) وتبع القائل بذلك عياضا والفخر الرازى والبيهقى فانهم أنكروها أشد انكار وقالوا هي من وضع الزنادقة وقد رد ذلك الحافظ ابن حجر بان طرقها كثيرة فقد أخرجها ابن أبى حاتم والطبري وابن المنذر وابن مردويه والبزار وابن اسحاق في السيرة وموسى بن عقبة في المغازى وأبو معشر. قال وثبت من طرق رجالها رجال الصحيح وباقيها إما ضعيف وإما منقطع وبعضها تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور فزعم عياض ومن مر أن رواياتها كلها لا أصل لها مندفع اذ من حفظ حجة على من لم يحفظ فحينئذ يتعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر بمالا يخفى على ذي بصر نافذ وأحسن ما يقال إن ابليس لعنه الله لما قال صلى الله عليه وسلم أفرأيتم اللات والعزي ومناة الثالثة الاخرى قال بلسان نفسه تلك الغرانيق العلي الى آخره مشبها صوته بصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع ذلك من سمعه من المشركين فظن انه صلى الله عليه وسلم تلفظ به ولا مانع يمنع هذا من قبل العقل لا سيما وقد صح به النقل والله أعلم (فاستخف ذلك الخبر) فاعل (ثلاثة وثلاثين) مفعول (فأنفذت) بالفاء والمعجمة أى أجازت (ان ينفذ) بضم أوله رباعي (استجاربي) بموحدة أو نون (توثبون) بفوقية فواو فمثلثة مشددة مفتوحات أي تتوثبون (يحرضه) بالمهملة فالراء فالمعجمة أي يحضه (ان امرأ) مثلث الراء مطلقا لكن الاولى اتباعها الهمزة ضما وفتحا وكسرا (لابو) يزحف قليلا ليتزن البيت (عتيبة) بالفوقية والموحدة مصغر هو أحد أولاد أبي لهب (لفي روضة) هي في الاصل البستان في غاية النضارة والحسن واستعير للدعة والرفاهية (ما) هي نافية (وان) زائدة (يسام) مبنى للمفعول أي ما ان يكلف ان يتحمل (المظالما)
أقول له وأين منه نصيحتي ... أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم ... فانك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فان الحرب نصف ولن ترى ... اخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة ... ولم يخذلوك غانما او مغارما
جزي الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
قال اهل السير ثم اقام بقية المهاجرين بارض الحبشة في خير دار واحسن جوار الى ان هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلا امره وانتشر صيته
[