وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك فى رمضان وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف.
وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتحدث قومه: إنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى (7/ 4418) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (4/ 53) مسند الإمام أحمد (3/ 454- 459) ، سنن الترمذى كتاب التفسير (3102) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 273- 279) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9744) .
الامتناع الذى كان منهم. فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم.
ويقال: من أبصارهم. وكان فيهم كذلك محببا مطاعا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى فى دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها وشهادة ساقها إلى فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنونى معهم.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثله فى قومه لكمثل صاحب ياسين فى قومه» «1» .
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فمشى عمرو بن أمية أخو بنى علاج وكان من أدهى العرب إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره وكان قبل مهاجرا له الذى بينهما سىء ثم أرسل إليه، أن عمرو بن أمية يقول لك: اخرج إلى فقال عبد ياليل للرسول: ويلك أعمرو وأرسلك إلى؟ قال: نعم وها هو ذا واقفا فى دارك. قال: إن هذا لشىء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك. فخرج إليه فلما رآه رحب به فقال له عمرو: إنه قد نزل بنا ما ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة فاتنظروا فى أمركم «2» .
فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كما أرسلوا عروة. فكلموا عبد ياليل وكان سن عروة، وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معى رجالا. فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بنى مالك فيكونوا ستة، فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشر حبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب. ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة.
فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب القوم وصاحب أمرهم، ولم يخرج بهم إلا خشية من
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 615، 616) ، تاريخ الطبرى (2/ 179) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 299، 300) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 386) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 312) .
(2) انظر: السيرة (4/ 164- 166) .
مثل ما صنع بعروة بن مسعود لكى يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رعيتها نوبا عليهم، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين وضبر يشتد «1» يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقدومهم يريدون البيعة والإسلام وأن يشترطوا شروطا ويكتتبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا. فقال أبو بكر رضى الله عنه للمغيرة:
أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه. ففعل المغيرة.
فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.
ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة فى ناحية مسجده كما يزعمون فكان خالد بن سعيد هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، كتبه خالد بيده وكانوا لا يطعمون طعاما ياتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم.
وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهى اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير فى دين لا صلاة فيه» ، [فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة] «2» ، فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا أمر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنا فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنى قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه فى الإسلام وتعلم القرآن «3» .
__________
(1) ضبر يشتد: أى وثب، ويقال: ضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب.
(2) ما بين المعقوفتين سقط فى الأصل، وما أوردناه من السيرة.
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (3/ 3026) ، مسند الإمام أحمد (4/ 218) .
فحدث «1» عثمان بن أبى العاص قال: كان من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثنى على ثقيف أن قال: «يا عثمان تجاوز فى صلاتك واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة» «2» .
فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم، فلما دخل علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا «3» يبكين عليها ويقلن:
لتبكين دفاع ... أسلمها الرضاع «4»
لم يحسنوا المصاع
فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبى سفيان وحليها مجموع ومالها من الذهب والجزع.
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شىء أبدا. فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: توليا من شئتما. فقالا: نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وخالكما أبا سفيان بن حرب» . فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى عن أبيه عروة دينا كأن عليه من مال الطاغية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» .
فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأسود مات مشركا» . فقال قارب: يا رسول الله، لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعنى نفسه، إنما الدين على وإنما أنا الذى أطلب به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطاغية، فلما جمع
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 167) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 21) ، صحيح مسلم (1/ 187/ 342) .
(3) حسرا: بضم الحاء وتشديد السين مفتوحة، جمع حاسرة، وهى المكشوفة الوجه.
(4) دفاع: هى صيغة مبالغة من الدفع، وإنما سموا طاغيتهم دفاعا لأنهم كانوا يعتقدون أن الأصنام تدفع عنهم البلاء والمحن. الرضاع: جمع راضع وأريد بهم اللئام.
المغيرة مالها ذكر أبا سفيان بذلك فقضى منه عنهما «1» .
هكذا ذكر ابن إسحاق إسلام أهل الطائف بعقب غزوة تبوك فى رمضان من سنة تسع قبل حج أبى بكر بالناس آخر تلك السنة. وجعل ابن عقبة قدوم عروة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتله فى قومه وإسلام ثقيف كل ذلك بعد صدر أبى بكر عن حجه. وبين حديثه وحديث ابن إسحاق بعض اختلاف، رأيت ذكر حديث ابن عقبة وإن كان أكثره معادا لأجل ذلك الاختلاف، ثم أذكر بعده حجة أبى بكر فى الموضع الذى ذكرها فيه ابن إسحاق.
قال موسى بن عقبة: فلما صدر أبو بكر من حجه بالناس قدم عروة بن مسعود الثقفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرجوع إلى قومه فقال له: إنى أخاف ان يقتلوك، قال: لو وجدونى نائما ما أيقظونى. فأذن له فرجع إلى الطائف وقدمها عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فاتهموه وأعضوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاه منهم فخرجوا من عنده حتى إذا أسحر وسطع الفجر قام على غرفة فى داره فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله: «مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله، فقتلوه» «2» .
وأقبل بعد قتله وفد من ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر القوم حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يريدون الصلح حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلم عامة العرب، فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل على قومى أكرمهم بذلك فإنى حديث الجرم فيهم. قال: لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن تنزلهم حيث يسمعون القرآن.
فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد وبنى لهم خياما لكى يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا:
يأمرنا ان نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به فى خطبته! فلما بلغه قولهم قال: «فإنى أول
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 504، 505) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 615) ، طبقات ابن سعد (5/ 370) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 386) ، المعجم الكبير للطبرانى (17/ 148) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 262) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33615) .
من يشهد أنى رسول الله» «1» . وكانوا يغدون على رسول الله كل يوم ويخلفون عثمان بن أبى العاص على رحالهم لأنه أصغرهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذين واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه فى الدين وعلم. وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه.
فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فقال له كنانة ابن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ثم نرجع إليك؟ فقال: «نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم وإلا فلا قضية ولا صلح بينى وبينكم» .
قالوا: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه. قال: «هو عليكم حرام إن الله» يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
قالوا: فالربا؟ قال: «والربا» . قالوا: إنه أموالنا كلها. قال: «فلكم رؤس أموالكم» ، قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] . قالوا فالخمر؟ فإنها عصير أرضنا ولا بد لنا منها. قال: «إن الله قد حرمها» ، قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
فارتفع القوم فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا فأعطوه ما سأل وأجيبوه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لك ما سألت.
أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟ قال: «اهدموها» . قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنا نريد هدمها لقتلت أهلنا. فقال عمر: ويحك يا بن عبد ياليل ما أحمقك إنما الربة حجر، قال:
إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. ثم قال: يا رسول الله، تول أنت هدمها، فأما نحن فلن نهدمها أبدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فسأ بعث إليكم من يكفيكم هدمها» . قال كنانة: ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث فى آثارنا، فإنى أعلم بقومى، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمهم وحملهم. قالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبى العاص «2» لما رأى من حرصه على الإسلام وقد كان علم سورا من القرآن قبل أن يخرج.
__________
(1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 300) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1791) ، الإصابة الترجمة رقم (5457) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3581) ، تهذيب الكمال (6/ 212) ، تهذيب التهذيب (7/ 128، 129) ، خلاصة تذهيب الكمال (913) ، شذرات الذهب (1/ 36) ، سير أعلام النبلاء (2/ 374) .
وقال كنانة «1» لأصحابه: أنا أعلمكم بثقيف فاكتموهم إسلامكم وخوفوهم الحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا امورا أبيناها عليه، سألنا أن نهدم اللات ونبطل أموالنا فى الربا ونحرم الخمر.
حتى إذا دنوا من الطائف خرجت إليهم ثقيف يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة قوم قد حزنوا أو كذبوا قالت ثقيف بعضهم لبعض: ما جاؤكم بخير. فلما دخلوا حصنهم عمدوا للآت فجلسوا عندها، واللات بيت كانوا يعبدونه ويسترونه ويهدون له الهدى يضاهون به بيت الله، ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله فجاء كل رجل حامية من ثقيف فسألوه: ماذا جئتم به؟ قالوا: أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما شاء قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان له الناس، فعرض علينا أمورا شدادا: هدم اللات وترك الأموال فى الربا إلا رؤس أموالكم وحرم الخمر والزنا. قالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدا. قال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم.
فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة تريد القتال ثم ألقى الله الرعب فى قلوبهم وقالوا: والله ما لنا به طاقة أداخ العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رعبوا واختاروا الأمن على الخوف وعلى الحرب، قالوا لهم: إنا قد فرغنا من ذلك، قد قاضيناه وأسلمنا وأعطانا ما أحببنا واشترطنا ما أردنا وجدناه اتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه. فقالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا بذلك أشد الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم واستسلموا.
فمكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة، فلما قدموا عليهم عمدوا للات ليهدموها وانكفأت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال وهم لا يرون أنها تهدم ويظنون أنها ستمتنع. فقام المغيرة بن شعبة «2» وقال لأصحابه: لأضحكنكم من ثقيف فأخذ الكرزن
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2243) ، الإصابة الترجمة رقم (7478) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4505) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2512) ، الإصابة الترجمة رقم (8197) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5071) ، التاريخ لابن معين (2/ 579) ، ترتيب الثقات (437) ، الطبقات لابن سعد (2/ 284) ، أنساب الأشراف (1/ 168) ، مروج الذهب (1656) ، الكامل فى التاريخ-
فضرب به ثم أخذ يرتكض فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة! وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا: من شاء منكم فليقترب ويجهد على هدمها فو الله لا تستطاع أبدا. فوثب المغيرة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هى لكاع حجارة ومدر! ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفاتيح يقول:
ليغضبن الأساس فليخسفن بهم. فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعنى أحفر أساسها.
فحفروها حتى أخرجوا ترابها وأخذوا حليها وثيابها. فبهتت ثقيف.
وانصرف الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه وحمد الله على نصر نبيه وأغزاز دينه.