"ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب" سيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله خير أعمام المصطفى وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة؛ كما في الصحيح، ولا يشكل بأنه أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو أربع؛ لأنها أرضعتهما في زمانين؛ كما قال البلاذري، وقريبه من أمة أيضًا؛ لأن أمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا عمارة بضم العين بابن له من امرأة من بني النجار، وقيل: هي بنت له كني بها، وقيل: كنيته أبو يعلى وقدمه بعضهم.
قال السهيلي: ولم يعش لحمزة ولد غير يعلى وأعقب خمسة بنين ثم انقرض عقبهم، فيما ذكر مصعب. "وكان" كما قال ابن إسحاق "أعز فتى" أي: أقوى شاب، "في قريش وأشده" أي أشد فتى، والمراد به الجنس؛ لأن اسم التفضيل بعض ما يضاف إليه فلا بد من حمل فتى على ما يشمله وغيره ليكون الأعز والأشد واحدًا منهم، "شكيمة" بفتح المعجمة وكسر الكاف، يقال؛ كما في الصحاح وغيره لمن كان عزيز النفس أبيًا قويًا، وأصله من شكيمة اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس التي فيها الفاس، ويقال: شكيم أيضًا، والجمع شكائم.
"وكان إسلامه فيما قاله العتقي" وابن الجوزي "سنة ست" من النبوة، وقيل: في السنة الثانية بالنون، قطع به في الإصابة، وصدر به في الاستيعاب، وتبعه المصنف في ذكر الأعمام وسببه أن أبا جهل آذى النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في تنقيصه وما جاء به عند الصفا؛ كما لابن إسحاق ولغيره عند الحجون ولا مانع من تكرره، فأخبرته مولاة ابن جدعان؛ كما عند ابن إسحاق ولغيره صفية أخته، ولا منافاة فعند ابن أبي حاتم: فأخبره امرأتان فغضب حمزة لما أراد الله من إكرامه فجاء المسجد فعلا رأس اللعين بقوسه فشجه شجة منكرة وقال: أتشتمه أنا على دينه، فرد ذلك علي إن استطعت، فقام رجال من بني مخزوم لنصره، فقال: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا، وعند ابن أبي حاتم: فقال حمزة: ديني دين محمد، إن كنتم صادقين
فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم:
حمدت الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
__________
فامنعوني، فوثبت إليه قريش، فقالوا: يا أبا يعلى، يا أبا يعلى، أي ما هذا الذي تصنع؟ فأنزل الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] ، إلى قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] ، "فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفت عنه قريش قليلا" أي: بعض ما كانوا ينالون منه؛ كما عبر به ابن إسحاق لشدته، وعلمهم أنه يمنعه، "وقال حمزة حين أسلم: حمدت الله حين هدى فؤادي إلى" الثبات على "الإسلام" بعد ترددي في البقاء عليه، فعند يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم رجع حمزة؛ أي: بعد إسلامه وشجه أبا جهل إلى بيته، فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت، خير لك بما صنعت، وقال: اللهم إن كان هذا رشدًا، فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا، فبات بليلة لم يبت مثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخي، إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أهو رشد أم لا؟ غي شديد، فحدثني حديثًا فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني، فأقبل صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قاله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك الصادق، فأظهر دينك، فوالله ما أحب أن لي ما ظلته السماء وأنا على ديني الأول، وتم حمزة إسلامه، وعلى ما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
"والدين الحنيف" عطف تفسير بجعل الإسلام نفس الأحكام أو مغاير يحمله على الانقياد الباطني والدين على الأحكام المشروعة، والمعنى: حمدت الله حين دلني على حقيقة هذا الدين، فانقدت إليه باطنًا وتلبست به ظاهرًا فيكون جمع التصديق والإذعان والإقرار والانقياد الظاهري "لدين" بدل من قوله: إلى الإسلام، "جاء من رب عزيز" ممتنع لا يدرك ولا ينال أو غالب أو جليل القدر أو لا نظير له أو معز لغيره، وفي إتيانه بهذا اسم هنا لطاقة ومناسبة ظاهرة للإيماء إلى أن المشركين وإن عاندوا وجحدوا مآلهم إلى الذل بالقتل والأسر، ومآل هذا الدين الحنيف إلى العزة والظهور؛ لمجيئه من العزيز.
"خبير بالعباد" مطلع على حقيقة الشيء عالم به أو مخبر أنبياءه، ورسله بكلامه المنزل عليهم وعباده يوم القيامة بأعمالهم، إذ لا يعزب عن علمه شيء، وفي ذكره إيماء إلى أن سبهم للمصطفى وإيذاءهم سينالون عقابه من الخبير. "بهم" متعلق بقوله: "لطيف" مقدم عليه، أي: لطيف بعباده برهم وفاجرهم، حيث لم يهلكهم جوعًا وعطشًا بمعاصيهم، وفي ذكره رمز إلى أن المشركين لا يغتروا بالنعم، وقد كذبوا المرسلين؛ لأن هذا من لطف الله بهم في الدنيا ومتاعها
إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذي اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبينة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف
وعند مغلطاي: وسألوه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- إن كنت تطلب الشرف فينا
__________
قليل، "إذا تليت رسائله" أي: أحكام الرب التي أمرنا بها "علينا" وسمى ما جاء به من الله رسالة؛ لأن جبريل بلغه إياه عن الله وأمره بتبليغه للناس، "تحدر" تساقط "دمع ذي اللب" العقل "الحصيف" بحاء وصاد مهملتين، أي: الكامل المحكم لينا إليها وتكفرًا وفي أحكامها بعجيب النظم وبديع المعاني وتفصيلها بالأحكام والقصص والمواعظ، "رسائل جاء أحمد من" أجل "هداها" أي: الرشاد بها أو الدلالة عليها "بآيات" ظاهرة "مبينة الحروف" يعني القرآن، "وأحمد مصطفى مختار من الخلق "فينا" متعلق بقوله: "مطاع" أي: واجب الطاعة لما ظهر على يديه من الآيات، فلا عبرة بمخالفة المنكرين ولا اتداد بها لظهور بطلانها، "فلا تغشوه" تغطوا ما جاء به من الحق "بالقول العنيف" الباطل الموقع في المشقة والتعب من العنف بالضم ضد الرفق، "فلا والله نسلمه لقوم" ولا نترك نصرته "ولما نقض" بالنون والبناء للفاعل: نحكم، "فيهم" أي: نستأصلهم قتلا "بالسيوف" بل نقاتل دونه إلى منتهى الطاقة، وهذا أولى من قراءة يقض بتحتية مبنيًا للمفعول، وبعده:
ونترك منهم قتلى بقاع ... عليها الطير كالورد العكوف
وقد خبرت ما صنعت ثقيف ... به فجزى القبائل من ثقيف
إله الناس شر جزاء قوم ... ولا أسقاهمو صوب الخريف
الورد بكسر الواو وسكون الراء العكوف بضم العين، أي: إن الطير مستديرة على القتلى كالقوم المجتمعين على الماء المستديرين حوله، "وعند مغلطاي" بضم الميم وسكون الغين، "وسألوه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم" حين أسلم حمزة ورأوا الصحابة يزيدون؛ كما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسمي السائلين أن عتبة وشيبة وابن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري والأسود بن المطلب وزمعة والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيها ومنبهًا اجتمعوا، فقالوا: يا محمد! ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة، فما من قبيح إلا وقد جلبته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، "وإن كنت تطلب الشرف فينا،
فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر.
__________
فنحن نسودك علينا" زاد في رواية: حتى لا نقطع أمرًا دونك، "وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا" فانظر إلى حمقهم وجهلهم رضوه ملكًا مع أن الغالب من الملوك التجبر وسلب الأموال بغير حق، ولم يرضوا به نبيًا رسولا يدعوهم إلى الصراط المستقيم، ويوصلهم جنات النعيم.
"وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك" مثلث الطاء العلاج في النفس والجسم؛ كما في النور والقاموس. "حتى نبرئك منه أو نعذر" بفتح النون وضمها من عذر وأعذر، أي: يرتفع عنا اللوم؛ كما في المصباح. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عمر وأبو يعلى بسند جيد عن جابر: اجتمع نفر من قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، قالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، وعند ابن إسحاق والبيهقي وغيرهما عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة قال يومًا، وكان جالسًا في نادي قريش والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضي من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع"، قال: يابن أخي! إن كنت ... فذكر الأمور الأربع، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه، قال له: "أقد فرغت أبا الوليد"؟ قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، قال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2] ، إلى قوله: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف، ثم انتهى إلى السجدة سجد. ثم قال: "قد سمعت أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك" الحديث، في عدم رجوع عتبة لقومه وظنهم إسلامه وذهابهم به وغضبه لذلك وحلفه لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: قد علمتم أنه لا يكذب فخفت نزول العذاب عليكم، فأطيعوني واعتزلوه فإن يصبه غيركم كفيتموه، وإن ظهر فملكه ملككم وعزه عزكم، فقال سحرك والله يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم، والظاهر أن هذه القصة في مرة ثانية قبل مجيء عتبة مع الجماعة أو بعده فأجابه المصطفى بما ذكر.
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني رسولا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم".
والرئي -بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة جني يرى فيحب، المكسورة للمحبوب منها. قاله في القاموس.
ثم إن النضر بن الحارث،............................
__________
وأما مع الجماعة، فأجابهم: فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما بي ما تقولون" أي: ولا شيء منه، بدليل قوله: "ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا" بالجنة إن صدقتم "ونذيرًا" منذرًا بالنار إن كذبتم، "فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر" بالجزم جواب الشرط، "لأمر الله بيني وبينكم".
وفي بقية حديث ابن عباس هذا، فقالوا له: فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا ولا أقل مالا ولا أشد عيشًا منا، فسل ربك فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارًا كالشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا ويكون فيهم قصي، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أهو حق أم باطل، وسله يبعث معك ملكًا يصدقك ويراجعنا عنك، ويجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عن المشي في الأسواق والتماس المعاش، فإن لم تفعل؛ فأسقط السماء علينا كسفًا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن يفعل، فقام صلى الله عليه وسلم ... الحديث، وفيه: فأقسم أبو جهل ليرضخن رأسه بحجر غدا، فلم دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده، وقال: عرض لي فحل إبل ما رأيت مثله، فهم أن يأكلني؛ قال ابن إسحاق: فذكر لي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ذاك جبريل لو دنا لأخذه".
"والرئي" بزنة كمي "بفتح الراء، وقد تكسر" لاتباعها ما بعدها، "ثم همزة فياء مشددة جني يرى فيحب" فعيل أو مفعول سمي به؛ لأنه يتراءى لمتبوعه أو هو من الرأي من قولهم، فلان رأى قومه إذا كان صاحب رأيهم؛ كما في النور.
"و" قيل الراء "المكسورة للمحبوب منها" أي: جماعة الجن إلا أن لفظ القاموس منهم وهو أصرح، "قاله في القاموس" اللغوي "ثم إن النضر" بنون وضاد معجمة ساكنة "ابن الحارث"
وعقبة بن أبي معيط ذهبا إلى أحبار يهود، فسألاهم عنه عليه السلام فقالوا لهما: سلوه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يجب فهو متقول...............
__________
ابن علقمة بن كلدة بفتح الكاف واللام العبدري المشتري لهو الحديث القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق ... إلخ، أسر ببدر وقتل كافرًا بالصفراء بإجماع أهل السير، وهم ابن منده وأبو نعيم، فقالا: شهد حنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه مائة من الإبل وكان من المؤلفة وقلبا نسبه فقالا: كلدة بن علقمة، وأطنب الحافظ العز بن الأثير وغيره من الحفاظ في تغليظهما والرد عليهما، وتعقب باحتمال أن يكون له أخ سمي باسمه فهو الذي ذكراه لا هذا المقتول كافرًا؛ كذا في الإصابة، وفي مغازي ابن عبد البر ذكر في المؤلفة قلوبهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرًا، انتهى. فجزم بأنه أخوه.
"وعقبة" بقاف "ابن أبي معيط" أحد رءوس الكفر لعنه الله قتل بعد بدر، "ذهبا" إلى المدينة ببعث قريش لهما بعد مراجعة بينهم وبين النضر؛ كما رواه ابن إسحاق والبيهقي، عن ابن عباس، قال: إن النضر كان من شياطين قريش، فقال: يا معشر قريش، والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم وأصدقكم حديثًا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، فلما قال ذلك بعثوه مع عتبة "إلى أحبار" بفتح الهمزة جمع حبر بفتح الحاء وكسرها، أي: علماء "يهود" علم لمن دخل دين اليهودية غير مصروف للعلمية وزن الفعل ويجوز دخول أل فلا يمتنع التنوين لنقله من وزن الفعل إلى باب الأسماء، "فسألاهم عنه عليه السلام" بعد إخبارهما لهم بصفته وبعض قوله: وقولهما إنكم أهل الكتاب الأول، أي: التوراة، وعندكم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، وقد أتيناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا؛ كما في حديث ابن عباس.
"فقالوا لهما: سلوه عن ثلاثة، فإن أخبركم بهن" على طريق الحقيقة والإجمال؛ لأنه لم يجب عن الروح إلا إجمالا، لأنها مما استأثر الله بعلمه. وفي بعض التفاسير: إن أجابكم عن البعض فهو نبي، وفي كتابهم: إن الروح من الله. وفي رواية: إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي، وإن أجابكم بأنها من أمر الله، فهو نبي.
وفي رواية: إن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحد "فهو نبي مرسل" تأسيس إذ لا يلزم من النبوة الرسالة على المشهورة، "وإن لم يجب" عن شيء منها بأن سكت أو أجاب عن جميعها تفصيلا "فهو متقول" اسم فاعل من
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟
فقال لهم عليه السلام: "أخبركم غدًا". ولم يقل إن شاء الله تعالى، فلبث الوحي أيامًا، ثم نزل قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] وأنزل الله تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا،
__________
تقول، أي: ذاكر ما لا حقيقة له، "سلوه" أمر من سال مخفف سأل "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول" أي: الزمان المتقدم، سموه أول بالنظر لتقدمه على زمانهم بمدة طويلة، وبقية الرواية: ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب "وعن رجل طواف" قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه "وعن الروح" يذكر ويؤنث، ولذا قال: "ما هو" فأقبل النضر وعقبة، وقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاءوا رسول الله فسألوه، "فقال لهم عليه السلام: "أخبركم غدًا" ولم يقل: إن شاء الله فلبث الوحي أيامًا" خمسة عشر يومًا؛ كما عند ابن إسحاق عن ابن عباس، وفي سير التيمي وابن عقبة: إنما أبطأ ثلاثة أيام"، وعن مجاهد: اثنا عشر، وقيل: أربعة، وقيل: أربعين، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: قد لاه ربه وتركه، وقالت حمالة الحطب: ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك. وفي رواية: فقالت امرأة قريش: أبطأ عليه شيطانه، حتى أحزنه ذلك صلى الله عليه وسلم.
وقد نزل في الرد عليهم: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3] ، وأفتاه الله تعالى في سورة الكهف والإسراء عن مسائلهم، "ثم نزل قوله تعالى" عتابًا لنبيه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] استثناه من النهي، أي: لا تقولن لشيء تعزم عليه إني فاعله في المستقبل إلا ملتبسًا بمشيئة الله، قائلا: إن شاء الله، وقيل: المراد وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه، والأول أوفق بكونه عتابًا على عدم الاستثناء، "وأنزل الله تعالى ذكر الفتية" جمع قلة لفتى آثره على جمع الكثرة وهو فتيان لكونهم دون عشرة، "الذين ذهبوا" ولا يعلمهم إلا قليل، قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكر أنهم سبعة، وفي رواية عنه: ثمانية، أخرجهما ابن أبي حاتم، وفي التلفظ بأسمائهم خلف تركته لقول الحافظ في النطق بها اختلاف كثير لا يقع الوثوق من ضبطها بشيء، انتهى.
وعن ابن عباس: لم يبق منهم شيء بل صاروا ترابًا قبل البعث، وقيل: لم تأكلهم الأرض ولم تغيرهم، وفي معجمات الأقران أكثر العلماء على أنهم كانوا بعد عيسى، وذهب ابن قتيبة إلى أنهم كانوا قبله، وأنه أخبر قومه خبرهم، وأن يقظتهم بعد رفعه زمن الفترة. وفي تفسير ابن مردويه، عن ابن عباس: أصحاب الكهف أعوان المهدي، قال الحافظ: وسنده ضعيف، فإن ثبت حمل على أنهم لم يموتوا بل هم في المنام إلى أن يبعثوا لإعانة المهدي، وقد ورد حديث آخر بسند واهٍ أنهم يحجون مع عيسى ابن مريم، انتهى.
وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين..................
__________
"وهم أصحاب الكهف" الغار الواسع في الجبل اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم أو الصخرة التي أطبقت على الوادي، أو اسم قربتهم أو كلبهم أو لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف، أو كتب فيه شرعهم الذي كانوا عليه، أو الدواة, واختلف في مكان الكهف، فالذي تظافرت به الأخبار أنه في بلاد الروم, وروى الطبري بإسناد ضعيف عن ابن عباس: أنه بالقرب من أيلة، وقيل: قرب طرسوس، وقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بقرب زايزا، وقيل: بغرناطة من الأندلس، انتهى ملخصًا من فتح الباري. وذكر غيره أن اسم البلد الذي هو بها بالروم وعريسوس، وفي الفتح أيضًا.
وقد روى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن عباس قصة أصحاب الكهف مطولة غير مرفوعة، وملخصها: أنهم كانوا في مملكة جبار يعبدون الأوثان فخرجوا منها فجمعهم الله على غير ميعاد فأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، فجاء أهاليهم يطلبونهم ففقدوهم فأخبروا الملك، فأمر بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزائنه، ودخل الفتية فضرب الله على آذانهم فناموا، فأرسل الله من يقلبهم ويحول الشمس عنهم، فلو طلعت عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، ثم ذهب الملك وجاء آخر فكسر الأوثان وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف فبعثوا أحدهم يأتيهم بما يأكلون، فدخل المدينة مستخفيًا فرأى هيئة وناسًا أنكرهم لطول المدة فدفع درهمًا لخباز فاستنكر ضربه، وهم بأن يرفعه إلى الملك، فقال. أتخوفني بالملك وأبي دهقانه؟ فقال: من أبوك؟ قال: فلان، فلم يعرفه فاجتمع الناس فرفعوه إلى الملك، فسأله قال: علي باللوح وكان قد سمع به فسمى أصحابه فرفعهم من اللوح، فكبر الناس وانطلقوا إلى الكهف وسبق الفتى، لئلا يخافوا من الجيش، فلما دخل عليهم عمى الله على الملك ومن معه المكان، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفقوا على أن يبنوا عليهم مسجدًا، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون لهم، انتهى.
"وذكر الرجل الطواف وهو ذو القرنين" الأكبر الحميري المختلف في نبوته والأكثر وصح أنه كان من الملوك الصالحين، وذكر الأزرقي وغيره أنه حج وطاف مع إبراهيم وآمن به واتبعه وكان الخضر وزيره. وعن علي: لا نبيًا ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوه على قرني رأسه ضربتين، وفيكم مثله -يعني نفسه- رواه الزبير بن بكار وابن عيينة في جامعه بإسناد صحيح وصححه الضياء في المختارة، وقيل: كان من الملائكة، حكاه الثعلبي، وقيل: من بنات آدم وأبوه من الملائكة، حكاه الجاحظ في كتاب الحيوان.
لقب بذي القرنين واسمه الصعب على الراجح؛ كما في الفتح، أو المنذر أو هرمس أو
.................................................
__________
هردويس أو عبد الله أو غير ذلك، وفي اسم أبيه أيضًا خلاف لطوافه قرني الدنيا شرقها وغربها؛ كما في حديث، أو لانقراض قرنين من الناس في أيامه، أو لأنه كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا، أو لأن لتاجه قرنين أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو لكرم طرفيه أما وأبا، أو لرؤياه أنه أخذ بقرني الشمس، أو لغير ذلك أقوال. قال البيضاوي: ويحتمل لشجاعته، كما يقال الكبش للشجاع، لأنه ينطح أقرانه.
وأما ذو القرنين الأصغر فهو الإسكندر اليوناني قتل دارا وسلبه ملكه وتزوج ابنته، واجتمع له الروم وفارس ولذا سمي بذلك. قال السهيلي: ويحتمل أنه لقب به تشبيهًا بالأول، لملكه ما بين المشرق والمغرب فيما قبل أيضًا واستظهره الحافظ وضعف قول من زعم أن الثاني هو المذكور في القرآن، كما أشار إليه البخاري بذكره قبل إبراهيم؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى، وبين إبراهيم وعيسى أكثر من ألفي سنة، قال: والحق أن الذي قص الله نبأه في القرآن هو المتقدم، والفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن الذي يدل على تقدم ذي القرنين ما روى الفاكهي، طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين حج ماشيًا فسمع به إبراهيم، فتلقاه. ومن طريق عطاء عن ابن عباس: أن ذا القرنين دخل المسجد الحرام فسلم على إبراهيم وصافحه، ويقال: إنه أول من صافح. ومن طريق عثمان بن ساج أنه سأل إبراهيم أن يدعو له، فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري؟ فقال: لم يكن ذلك عن أمري، يعني أن بعض الجند فعل ذلك بغير علمه. وذكر ابن هشام في التيجان أن إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في بئر فحكم له.
وروى ابن أبي حاتم من طريق علبا بن أحمر: قدم ذو القرنين مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة، فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال: من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش فشهدت، فقال: صدقتما، قال: وأظن الأكبش المذكورة حجارة، ويحتمل أن تكون غنمًا، فهذه الآثار يشد بعضها بعضًا وتدل على قدم عهد ذي القرنين.
الوجه الثاني: قال الفخر الرازي: كان ذو القرنين نبيًا والإسكندر كافرًا ومعلمه أرسطاطاليس، وكان يأتمر بأمره وهو من الكفار بلا شك.
ثالثها: كان ذو القرنين من العرب والإسكندر من اليونان من ولد يافث بن نوح على الأرجح، والعرب كلها من ولد سام بن نوح باتفاق، وإن اختلف هل كلهم من ولد إسماعيل أم لا؟ فافترقا، وشبهة من قال: إن ذا القرنين هو الإسكندر.
ما أخرجه ابن جرير ومحمد بن الربيع الجيري: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين،
وقال فيما سألوه عن الروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الآية.
وفي البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث، وهو متكئ على عسيب. إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه.............................
__________
فقال: "كان من الروم فأعطي ملكًا فسار إلى مصر فبنى الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به، فقال: انظر ما تحتك، فقال: أرى مدينتي ومدائن حولها، ثم عرج به فقال: انظر ما تحتك، قال أرى مدينة واحدة، قال: تلك الأرض كلها، وإنما أراد الله تعالى أن يريك، وقد جعل الله لك في الأرض سلطانًا، فسر فيها وعلم الجاهل وثبت العالم"، وهذا لو صح لرفع النزاع كله، لكنه ضعيف، انتهى. وذكر نحوه الحافظ ابن كثير وصوب أيضًا أن ذا القرنين غير الإسكندر فعض عليه بالنواجذ.
"وقال فيما سألوه" ما مصدرية، أي: في جواب سؤالهم "عن الروح" ولعل حكمة المغايرة بينه وبين ما قبله أنه بين فيه نفس المسئول عنه وهو الفتية والرجل، ولم يبينه هنا بل رد علمه إليه سبحانه، فقال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، أي: علمه لا تعلمونه.
"وفي البخاري" في العلم والتفسير والاعتصام والتوحيد ما يعارض ما علم من أن السؤال من قريش بمكة، فإنه أخرج "من حديث عبد الله بن مسعود، قال بينا أنا" أمشي "مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث" بفتح الحاء وراء مهملتين فمثلثة، أي: زرع، وفي العلم: في خرب المدينة بمعجمة مفتوحة وراء مكسورة وموحدة، قال الحافظ: والأول أصوب لرواية مسلم في نخل، زاد في العلم: بالمدينة، وابن مردويه: للأنصار، "وهو متئ" معتمد، وفي العلم: وهو يتكئ "على عسيب" بفتح العين وكسر السين المهملتين وسكون التحتانية وموحدة، وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ولابن حبان: ومعه جريدة، "إذ مر اليهود" كذا في التفسير بالرفع على الفاعلية في المواضع الثلاثة مر بنفر من اليهود، وكذا رواه مسلم، قال الحافظ فيحمل على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر، ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود، "فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح" وفي الاعتصام والتوحيد: وقال بعضهم: لا تسألوه، "فقالوا" وفي العلم والتفسير: قال بالإفراد، أي: بعضهم، "ما رابكم إليه" بلفظ الفعل الماضي بلا همز من الريب، قال عياض: أي ما شككم في أمر الروح، أو ما الريب الذي رابكم حتى احتجتم إلى معرفته والسؤال عنه، أو ما دعاكم إلى شيء يسوءكم عقباه، ألا ترى قوله: لا يستقبلكم ... إلخ، انتهى.
وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك فلم يرد عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الآية.
__________
وللحموي: ما رأبكم بهمزة مفتوحة وموحدة مضمومة من الرأب، وهو الإصلاح، يقال فيه: رأب بين القوم إذا أصلح بينهم، قال الحافظ: وفي توجيهه هنا بعد، وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية، نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري، كذلك قال. وفي رواية القابسي، قال المصنف: رأيته عن الحموي أيضًا، ما رأيكم بسكون الهمزة وتحتية بدل الموحدة من الرأي.
"وقال بعضهم: لا يستقبلكم" بالرفع على الاستئناف، أي: لا تسألوه لئلا يستقبلكم لا بالجزم لانتفاء شرطه وهو صحة وقوع إن الشرطية قبل أداة النهي مع استقامة المعنى، إذ لا يستقيم هنا أن لا تسألوه يستقبلكم، قال في الفتح: ويجوز السكون وكذا النصب أيضًا، انتهى. ولعل الجزم على النهي مبني على رأي من لا يشترط ذلك. "بشيء" وفي العلم: لا تسألوه لا يجيء بشيء "تكرهونه" إن لم يفسره؛ لأنهم قالوا: إن فسره فليس بنبي؛ لأن في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من عباده، فإذا لم يفسره دل على نبوته وهم يكوهونها، وقامت الحجة عليهم في نبوته. وفي الاتصام: لا يسمعكم ما تكرهون، "فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك فلم يرد عليهم شيئًا" وللكشميهني: عليه بالإفراد، أي: السائل. وفي العلم: فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت.
وفي الاعتصام: فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح، فأقام ساعة ينظر، قال ابن مسعود: "فعلمت" وفي التوحيد: فظننت، وفي الاعتصام: فقلت "إنه يوحى إليه" وهي متقاربة وإطلاق العلم على الظن مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس؛ كما في الفتح. "فقمت مقامي" أي: مكثت بمحلي الذي كنت فيه.
وفي العلم: فقمت فقط، أي: حتى لا أكون مشوشًا عليه، أو فقمت حائلا بينه وبينهم؛ كما في المصنف. وفي الاعتصام: فتأخرت، قال الحافظ: أي أدبًا معه لئلا يتشوش بقربي منه، انتهى. ولا ينافيه رواية مقامي؛ لأنه تأخر قليلا فكأنه فيه، "فلما نزل الوحي" وفي العلم: فلما انجلى عنه، أي الكرب الذي كان يغشاه حال الوحي.
"قال" وفي الاعتصام حتى صعد الوحي، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من الإبداعيات الكائنة يكن من غير مادة وتولد عن أصل، واقتصر على هذا الجواب؛ كما اقتصر موسى في جواب وما رب العالمين بذكر بعض صفاته؛ لكونها مما استأثر الله بعلمه،
قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي -فيما يظهر من بادئ الرأي- أن هذه آية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية.
وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك, ومما يدل على نزولها بمكة ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت. الحديث. انتهى.
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضًا بإسناد رجاله رجال مسلم.
فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير...............................
__________
ولأن في عدم بيانها تصديقًا لنبوته، زاد البخاري في التوحيد: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.
"قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي فيما يظهر من بادئ الرأي" بالهمز، أي: أوله من غير تثبت وتفكر فيه أو ظاهره دون تفكر فيه باطنًا، "أن هذه آية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية" وقيل: إلا قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] ، إلى آخر ثمان آيات؛ كما في الأنوار، وبه جزم الجلال، "وقد يجاب عن هذا" الاختلاف "بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة؛ كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، ومما يدل على نزولها بمكة ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: أعطونا" بفتح الهمزة "شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت. الحديث، انتهى".
"وهذا الحديث" الذي عزاه ابن كثير لأحمد، "رواه الترمذي أيضًا" وقال: إنه صحيح فقصر ابن كثير بل عليه معمر في غزوه لأحمد فقط؛ لأن الحديث إذا كان في أحد الستة لا ينقل من غيرها إلا لزيادة أو صحة؛ كما قال مغلطاي، فكيف وقد صرح الترمذي رواية بصحته وهو ظاهر؛ لأنه "بإسناد رجاله رجال مسلم" فهو من المرتبة السادسة من مراتب الصحيح؛ كما في الألفية، وإن كان لا يلزم أنه كصحة ما رواه مسلم نفسه، كما نبه على ذلك ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم، فقال: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في الصحيح بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك يتوقف على النظر في كيفية روايته عنه، وعلى أخرج حديثه؟ "فيحمل على تعدد النزول؛ كما أشار إليه ابن كثير" وكذا الحافظ ابن
ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك.
وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر:
فقيل: روح الإنسان. وقيل: جبريل. وقيل: عيسى: وقيل: ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة. وقيل غير ذلك.
__________
حجر، وحيث قلنا بذلك فالعلم حاصل، فما وجه ترك المبادرة بالجواب؟ "و" جهه كما قال الحافظ أنه "يحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك" قال: أعني الحافظ، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح.
وفي الإتقان: إذا استوى الإسنادان صحة رجح أحدهما بحضور رواية القصة ونحو ذلك من وجوه الترجيحات، ومثل بحديثي ابن مسعود وابن عباس المذكورين، ثم قال: وحديث ابن عباس يقتضي نزولها بمكة والأول خلافه، وقد يرجح بأن ما رواه البخاري أصح وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة لكنه نقل في الإتقان نفسه بعد قليل عن الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا عند حدوث سببه خوف نسيانه، ثم ذكر منه آية الروح، فإن سورة الإسراء مكية وسبب نزولها يدل على أنها نزلت بالمدينة، ولذا أشكل ذلك على بعضهم ولا إشكال؛ لأنها نزلت مرة بعد مرة، انتهى.
"وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر" لأن الروح جاء في التنزيل على معان، "فقيل: روح الإنسان" الذي يحيا به البدن، وقيل: روح الحيوان، "وقيل جبريل" كقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ، "وقيل: عيسى" كقوله: وروح منه. وقيل: القرآن؛ كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} [الشورى: 52] . وقيل: الوحي؛ كقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] .
"وقيل: ملك يقوم وحده صفًا يوم القيامة، وقيل غير ذلك" فقيل: ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه، وقيل: ملك له سبعون ألف لسان، وقيل: سبعون ألف وجه في كل وه سبعون ألف لسان، لكل لسان ألف لغة، يسبح الله بكلها فيخلق بكل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة، وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش. وقيل: خلق كخلق بني آدم، يقال لهم الروح يأكلون ويشربون لا ينزل ملك من السماء إلا ومعه واحد منهم. وقيل: خلق يرون الملائكة ولا تراهم الملائكة، كالملائكة لبني آدم؛ كذا ذكره ابن التين بزيادات من كلام غيره. قال الحافظ: وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى: لفنا الروح الوارد في القرآن، لا في خصوص هذه الآية، فمنه نزل به الروح، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} [الشورى: 52] ،
وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.
وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيز أم لا؟ وهل هي قديمة أم حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد...................
__________
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] ، يوم يقوم الروح تنزل الملائكة والروح، فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره, وورد إطلاق روح الله على عيسى.
وروى إسحاق يعني ابن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح، عن ابن عباس، قال: الروح من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح، انتهى.
"قال القرطبي: الراجح" وهو قول الأكثر "أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله" واضح، وأما قوله: "ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح" فغير واضح، إذ سؤالهم تعنت وامتحان لا استفهام، كما هو معلوم، وجنح ابن القيم في كتاب الروح إلى ترجيح أن الروح المسئول عنه، ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] ، قال: فأما أرواح بني آدم فلم تسم في القرآن إلا نفسًا، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لما رجحه بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري من طريق العوفي، عن ابن عباس، أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية.
"وقال الإمام فخر الدين" الرازي "المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل" أنه عن "ماهيته" أي حقيقته، "وهل هي متميزة" منفصلة عن البدن غير حالة فيه، تتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق وتدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله؛ كما قال الغزالي والحكماء وكثير من الصوفية، "أم لا؟ " بل حالة فيه حلول الزيت في الزيتون؛ كما قال جمهور أهل السنة.
"وهل هي حالة في متحيز، أم لا؟ وهل هي قديمة" كما قال الزنادقة، "أم حادثة؟ " مخلوقة، كما أجمع عليه أهل السنة، وممن نقل الإجماع: محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، والمجندة لا تكون إلا مخلوقة"، "وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد" بالموت وهو الصحيح والأخبار به طافحة، ففي فنائها عند القيامة ثم
وتفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها.
قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} ، فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه.
قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} :
__________
عودها توفية بظاهر قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ، وعدمه بل تكون مما استثنى الله في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87، الزمر: 68] قولان، حكاهما السبكي في تفسيره، وقال الأقرب الثاني، "أو تفنى؟ " كما قال الفلاسفة وشرذمة قليلة من الأندلسيين وشدد عليهم النكير ورد عليهم بما أخرجه ابن عساكر عن سحنون أنه ذكر عنده رجل يذهب إلى أن الأرواح تموت بموت الأجساد، فقال: معاذ الله، هذا قول أهل البدع.
وقال ابن القيم: الصواب أنه إن أريد بذوقها للموت مفارقتها للجسد، فنعم هي ذائقة الموت بهذا المعنى، وإن أريد أنها تعدم فلا؛ بل هي باقية بإجماع في نعيم أو عذاب. "وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها؟ قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني؛ إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب" الصادر من الله لنبيه "يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع" جمع طبيعة، وهي مزاج الإنسان المركب من الأخلاط؛ كما في المصباح ونحوه في القاموس. "والأخلاط" جمع خلط، قال في القاموس: أخلاط الإنسان أمزجته الأربعة.
"وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} [يس: 82] ، قيل: هو عبارة عن سرعة الحصول، أي: متى تعلقت إرادته تعالى بشيء كان، وقيل: إذا أراد شيئًا قال قولا نفسانيًا له: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وعليه فكن علامة وسبب لوجود ما أراده تعالى؛ "فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه" إيجاده فهو تفسير للأمر، "ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد" بجعل الله تعالى إياها سببًا في وجود الحياة، فلا ينافي أن التأثير إنما هو بإرادته تعالى وخلقه "ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه، قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ،
الفعل، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة.
ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها.
انتهى.
وقال في فتح الباري: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم.
فقيل: هي النفس الداخل الخارج.
وقيل: جسم لطيف، يحل في جميع البدن.
وقيل: هي الدم.
وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة.
ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبي خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة............
__________
"الفعل؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، أي: مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح، "أي: فعل