أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس، والعظات، والعبر، والآداب التي تؤخذ من حديث الإفك.
عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن حديث الإفك، وتبين لنا أن الذي اختلقه ونشره بين الناس في غزوة بني المصطلق؛ هو زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي ابن سلول، وانتشر هذا الإفك بين الناس في المدينة، وعاش الرسول- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في المدينة شهراً كاملاً في همٍّ وغمٍّ وحزنٍ، وتأخر الوحيُ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - شهراً كاملاً.
والتي اتهمت بهذا الإفك هي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وأنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة.
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى الآيات التي نزلت في سورة النور فيها براءةُ أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- لنأخذ منها الدروس والعظات والعبر.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} [النور: 11 - 26].
هذه الآيات التي نزلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عاش - صلى الله عليه وسلم - وعائشة وأبو بكر والمسلمون شهراً كاملاً على أعصابهم في هم وغم وحزن.
عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر والآداب التي تؤخذ من هذه الآيات فهي:
أولاً: الصبر على الإشاعات الكاذبة التي يشُنُّها أعداء الإِسلام على الإِسلام والمسلمين.
عباد الله! أعداءُ الإِسلام في كل زمان ومكان يشنون حرباً إعلامية على الإِسلام والمسلمين ليشوهوا صورة الإِسلام والمسلمين في العالم، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186].
فعلى المسلمين أن يقابلوا ذلك بالصبر والإيمان، والاستعانة بالله -عز وجل- كما فعلت عائشة -رضي الله عنها- عندما افترى عليها زعيم المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول فقالت -رضي الله عنها-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} فيا أمة الإِسلام: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 128].
يا أمة الإسلام! اصبروا واتقوا الله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} [الأعراف: 129].
عباد الله! صَبَرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعائشة -رضي الله عنها- وأبو بكر - رضي الله عنه - والمسلمون في المدينة على إفك المنافقين فكان خيراً لهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
ثانياً: إحسان الظن بالمؤمنين
عباد الله! إذا سمع المؤمن حرباً إعلامية على أحد من المؤمنين، فيجب عليه أن يُحسن الظن بأخيه المؤمن، كما أنه يُحسن الظن بنفسه، استجابة لقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}، واستجابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (1).
عباد الله! وهذا ما فعلته أم مسطح -رضي الله عنها- عندما كذَّبت الخبر وردّته، بل ودعت على ولدها عندما قالت: تعس مسطح -أي هلك- وهي بذلك أحسنت الظنَّ بعائشة -رضي الله عنها- وأعلنت لربها أنها لا توالي من عادى أولياءه، ولو كان ذا قربى إلا أن يتوب إلى الله كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وهذا الذي فعلته زينب بنت جحش -رضي الله عنها- عندما سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة -رضي الله عنها- فقالت: يا رسول الله أحمى سمعي وبصري، ما رأيت إلا خيراً، وما سمعت إلا خيراً، والله ما علمت إلا خيراً" (2).
وهذا الذي فعله أسامة بن زيد - رضي الله عنه - عندما استشاره النبي - صلى الله عليه وسلم - في فِراق أهله فقال أسامة - رضي الله عنه -: يا رسول الله! هم أهلك ولا نعلم! إلا خيراً وشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببراءة أهله.
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 13)، ومسلم (رقم 45).
(2) متفق عليه، وهو قطعة من حديث الإفك، تقدم تخريجه.
وهذا الذي فعله أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عندما قالت له زوجته أم أيوب: يا أبا أيوب أتسمع هذا الذي يقوله الناس في عائشة؟ قال أبو أيوب: نعم، وإنه والله الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، فقال لها أبو أيوب: وعائشة والله خيرٌ منكِ (1).
فالواجب على المسلمين في كل مكان، إذا سمعوا أحداً من الناس ينقل إشاعة عن أحد من المسلمين، أن يُحسنوا الظن بأخيهم المسلم، وأن يُدَافعوا عنه في غيابه يقول - صلى الله عليه وسلم -: "من ذبَّ عن عِرض أخيه بالغيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار" (2).
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" (3).
ولذلك أدب الله المسلمين الذين نقلوا الإفك وتكلموا به.
فقال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} [النور: 12].
ثالثاً: التثبت من الأخبار وإمساك اللسان عن الخوض في أعراض المسلمين.
عباد الله! يجب على المسلم إذا سمع خبراً أن يتثبت من صحته، ويفكر فيه قبل أن يتكلم به ويقوم بنقله بين الناس. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) ابن كثير (3/ 273).
(2) صحيح الجامع (6116).
(3) صحيح الجامع (6138).
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وفي قراءة (فتثبتوا) لماذا نتبين ونتثبت؟ قال تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
ولذلك قال تعالى في الذين نقلوا الإفك هنا وهناك، {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ .. } إلى قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}.
لو أن الذي سمع هذا الإفك من ابن سلول أول ما سمع فقال له: لا بد أن تأتي على ما تقول بأربعة شهداء على هذا الافتراء، فما استطاع ابن سلول أن يأتي بأربعة شهداء لأنه يعلم أنه كذَّاب فإذا لم يأت ابن سلول بأربعة شهداء لبقي هذا الإفك في صدره، ولم ينتشر أبداً بين الناس ولكن عندما سمعوا وتكلموا قبل أن يتبينوا فانتشر الإفك بين المنافقين، حتى أنه تكلم به بعضُ المؤمنين الصادقين ولذلك يقول الله -عز وجل- للمؤمنين الصادقين الذين تكلموا بهذا الإفك: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}.
فمن أراد النجاة فعليه بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (1).
رابعاً: لا تتبعوا خطوات الشيطان
عباد الله! الذين يروجون الإشاعات الكاذبة على المسلمين هم شياطين الإنس والجن، فحذر ربنا -جل وعلا- عبادة المؤمنين من خطوات
__________
(1) رياض الصالحين (رقم 1528) بتحقيق الألباني.
الشيطان؛ لأن الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، ولأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، ولأن الشيطان يأمر بالكفر والضلال.
ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
خامساً: أن تُحسِنَ إلى من أساء إليك، وبذلك تنتصر عليه، وهذا ما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - مع مسطح، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "فلما نزلت براءتي قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً؛ وقد قال في عائشة ما قال، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}، فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فأرجعَ إلى مسطح ما كان ينفقه عليه وقال: والله لا أقطع عنه النفقة بعد ذلك" (1).
عباد الله! يحذر ربنا -جل وعلا- الذين يخوضون بألسنتهم في أعراض المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}.
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا إمَّا بالإعلام، وإمَّا بالدعوة إلى التبرج والسفور والزنا والإشاعات الكاذبة، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) هو قطعة من حديث الإفك، وقد تقدم تخريجه.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: "هل تدرون مم أضحك؟ " قلنا اللهُ ورسوله أعلم.
قال: "من مخاطبة العبد ربه فيقول ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى.
فيقول: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهداً إلا مني، فيقول الله تعالى: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق باعماله ثم يُخلي بينه وبين الكلام فيقول -أي لأركانه- بُعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل" (1)، أي: فكيف شهدتم علي.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} [فصلت: 19 - 24].
__________
(1) رواه مسلم (رقم 2969).
فاتقوا الله عباد الله في ألسنتكم، وإذا أردتم النجاة فعليكم بهذه الوصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (1).
فيا مروِّجاً للإشاعات، ويا مختلقاً للإفك، ويا طاعناً في أعراض المسلمين!
أمسك عليك لسانك وإلا فالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً.
__________
(1) مضى قريباً
,
عباد الله! في الجمعة الماضية تكلمنا عن غزوة بني المصطلق، وتبين لنا دور المنافقين الخبيث في تلك الغزوة، فقد حاولوا إثارة العصبية الجاهلية بين المهاجرين والأنصار ولكنَّ الله سلَّم.
وقال زعيمهم عبد الله بن أُبي بن سلول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله.
وقال أيضاً: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقد فضحه الله -عز وجل-، وأنزل في فضيحته قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
عباد الله! ولم يتوقف هذا المنافق ومَنْ معه من المنافقين إلى هذا الحد من الاعتداء والمكر، ولكنهم سَعوا إلى إيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهل بيته، فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها وليس لها أساس من الصحة.
عباد الله! ما هو الإفك؟ ومَنْ الذي اختلقه وتولى نشره بين الناس في غزوة بني المصطلق، وبعد الرجوع إلى المدينة؟
ومن هي البريئة التي رميت بهذا الإفك عدواً وظلماً؟
وكيف عاش الرسول- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في المدينة شهراً كاملاً على أعصابهم بسبب هذا الإفك؟
وكيف برأ الله تعالى أم المؤمنين مِنْ فوق سبع سماوات، فأنزل فيها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة؟
عباد الله! تعالوا بنا إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لنستمع لها وهي تخبرنا الخبر؛ عائشة -رضي الله عنها- أتعرفونها؟ هي الصديقة بنت الصديق، التي تربت في بيت أبي بكر الصديق، ثم انتقلت وهي طفلة إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تعرف الشرّ.
عائشة - رضي الله عنها- التي قال- صلى الله عليه وسلم - فيها: "أحب الناس إليَّ عائشة ومن الرجال أبوها".
عائشة -رضي الله عنها- التي قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: "إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
عائشة -رضي الله عنها- التي قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: "عائشة زوجتي في الجنة".
عائشة -رضي الله عنها- التي قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام".
ثم بعد ذلك، تأتي الرافضة والشيعة الشنيعة، يتهمون أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
عباد الله! روى الإمامُ البخاري في "صحيحه" والإمام مسلمٌ في "صحيحه" أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائهِ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه".
قالت -رضي الله عنها-: "فأقرع بيننا في غزوة غزاها" -وهي غزوة بني المصطلق- فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعد ما أُنزل الحجاب فأنا أُحملُ في هودجي، وأنزل فيه مسيرنا".
قالت- رضي الله عنها-: "حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه وقفل"
-أي: رجع- "ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرَّحيل، فقمت حين آذنوا بالرَّحيل، فمشيتُ حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرَّحلِ فلمستُ صدري فإذا عِقدي -من جزع أظفار- قد انقطع، فرجعت فالتمستُ عِقدي فحبسني ابتغاؤه" -أي: تأخرت وأنا أبحث عن عقدي-.
قالت: رضي الله عنها-: "وأقبل الرهطُ الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركبُ وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذا ذاك خِفافاً لم يغشهنَّ اللحم، فلم يستنكر القوم ثِقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنِّ فبعثوا الجمل وساروا".
قالت -رضي الله عنها-: "ووجدت عِقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليَّ".
قالت -رضي الله عنها-: "فبينما أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السُّلمي، قد عرّسَ مِن وراء الجيش" -أي: تأخر- "فأدّلج" -أي: جاء في آخر الليل- "فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضرب الحجابُ عليَّ".
قالت - رضي الله عنها-: "فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني" - أي: انتبهت من نومي على قوله "إنا لله وإنا إليه راجعون" - "فخمرتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما يُكلمني كلمة، ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعهِ، حتى أناخ راحلتهُ .. فركبتُها، فانطلق يقود بي الرَّاحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة" -أي: نزلوا في شدة الحر- "فهلك من هلك
في شأني وكان الذي تولى كِبَرهُ عبد الله بن أُبي ابن سلول".
عباد الله! عاد الجيش من غزوة بني المصطلق إلى المدينة، وفي المدينة أخذ المنافقون يتكلمون بهذا الإفك هنا وهناك- وهذه هي البيئة التي يترعرع فيها النفاق- تقول -رضي الله عنها-: "فقدمنا المدينة فاشتكيتُ" -أي: مرضت- "حين قدمنا المدينة شهراً، والناسُ يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو -أي والذي- يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيُسلِّم ثم يقول: "كيف تيكم" فذاك يريبني، ولا أشعر بالشرِّ.
تقول -رضي الله عنها-: "حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قِبلَ المناصع، وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا .. فأقبلتُ أنا وأم مسطح قِبلَ بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مِرطها فقالت: تعس مِسطح. فقلتُ لها: بئس ما قلت أتسبين رجلاً قد شهد بدراً، قالت: أي هنتاهُ - أي يا مسكينة - أو لم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وماذا قال؟
قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضاً إلى مرضي"
تقول -رضي الله عنها-: "فلما رجعت إلى بيتي، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم قال: "كيف تيكم" قلتُ: أتأذِنُ لي أن آتي أبويَّ؟
قالت: وأنا حينئذ أُريد أن أتيقن الخبر من قِبلَهما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول -رضي الله عنها-: فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أُمَّتاهُ! ما يتحدث الناس؟
فقالت: يا بنيةُ هوِّني عليك. فوالله! لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها -أي الكلام- قالت: قلتُ: سبحان
الله! وقد تحدث الناس بهذا؟
قالت: "فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع" - أي لا ينقطع- "ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي".
عباد الله! أبطأ الوحي في النزول؛ والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتألم مما يسمعُ من كلام الناس، فدعا بعض أصحابه يستشيرهما في فِراق أهله.
تقول - رضي الله عنها-: "ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالبٍ وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي -أي أبطأ ولم ينزل- يستشيرُهما في فراق أهله".
قالت: فأمَّا أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلمُ في نفسه لهم من الوُدِّ.
فقال: يا رسول الله! همُ أهلك ولا نعلمُ إلا خيراً.
وأمَّا عليُ بن أبي طالب فقال: لم يُضيق اللهُ عليك، والنساء سواهما كثيرٌ، وإن تسأل الجارية تصدُقك.
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجارية فقال لها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟
فقالت الجارية: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قطُّ أغمصه عليها -أي أعيبها به- أكثر من أنها جارية حديثة السنِّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدَّاجن فتأكله".
تقول -رضي الله عنها-: "فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاهُ في أهل بيتي- يقصد عبد الله بن أبي ابن سلول- فوالله، ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما
علمتُ عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي".
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله! إن كان من الأوس ضربنا عنقه. وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
تقول: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلتهُ الحمية - فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمرُ الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بنُ حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمرُ الله! لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيَّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت".
عباد الله! عائشة -رضي الله عنها- ازدادت حزناً على حزنها وألماً على ألمها.
تقول -رضي الله عنها-: "وبكيتُ يومي ذلك. لا يرقأ لي دمعٌ -أي لا ينقطع- ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالقٌ كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي.
تقول -رضي الله عنها-: "فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم ثم جلس. ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء".
تقول -رضي الله عنها-: "فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال: "أما بعدُ: يا عائشة فإنهُ قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك اللهُ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف
بذنبه ثم تاب تاب الله عليه".
قالت: فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مقالته، قلص دمعي -أي: ارتفع- أي: جف -حتى ما أحِسُ منه قطره- وهذه الحالة من الحزن والألم شبيه بالموت -، فقلتُ لأبي: أجب عني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيما قال.
فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
تقول -رضي الله عنها-: "وأنا جارية حديثة السِّنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن"
فقلت: إني والله لقد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، -والله يعلم أني بريئة- لتصُدِّقوني، وإني والله ما أجدُ لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}.
استعانت -رضي الله عنها- بالله على أمرها بعد أن انقطعت النصرة من أهل الأرض.
عباد الله! وجاء الفرج بعد الكرب.
تقول -رضي الله عنها-: "ثم تحولتُ فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مُبرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى، ولشأني كان أحقرُ في نفسي من أن يتكلم الله -عز وجل- فيَّ بأمر يُتلى. ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
النوم رُؤيا يُبِّرئني الله بها".
تقول -رضي الله عنها-: "فوالله ما رام -أي فارق- رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحدٌ حتى أنزل الله -عز وجل- على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء -أي الشدة- عند الوحي حتى إنه ليتحدَّرُ منه مِثلُ الجُمان -أي مثل حبات اللؤلؤ- من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه".
تقول -رضي الله عنها-: "فلما سُرِّي -أي كُشِفَ- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة! أما اللهُ فقد برَّأك".
تقول -رضي الله عنها-: "فقالت ليَ أمي: قومي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -".
فقلتُ: والله لا أقوم إليه، ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، تقول -رضي الله عنها-: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ .. }.
تقول - رضي الله عنها-: "فلما نزلت براءتي قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره -: والله! لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً وقد قال في عائشة ما قال، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه وقال: والله لا أقطع عنه النفقة بعد ذلك (1).
__________
(1) رواه البخاري (رقم 2661)، ومسلم (رقم 2770).
عباد الله! بسبب كلمة واحدة تلفظ بها منافق حاقد بين الناس ولاكتها الألسن، عاش رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وأبو بكر وأهل بيته والمسلمون كلهم شهراً كاملاً في غم وهم وحزن .. ولذلك أنزل الله -عز وجل- الآيات يؤدب فيها المسلمين ويعلمهم كيف يتعاملوا مع الشائعات، وهذا هو الذي نعرفه في الجمعة القادمة -إن شاء الله تعالى-
اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.