,
,
قال الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» أى بالقرآن، والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن. والهجود فى اللغة: النوم، وعن أبى عبيدة: الهاجد: النائم، والهاجد: المصلى بالليل، وعن الأزهرى:
الهاجد: النائم، وقال المازرى: التهجد: الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) سورة الإسراء: 79.
وقوله: (نافلة لك) أى عبارة زائدة فى فرائضك، ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله: (فتهجد) أمر، وصيغة الأمر للوجوب، فوجب كون هذا التهجد واجبا، وروى الطبرى عن ابن عباس أن النافلة للنبى- صلى الله عليه وسلم- خاصة، لأنه أمر بقيام الليل، وكتب عليه دون أمته «1» ، وإسناده ضعيف.
وقيل معناه: زيادة لك خاصة، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب، وتطوعه هو- صلى الله عليه وسلم- يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه، فكل طاعة يأتى بها- صلى الله عليه وسلم- سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات، وكثرة الحسنات، ولهذا سمى نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات «2» .
وروى مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل فى هذه السورة، تعنى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «3» فقام نبى الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولا، حتى أنزل فى آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة «4» . وروى محمد بن نصر فى قيام الليل من طريق سماك عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة فى أن بين الإيجاب والنسخ سنة.
وحكى الشافعى عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس. وروى محمد ابن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبى عبيدة فى جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة لكن فى إسناده على بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. فوجوب قيام الليل قد نسخ فى حقنا. وهل نسخ فى حقه- صلى الله عليه وسلم-؟ أكثر الأصحاب: لا، والصحيح: نعم، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص.
__________
(1) قاله الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» (3/ 3) .
(2) انظر ما قبله.
(3) سورة المزمل: 1.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين قصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، وأحمد (1) من حديث عائشة.
وقالت عائشة: قام- صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه، وفى رواية: حتى تفطرت قدماه، فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» قالت: فلما بدن وكثر شحمه- صلى الله عليه وسلم- صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع «1» . رواه البخارى ومسلم.
والفاء فى قوله: «أفلا أكون» للسببية، وهى عن محذوف تقديره: أأترك تهجدى؟ فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى: إن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟
قال ابن بطال: فى هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لا يعلم، فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى.
ومحل ذلك- كما قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى- ما لم يفض ذلك إلى الملال، لأن حال النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «2» كما أخرجه النسائى من حديث أنس، فأما غيره- صلى الله عليه وسلم- فإذا خشى الملل ينبغى له أن لا يكد نفسه، وعليه يحمل قوله- صلى الله عليه وسلم-:
«خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» «3» انتهى.
لكن ربما دست النفس أو الشيطان على المجتهد فى العبادة بمثل ما ذكر،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4837) فى التفسير، باب: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك، ومسلم (2820) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد فى العبادة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء. من حديث أنس ابن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5862) فى اللباس، باب: الجلوس على الحمير ونحوه، ومسلم (782) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
خصوصا إذا كبر، فيقول: قد ضعفت وكبرت فأبق على نفسك لئلا ينقطع عملك بالكلية، وهذا وإن كان ظاهره جميلا لكن فيه دسائس، فإنه إن أطاعه فقد يكون استدراجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا، إلى أن ينقطع بالكلية، وما ترك سيد المرسلين، المغفور له، شيئا من عمله بعد كبره.
نعم كان يصلى بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت قدماه، فكيف بمن أثقلت ظهره الذنوب والأوزار، ولا يأمن عذاب النار، أن يغافل حال شيبته، ويتوانى عند ظهور شيبه فينبغى للإنسان أن يستعد قبل حلول مشيبه. «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك» «1» فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره، وقد قال تعالى منذرا لمن يدخل فى الصباح: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ «2» فكيف بقرب من دخل فى الصباح، وظهر كوكب نهاره فى أفق رأسه ولاح؟!
قال القرطبى: ظن من سأله- صلى الله عليه وسلم- عن سبب تحمله المشقة فى العبادة أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك سمى شكورا، ومن ثم قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «3» .
وفيه: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- عليه من الاجتهاد فى العبادة والخشية من ربه عز وجل، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم، انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم فى المستدرك، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن ابن عباس، وأحمد فى الزهد، وأبو نعيم فى الحلية، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن عمرو بن ميمون مرسلا، كما فى «صحيح الجامع» (1077) .
(2) سورة هود: 81.
(3) سورة سبأ: 13.
,
وفيه أربعة فصول:
,
عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا؟» فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، الناس لكم فيها تبع- اليهود والنصارى- ولكم فيها خير، ولكم فيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل: وما يوم المزيد؟» فقال: إن ربك اتخذ فى الفردوس واديا أقبح فيه كثيب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزمرد عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله تعالى: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدى، فسلونى أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول:
قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدى مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير، وفيه استوى ربك على العرش «2» . رواه الشافعى فى مسنده.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (689) وقد تقدم فى الذى قبله.
(2) أخرجه الشافعى فى «مسنده» (70) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
وروى مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة» «1» .
وروى البيهقى فى الدعوات من حديث أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب قال: «اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان» «2» ، وكان يقول ليلة الجمعة: «ليل أغر ويوم الجمعة يوم أزهر» .
وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم فى «الهدى النبوى» لا أطيل بذكرها سيما وليس من غرضى. وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام.
وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام، قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه.
انتهى.
وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتو الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا تبع: اليهود غدا، والنصارى بعد غد» «3» ، رواه البخارى.
وفى رواية ابن عيينة عن أبى الزياد عند مسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون» . أى الآخرون زمانا، والأولون منزلة. والمراد باليوم: يوم الجمعة.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (854) فى الجمعة، باب: فضل الجمعة، والترمذى (488) فى الجمعة، باب: ما جاء فى فضل يوم الجمعة، وقال حسن صحيح، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه أحمد (1/ 259) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (876) فى الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) فى الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
وقوله: «بيد» - بفتح الباء الموحدة، وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة- أى: غير. وإذا عرف هذا، فقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» أى على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم فى السبت كان اختلافا على نبيهم فى ذلك اليوم لأجله.
فإن قيل: هل فى العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم فى ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين فى يوم الأحد، وتم يوم الجمعة، فكان الفراغ يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا فى ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا، فهذان اليومان معقولان، فما الوجه فى جعل يوم الجمعة عيدا؟
فالجواب: إن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه والله أعلم.
قال ابن بطال: وليس المراد فى الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل- والله أعلم- أنه فرض عليهم يوم الجمعة، ووكل إلى اختيارهم ليقوموا فيه بشريعتهم فاختلفوا فيه ولم يهتدوا ليوم الجمعة.
كذا قال، لكن قد روى ابن أبى حاتم عن السدى التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فأبوا، ولفظه: «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم» . وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم فى قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ «2» وهم القائلون سَمِعْنا وَعَصَيْنا «3» .
__________
(1) سورة النحل: 124.
(2) سورة البقرة: 58.
(3) سورة البقرة: 93.
ويحتمل قوله «فهدانا الله له» بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد الثانى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلى ونشكره، فجعلوه يوم العزوبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» «2» . وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من حديث كعب بن مالك قال:
كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أسعد بن زرارة «3» . فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- علمه بالوحى وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها ثمّ، ولذلك جمّع بهم أول ما قدم المدينة. انتهى
وقال ابن إسحاق: لما قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة أقام بقباء، فى بنى عمرو بن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة فى بنى سالم، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسيس مسجده.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخارى من حديث أنس، وفى رواية: إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد
__________
(1) سورة الجمعة: 9.
(2) رواه عبد بن حميد فى تفسيره عن ابن سيرين. هكذا قال الحافظ فى «التلخيص» (2/ 56) .
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1069) فى الصلاة، باب: الجمعة فى القرى، وابن ماجه (82) فى إقامة الصلاة، باب: فى فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
بالصلاة- يعنى الجمعة- وفى رواية سهل بن سعد عند البخارى ومسلم: كنا نصلى معه- صلى الله عليه وسلم- الجمعة ونقيل بعد الجمعة.
ثم أعلم أن الخطبة شرط فى انعقاد الجمعة، لا تصح إلا بها، وقال سعيد بن جبير: هى بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر.
ولم يكن يؤذن فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- على المنار، وبين يديه، وإنما كان بلال يؤذن وحده بين يديه- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس على المنبر، كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.
وعبارة البرهان المرغينانى من الحنفية فى هدايته: وإذا صعد الإمام المنبر جلس، وأذن المؤذن بين يدى المنبر، بذلك جرى التوارث، ولم يكن على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الأذان.
وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعى عند آذان جلوس الخطبة، وهو المعهود، فلما كان عثمان وكثروا أمر بأذان قبله على الزوراء، ثم نقله هشام إلى المسجد، وجعل الآخر بين يديه. انتهى. ونحوه قال ابن عبد الحق فى «تهذيب الطالب» .
وأما قول ابن أبى زيد فى رسالته: وهذا الأذان الثانى أحدثه بنو أمية.
فقال شارحوه- الفاكهانى وغيره-: يعنى الأذان الثانى فى الإحداث وهو الأول فى الفعل، قال: وكان بعض شيوخنا يقول: الأول هو الثانى، والثانى هو الأول ومنشؤه ما تقدم. انتهى.
وعبارة الزركشى- كغيره من الشافعية-: ويجلس الإمام على المستراح يستريح من تعب الصعود، ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه، فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن قبله أذان، فلما كان زمن عثمان وكثر الناس، أمرهم بالتأذين ثانيا، ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، انتهى.
وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام
على المنبر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء «1» ، رواه البخارى وقال: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة.
وفى رواية له أيضا: أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وهو يفسر بما فسر به قول أبى زيد السابق. وعند ابن خزيمة:
كان الأذان على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر أذانين يوم الجمعة «2» . قال ابن خزيمة: قوله «أذانين» يريد: الأذان والإقامة تغليبا أو لاشتراكهما فى الإعلام.
وللنسائى: كان بلال يؤذن إذا جلس النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فإذا نزل أقام «3» . وفى رواية وكيع عن ابن أبى ذئب فأمر عثمان بالأذان الأول «4» ، ونحوه للإمام الشافعى من هذا الوجه. قال فى فتح البارى: ولا منافاة بينهما، لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا. وأما قوله فى رواية «البخارى: إن التأذين الثانى» فمتوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقى لا الإقامة.
وقال الشيخ خليل فى «التوضيح» : واختلف النقل: هل كان يؤذن بين يديه- صلى الله عليه وسلم-، أو على المنار؟ الذى نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم عن مالك فى «المجموعة» . ونقل ابن عبد البر فى «كافيه» عن مالك أن الأذان بين يدى الإمام ليس من الأمر القديم. وقال غيره: هو أصل الأذان
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (912) فى الجمعة، باب: الأذان يوم الجمعة، والترمذى (516) فى الجمعة، باب: ما جاء فى أذان الجمعة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، من حديث السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه ابن خزيمة (1774) عن السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 101) فى الجمعة، باب: الأذان للجمعة، من حديث السائب بن يزيد، وأصل الحديث فى الصحيح كما تقدم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) تقدم فى الذى قبله، وهو من طريق ابن أبى ذئب عن الزهرى، عن السائب بن يزيد.
فى الجمعة، وكذلك نقل صاحب «تهذيب الطالب» والمازرى. وفى «الاستذكار» : إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدى الإمام كان فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر، وأن ذلك حدث فى زمن هشام.
قال: وهذا قول من قل علمه، ثم استشهد بحديث السائب بن يزيد المروى فى البخارى السابق، ثم قال: وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهرى عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبى بكر وعمر. انتهى. والحكمة فى جعل الأذان فى هذا المحل ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب. قاله المهلب.
قال فى فتح البارى: وفيه نظر، فإن فى سياق محمد بن إسحاق عند الطبرانى وغيره فى هذا الحديث: أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات.
والذى يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان فى جميع البلاد إذ ذاك، لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهانى أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد.
وفى تفسير جويبر عن الضحاك عن معاذ: أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارج المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان فى عهد النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين. وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الأخبار أن عثمان هو الذى زاده فهو المعتمد.
وقد روى عبد الرزاق ما يقوى هذا الأثر عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى.
لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع: بأن الذى كان فى زمن عمر بن الخطاب استمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانا وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعله عمر لكونه مجرد إعلام.
وروى ابن أبى شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به: لم يكن فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، لأن كل ما لم يكن فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون غير ذلك. ثم إن فعل عثمان- رضى الله عنه-، كان إجماعا سكوتيّا لأنهم لم ينكروه عليه. انتهى.
وأول جمعة جمعها النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه- كما قدمناه فى حديث الهجرة- فى بنى سالم بن عوف، فى بطن واد لهم، فخطبهم وهى أول خطبة خطبها بالمدينة وقال فيها:
«الحمد لله أحمده، وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأومن به ولا أكفره، وأعادى من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة والحكمة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عون وصدق على ما يبتغون من الآخرة، ومن يصل الذى بينه وبين الله من أمره فى السر والعلانية لا ينوى به إلا وجه الله يكن له ذكرا فى عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوف ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله
نفسه والله رؤف بالعباد، هو الذى صدق وأنجز وعده لا خلف له فإنه يقول:
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» .
فاتقوا الله فى عاجل أمركم وآجله، فى السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقى مقته وتوقى عقوبته وسخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضى الرب، وترفع الدرجة، فخذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله، فقد علمكم كتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» . ذكر هذه الخطبة القرطبى فى تفسيره، وغيره.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب فى الحرب خطب على قوس، وإذا خطب فى الجمعة خطب على عصا «2» ، وعند أبى داود بإسناد حسن: أنه- صلى الله عليه وسلم- قام متوكئا على قوس أو عصا «3» .
__________
(1) سورة ق: 29.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1107) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فى الخطبة يوم الجمعة، وتفرد به؛ قال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار ابن سعد حدثنى أبى عن أبيه عن جده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فذكره والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1096) فى الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس، من حديث الحكم بن حزن الكلفى- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
قالوا: والحكمة فى التوكؤ على نحو السيف، الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، ولهذا قبضه باليسرى كعادة مريد الجهاد.
ونازع فيه العلامة ابن القيم فى «الهدى النبوى» وقال: إن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحى كذا قاله، والله أعلم «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صعد المنبر سلم «2» . رواه ابن ماجه. وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما «3» ، رواه مسلم من رواية جابر بن سمرة. وفى رواية له: كانت له- صلى الله عليه وسلم- خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس «4» . وفى حديث ابن عمر عند أبى داود: كان- صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب «5» . قال ابن المنذر: الذى عليه أهل العلم من علماء الأمصار: الخطبة قائما. ونقل غيره عن أبى حنيفة:
أن القيام فى الخطبة سنة وليس بواجب. وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء وصحت الخطبة.
وعن الباقين: أن القيام شرط، يشترط للقادر كالصلاة، واستدلوا بحديث جابر بن سمرة، وبمواظبته- صلى الله عليه وسلم- على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا فى الخطبتين ما احتيج إلى الفصل
__________
(1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 190 و 429) .
(2) حسن: أخرجه ابن ماجه (1109) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الخطبة يوم الجمعة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (862) فى الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، وأبو داود (1093) فى الصلاة، باب الخطبة قائما، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(4) تقدم فى الذى قبله.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1092) فى الصلاة، باب: الجلوس إذا صعد المنبر، من حديث ابن عمر، وأصله فى الصحيح وقد تقدم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
بالجلوس. ولأن الذى نقل عنه الجلوس، وهو معاوية، كان معذورا، فعند ابن أبى شيبة من طريق الشعبى: أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه «1» . واستدل الشافعى لوجوب الجلوس بين الخطبتين بما تقدم، وبمواظبة النبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع قوله: صلوا كما رأيتمونى أصلى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول بعد الثناء: «أما بعد» «2» كما قاله البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبحكم ومساكم» ويقول: «بعثت وأنا والساعة كهاتين» ، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلىّ وعلىّ» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث جابر.
وفى رواية: كانت خطبته- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة: يحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول على أثر ذلك، وقد علا صوته، وذكر نحوه «4» .
__________
(1) أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه (5193) ، من كان يخطب قائما قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبى قال: إنما خطب معاوية قاعدا حيث كثر شحم بطنه ولحمه، وله بنحوه عن طاووس، وذكره الهيثمى فى المجمع (2، 187) فى باب الخطبة قائما والجلوس بين الخطبتين، قال: وعن موسى بن طلحة قال: شهدت عثمان يخطب على المنبر قائما وشهدت معاوية يخطب قاعدا فقال: أما إنى لم أجهل السنة ولكنى كبرت سنّى، ورقّ عظمى، وكثرت حوائجكم، فأردت أن أقضى بعض حوائجكم قاعدا ثم أقوم فاخذ نصيبى من السنة رواه الطبرانى فى الكبير وفيه قيس بن الربيع وقد وثقه شعبة والثورى وضعفه غيرهما.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (923) فى الجمعة، باب: من قال فى الخطبة بعد الثناء أما بعد، من حديث عمرو بن تغلب- رضى الله عنه-، وفى باب: قول الإمام فى خطبة الكسوف أما بعد من حديث أسماء- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وابن ماجه (45) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: تقدم فى الذى قبله.
وفى أخرى: كان يخطب الناس يحمد الله ويثنى عليه بما هو أهله ثم يقول: «من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وخير الحديث كتاب الله» «1» . ثم ذكر نحو ما تقدم.
وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «2» إلا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس «3» . رواه مسلم.
وعن الحكم بن حزن الكلفى قال: قدمت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما، شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوكئا على قوس، أو قال: عصا، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: «يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا» «4» . رواه أحمد ومسلم.
وعن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ على المنبر وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «5» «6» . رواه البخارى ومسلم.
وعن أبى الدرداء قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فقال:
«توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا، وصلوا الذى بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، يا أيها الناس إن أكيسكم
__________
(1) صحيح: تقدم فى الذى قبله.
(2) سورة ق: 1.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (873) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وأبو داود (1102) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، من حديث أم هشام بنت حارثة ابن النعمان- رضى الله عنها-.
(4) حسن: أخرجه أبو داود (1096) وقد تقدم وعزوه لمسلم خطأ.
(5) سورة الزخرف: 77.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (4819) فى التفسير، باب: قوله ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك، ومسلم (871) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة. من حديث يعلى بن أمية- رضى الله عنه-.
أكثركم ذكرا للموت، وأكرمكم أحسنكم استعدادا له، ألا وإن من علامات العقل التجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكن القبور، والتأهب ليوم النشور» . ورواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله مختصرا بنحوه «1» .
وفى مراسيل أبى داود عن الزهرى قال: كان صدر خطبة النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى» «2» . نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه.
وعنده أيضا عنه قال: بلغنا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول إذا خطب: «كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، يريد الله أمرا، ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله، لا يكون شئ إلا بإذن الله عز وجل» .
وقال جابر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يقول بعد أن يحمد الله ويصلى على أنبيائه: «أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن العبد المؤمن بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدرى ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله صانع فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، والذى نفسى بيده، ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، أقول قولى هذا وأستغفر الله العظيم لى ولكم» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1081) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: فى فرض الجمعة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1097) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
وعن عمرو أن النبى- صلى الله عليه وسلم- خطب يوما فقال: «ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق يقضى فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره فى الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره فى النار، ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره» .
رواه الشافعى، وعند أبى نعيم فى الحلية نحوه.
واختلف: هل يجب الإنصات، ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة، أم لا. وعن الشافعى فى المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف فى أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم، لا على الثانى، والثانى هو الأرجح عندهم، فمن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام، حتى شنع من شنع عليهم من المخالفين. وعن أحمد أيضا روايتان. وعنهما أيضا: التفرقة بين من يسمع الخطبة وبين من لا يسمعها. وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعهما إلا عن قليل من التابعين.
ودخل سليك الغطفانى، وهو- صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال له- صلى الله عليه وسلم-:
«صليت؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود. واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد.
وتعقب: بأنها واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله فى حديث أبى سعيد- عند أهل السنن-: جاء رجل- والنبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب- فى هيئة بذة، فقال له: «أصليت؟» قال: لا، قال: «صل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (930) فى الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب. من حديث جابر بن عبد الله، وليس فيه اسم الرجل الذى دخل، قال النووى فى الإشارات: قال الخطيب: الرجل: سليك الغطفانى، وقيل: النعمان بن قوقل.
ركعتين» ، وحض الناس على الصدقة الحديث «1» ... فأمره بأن يصلى ركعتين ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه، وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان وهو قوله- صلى الله عليه وسلم- لسليك فى آخر الحديث: «لا تعودن لمثلها» «2» ، ومما يضعف الاستدلال به على جواز التحية فى تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس.
فهذا ما اعتل به من طعن فى الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه- صلى الله عليه وسلم- قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق. قال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله فى التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به.
ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر فى قصد التصدق، معاودته- صلى الله عليه وسلم- بأمره بالصلاة فى الجمعة الثانية بعد أن حصل له فى الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه، فدخل بهما فى الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث أبى سعيد أيضا.
ولأحمد وابن حبان: أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات فى ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة، لا علة كاملة.
وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووى فى شرح مسلم عن المحققين: أن ذلك فى حق العامد العالم، أما الجاهل والناسى فلا، وحال هذا الداخل محمولة فى المرة الأولى على أحدهما، وفى المرتين الأخيرتين على النسيان.
والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض
__________
(1) متفق عليه: أخرجه البخارى (930) فى الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(2) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (2504) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.
للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك وغيره من أدلة المانعين بما يطول ذكره، ثم قال: وهذه الأجوبة التى قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى قتادة: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين» «1» متفق عليه. قال: وورد أخص منه فى حال الخطبة، ففى رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، أو قد خرج فليصل ركعتين» «2» متفق عليه.
ولمسلم من طريق أبى سفيان عن جابر أنه قال ذلك فى قصة سليك ولفظه بعد قوله: «فاركعهما وتجوز» ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» «3» . قال النووى: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه. وقال العارف أبو محمد بن أبى جمرة: هذا الذى أخرجه مسلم نص فى الباب لا يحتمل التأويل. انتهى.
وقد قال قوم: إنما أمره- صلى الله عليه وسلم- بسنة الجمعة التى قبلها ومستندهم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى قصة سليك- عند ابن ماجه- «أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟» لأن ظاهره: قبل أن تجئ من البيت، ولهذا قال الأوزاعى: إن كان صلى فى البيت قبل أن يجئ فلا يصلى إذا دخل المسجد.
وتعقب: بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: «قبل أن تجئ» أى إلى الموضع الذى أنت فيه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1167) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع مثنى مثنى، ومسلم (714) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة فى جميع الأوقات من حديث أبى قتادة بن ربعى الأنصارى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1170) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع مثنى مثنى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.
الآن، وفائدة الاستفهام، احتمال أن يكون صلاهما فى مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، ويؤيده: أن فى رواية مسلم «أصليت الركعتين؟» بالألف واللام، وهى للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد، وأما سنة الجمعة التى قبلها فيأتى الكلام فيها- إن شاء الله تعالى-.
وكانت صلاته- صلى الله عليه وسلم- الجمعة قصدا، وخطبته قصدا «1» . رواه مسلم والترمذى من رواية جابر بن سمرة. زاد فى رواية أبى داود: يقرأ بايات من القرآن ويذكر الناس «2»
. وله فى أخرى: كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هى كلمات يسيرات «3» .
وعن عمرو بن حريث أنه- صلى الله عليه وسلم- خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه «4» . رواه مسلم.
قال ابن القيم فى الهدى «5» : وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاوش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس. ويأخذ بلال فى الأذان، فإذا فرغ منه قام- صلى الله عليه وسلم- فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره، ولم يكن
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (866) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، والترمذى (507) فى الجمعة، باب: ما جاء فى قصد الخطبة، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (862) فى الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، ولفظه (يقرأ القرآن ويذكر الناس) ، وأبو داود (1101) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، من حديث جابر بن سمرة، وقد تقدم فى الذى قبله.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1107) فى الجمعة، باب: إقصار الخطب، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام، من حديث عمرو بن حريث، والترمذى (1735) فى اللباس، باب: ما جاء فى العمامة السوداء، من حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: حديث جابر حسن صحيح.
(5) (1/ 429) .
يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات. انتهى. وينظر فى قوله: «ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس، أو عصا قبل أن يتخذ المنبر» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بسورة الجمعة فى الركعة الأولى، وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ «1» فى الثانية «2» . رواه مسلم والترمذى وأبو داود. والحكمة فى قراءته- صلى الله عليه وسلم- بسورة الجمعة، اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك، مما فيه من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيه من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون فى مجلس أكثر من اجتماعهم فيها.
وفى حديث النعمان بن بشير عند مسلم: وكان يقرأ فى العيدين وفى الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «4» «5» .
وقد اختلف فى العدد الذى تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا:
أحدها: تصح من الواحد، نقله ابن حزم.
الثانى: اثنان كالجماعة، وهو قول النخعى وأهل الظاهر.
الثالث: اثنان مع الإمام، عند أبى يوسف ومحمد والليث.
الرابع: ثلاثة معه، عد أبى حنيفة وسفيان الثورى.
__________
(1) سورة المنافقون: 1.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (877) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والترمذى (1124) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) سورة الأعلى: 1.
(4) سورة الغاشية: 1.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (878) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، وأبو داود (1122) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-.
الخامس: سبعة، عند عكرمة.
السادس: تسعة، عند ربيعة.
السابع: اثنا عشر، عند ربيعة أيضا فى رواية.
الثامن: مثله غير الإمام، عند إسحاق.
التاسع: عشرون فى رواية ابن حبيب عن مالك.
العاشر: ثلاثون، كذلك.
الحادى عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعى، واشتراط كونهم أحرارا، بالغين عقلاء، مقيمين لا يظعنون صيفا ولا شتاء إلا لحاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة.
وحجة الشافعى: ما رواه الدار قطنى وابن ماجه والبيهقى فى الدلائل عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبى حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبى أمامة واستغفر له، قال فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان فى الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت له: يا أبت، استغفارك لأبى أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو؟ قال: يا بنى، هو أول من جمّع بالمدينة، قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا «1» .
وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن فى كل ثلاثة إماما، وفى كل أربعين فما فوق ذلك جمعة «2» . خرجه الدار قطنى. وروى البيهقى عن ابن مسعود. أنه- صلى الله عليه وسلم- جمّع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا «3» . قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى- نفع الله بوجوده- قال فى «المجموع» : قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تصح
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1069) فى الصلاة، باب: الجمعة فى القرى، وابن ماجه (1082) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب فى فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) أخرجه الدار قطنى (2/ 3) من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(3) أخرجه البيهقى (3/ 180) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت (صلوا كما رأيتمونى أصلى) ، ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا يجوز بأقل منه.
قال: وأما خبر انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر، فليس فيه أن ابتداءها كان باثنى عشر، بل يحتمل عودهم، أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة. وفى مسلم: «انفضوا فى الخطبة» وفى رواية البخارى «انفضوا فى الصلاة» وهى محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار. انتهى.
الثانى عشر: أربعون غير الإمام عند الشافعى أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة.
الثالث عشر: خمسون، عند أحمد فى رواية، وحكيت عن عمر بن عبد العزيز وطائفة.
الرابع عشر: ثمانون، حكاه الرازى.
الخامس عشر: جمع كثر بغير حصر.
ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. قاله فى فتح البارى.
,
وهى معدودة من خصائصه، اختلف الرواة هل صلاها النبى- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فمنهم المثبت ومنهم النافى. فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافى، جريا على القاعدة المعروفة، لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافى، قالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا.
قال الحاكم: وفى الباب عن أبى سعيد، وأبى ذر الغفارى، وزيد بن أرقم، وأبى هريرة، وبريدة الأسلمى، وأبى الدرداء، وعبد الله بن أبى أوفى، وعتبان بن مالك، وعتبة بن عبد السلمى، ونعيم بن همار الغطفانى، وأبى أمامة الباهلى، وعائشة بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. كلهم شهدوا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى الضحى. انتهى.
فأما حديث أبى سعيد فأخرجه الحاكم والترمذى عن عطية العوفى عنه قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها «1» . وقال الترمذى: حسن غريب، لكن قال النووى:
عطية ضعيف، فلعله اعتضد. وأما حديث أبى ذر الغفارى، فرواه البزار فى مسنده. وأما حديث زيد بن أرقم، فرواه مسلم بلفظ «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى من الضحى» «2» الحديث. وأما حديث أبى هريرة فرواه البزار فى مسنده بلفظ: «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك الضحى فى سفر ولا فى
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (477) فى الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حسن غريب، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (748) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، ولفظه أن زيد بن أرقم رأى قوما يصلون من الضحى فقال: أما لقد علموا أنّ الصلاة فى غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال.
غيره «1» . وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد السمتى ضعيف جدّا. وأما حديث بريدة الأسلمى فرواه ... » وأما حديث أبى الدرداء فرواه الطبرانى.
وأما حديث ابن أبى أوفى، فرواه ابن عدى والحاكم بلفظ: قال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبى جهل «2» . قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين: هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشكره يوم فتح مكة. وأما حديث عتبان بن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع عنه، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيته سبحة الضحى.
وأما حديث عتبة بن عبد فرواه ...
وأما حديث نعيم بن همار فرواه ...
وأما حديث أبى أمامة فرواه ...
وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله «3» . وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة، هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى قالت:
لا إلا أن يجئ من مغيبه «4» .
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 238، 239) وقال: رواه البزار، وفيه يوسف ابن خالد السمتى، وهو ضعيف.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1391) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الصلاة السجدة عند الشكر، والدارمى (1462) فى الصلاة، باب: فى سجدة الشكر، من حديث ابن أبى أوفى، ولفظه صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الضحى ركعتين، حين بشر بالفتح أو برأس أبى جهل. ولفظ ابن ماجه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بشّر برأس أبى جهل فصلى ركعتين كلاهما عن الشعثاء عن ابن أبى أوفى، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (719) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وابن ماجه (1381) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أخرجه أحمد (6/ 171) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
وأما حديث أم هانئ، فرواه البخارى ومسلم، قالت: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمانى ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. قالت فى رواية أخرى: وذلك ضحى «1» . ولمسلم: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيتها عام الفتح ثمانى ركعات فى ثوب واحد، وقد خالف بين طرفيه «2» . وللنسائى: أنها ذهبت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة تستره بثوب. فسلمت فقال:
«من هذه؟» قلت: أنا أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمانى ركعات ملتحفا فى ثوب واحد «3» . ولأبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمانى ركعات يسلم من كل ركعتين «4» .
وقد استدل بحديث البخارى ومسلم على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبى شيبة من حديث حذيفة.
وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربى، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة الضحى ثنتى عشرة ركعة «5» .
قلت: وروى عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه: أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى ست ركعات «6» . رواه الحاكم أيضا. وعن أنس بن مالك قال: رأيت
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1176) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى السفر، ومسلم (336) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3171) فى الجزية، باب: أمان النساء وجوارهن، ومسلم (336) فى الحيض، باب: ستر المغتسل بثوب ونحوه.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 126) فى الطهارة، باب: ذكر الاستتار عند الاغتسال، من حديث أم هانئ، ولفظه فى ثوب ملتحفا به والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1290) فى الصلاة، باب: صلاة الضحى، من حديث أم هانئ- رضى الله عنها- والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(5) لم أجده فيه.
(6) لم أجده فيه.
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى السفر سبحة الضحى ثمانى ركعات «1» . رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة والحاكم. وعن على: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى من الضحى «2» ، رواه النسائى فى سننه الكبرى وأحمد وأبو يعلى، وإسناده جيد. وعن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان لا يصلى من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة ويوم يقدم المدينة. وعن أبى بكرة عند ابن عدى فى الكامل من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبى بكرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى، فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب ظهره.
الحديث، وعمرو بن عبيد متروك. وعن جابر بن عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ست ركعات رواه الحاكم.
قال الشيخ ولى الدين العراقى: وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال محمد بن جرير الطبرى: إنها بلغت حد التواتر. وقال ابن العربى: وهى كانت صلاة الأنبياء قبل محمد- صلوات الله وسلامه عليه وعليهم-، قال الله تعالى مخبرا عن داود: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «3» فأبقى الله تعالى من ذلك فى دين محمد «العصر» ونسخ صلاة الإشراق.
واحتج القائلون بالنفى بحديث عائشة: إن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم- وما سبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبحة الضحى فقط، وإنى لأسبحها «4» ، رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. وبحديث مورق العجلى قال: قلت لابن عمر، أتصلى الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 343) من حديث أم هانئ- رضى الله عنها-.
(2) تقدم من حديث زيد بن أرقم.
(3) سورة ص: 18.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1128) فى الجمعة، باب: تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل، ومسلم (718) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، من حديث عائشة وقد تقدم.
قال: لا، قلت: فالنبى- صلى الله عليه وسلم- قال: لا إخاله «1» . رواه البخارى. وقوله:
«لا إخاله» أى لا أظنه، وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا، والخاء معجمة.
وقول الشعبى: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى. وروى عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة، فإذا الناس فى المسجد يصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم فقال بدعة. وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئا أحب إلى منها.
وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها، وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كما تقدم، وكما ذكرته أم هانئ وغيرها.
وقول عائشة: «ما رأيته صلاها» لا يخالف قولها: «كان يصليها» لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يكون عندها فى وقت الضحى إلا فى النادر من الأوقات، لأنه قد يكون مسافرا، وقد يكون حاضرا، وفى الحضر قد يكون فى المسجد، وقد يكون فى بيت من بيوت زوجاته، أو غيره، وما رأته صلاها فى تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته، وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره- صلى الله عليه وسلم- أو بإخبار غيره، فروت ذلك.
وقول ابن عمر: «لا إخاله» فتوقف، وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره. وأما قوله: «إنها بدعة» فمؤولة على أنه لم تبلغه الأحاديث المذكورة، أو أراد أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها، أو أن إظهارها فى المساجد ونحوها بدعة، وإنما هى سنة نافلة فى البيوت والله أعلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1175) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى السفر، من حديث مورق العجلى عن ابن عمر- رضى الله عنهما-.
وبالجملة: فليس فى أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى، لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع فى نفس الأمر، أو الذى نفاه صفة مخصوصة كما قدمناه. وقد روى ابن أبى شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم وقال: إن كان ولا بد ففى بيوتكم.
وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا، فتصلى فى بعض الأيام دون بعض، وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام. وذهب آخرون: إلى أنها تفعل لسبب من الأسباب، وأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما صلاها يوم الفتح من أجل الفتح، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح. متمسكين بما قاله القاضى عياض وغيره: أن حديث أم هانئ ليس بظاهر فى أنه- صلى الله عليه وسلم- قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته فقط، قال: وقد قيل إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها.
وتعقبه النووى: بأن الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود من طريق كريب عن أم هانئ أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى سبحة الضحى «1» . ولمسلم: فى كتاب الطهارة من طريق أبى مرة عن أم هانئ فى قصة اغتساله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ثم صلى ثمانى ركعات سبحة الضحى «2» . وروى ابن عبد البر فى «التمهيد» من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فصلى ثمانى ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: «هذه صلاة الضحى» «3» .
واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات. واستبعده السبكى.
ووجّه بأن الأصل فى العبادة التوقف، وهذا أكثر ما ورد من فعله- صلى الله عليه وسلم-.
وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبى أوفى: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين، أخرجه ابن عدى.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) أخرجه ابن عبد البر فى «التمهيد» (8/ 136) .
وأما ما ورد من قوله- صلى الله عليه وسلم- مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: «من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له قصرا فى الجنة» «1» .
أخرجه الترمذى واستغربه وليس فى إسناده من أطلق عليه الضعف. ومن ثم قال الرويانى: أكثرها ثنتا عشرة ركعة. وقال النووى فى شرح المهذب: فيه حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضم إليه حديث أبى الدرداء رفعه، وفيه «ومن صلى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتا فى الجنة» «2» .
رواه الطبرانى وحديث أبى ذر عند البزار، وفى إسناده ضعف أيضا، قوي وصلح للاحتجاج به.
ونقل الترمذى عن أحمد: أن أصح شئ ورد فى الباب حديث أم هانئ، وهو كما قال، ولهذا قال النووى فى الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. ففرق بين الأكثر والأفضل.
وأجاب القائلون بأنها لا تفعل إلا لسبب عن قول أبى هريرة المروى فى البخارى (أوصانى خليلى- صلى الله عليه وسلم- بثلاث، لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى) «3» الحديث، بأنه قد روى أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر الصحابة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبى هريرة ورد مثلها لأبى الدرداء
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (473) فى الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث غريب، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (728) فى صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، من حديث أم حبيبة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1178) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى الحضر، ومسلم (721) فى صلاة المسافرين، استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
فيما رواه مسلم، ولأبى ذر فيما رواه النسائى، قال: والحكمة فى الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل فى الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد صلاة الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التى تصبح على مفاصل الإنسان فى كل يوم وهى الثلاثمائة وستون مفصلا، كما أخرجه مسلم من حديث أبى ذر، قال فيه: ويجزى عن وذلك ركعتا الضحى.
وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووى فى شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها فى الفضل بين الرواتب والضحى.
وحكى الحافظ أبو الفضل العراقى فى شرح الترمذى: أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثير من الناس يتركها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما ما وقع فى حديث أبى ذر واقتصر فى الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة فى الحديث، لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم من الصدقة على السلامى، كما فى الحديث والله أعلم.
وروى الحاكم من طريق أبى الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نصلى الضحى بسور منها: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «1» وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ «2» «3» ومناسبة ذلك ظاهرة جدّا والله أعلم.
تنبيه: قال شيخ الإسلام والحفاظ أبو الفضل ابن حجر: قول عائشة فى الصحيح «ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى» يدل على ضعف ما روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه. وقد عدها جماعة من العلماء من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. ولم يثبت ذلك فى خبر صحيح.
__________
(1) سورة الشمس: 1.
(2) سورة الضحى: 1، 2.
(3) لم أجده فيه.
وقول الماوردى فى «الحاوى» إنه- صلى الله عليه وسلم- واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات. يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ: «أنه لم يصلها قبل ولا بعد» ولا يقال إن نفى أم هانئ لذلك يلزم منه العدم، لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه، انتهى.
وقال ابن العربى فى «عارضة الأحوذى» : أخبرنا أبو الحسن الأزدى أخبرنا طاهر، أخبرنا على، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكرى، حدثنا الحسين الختنى، حدثنا أبو غسان حدثنا قيس عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» «1» . رواه الدار قطنى.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 317) والدار قطنى (4/ 282) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
,
قد صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أوتر بخمس لم يجلس فى آخرها «1» . لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه- من تعيين الوصل-، والاقتصار على ثلاث- بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد أو نقص، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه.
وتعقبه محمد بن منصور المروزى، بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا «لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب» «2» وقد صححه الحاكم، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث فى الوتر وقال:
لا يشبه التطوع بالفرض. انتهى.
لكن قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث لا يقعد إلا فى آخرهن «3» ، وروى النسائى من حديث أبى بن كعب نحوه، ولفظه: (يوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «5» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «6» ولا يسلم إلا فى آخرهن) «7» وبين فى عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 446) .
(3) سورة الأعلى: 1.
(4) سورة الكافرون: 1.
(5) سورة الإخلاص: 1.
(6) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 447) .
(7) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 235) فى قيام الليل، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبى بن كعب فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهى عن التشبيه بصلاة المغرب، أن يحمل النهى على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا. وروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض إلى الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا فى آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن.
وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين فى الوتر. حتى يأمر ببعض حاجته، وهذا ظاهره أنه كان يصلى الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى. وفى هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا موصولا.
وأصرح من ذلك ما روى الطحاوى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يفعله، وإسناده قوى. وقد استدل بعضهم على فضل الفصل بأنه- صلى الله عليه وسلم- أمر به وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط وقد حمل المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرا من الأحاديث ظاهر فى الفصل، كحديث عائشة «يسلم من كل ركعتين» «1» فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص فى موضع النزاع.
وقد حمل الطحاوى هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك فى دعوى ذلك إلا بالنهى عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شئ، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل. وقد اختلف السلف فى أمرين:
أحدهما: فى مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس.
والثانى: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل فى الليل، هل يكتفى بوتره الأول
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الليل.
ويتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟
أما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبى سلمة عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس «1» . وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا الأمر فى قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» «2» مختصّا بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن بالركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر. وحمله النووى على أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسا.
وأما الثانى: فذهب الأكثر إلى أنه يصلى شفعا ما أراد ولا ينقض وتره، عملا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا وتران فى ليلة» «3» وهو حديث حسن أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث طلق بن على، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر.
واختلف السلف أيضا فى مشروعية قضاء الوتر، فنفاه الأكثر، وفى مسلم عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة «4» .
وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شئ من الأخبار
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (998) فى الجمعة، باب ليجعل آخر صلاته وترا، ومسلم (751) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 229) فى قيام الليل، باب: نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الوترين فى ليلة، وأحمد فى «المسند» (4/ 23) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والترمذى (445) فى الصلاة، باب: إذا نام عن صلاته بالليل صلى بالنهار، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، وعن عطاء والأوزاعى: يقضى ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعى حكاه النووى فى شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضى من القابلة، وعن الشافعية: يقضى مطلقا وقالت عائشة: أوتر- صلى الله عليه وسلم- من كل الليل، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى.
والمراد بأوله: بعد صلاة العشاء. ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر فى وسطه لعله كان مسافرا، وأما وتره فى آخره فكان غالب أحواله لما عرف من مواظبته على الصلاة آخر الليل والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردى أنه السدس الأخير، وقيل أوله الفجر الأول. وفى رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس، عند ابن خزيمة: فلما انفجر الفجر قام- صلى الله عليه وسلم- فأوتر بركعة، قال ابن خزيمة والمراد به: الفجر الأول.
وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: «زادنى ربى صلاة وهى الوتر، وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» «2» . وفى إسناده ضعف، وكذا فى حديث خارجة بن حذافة فى السنن، وهو الذى احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا فى الوجوب.
وأما حديث بريدة رفعه: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا- وأعاد ذلك ثلاثا-» «3» . ففى سنده أبو المنيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (996) فى الجمعة، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل إن أوتر، والترمذى (456) واللفظ له، فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر من أول الليل وآخره من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه أحمد (5/ 242) بسند فيه ضعف.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1419) فى الصلاة، باب: فيمن لم يوتر من حديث بريدة بن الحصيب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظة «حق» بمعنى واجب فى عرف الشارع، وأن لفظة «واجب» بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد، والله أعلم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فتوتر «1» ، كما فى البخارى. وهذا يدل على استحباب الوتر فى آخر الليل، سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره. واستدل به على وجوب الوتر، لكونه- صلى الله عليه وسلم- سلك به مسلك الواجب، حيث لم يدعها نائمة للوتر، وأبقاها للتهجد.
وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكيد أمره بالوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وفيه: استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات.
قال القرطبى: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب فى الواجب، مندوب فى المندوب، لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال، فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب والله أعلم.
وعن على: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ فى كل ركعة بثلاث سور آخرهن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» رواه الترمذى. وعن ابن عباس: كان يقرأ فى الوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» فى كل ركعة «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (512) فى الصلاة، باب: الصلاة خلف النائم، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (460) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر بثلاث، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: ضعيف جدّا.
(3) سورة الأعلى: 1.
(4) سورة الكافرون: 1.
(5) سورة الإخلاص: 1.
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (462) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، والنسائى (3/ 236) فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
وعن عائشة: كان يقرأ فى الأولى ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» وفى الثانية ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» وفى الثالثة ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» و «المعوذتين» «4» . رواه أبو داود والترمذى. ولأبى داود: وكان إذا سلم قال:
«سبحان الملك القدوس» . وعند النسائى: ثلاثا يطيل فى آخرهن «5» ، وفى رواية: «ويرفع صوته بالثالثة «6» . وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «7» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه.
قال ابن تيمية: سنة الفجر تجرى مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى سنة الفجر وفى الوتر بسورتى الإخلاص والكافرون، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» متضمنة لتوحيد الاعتقاد
__________
(1) سورة الأعلى: 1.
(2) سورة الكافرون: 1.
(3) سورة الإخلاص: 1.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (463) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، وابن ماجه (1173) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الوتر، من حديث عائشة قال الترمذى: حسن غريب، قال الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» : صحيح.
(5) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 245) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(6) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 244) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (1427) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (3566) فى الدعوات، باب: فى دعاء الوتر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(8) سورة الإخلاص: 1.
والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذى لا يلحقه نقص، ونفى الولد والوالد والكفؤ، المتضمن لنفى الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفى كل نقص عنه، ونفى كل شبيه، وهذه هى مجامع التوحيد العملى والاعتقادى، فلذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهى وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمى، كما خلصته سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» من الشرك العملى. قاله ابن القيم.
وأما القنوت فى الركعة الأخير من الوتر، فى النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووى فى «الأذكار» باستحبابه، ولم يذكر لذلك دليلا. وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفى الآخر راو لم يسم: أن عمر لما جمع الناس على أبى بن كعب كان لا يقنت إلا فى النصف الأخير من رمضان.
وعن الحسن بن على قال: علمنى جدى كلمات أقولهن فى الوتر:
«اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت وقنى شر ما قضيت، إنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل ما واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» «2» . وهذا لفظ رواية شريك رواه الطبرانى وغيره.
__________
(1) سورة الكافرون: 1.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، من حديث الحسن بن على- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
,
عن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب «1» . وفى رواية: أنه كان إذا أراد أن يجمع بين صلاتين فى السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر «2» . وفى أخرى:
كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء «3» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود.
وفى رواية البخارى: كان يجمع بين هاتين الصلاتين فى السفر «4» ، يعنى: المغرب والعشاء. وفى حديث ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاتى الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء «5» ، رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1111) فى الجمعة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (704) فى صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين فى السفر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1110) فى الجمعة، باب: هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(5) تقدم.
ولمسلم: جمع بين الصلاة فى سفرة سافرها فى غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء «1» . وله ولمالك وأبى داود والنسائى: أنهم خرجوا معه- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فكان- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخروا الظهر يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا «2» .
وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث معاذ بن جبل: كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفى المغرب مثل ذلك:
إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما «3» .
الفرع الثانى فى جمعه ص بجمع «4» مزدلفة وبعرفة
عن ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعا «5» .
رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. وزاد البخارى: كل واحدة منهما
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (705) فى صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين فى الحضر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1206) فى الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، والترمذى (553) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الجمع بين الصلاتين، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) جمع: بفتح الجيم وسكون الميم أى المزدلفة وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها أى دنى منها.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1092) فى الجمعة، باب: يصلى المغرب ثلاثا في السفر من حديث ابن عمر، ومسلم (1287) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة فى هذه الليلة. من حديث أبى أيوب الأنصارى- رضى الله عنه-.
بإقامة ولم يسبح بينهما «1» . ولمسلم: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين «2» . وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند البخارى ومسلم: جمع فى حجة الوداع بين المغرب والعشاء فى المزدلفة «3» .
وفى رواية ابن عباس، عند النسائى: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة «4» . وفى رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبى داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة، ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما «5» .
,
عن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه.
وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات «1» . رواه البخارى ومسلم. وعند الترمذى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى «2» .
,
عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء وبلال معه، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بخرصها «1» وسخابها «2» «3» . وفى رواية: خرج يوم أضحى أو فطر «4» . وفى أخرى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفطر ركعتين «5» . الحديث رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى.
,
تقدم هل القصر رخصة أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين، فى أوائل هذا المقصد. وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أربعا، وخرج يريد مكة فصلى بذى الحليفة العصر ركعتين «1» . رواه البخارى ومسلم. وهذا الحديث مما احتج به أهل الظاهر فى جواز القصر فى طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذى الحليفة ستة أميال، ويقال سبعة.
وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا فى سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة وطائفة: شرطه ثلاث مراحل، واعتمدوا فى ذلك آثارا عن الصحابة.
وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر، لأن المراد أنه- صلى الله عليه وسلم- حين سافر إلى مكة فى حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا ثم سافر، فأدركته العصر
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1089) فى الجمعة، باب: فى كم يقصر الصلاة، ومسلم (690) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
وهو مسافر بذى الحليفة، فصلاها ركعتين. وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره، فلا دلالة فيه قطعا. والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا.
وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهى ستة عشر فرسخا، وهى أربعة برد. والميل من الأرض منتهى مد البصر، لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه. وبذلك جزم ابن الجوزى. وقيل: حده أن تنظر إلى الشخص فى أرض مصطحبة فلا تدرى أهو رجل أو امرأة. أو هو ذاهب أو آت؟
قال النووى: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة، وقد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز فى هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا فالميل بذراع الحديد خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها.
روى البيهقى عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أى يقصران فى أربعة برد فما فوقها. وذكره البخارى فى صحيحه تعليقا بصيغة الجزم. ورواه بعضهم عن صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس. وقد كان فرض الصلاة ركعتين، فلما هاجر- صلى الله عليه وسلم- فرضت أربعا «1» .
رواه البخارى من حديث عائشة لكن يعارضه حديث ابن عباس: فرضت الصلاة فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين «2» . رواه مسلم. وجمع بينهما بما يطول ذكره.
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها فى السفر عند نزول قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «3» ، ويؤيده ما ذكره ابن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى فضائل الصحابة، باب: التاريخ، من أين أرخوا التاريخ؟، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(3) سورة النساء: 101.
الأثير فى شرح المسند أن قصر الصلاة كان فى السنة الرابعة من الهجرة، وقيل كان قصر الصلاة فى ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابى، وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما.
,
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى قبل الظهر، ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين فى بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى فى بيته ركعتين «1» .
قال: وأخبرتنى حفصة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح، وبدا له الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة «2» . رواه البخارى. فهذه عشر ركعات، لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر، إلا لعارض، بأن يصلى الجمعة وسنتها التى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (885) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها، ومسلم (1461) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (583) فى الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، ومسلم (1184) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما، من حديث حفصة- رضى الله عنها-.
بعدها، ثم يتبين له فسادها فيصلى الظهر ويصلى بعدها سنتها كما نبه عليه الشيخ ولى الدين العراقى.
واختلف فى دلالة «كان» على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه، قال: وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم يقرى الضيف، وصحح الإمام فخر الدين فى «المحصول» أنها لا تقتضيه، لا لغة ولا عرفا، وقال النووى فى شرح مسلم، إنه المختار الذى عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين. وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفا. فعلى هذا: ففى الحديث دلالة على تكرار هذه النوافل من النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنه كان دأبه وعادته.
وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيصلى ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب ثم يدخل فيصلى ركعتين، ثم يصلى بالناس العشاء ويدخل بيتى فيصلى ركعتين، الحديث، وفى آخره: وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين «1» . رواه مسلم، فهذه ثنتا عشرة ركعة. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة «2» . وفى رواية: لم يكن يتركهما سرّا وعلانية، فى سفر ولا حضر ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر «3» . رواه البخارى ومسلم.
,
عن ابن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى- يعنى عمر بن عبد العزيز- قال: فخررنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات «2» . رواه أبو داود. وعن البراء: كان ركوع النبى- صلى الله عليه وسلم- وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء «3» . رواه البخارى ومسلم. قال النووى: هذا حديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبت فى الحديث تطويل القيام، فإنه كان يقرأ فى الصبح بالستين آية إلى المائة، وفى الظهر ب الم السجدة، وأنه كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ ثم يأتى المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ فى المغرب بالطور والمرسلات. وفى البخارى:
بالأعراف «4» ، فكل هذا يدل أنه كانت فى إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. انتهى.
وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته- صلى الله عليه وسلم- كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام، وهديه- صلى الله عليه وسلم- الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند صحيح.
(2) أخرجه أبو داود (888) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود بسند رجاله ثقات.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (792) فى الأذان، باب: حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، ومسلم (471) فى الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها فى التمام.
(4) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.
,
كان- صلى الله عليه وسلم- يتشهد دائما فى هذه الجلسة الأخيرة، ويعلم أصحابه أن يقولوا: «التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» «4» رواه مسلم من رواية ابن عباس.
وهو الذى اختاره الشافعى لزيادة «المباركات» لا تشهد ابن مسعود «5» ، وإن قاله القاضى عياض- رحمه الله تعالى- وعبارة الشافعى فيما أخرجه البيهقى بسنده إلى الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعى جوابا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس: «فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، فروى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (580) فى المساجد، باب: صفة الجلوس فى الصلاة، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (579) فيما سبق، من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (726) فى الصلاة، باب: رفع اليدين في الصلاة، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (403) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (831) فى الأذان، باب: التشهد فى الآخرة، ومسلم (402) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة.
ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعا وسمعته- يعنى حديث ابن عباس- صحيحا، ورأيته أكثر لفظا من غيره- يعنى من المرفوعات- أخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره «هذا آخر كلامه، وليس فيه تصريح بالأفضلية، والعلم عند الله.
وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لأنه عند المحدثين أشد صحة. وقال مالك- رحمه الله- تشهد عمر بن الخطاب «1» الموقوف عليه أفضل، لأنه علمه للناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله، ومذهب الشافعى أن التشهد الأول سنة والثانى واجب. وجمهور المحدثين: أنهما واجبان.
وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثانى ركن تبطل الصلاة بتركه. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان. وعن مالك رواية بوجوب الأخير. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يأتى بالتشهدين.
وفى الغيلانيات عن القاسم بن محمد قال: علمتنى عائشة قالت: هذا تشهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وهو مثل حديث ابن مسعود سواء. رواه البيهقى بإسناد جيد. قال النووى: فى هذا الحديث فائدة حسنة وهى أن تشهده- صلى الله عليه وسلم- بلفظ تشهدنا «2» . انتهى.
__________
(1) صحيح موقوفا: الحديث أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 90) ، وعنه الشافعى فى «مسنده» (ص 237) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 398) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 139 و 142) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 351) بسند ضعيف مرفوعا، والصحيح أنه موقوف عليه، وإن كان لنا فيه أسوة حسنة لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى» ، وفى رواية: «اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر» .
(2) أى يقول: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) بدلا من (وأشهد أنى رسول الله) .
قال الحافظ ابن حجر: وكأنه «1» يشير إلى رد ما وقع فى الرافعى:
أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى التشهد: «وأشهد أنى رسول الله» ، وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحا. نعم وقع فى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال:
خفّت أزواد القوم فذكر الحديث وفيه: فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله» «2» .
ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوى: علمهم أن يفردوه- صلى الله عليه وسلم- بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، فإن قيل: كيف يشرع هذا اللفظ، وهو خطاب لبشر مع كونه منهيّا عنه فى الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-.
فإن قلت: ما الحكمة فى العدول عن الغيبة إلى الخطاب فى قوله:
«السلام عليك أيها النبى» مع أن لفظ الغيبة هو الذى يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبى، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبى، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟.
أجاب الطيبى بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذى علمه للصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات، أذن لهم فى الدخول فى حريم الحى الذى لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبى الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا (فإذا الحبيب فى حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته. انتهى) .
وقال الترمذى الحكيم: فى قوله: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» : من أراد أن يحظى بهذا السلام الذى يسلمه الخلق فى صلاتهم فليكن عبدا صالحا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
__________
(1) الضمير عائد إلى الإمام النووى- رحمه الله-.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2484) فى الشركة، باب: الشركة فى الطعام.
وقال القفال فى فتاويه: وترك الصلاة يضر جميع المسلمين، لأن المصلى يقول: اللهم اغفر لى وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول فى التشهد:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرا فى خدمة الله وفى حق رسوله، وفى حق نفسه، وفى حق كافة المسلمين. ولذلك عظمت المعصية بتركها.
واستنبط منه السبكى: أن فى الصلاة حقّا للعباد مع حق الله تعالى، وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين، من مضى ومن يجئ إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . انتهى.
وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد الأخير، وما فى ذلك من المباحث فى فضل الصلاة- صلى الله عليه وسلم-. وعن الطبرانى مرفوعا، عن سهل بن سعد: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» «1» وكذا عن ابن ماجه والدار قطنى. وعن أبى مسعود الأنصارى- عند الدار قطنى-: «من صلى صلاة لم يصل فيها علىّ وعلى أهل بيتى لم تقبل منه» «2» .
وعن ابن مسعود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «3» . رواه الحاكم. واغتر قوم بتصحيحه فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق، وهو مجهول عن رجل مبهم، وبالغ ابن العربى فى إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبى زيد من زيادة وترحم، فإنه قريب من
__________
(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 355) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 379) وقال الدار قطنى: عبد المهيمن- أحد رواته- ليس بالقوى.
(2) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 355) من حديث أبى مسعود الأنصارى، وليس ابن مسعود كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وقال الدار قطنى جابر- أحد رواته- ضعيف، وقد اختلف عنه.
(3) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 402) ، من حديث ابن مسعود، وليس أبى مسعود، كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وفى سنده جهالة، وضعف.
البدعة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- علمهم كيفية الصلاة بالوحى، ففى الزيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وابن أبى زيد ذكر ذلك فى الرسالة فى صفة التشهد، لما ذكر ما يستحب فى التشهد، ومنه: اللهم صل على محمد وآل محمد، فزاد: وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ. فإن كان إنكاره ذلك لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدا، مردودة لثبوت ذلك فى عدة أحاديث أصحها فى التشهد: «السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته» .
قال: ثم وجدت لابن أبى زيد مستندا، فأخرج الطبرى فى تهذيبه «1» ، من طريق حنظلة بن على عن أبى هريرة رفعه: «من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت له» ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصى، الراوى له عن حنظلة بن على فإنه مجهول، وهذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة.
وقد وافق ابن العربى الصيدلانى من الشافعية على المنع. ونقل القاضى عياض عن الجمهور الجواز مطلقا، وقال القرطبى فى «المفهم» : إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره. ففى «الذخيرة» من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبا إنما تكون لفعل ما يلام عليه. وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يقول: رحمه الله، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على» ولم يقل: من
__________
(1) هو كتاب «تهذيب الآثار» لابن جرير الطبرى، لو تم لكان من خير ما كتب فى بابه، حيث أن ابن جرير كان إماما مجتهدا مستقلا لم يتقيد بمذهب معين فكان سيكون كتابه فقها مستقلا قائما على الكتاب والسنة الصحيحة.
ترحم على، ولا من دعا لى، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيما له، فلا يعدل عنه إلى غيره. انتهى.
وأخرج أبو العباس السراج عن أبى هريرة: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلى عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وفى حديث بريدة رفعه: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .
ووقع فى حديث ابن مسعود عند أبى داود والنسائى: «على محمد النبى الأمى» «1» . وفى حديث أبى سعيد: «على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم» «2» ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم. وعند أبى داود من حديث أبى هريرة: «اللهم صل على محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته» «3» . ووقع فى آخر حديث ابن مسعود: «فى العالمين إنك حميد مجيد» «4» .
قال النووى فى شرح المهذب: ينبغى أن يجمع ما فى الأحاديث الصحيحة، فيقول: اللهم صل على محمد النبى الأمى وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك ...
مثله، ويزيد فى آخره: فى العالمين. وقال فى «الأذكار» مثله، وزاد: عبدك ورسولك بعد قوله: محمد فى «صل» ولم يزدها فى «بارك» . وقال فى «التحقيق والفتاوى» مثله، إلا أنه أسقط النبى الأمى.
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (981) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، من حديث عقبة بن عمر، ولم أقف على هذه الرواية من حديث ابن مسعود، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4798) فى التفسير، باب: رقم (282) .
(3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (982) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) صحيح: وقد تقدم تخريجه.
وقد تعقبه الإسنوى فقال: لم يستوعب ما ثبت فى الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعى: لم يسبق إلى ما قاله، والأظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتى بأكمل الروايات، ويقول- كما ثبت- هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة فى التشهد لم ترد مجموعة، وسبقه إلى معنى ذلك ابن القيم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يدعو فى الصلاة: «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم وأعوذ بك من المأثم والمغرم» . فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف» «1» . رواه البخارى ومسلم من رواية عائشة.
قال ابن دقيق العيد: «فتنة المحيا» : ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها- والعياذ بالله تعالى- أمر الخاتمة عند الموت، و «فتنة الممات» : يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون المراد بها: فتنة القبر: ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله: «عذاب القبر» ، لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسبب غير المسبب.
وروى الحكيم الترمذى فى «نوادر الأصول» عن سفيان الثورى: أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، إنى أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل. وقد استشكل دعاؤه- صلى الله عليه وسلم- بما ذكر مع أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وأجيب بأجوبة، منها أن قصد التعليم لأمته، ومنها: أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بالله لأمتى، ومنها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله، وإعظامه والافتقار إليه، وامتثال أمره فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (832) فى الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (589) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقيق الإجابة، لأن فى ذلك تحصيل الحسنات، ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كانت مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة.
وأما الاستعاذة من فتنة الدجال، مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر عند مسلم: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه» «1» ، الحديث، والله أعلم.
وعن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول بعد التشهد: «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال الأعور، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» «2» . رواه أبو داود.
وعن على بن أبى طالب: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقول ما بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» «3» .
رواه مسلم وغيره. وفى رواية له: وإذا سلم قال: «اللهم اغفر لى ما قدمت» ... إلخ.
ويجمع بينهما: بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد. وأورده ابن حبان بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر فى أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وسيأتى الجواب عما استشكل فى دعائه- صلى الله عليه وسلم- بهذا الدعاء فى أدعيته- صلى الله عليه وسلم- إن شاء الله تعالى-.
وحاصل ما ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- من المواضع التى كان يدعو بها فى داخل صلاته ستة مواطن:
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2937) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه، من حديث النواس بن سمعان- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (590) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه.
الأول: عقب تكبير الإحرام، كما فى حديث أبى هريرة فى الصحيحين: «اللهم باعد بينى وبين خطاياى» «1» الحديث ونحوه.
الثانى: فى الركوع، كما فى حديث عائشة عند الشيخين: كان يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لى» «2» .
الثالث: فى الاعتدال من الركوع، كما فى حديث ابن أبى أوفى عند مسلم: أنه كان يقول بعد قوله: «من شئ بعد» «اللهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد» «3» .
الرابع: فى سجوده، وهو أكثر ما كان يدعو فيه، وأمر به.
الخامس: بين السجدتين: «اللهم اغفر لى» «4» ... إلخ.
السادس: فى التشهد.
وكان أيضا يدعو فى القنوت، وفى حال القراءة إذا مر باية رحمة سأل، وإذا مر باية عذاب استعاذ، وتقدم كل ذلك، والله أعلم.
,
عن أبى سعيد الخدرى قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شئ يبدأ به الصلاة «2» . الحديث رواه البخارى ومسلم. وفى هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من صلاتها فى المسجد، لمواظبته- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس فى الأمصار. وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا فى المسجد من الزمن الأول. ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثانى: وهو الأصح عند أكثرهم، المسجد أفضل إلا أن يضيق، قالوا: وإنما صلى أهل مكة فى المسجد لسعته، وإنما خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- لضيق المسجد، فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع، والمراد بالمصلى المذكور، الذى على باب المدينة الشرقى.
قال ابن القيم: ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد فى المسجد، إن ثبت الحديث، وهو فى سنن أبى داود وابن ماجه. انتهى. ولفظ أبى داود: عن أبى هريرة قال: أصابنا مطر فى يوم فطر فصلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد. زاد رزين: ولم يخرج بنا إلى المصلى «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (536) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التكبير فى العيدين، وابن ماجه (1277) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى كم يكبر الإمام فى صلاة العيدين. من حديث سعد بن عائذ ولقبه القرظ، وصححه الألبانى.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (956) فى الجمعة، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1160) فى الصلاة، باب: يصلى بالناس فى المسجد إذا كان يوم مطر، وابن ماجه (1313) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيد فى المسجد إذا كان مطر، والحديث ضعيف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
,
عن أبى هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: «أفلا آذنتمونى؟» قال: فكأنهم
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3202) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، من حديث واثلة ابن الأسقع- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3201) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، والترمذى (1024) فى الجنائز، باب: ما يقول فى الصلاة على الميت، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. ولفظ أبى داود اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وصححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف الإسناد: أخرجه أبو داود (3200) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. ولفظه: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر لها قال الألبانى: ضعيف الإسناد.
صغروا أمرها، فقال: «دلونى على قبرها» ، فدلوه فصلى عليها «1» . رواه البخارى ومسلم. زاد ابن حبان فقال فى رواية حماد بن سلمة عن ثابت: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتى عليهم» «2» .
وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيها: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا «3» . قال ابن حبان: فى ترك إنكاره- صلى الله عليه وسلم- على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذى يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة.
وعن عقبة بن عامر: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف «4» ، وفى رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات «5» . رواه أبو داود والنسائى. ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال فرط لكم «6» . الحديث.
وفيه: الصلاة على الشهداء فى حرب الكفار. وقد اختلف العلماء فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (458) فى الصلاة، باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، ومسلم (956) فى الجنائز، باب: الصلاة على القبر من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) تقدم وهو عند مسلم فى الذى قبله.
(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1528) فى ما جاء فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصلاة على القبر، من حديث يزيد بن ثابت- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3223) فى الجنائز، باب: الميت يصلى على قبره بعد حين، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) تقدم.
هذه المسألة: فذهب مالك والشافعى وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزنى، وهى رواية عن أحمد اختارها الخلال.
وحجة الجمهور: أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل على قتلى أحد- كما رواه البخارى فى صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة. قال النووى: أى دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم فى القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها فى الأول.
ثم إن الشافعية اختلفوا فى معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحريم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون:
معناه: لا تجب الصلاة عليه. لكن تجوز. وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد فى الرواية التى قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة.
قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم.
,
كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «1» قال: «آمين» ، ومد بها صوته، وفى رواية: وخفض بها صوته «2» ، رواه الترمذى. وفى رواية أبى داود: ورفع بها صوته، وفى رواية له: جهر بامين. وقال ابن شهاب: وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ «3» جهر بامين، أخرجه السراج. ولابن حبان من رواية الزبيدى عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته وقال: «آمين» .
وللحميدى من طريق سعيد المقبرى عن أبى هريرة بنحوه بلفظ: إذا قال:
وَلَا الضَّالِّينَ «4» ولأبى داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر نحو رواية الزبيدى. وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان- صلى الله عليه وسلم- يجهر بامين فى ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم فى أواخر الأمر.
,
عن ابن عمر: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل صلاة الغداة «2» . رواه البخارى أيضا:
فإما أن يقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى فى بيته صلى أربعا، وإذا صلى فى المسجد صلى ركعتين، وهذا أظهر. وإما أن يقال: كان يفعل هذا وهذا، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن فى واحد منهما.
وقال أبو جعفر الطبرى: الأربع كانت فى كثير من أحواله، والركعتان فى قليلها. انتهى. وقد يقال: إن الأربع التى قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هى صلاة مستقلة، كان يصليها بعد الزوال. وروى البزار من حديث ثوبان: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يستحب أن يصلى بعد نصف النهار، فقالت عائشة:
يا رسول الله، أراك تستحب الصلاة هذه الساعة، قال: «تفتح فيها أبواب السماء، وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة، وهى صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى» .
وعن عبد الله بن السائب: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: «إنها ساعة تفتح لها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لى فيها عمل صالح» «3» . رواه الترمذى. وروى الترمذى أيضا حديث
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1253) فى الصلاة، باب: تفريغ أبواب التطوع وركعات السنة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) أخرجه الترمذى (478) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة عند الزوال، من حديث عبد الله بن السائب- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب. قال الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : حسن الإسناد.
«أربع قبل الظهر وبعد الزوال تحسب بمثلهن فى السحر وما من شئ إلا وهو يسبح الله تعالى تلك الساعة» ثم قرأ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ «1» «2» .
فهذه- والله أعلم- هى الأربع التى أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن.
وأما سنة الظهر فالركعتان التى قال ابن عمر. ويوضح هذا أن سائر الصلوات سنتها ركعتان، وعلى هذا فتكون هذه الأربع وردا مستقلا، سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا- والله أعلم- أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس، ويحصل النزول الإلهى بعد انتصاف الليل، فهما وقت قرب رحمة، هذا فيه تفتح أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى عن حركة الأجسام.
,
عن أبى حميد الساعدى: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة
__________
(1) سورة القيامة: 1- 40.
(2) سورة المرسلات: 1- 50.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (887) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود، والترمذى (3347) فى التفسير، باب: ومن سورة التين، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسند فيه مجهول.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة.
(5) سورة الفاتحة: 7.
(6) أخرجه الترمذى (251) فى الصلاة، باب: ما جاء فى السكتتين فى الصلاة، وهو عند أبى داود (777) ، وابن ماجه (844 و 845) ، وقال الترمذى: حديث سمرة حديث حسن. ا. هـ. قلت: إن سلم من صحة سماع الحسن منه، فهو كما قال.
رفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصوب رأسه ولا يقنع «1» رواه أبو داود والدارمى.
,
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس للتشهد يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى «4» .
رواه مسلم. قال النووى: معناه يجلس مفترشا، وفيه حجة لأبى حنيفة ومن وافقه: أن الجلوس فى الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع الجلسات. وعند مالك: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويفضى بوركه إلى الأرض.
__________
(1) قلت: بل هو عند البخارى (669) فى الأذان، باب: هل يصلى الإمام بمن حضر، ومسلم (1167) فى الصيام، باب: فضل ليلة القدر، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) يشير إلى الحديث الذى أخرجه البخارى (823) فى الأذان، باب: من استوى قاعدا فى وتر من صلاته ثم نهض، من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (850) فى الصلاة، باب: الدعاء بين السجدتين، والترمذى (284) فى الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، وابن ماجه (898) فى إقامة الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، ولم أقف عليه عند الدارمى، وسنده صحيح.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (498) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
وقال الشافعى- رحمه الله-: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التى يعقبها السلام. والجلسات عند الشافعى أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة فى كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، والجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة، ولو كان على المصلى سجود سهو فالأصح أن يجلس مفترشا فى تشهده فإذا سجد سجدتى السهو تورك ثم سلم. هذا تفصيل مذهب الشافعى.
واحتج أبو حنيفة: بإطلاق حديث عائشة هذا.
واحتج الشافعى: بحديث أبى حميد الساعدى فى صحيح البخارى، وفيه التصريح بالافتراش فى الجلوس الأول والتورك فى آخر الصلاة، وحمل حديث عائشة هذا على الجلوس فى غير التشهد الأخير ليجمع بين هذه الأحاديث. انتهى.
فليتأمل مع قول ابن القيم فى الهدى: إنه لم ينقل أحد عنه- صلى الله عليه وسلم- أن هذا كان صفة جلوسه فى التشهد الأول، ولا أعلم أحدا قال به. انتهى.
وقال أبو حميد الساعدى فى عشرة من أصحابه- صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فاعرض.. فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت السجدة التى فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم، قالوا صدقت هكذا كان يصلى «1» ، رواه أبو داود والدارمى.
وفى رواية لأبى داود: فإذا قعد فى الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا كان فى الرابعة أفضى بوركه إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. الحديث «2» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قعد فى التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والدارمى فى «سننه» (1356) بسند صحيح.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (731) فيما سبق.
(3) أخرجه البزار عن ابن عمر، كما فى «كنز العمال» (22348) .
وفى رواية مسلم: وضع يديه على ركبتيه، ورفع أصبعه اليمنى التى تلى الإبهام ويدعو بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها «1» . وفى حديث ابن الزبير عنده أيضا: كان يشير بها ولا يحركها. الحديث «2» . وعند أبى داود من حديث وائل بن حجر: مد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها ويدعو. وكان- صلى الله عليه وسلم- يستقبل بأصابعه القبلة فى رفع يديه وركوعه وفى سجوده وفى التشهد، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة فى سجوده «3» .
,
نقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن على، وابن الزبير، والمسور ابن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة فى صلاة الجنازة. وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبى هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول ابن مالك والكوفيين. وروى عبد الرزاق والنسائى بإسناد صحيح عن أبى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1245) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (951) فى الجنائز، باب: التكبير على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) حسن: أخرجه الترمذى (1077) فى الجنائز، باب: ما جاء فى رفع اليدين على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
أمامة بن سهل بن حنيف قال: السنة فى الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا فى الأولى «1» .
وفى البخارى عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة «2» ، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك فى حديث جابر عند الشافعى بلفظ:
وقرأ بأم الكتاب بعد التكبيرة الأولى «3» ، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى.
وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب «4» . رواه الترمذى وقال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: «من السنة» وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال.
وعن عوف بن مالك: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظنا من دعائه: «اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار» «5» . قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (42861) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1335) فى الجنائز، باب: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة.
(3) أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 270) ، وذكره الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (3/ 204) .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (1026) فى الجنازة، باب: ما جاء فى القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه مسلم (963) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت فى الصلاة، من حديث عوف بن مالك الأشجعى- رضى الله عنه-.
وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: «اللهم إن فلان بن فلان فى ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم» «1» . رواه الترمذى.
وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: «اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» «2» . رواه أحمد وأبو داود والترمذى. وعنه: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم أنت ربها وأنت خالقها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها» «3» . رواه أبو داود.
,
عن أنس قال: خرجنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، فكان يصلى ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟
قال: أقمنا بها عشرا «1» . رواه البخارى، ومسلم مختصرا قال: أقمنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- عشرة يقصر الصلاة «2» .
وعن ابن عباس: أقام النبى- صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة يقصر الصلاة. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا «3» . رواه البخارى. وفى رواية أبى داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة «4» . قال ابن عباس:
فلو أقام أكثر أتم. والرواية الأولى بتقديم التاء على السين، والثانية بتقديم السين على الموحدة. ولأبى داود، من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفتح، فأقام بمكة ثمانى عشرة ليلة لا يصلى إلا ركعتين «5» . وله من طريق ابن إسحاق عن الزهرى عن عبيد الله عن ابن عباس: أقام- صلى الله عليه وسلم- بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1081) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التقصير وكم يقيم حتى يقصر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (693) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4300) فى المغازى، باب: مقام النبى بمكة زمن الفتح، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) أخرجه أبو داود (1230) فى الصلاة، باب: متى يتم السفر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى: صحيح بلفظ تسعة عشر وهو الأرجح.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1229) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) ضعيف منكر: أخرجه أبو داود (1231) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» : ضعيف منكر.
وجمع البيهقى بين هذا الاختلاف: بأن من قال: «تسعة عشر» عد يومى الدخول والخروج، ومن قال: «سبعة عشر» حذفهما، وأما رواية «خمس عشرة» فضعفها النووى فى «الخلاصة» وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائى من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، فإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوى ظن أن رواية الأصل سبع عشرة، فحذف منها يومى الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية «تسع عشرة» أرجح الروايات.
وأخذ الشافعى بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب الإتمام، فإن أزمع الإقامة فى أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه فى دخول يومى الدخول والخروج فيها، أو: لا.
ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس، لأن حديث ابن عباس كان فى فتح مكة، وحديث أنس كان فى حجة الوداع. وفى حديث ابن عباس: قدم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- يعنى مكة- لصبح رابعة، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه قدم فى اليوم الرابع وخرج منها فى اليوم الثامن، فصلى الظهر فى منى، ومن ثم قال الشافعى: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، فالمدة التى فى حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التى فى حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- فى أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: لما كان الأصل فى المقيم الإتمام فلما لم يجئ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أقام فى حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر.
والله أعلم.
,
عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يكبر فى الفطر والأضحى، فى الأولى سبع تكبيرات، وفى الثانية: خمس تكبيرات «6» . زاد فى رواية: سوى تكبير الإحرام والركوع «7» .
وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كبر فى
__________
(1) الخرص: القرط بحبة واحدة وقيل هى الحلقة من الذهب والفضة. انظر لسان العرب (4/ 63) مادة (خرص) .
(2) السخاب: قلادة تتخذ من قرنفل ومسك ومحلب ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شئ: قال ابن الأثير: السخاب: هو خيط ينظم فيه خرز تلبسه الصبيان والجوارى. انظر لسان العرب (2/ 201) مادة (سخب) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (164) فى الجمعة، باب: الخطبة بعد العيد، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (304) فى الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (964) فى الجمعة، وقد تقدم.
(6) أخرجه مالك فى الموطأ (434) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى التكبير والقراءة فى صلاة العيدين. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(7) أخرجه البيهقى (3/ 289) عن أبى موسى وحذيفة بلفظ سوى تكبيرة الافتتاح والركوع.
العيدين، فى الأولى سبعا قبل القراءة، وفى الآخرى خمسا قبل القراءة «1» .
رواه الترمذى وابن ماجه والدارمى.
,
روى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة ببسم الله
__________
(1) ضعيف مرفوعا: أخرجه أبو داود (764) فى الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجه (807) فى إقامة الصلاة، باب: الاستعاذة فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 80) بسند فيه عاصم العنزى، قال البخارى: لا يصلح، قاله الحافظ فى «التهذيب» (5/ 48) إلا أنه عند مسلم (601) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من القائل كلمة كذا وكذا» ، قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال: «عجبت لها فتحت لها أبواب السماء» . قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك.
(2) فى الأصل: (ابن عمر) ، والصواب عمرو، وهو عمرو بن برة أحد رواة الحديث.
(3) الموتة: بضم الميم، ضرب من الجنون.
(4) هو الصحابى الجليل، محمد بن مسلمة الأوسى الأنصارى الحارثى، أبو عبد الرحمن المدنى حليف بنى عبد الأشهل، أسلم قديما على يد مصعب بن عمير، شهد المشاهد كلها بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك وتخلف عنها بإذن النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان من فضلاء الصحابة، وممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، كان عمر يرسله فى المعضلات لبيان الأمر، كما حدث فى قصة سعد بن أبى وقاص حين بنى القصر بالكوفة، مات سنة 43 هـ بالمدينة، وله 77 سنة.
(5) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 221) .
الرحمن الرحيم «1» . رواه أبو داود. وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. ورواه الحاكم عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم «2» . ثم قال: صحيح. وفى صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرأ البسملة أول الفاتحة فى الصلاة، وعدها آية «3» ، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخى، وفيه ضعف عن ابن جريج عن ابن أبى مليكة عنها.
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه فى تفسيره عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهى السبع المثانى والقرآن العظيم، وهى أم الكتاب» ورواه الدار قطنى عن أبى هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله «4» ، وقال:
رواته كلهم ثقات. وروى البيهقى عن على وابن عباس وأبى هريرة أنهم فسروا قوله سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «5» بالفاتحة، وأن البسملة هى الآية السابعة منها «6» .
وعن شعبة عن قتادة عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «7» «8» . رواه البخارى، أى كانوا
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (245) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: ليس إسناده بذاك، وهو كما قال.
(2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 326) ، وهو مخالف لما فى الصحيحين.
(3) إسناده ضعيف: لضعف عمر بن هارون البلخى، كما ذكر المصنف.
(4) ضعيف مرفوعا: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 312) وقال: قال أبو بكر الحنفى: ثم لقيت نوحا فحدثنى عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة بمثله، ولم يرفعه. ا. هـ. قلت: والذى رفعه عبد الحميد بن جعفر، صدوق له أوهام، ولعل ذلك منها.
(5) سورة الحجر: 87.
(6) انظر سنن البيهقى «الكبرى» (2/ 45) .
(7) سورة الفاتحة: 1.
(8) صحيح: أخرجه البخارى (743) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (399) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة.
يفتتحون بالفاتحة. وفى رواية مسلم: فلم أسمع أحدا منهم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم «1» . كذا أخرجه مسلم وغيره. لكنه معلول أعله الحفاظ، كما هو فى كتب علوم الحديث. وفى شرح ألفية العراقى لشيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى- أمتع الله بوجوده- فى باب العلل ما نصه: وعلة المتن القادحة فيه كحديث نفى قراءة البسملة فى الصلاة المروى عن أنس، إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان- رضى الله عنهم- فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، نفى البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه وقال: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول القراءة ولا فى آخرها. وفى لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. وصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا. والراوى لذلك مخطئ فى ظنه «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (399) (50) فيما سبق.
(2) قلت: قال الحافظ الزيلعى فى معرض رده على من يردون رواية أنس التى فى صحيح مسلم حيث يقول فى «نصب الراية» (1/ 330- 331) : كيف يجوز العدول عنه- أى رواية مسلم- بغير موجب ويؤكده قوله فى رواية مسلم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا فى آخرها، لكنه محمول على نفى الجهر، لأن أنسا إنما ينفى ما يمكنه العلم بانتفائه، فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن فيه القراءة سرّا، ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها من لم ير هنا سكوتا كمالك وغيره لكن ثبت فى الصحيحين من أبى هريرة أنه قال: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: «أقول كذا وكذا إلى آخره» ، وفى السنن عن سمرة وأبى وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة وأنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفى قراءتها فى ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادا به الجهر، بذلك يدل عليه قوله: «فكانوا لا يجهرون» وقوله فلم أسمع أحدا منهم يجهر، ولا تعرض فيه للقراء، سرّا ولا على نفيها إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها، وكذلك قال لمن سأله إنك تسألنى عن شئ ما أحفظه، فإن العلم بالقراءة السرية إنما يحصل بإخبار أو سماع عن قرب، وليس فى الحديث شئ منها، ورواية من روى «فكانوا يسرون» كأنها مروية بالمعنى من لفظ «لا يجهرون» والله أعلم، وأيضا عمل الافتتاح بالحمد لله رب العالمين على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام-
ولذا قال الشافعى- رحمه الله- فى الأم، ونقله عنه الترمذى فى جامعه: المعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا.
ويتأيد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» فى صحيح البخارى، وكذا بحديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: كانت مدّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد «بسم الله» ويمد «الرحمن» ويمد «الرحيم» «2» . كذا أخرجه البخارى فى
__________
- الصحيحة لأن هذا من العلم الظاهر الذى يعرفه العام والخاص كما يعلمون أن الفجر ركعتان وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك، فليس فى نقل مثل هذا فائدة، فكيف يجوز أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه وإنما مثل هذا مثل من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانوا يجهرون فى العشاءين والفجر ويخافتون فى صلاة الظهر والعصر والله أعلم، وأيضا فلو أريد الافتتاح بسورة الحمد لقيل كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن أو بفاتحة الكتاب أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف فى تسميتها عندهم وأما تسميتها بالحمد لله رب العالمين فلم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون فلان قرأ الحمد، وأين هذا من قوله «فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين» فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح، وأن للمخالف ذلك. ا. هـ ومما سبق يتبين أن رواية مسلم صحيحة، وليست بمعلولة، وأن الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أنه ما كان يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم، وكذا الخلفاء من بعده، ثم لا ينتشر فى المدينة موطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو فى مكة موطن الحج.
(1) سورة الفاتحة: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5046) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة، وقد علق الحافظ فى «الفتح» (8/ 710) على من يستدل بذلك على رد حديث أنس بنفى الجهر بالبسملة وقراءتها فى أول الفاتحة حيث قال: وفى الاستدلال بحديث الباب نظر، وقد أوضحته فيما كتبته من النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة فى أول الفاتحة فى كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسملة، والعلم عند الله تعالى. ا. هـ. قلت: ومن الممكن أن يحمل ذلك على قراءته خارج الصلاة، كما أن هذا الحديث عام ويقابله حديث أنس الآخر الذى يخصص القراءة فى الفاتحة بعدم الجهر بالبسملة فيقدم عليه، والله أعلم.
صحيحه، وكذا صححه الدار قطنى والحازمى وقال: إنه لا علة له، لأن الظاهر- كما أشار إليه أبو شامة- أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح فى الصلاة بأى سورة وأجابه ب «الحمد لله» ، سأله عن كيفية قراءته فيها، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو السائل أولا.
وقد أخرج ابن خزيمة فى صحيحه، وصححه الدار قطنى أن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا: أكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستفتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ أو ب بِسْمِ اللَّهِ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا. قال: وهذا مما يتأيد به خطأ النافى «1» .
ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة، إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه، بل ومن بعضه أصحاب حميد عنه، فإنها فى سائر الموطات عن مالك: صليت وراء أبى بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، لا ذكر للنبى- صلى الله عليه وسلم- فيه، وكذا الذى عند سائر حفاظ أصحاب حميد عنه، إنما هو فى الوقف خاصة. وبه صرح ابن معين عن ابن أبى عدى حيث قال: إن حميدا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه.
وأما رواية قتادة، وهى من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعى:
أن قتادة كتب إليه ليخبره أن أنسا حدثه قال: صليت ... فذكره بلفظ: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا فى أول قراءة ولا فى آخرها، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفى فيه، وجماعة منهم بلفظ: فلم يكونوا يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم.
وممن اختلف عليه فيه من أصحابه شعبة، فجماعة منهم «غندر» لا ذكر عندهم فيه للنفى، وأبو داود الطيالسى فقط حسبما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ب «بسم الله» وهى موافقة للأوزاعى.
__________
(1) تقدم الرد على هذا الحديث فى الهامش قبل السابق.
وأبو عمر الدورى وكذا الطيالسى وغندر أيضا بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ب «بسم الله» .
بل كذا اختلف غير قتادة من أصحاب أنس، فإسحاق بن أبى طلحة وثابت البنانى باختلاف عليهما، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفى، وإسحاق وثابت أيضا ومنصور بن زاذان وأبو قلابة وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافى للجهر خاصة. ولفظ إسحاق منهم: يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين فيما يجهر فيه.
وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات- كما قال شيخنا، يعنى شيخ الإسلام ابن حجر- رحمه الله- ممكن بحمل نفى القراءة على نفى السماع، ونفى السماع على نفى الجهر. ويؤيده: أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة بسم الله. وأصرح منها رواية الحسن عن أنس- كما عند ابن خزيمة- كانوا يسرون ببسم الله.
وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب. كما أنه ظهر أن الأوزاعى- الذى رواه عن قتادة مكاتبة مع أن قتادة ولد أكمه، وكاتبه مجهول لعدم تسميته- لم ينفرد به، وحينئذ فيجاب عن قول أنس: «لا أحفظه» بأن المثبت مقدم على النافى، خصوصا وقد تضمن النفى عدم استحضار أنس- صلى الله عليه وسلم- لأهم شئ يستحضره. وبإمكان نسيانه حين سؤال أبى مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله: أيقرأ الرجل فى الصلاة بسم الله؟ فقال: صليت وراء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله.
ويحتاج إذا استقر محصل حديث أنس على نفى الجهر إلى دليل له، وإن لم يكن من مباحثنا.
وقد ذكر له الشارح دليلا، وأرشد شيخنا- يعنى الحافظ ابن حجر- لما يؤخذ منه ذلك. بل قال: إن قول نعيم المجمر «صليت وراء أبى هريرة فقرأ ب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين، وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس فى الاثنتين يقول الله
أكبر، ويقول إذا سلم: والذى نفسى بيده إنى لأشبهكم صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» » ، أصح حديث ورد فيه، ولا علة له.
وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائى والحاكم، وقد بوب عليه النسائى: الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم. ولكن تعقب الاستدلال به، لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله «أشبهكم» فى معظم الصلاة لا فى جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة.
وأجيب: بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة، والخبر ظاهر فى جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه. ومع ذلك فيطرقه أن يكون سماع نعيم لها من أبى هريرة حال مخافتته لقربه منه.
وقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى تصنيف له فى الفاتحة: روى الشافعى بإسناده وكذا رواه الحاكم فى مستدركه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم، أين التكبير عند الركوع والسجود، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير «2» . ثم قال الشافعى: وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان كالأمر المقرر عن كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب تركه. انتهى. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم فى صحيحه والدار قطنى وقال: إن رجاله ثقات.
__________
(1) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (2/ 134) الافتتاح، باب: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وابن حبان فى «صحيحه» (1797 و 1801) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (499 و 688) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 305) قلت: وهو فى الصحيحين من طريق آخر عن أبى هريرة ليس فيه هذه الزيادة، والحديث ضعف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 357) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 311) بسند حسن، إلا أنه عند الحاكم «أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التى بعد أم القرآن» وعلى ذلك فلا حجة فيه.
ثم قال الإمام بعد: وقد بينا أن هذا- يعنى الإنكار المتقدم- يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم. وكذا قال الترمذى عقب إيراده، بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبى سليمان عن أبى خالد الوالبى الكوفى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة ب بسم الله الرحمن الرحيم «1» . ووافقه على تخريجه الدار قطنى، وأبو داود وضعفه. بل وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. والبيهقى فى المعرفة، واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بها صوته الحديث «2» ، وهو عند الحاكم فى مستدركه أيضا، ما نصه: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين رووا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعى، انتهى «3» .
وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذى يروم تحقيق هذه المسألة ينبغى أن يعرف أن هذه المسألة بعلم القراآت أمس، وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- من كان يقرأ بها آية من الفاتحة وهم: حمزة وعاصم والكسائى وابن كثير وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة كابن عامر، وأبى عمرو، ونافع فى رواية عنه.
وحكم قراءتها فى الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن لزمه فرضا أن يقرأ بها. ومن قرأ على قراءة من لم
__________
(1) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (245) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 304) ، وقال الترمذى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وهو كما قال.
(2) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 303) بسند فيه أبو الصلت الهروى، هو عبد السلام بن صالح، ضعيف الحديث.
(3) هذا الكلام قاله الترمذى عقب حديثه السابق.
يرها من أم القرآن فهو مخير بين القراءة والترك. فحينئذ الخلاف فيها كالخلاف فى حرف من حروف القرآن، وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته ولا على منفيه. ولا ريب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- تارة قرأ بها، وتارة لم يقرأ بها، هذا هو الإنصاف.
ثم قال: والمستيقن الذى يجب المصير إليه، أن كلّا من العملين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراآت السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله، وليست هذه أول كلمة ولا أول حرف اختلف فى إثباته وحذفه، وقلّ سورة من القرآن ليس فيها ذلك، كلفظ «هو» فى سورة الحديد لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» ، ولفظ «من» فى سورة التوبة، فى قوله تعالى: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «2» ، وألفات عديدة، وواوات، وهاآت كذلك، وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذى يدلك على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الناس فيها، وقوله: إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن «3» ، فما أدرى ما هذا الظن. وهذا الذى ذكرناه هو الذى يريحك من تلك التقريرات من الجانبين.
ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- كلا الأمرين، من الجهر والإسرار، فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره، وقد صح فى الجهر أحاديث، لا مطعن فيها لمنصف نحو ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح فى الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار من العصبية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- كان الجهر فقط، انتهى. وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر اسم الإمام الشافعى وغلب ذكره؟ أرى ذلك بإظهار اسم الله فى البسملة لكل صلاة. انتهى.
__________
(1) سورة الحديد: 24.
(2) سورة التوبة: 72.
(3) يشير إلى أبى بكر بن العربى، صاحب تفسير أحكام القرآن.
,
قالت عائشة: لم يكن- صلى الله عليه وسلم- على شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتى الفجر «4» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1201) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1110) فى الجمعة، باب: الركعتين قبل الظهر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (592) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، ومسلم (835) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليها النبى بعد العصر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1162) فى الجمعة، باب: تعاهد ركعتى الفجر ومن سماهما تطوعا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
ولمسلم «لهما أحب إلىّ من الدنيا جميعا» «1» وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير الفجر ويخففهما «2» . رواه الشيخان وهذا لفظ النسائى.
واختلف فى حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح فى أول الوقت، وبه جزم القرطبى، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع فى صلاة الليل كما تقدم، ليدخل فى الفرض أو ما شابهه فى الفضل بنشاط واستعداد تام.
وقد ذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبى، وأورد البيهقى فيه حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفى سنده راو لم يسم، وخص بعضهم ذلك بمن فاته شئ من قراءته فى صلاة الليل، فيستدركها فى ركعتى الفجر، وأخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عن الحسن البصرى.
كان كثيرا ما يقرأ فى الأولى منهما قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «3» الآية التى فى البقرة، وفى الآخرة قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «4» «5» . رواه مسلم وأبو داود والنسائى من رواية ابن عباس.
وفى رواية أبى داود، من حديث أبى هريرة قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «6» فى الركعة الأولى، وبهذه الآية رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (725) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، والترمذى (416) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ركعتى الفجر من الفضل، وقال: حديث عائشة: حديث حسن صحيح.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (724) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) سورة البقرة: 136.
(4) سورة آل عمران: 64.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (727) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى الفجر والحث عليهما، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) سورة البقرة: 136.
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» أو إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ «2» قال أبو داود: شك الراوى «3» .
وقال أبو هريرة: قرأ فى ركعتى الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» «6» رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
وقد روى ابن ماجه بإسناد قوى، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: «نعم السورتان يقرأ بهما فى ركعتى الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «7» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» «9» » .
ولابن أبى شيبة من طريق ابن سيرين عن عائشة: كان يقرأ فيهما بهما.
وللترمذى والنسائى من حديث ابن عمر: رمقت النبى- صلى الله عليه وسلم- شهرا فكان يقرأ بهما «10» .
__________
(1) سورة آل عمران: 53.
(2) سورة البقرة: 119.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1260) فى الصلاة، باب: فى تخفيفهما، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال الألبانى: حسن وأخرجه البيهقى دون قوله: أو إنا أرسلناك.
(4) سورة الكافرون: 1.
(5) سورة الإخلاص: 1.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (726) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، والنسائى (945) فى الافتتاح، باب: القراءة فى ركعتى الفجر بقل يا أيها الكافرون، وابن ماجه (1448) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(7) سورة الكافرون: 1.
(8) سورة الإخلاص: 1.
(9) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1150) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر، من حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(10) صحيح: أخرجه الترمذى (417) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تخفيف ركعتى الفجر-
وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة فى ركعتى الفجر، ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة، ويدل على ذلك فى رواية ابن سيرين المذكورة: «يسر فيهما القراءة» وصححه ابن عبد البر.
واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة، على أنه لا تتعين الفاتحة، لأنه لم يذكرها مع سورتى الإخلاص. وأجيب: بأنه ترك الفاتحة لوضوح الأمر فيها. انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى ركعتى الفجر اضطجع على شقه الأيمن «1» .
رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة.
لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما، لكونه أبلغ فى الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقا فلا يستغرق، وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره- صلى الله عليه وسلم- كما لا يخفى.
وأما ما روى أن ابن عمر رأى رجلا يصلى ركعتى الفجر ثم اضطجع فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن أفصل بين صلاتى فقال له: وأى فصل أفضل من السلام، قال: فإنها سنة، قال: بل بدعة. رواه ابن الأثير فى جامعه عن رزين. وكذا ما روى من إنكار ابن مسعود، ومن قول إبراهيم النخعى: إنها ضجعة الشيطان، كما أخرجهما ابن أبى شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر بفعله.
__________
وما كان النبى يقرأ فيهما، وابن ماجه (1149) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: حديث حسن. وقال الألبانى: صحيح فى «صحيح سنن الترمذى» .
(1) صحيح: أخرجه البخارى (636) فى الأذان، باب: من انتظر الإقامة، ومسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل، لكن لم يداوم- صلى الله عليه وسلم- عليها، ولذا احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبى داود وغيره على الاستحباب. وفائدة ذلك: الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للتهجد. وبه جزم ابن العربى. ويشهد لهذا ما رواه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح. وفيه راو لم يسم.
وقيل: فائدتها الفصل بين ركعتى الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص. ومن ثم قال الشافعى: إن السنة تتأدى بكل ما يحصل به الفصل من مشى وكلام وغيره، حكاه البيهقى. وقال النووى: المختار أنه سنة لظاهر حديث أبى هريرة، وقد قال أبو هريرة راوى الحديث: إن الفصل بالمشى إلى المسجد لا يكفى. وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد، وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرد عليه العلماء بعده، حتى طعن ابن تيمية فى صحة الحديث لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفى حفظه مقال، والحق: أنه تقوم به الحجة.
وذهب بعض السلف إلى استحبابها فى البيت دون المسجد، وهو محكى عن ابن عمر. وقواه بعض شيوخنا، بأنه لم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه فعله فى المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله فى المسجد، أخرجه ابن أبى شيبة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يصل ركعتى الفجر، فليصلهما بعد ما تطلع الشمس» «1» رواه الترمذى من رواية أبى هريرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (423) فى الصلاة، باب: ما جاء فى إعادتها بعد طلوع الشمس، وعند ابن ماجه (1155) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر، ولفظه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نام عن ركعتى الفجر فقضاهما بعد ما طلعت الشمس وكلاهما من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث لا نعرفه، قال الألبانى: فى «صحيح سنن الترمذى» : صحيح.
,
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا انتهى من ذكر قيامه عن الركوع يكبر، ويخرّ ساجدا، ولا يرفع يديه. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه أيضا، وصححه بعض الحفاظ كابن حزم، والذى غره أن الراوى غلط من قوله: «كان يكبر فى كل خفض ورفع» إلى قوله: «كان يرفع يديه فى كل خفض ورفع» وهو ثقة، ولم يفطن لسبب غلطه، ووهم فصححه. نبه عليه فى زاد المعاد.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يضع يديه قبل ركبتيه «3» . رواه أبو داود، ثم جبهته
__________
(1) سورة آل عمران: 36.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (476) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (840) فى الصلاة، باب: كيف يضع ركبتيه قبل يديه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (2/ 78) .
وأنفه. وقال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين» «1» . رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس.
قال النووى: فينبغى للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفى بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعى ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما فى حكم عضو واحد، لأنه قال فيه «سبعة» فلو جعلا عضوين لصارت ثمانية.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا سجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه «2» . رواه الشيخان. وقالت ميمونة: جافى بين يديه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت «3» . رواه مسلم. ولم يذكر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه سجد على كور عمامته، ولم يثبت عنه ذلك فى حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق فى المصنف عن أبى هريرة: كان- صلى الله عليه وسلم- يسجد على كور عمامته «4» ، وهو من رواية عبد الله بن محرز، وهو متروك. وذكر أبو داود فى المراسيل أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يصلى فسجد بجبينه وقد اعتم فحسر- صلى الله عليه وسلم- عن جبهته «5» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى سجوده: «اللهم اغفر لى ذنبى كله، دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره» «6» رواه مسلم من حديث أبى هريرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (809 و 810) فى الأذان، باب: السجود على سبعة أعظم، ومسلم (490) فى الصلاة، باب: أعضاء السجود، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (390) فى الصلاة، باب: يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود، ومسلم (495) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (496) في الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة.
(4) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (1564) بسند فيه متروك كما قال المصنف.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (83) عن صالح بن حيوان السبانى مرسلا.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (483) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
وقوله: «دقه وجله» بكسر أولهما، أى قليله وكثيره.
وعن عائشة قالت: فقدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدى على بطن قدميه وهو فى السجود، وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «1» رواه مسلم.
قال الخطابى: فى هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى استعاذ به منه، ومعناه: الاستغفار من التقصير فى بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه.
وقوله: «لا أحصى ثناء عليك» أى لا أطيقه ولا آتى عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: لا أحصى نعمتك وإحساناتك والثناء بهما عليك وإن اجتهدت فى الثناء عليك.
وقوله: «أنت كما أثنيت على نفسك» اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك كله لله تعالى المحيط بكل شئ جملة وتفصيلا، وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل شئ أثنى به عليه- وإن كثر وطال وبولغ فيه- فقدر الله أعظم وسلطانه أعز، وصفاته أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ.
انتهى.
وهاهنا فائدة لطيفة ذكرها بعض المحققين، فى نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود «2» ، وهى أن القرآن أشرف الكلام، وحالتا الركوع
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (486) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (479) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ فى هاتين الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به والله أعلم.
وروى أبو داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- سجد على الماء والطين «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه، ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما فى صحيح البخارى «2» وغيره. قال النووى: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية من كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحب فى سجود التلاوة فى الصلاة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لى وارحمنى واهدنى وعافنى وارزقنى» «3» . رواه أبو داود والدارمى من حديث ابن عباس.
,
ليعلم أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء والتسبيح، والخضوع. كما قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ «2» وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «3» الآية.
وقال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ «4» . والمراد به هنا: الدعاء فى محل مخصوص من القيام.
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (4399) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يسب أحدا من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) سورة الروم: 26.
(3) سورة الزمر: 9.
(4) سورة التحريم: 12.
وعن أنس قال: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم، رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة فقتلوهم، فدعا عليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- شهرا فى صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت، قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسا عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال: بل عند فراغ القراءة «1» .
وفى أخرى: قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب «2» وفيأخرى قنت شهرا بعد الركوع في الصلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان، ويقول: «عصية عصت الله ورسوله» «3» .
وفى أخرى: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سرية يقال لهم: «القراء» فأصيبوا، فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد على شئ ما وجد عليهم.
فقنت شهرا فى صلاة الفجر «4» . هذه روايات البخارى ومسلم.
وللبخارى: كان القنوت فى المغرب والفجر «5» . وفى رواية أبى داود والنسائى: قنت فى صلاة الصبح بعد الركوع «6» ، وفى أخرى: قنت شهرا ثم تركه «7» . وفى أخرى للنسائى: قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان «8» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4088) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 184) والنسائى (2/ 203) فى التطبيق باب: اللعن فى القنوت من حديث أنس- رضى الله عنه- والحديث صححه الألبانى فى «صحيح النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (677) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، والنسائى (2/ 200) فى التطبيق، باب: القنوت بعد الركوع.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6394) فى الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، وانظر ما قبله.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (798) فى الأذان، باب: فضل اللهم ربنا لك الحمد، وانظر ما قبله.
(6) تقدم.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (1445) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلاة من حديث أنس وقد تقدم. والحديث صححه الألبانى فى «صحيح: سنن أبى داود» .
(8) تقدم.
وعن ابن عباس: قنت- صلى الله عليه وسلم- شهرا متتابعا، فى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، فى دبر كل صلاة، إذا قال «سمع الله لمن حمده» من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه «1» . رواه أبو داود.
وعن ابن عمر: أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا» ، بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» فأنزل الله عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إلى قوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» «3» رواه البخارى.
وعن أبى هريرة: لما رفع- صلى الله عليه وسلم- رأسه من الركعة الثانية، قال: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» «4» . وفى رواية: فى صلاة الفجر «5» . وفى رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «6» «7» رواه البخارى ومسلم.
وعن البراء: كان- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى الصبح والمغرب «8» . رواه مسلم
__________
(1) ضعيف منكر: أخرجه أبو داود (1231) فى الصلاة، باب القنوت فى الصلوات، وقال الألبانى: ضعيف منكر.
(2) سورة آل عمران: 128.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3762) فى المغازى، باب: ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4194) فى التفسير، باب: ليس لك من الأمر شئ من حديث أبى هريرة.
(5) تقدم قبله.
(6) سورة آل عمران: 128.
(7) تقدم.
(8) تقدم فى الذى قبله.
والترمذى. ولأبى داود: فى صلاة الصبح ولم يذكر المغرب «1» . وعن أبى مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: يا أبت، قد صليت خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى بن أبى طالب- هاهنا بالكوفة خمس سنين- أكانوا يقنتون؟ قال: أى بنى، محدث «2» . رواه الترمذى. وعن سعيد ابن جبير قال: أشهد أنى سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت فى صلاة الفجر بدعة. رواه الدار قطنى «3» .
قال بعض العلماء «4» : والصواب أنه- صلى الله عليه وسلم- قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم فجاؤا تائبين، وكان قنوته لعارض. فلما زال العارض ترك القنوت.
ولم يكن مختصّا بالفجر، بل كان يقنت فى صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخارى فى صحيحه عن أنس، وذكره مسلم عن البراء، وصح عن أبى هريرة أنه قال: والله لأنا أقربكم صلاة من صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه كان يقنت فى الركعة الأخيرة من الصبح بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده» «5» ،
__________
(1) ضعيف: قال أبو داود (1229) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلوات، حدثنا أبو الوليد ومسلم بن إبراهيم وحفص بن عمر، وحدثنا ابن معاذ حدثنى أبى قالوا كلهم حدثنا شعبة عن عمرو بن مرّة عن ابن أبى ليلى عن البراء أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقنت فى صلاة الصبح زاد ابن معاذ وصلاة المغرب. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (244) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) ضعيف أخرجه الترمذى (244) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 213) وقال: إنه لا يصح وأبو ليلى الكوفى متروك وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت فى صلاة الصبح.
(4) هو ابن القيم- رحمه الله تعالى- ذكر ذلك فى «زاد المعاد» (1/ 272) تحت فصل ذكر فيه هديه- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (689) فى الأذان، باب: اللهم ربنا لك الحمد، ومسلم (392) فى الصلاة، باب: إتيان التكبير فى كل خفض ورفع فى الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول سمع الله لمن حمده.
وقال ابن أبى فديك: ولا ريب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ثم تركه.
فهذا رد على القائل بكراهة القنوت فى الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة.
وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه، ويقولون فعله سنة، وتركه سنة، ولا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفا للسنة، من قنت فقد أحسن ومن ترك فقد أحسن. انتهى. ومذهب الشافعى- رحمه الله تعالى- أن القنوت مشروع فى صلاة الصبح دائما، فى الاعتدال من ثانية صلاة الصبح، لما رواه أنس: ما زال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى الفجر حتى فارق الدنيا «1» . رواه أحمد وغيره.
قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقى وأبو عبد الله محمد بن على البلخى، وفى البيهقى العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة.
وقال بعضهم: أجمعوا على أنه- صلى الله عليه وسلم- قنت فى الصبح، ثم اختلفوا:
هل تركه؟ فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى.
وأما حديث ابن أبى فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبيه عن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم اهدنى فيمن هديت» إلخ ... فقال ابن القيم- فى زاد المعاد- ما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا، وإن كان الحاكم صحح حديثه فى القنوت، انتهى. وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه، وردّ عليه، كما قاله ابن القيم، وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 162) ، والدار قطنى (1/ 171) من حديث أنس- رضى الله عنه-.
وعن ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى صلاة الصبح وفى وتر الليل بهؤلاء الكلمات: «اللهم اهدنى فيمن هديت» ، أخرجه محمد بن نصر فى كتاب قيام الليل. والصحيح: أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء.
وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور وهو: «اللهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فإنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت» رواه أبو داود والترمذى والنسائى من حديث الحسن بن على قال: علمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن فى الوتر فذكره «1» . وإسنادهم صحيح، قال البيهقى: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح وقنوت الوتر، انتهى.
وقوله: «فإنك تقضى» بالفاء. وبالواو فى قوله: «وإنه لا يذل» «وربنا» قبل و «تعاليت» إلا أن الفاء لم تقع فى رواية أبى داود. وزاد البيهقى بعد قوله: «إنه لا يذل من واليت» : ولا يعز من عاديت. وزاد ابن أبى عاصم فى كتاب التوبة: نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
وتسن الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى آخره، لأن النسائى قد رواه من حديث الحسن بسند صحيح أو حسن، كما قاله فى شرح «المهذب» ولفظه- أى النسائى- وصلى الله على النبى.
وجزم فى «الأذكار» باستحباب الصلاة على الآل والسلام. وخالفه صاحب «الإقليد» فقال: أما ما وقع فى كتب أصحابنا من زيادة «وسلم» وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب فكل ذلك لا أصل له.
قلت: وعبارة النووى فى «الأذكار» : يستحب أن يقول عقب هذا
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. فقد جاء فى حديث النسائى بإسناد حسن، وصلى الله على النبى. انتهى.
وتعقب: بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل، ويزيد عليه ذكر الآل والتسليم. نعم وقعت الزيادة عند «الرافعى» و «الرويانى» معزوة لحديث الحسن ابن على، عند النسائى لكنها ليست عنده فى رواية أحد من الرواة عنه، على أن لفظ «وصلى الله على النبى» زائد على رواية الترمذى، وهى زيادة غريبة غير ثابتة لأجل عبد الله بن على، أحد رواته، لأنه غير معروف، وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن على بن الحسن بن على، فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن على، فقد تبين أنه ليس من شرط «الحسن» لانقطاعه أو لجهالة راويه، ولم تجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى. نعم: أصل الحديث إلى آخر «وتعاليت» حسن لاعتضاده برواية الترمذى وغيره، بخلاف الزيادة، إذ لم تجئ فى غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووى فينبغى عدها فى القنوت بعضا.
قال فى «المجموع» عن البغوى: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه، وفى تحقيقه فى باب «سجود السهو» من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهما فى «صلاة الجماعة» من أنه قصير، وهو ما فى «المنهاج» و «الروضة» فقد يقال القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل.
ويجاب: يحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوى نفسه القائل بكراهة الإطالة قائل بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده.
ويسن للمنفرد والإمام برضى المحصورين، الجمع فى قنوت الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: «اللهم إنا نستعينك» «1» إلخ، والأولى تأخيره عن القنوت السابق. ويسن رفع يديه، رواه البيهقى بإسناد جيد.
__________
(1) أخرجه اليبهقى (2/ 210) فى الكبرى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
قال فى «المجموع» : وفى سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما:
نعم، وأصحهما، لا، قال البيهقى: ولا أحفظ فى مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة. ومسح غير الوجه كالصدر مكروه.
وقال النووى فى «الأذكار» : اختلف أصحابنا فى رفع اليدين فى القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثانى: يرفع ويمسح، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه.
انتهى.
ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخارى. قال الماوردى: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك.
رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه فى الثناء سرّا أو يسكت، لأنه ثناء أو ذكر لا يليق به التأمين، والدعاء يشمل الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فيؤمن فيها:
صرح به الطبرى.
وإن لم يسمع المأموم قنوت الإمام قنت معه سرّا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت فى مكتوبة غير الصبح. لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم-. جهر بالقنوت فى النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى، مع زيادة من غيره، والله أعلم.
,
عن ابن مسعود قال: ما أحصى ما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 281) فى المواقيت، باب: الرخصة فى الصلاة بعد العصر، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (590) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
الركعتين بعد المغرب، وفى الركعتين قبل صلاة الفجر ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» «3» رواه الترمذى. وعن ابن عباس:
كان- صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة فى الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد «4» ، رواه أبو داود.
وكان أصحابه- عليه السّلام- يصلون ركعتين قبل المغرب قبل أن يخرج إليهم- صلى الله عليه وسلم- «5» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود من حديث أنس. وفى رواية أبى داود، قال أنس: رآنا- صلى الله عليه وسلم- فلم يأمرنا ولم ينهنا «6» . وقال عقبة: كنا نفعله على عهده، - صلى الله عليه وسلم-. رواه البخارى ومسلم.
وظاهره: أن الركعتين بعد الغروب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر أصحابه عليه، وعملوا به، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه- صلى الله عليه وسلم- لم يصلهما فلا ينفى الاستحباب، بل يدل على أنهما ليسا من الرواتب، وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده- صلى الله عليه وسلم-. وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما. فادعى بعض المالكية نسخهما، وتعقب:
__________
(1) سورة الكافرون: 1.
(2) سورة الإخلاص: 1.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (431) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. قال الترمذى: حديث غريب، وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : حسن صحيح.
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1301) فى الصلاة، باب: ركعتى المغرب أين تصليان. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (625) فى الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، ولفظه: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السوارى حتى يخرج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شئ.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (836) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، وأبو داود (1282) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت- وهو أنس- تقدم على رواية النافى- وهو ابن عمر.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين. وعن مالك قول آخر باستحبابها، وهو عند الشافعية وجه رجحه النووى ومن تبعه، وقال فى شرح مسلم: قول من قال: «إن فعلهما يؤدى إلى تأخير المغرب عن أول وقتها» خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء» «1» . خشية أن يتخذها الناس سنة. رواه أبو داود. قال المحب الطبرى: لم يرد نفى استحبابهما، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابهما. ومعنى قوله: «سنة» أى شريعة وطريقة لازمة. وكأن المراد انحطاط مرتبتهما عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية فى الرواتب، واستدركهما بعضهم. وتعقب: بأنه لم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- واظب عليهما.
وقال- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة بعد المغرب: «هذه صلاة البيوت» «2» ، رواه أبو داود والنسائى من حديث كعب بن عجرة. وعنه- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم رفعت صلاته فى عليين» . رواه رزين.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1183) فى الجمعة، باب: الصلاة قبل المغرب، وأبو داود (1281) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب. من حديث عبد الله المزنى- رضى الله عنه-.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (1300) فى الصلاة، باب: ركعتى المغرب أين تصليان، والترمذى (604) فى الجمعة، باب: ما ذكر بعد صلاة المغرب أنه فى البيت أفضل، والنسائى (1600) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الحث على الصلاة فى البيوت والفضل فى ذلك. من حديث كعب بن عجرة- رضى الله عنه- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح أبى داود» .
,
كان- صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده «5» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (794) فى الأذان، باب: الدعاء فى الركوع، ومسلم (484) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (476) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (874) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، وقد تقدم فى الصلاة.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (582) فى المساجد، باب: السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها، والنسائى (3/ 61) فى السهو، باب: السلام، من حديث عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-، وليس عبد الله بن عامر بن ربيعة كما ذكر المصنف، ولعله تصحيف.
مسلم والنسائى من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه. وفى حديث ابن مسعود: كان- صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن يساره، السلام عليكم ورحمة الله «1» . رواه الترمذى، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده، وفى رواية النسائى: حتى يرى بياض خده من هاهنا، وبياض خده من هاهنا.
الحديث.
وهذا كان فعله الراتب. رواه عنه خمسة عشر صحابيّا، وهم: عبد الله ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وسهل بن سعد، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعرى، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعرى، وطلق بن على، وأوس بن أوس، وأبو ثور، وعدى بن عمرو. هذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأحمد والجمهور.
ومذهب مالك فى طائفة: المشروع تسليمه. ودليل مذهبنا ما تقدم.
وأما ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه «2» ، فلم يثبت من وجه صحيح، وأجود ما فى ذلك حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا «3» ، وهو حديث معلول، وهو فى السنن، لكنه فى قيام الليل، والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوا فى الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس هو صريحا فى الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف الآخرى بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدما
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (996) فى الصلاة، باب: فى السلام، والترمذى (295) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسليم فى الصلاة، والنسائى (3/ 63) فى السهو، باب: كيف السلام على الشمال، وقال الترمذى: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(2) أخرجه الترمذى (296) فى الصلاة، باب: منه أيضا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأشار إلى تضعيفه.
(3) أخرجه أبو داود (1346 و 1347) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، بسند فى رجاله كلام.
على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح، والله أعلم.
واختلف فى التسليم: فقال مالك والشافعى وأحمد، وجمهور العلماء:
إنه فرض لا تصح الصلاة إلا به.
وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: سنة، لو ترك صحت صلاته، وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيا للصلاة من حدث أو غيره فى آخرها صحت صلاته، واحتج بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يعلمه الأعرابى حين علمه واجبات الصلاة.
واحتج الجمهور بحديث أبى داود (مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم) «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام فى الصلاة طأطأ رأسه. رواه أحمد. وكان لا يجاوز بصره إشارته «2» . وكان قد جعل الله قرة عينه فى الصلاة كما قال:
«وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «3» رواه النسائى. ولم يكن يشغله- صلى الله عليه وسلم- ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين، مع كمال إقباله وقربه من ربه وحضور قلبه بين يديه. وكان يدخل فى الصلاة فيريد إطالتها فيسمع بكاء الصبى فيتجوز فى صلاته مخافة أن يشق على أمه «4» . رواه البخارى وأبو داود والنسائى.
وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة بنت أبى العاص بن الربيع على
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (61) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (3) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (301) .
(2) أى: أصبع السبابة الذى يشير به.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء، من حديث أنس- رضى الله عنه-، بسند صحيح.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (707) فى الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبى، وأبو داود (789) فى الصلاة، باب: تخفيف الصلاة للأمر يحدث، والنسائى (2/ 95) فى الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين من حديث أنس- رضى الله عنه-.
عاتقه «1» . رواه مسلم وغيره. قال النووى: وهذا يدل لمذهب الشافعى- رحمه الله- ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبى والصبية وغيرهما من الحيوان فى صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمنفرد. وحمله أصحاب مالك- رحمه الله- على النافلة، ومنعوا جواز ذلك فى الفريضة.
وهذا التأويل فاسد، لأن قوله: «يؤم الناس» صريح أو كالصريح فى أنه كان فى الفرض. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص به- صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح فى جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمى طاهر، وما فى جوفه من النجاسة معفو عنها لكونه فى معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال فى الصلاة لا تبطلها إذا قلّت أو تفرقت، وفعله- صلى الله عليه وسلم- للجواز، وتنبيها على هذه القواعد التى ذكرتها.
وهذا يرد ما ادعاه أبو سليمان الخطابى: أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها فى الصلاة، لكنها كانت تتعلق به- صلى الله عليه وسلم- فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير، ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله «2» فكيف لا يشغله هذا؟
هذا كلام الخطابى، وهو باطل، ودعوى مجردة، ومما يرده قوله فى صحيح مسلم: «فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها» وقوله فى رواية غير مسلم: «خرج حاملا أمامة وصلى» وذكر الحديث. وأما قصة
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (543) فى المساجد، باب: جواز حمل الصبيان فى الصلاة، وهو فى الصحيحين أيضا بلفظ: كان يصلى وهو حامل أمامة، ورواية «يؤم» عند مسلم كما ذكرنا.
(2) صحيح: وحديث الخميصة أخرجه البخارى (373) فى الصلاة، باب: إذا صلى فى ثوب له أعلام، ومسلم (556) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة فى ثوب له أعلام، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة.
والصواب الذى لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم القيامة، والله أعلم انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فيجئ الحسن أو الحسين فيركب على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره. وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو فى الصلاة. قال جابر: بعثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجة، فأدركته وهو يصلى فسلمت عليه، فأشار إلى «1» ، رواه مسلم. وقال عبد الله ابن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى، فسلمت عليه، فأومأ برأسه «2» ، رواه البيهقى. وكان يصلى وعائشة معترض بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما «3» . رواه البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يلتفت فى صلاته. وفى البخارى عن عائشة قالت:
سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات فى الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» «4» .
وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «من يحرسنا الليلة» ؟ قال أنس بن أبى مرثد الغنوى: أنا يا رسول الله، قال: «اركب» ، فركب فرسا له، فقال: «استقبل هذا الشعب حتى تكون فى أعلاه» ، فلما أصبحنا توّب «5» بالصلاة، فجعل- صلى الله عليه وسلم- يصلى وهو
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (540) فى المساجد، باب: تحريم الكلام فى الصلاة.
(2) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 260) مرسلا ومسندا، وقال عن المرسل: هو المحفوظ.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (382: 384) فى الصلاة، باب: الصلاة على الفراش، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (751) فى الأذان، باب: الالتفات فى الصلاة.
(5) أى: نودى.
يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: «أبشروا قد جاء فارسكم» «1» .
فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد فى الصلاة، وهو يدخل فى مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريب منه قول عمر- رضى الله عنه- إنى لأجهز الجيش وأنا فى الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد، ونظيره التفكير فى معانى القرآن واستخراج كنوز العلم منه.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فعرض له الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه وخنقه حتى سال لعابه على يديه «2» . وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل «3» ، يعنى يبكى، وفى رواية: ولصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أحمد.
ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يغمض عينيه فى صلاته.
وعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها. فقال- صلى الله عليه وسلم-:
«أميطى عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى» «4» . رواه البخارى.
ولو كان يغمض عينيه لما عرضت له فى صلاته، وقد اختلف الفقهاء فى كراهيته، والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع كأن يكون فى قبلته زخرفة أو غيرها
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501) فى الجهاد، باب: فضل الحرس فى سبيل الله تعالى، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 93) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو كما قال.
(2) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 82) ، من حديث أبى سعيد الخدرى بسند رجاله ثقات، وهو فى الصحيحين بنحوه.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (904) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (3/ 13) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 25) بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (374) فى الصلاة، باب: إن صلى فى ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
مما يشغل قلبه فلا يكره التغميض قطعا بل ينبغى أن يكون مستحبّا فى هذه الحالة.
وقد كانت صلاته- صلى الله عليه وسلم- متوسطة، عارية عن الغلو كالوسوسة فى عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التى شرعت سرّا، وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول، إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلى بداء الوسوسة، عافانا الله منها.
وهى نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب مبتدع مستنبط فى أفعاله وأقواله شيئا لم يفعله النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من أصحابه. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن خير الهدى هدى محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها» «1» وعنه: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار» «2» . ومما نسب لإمام الحرمين: الوسوسة نقص فى العقل، أو جهل بأحكام الشرع. ومن غرائب ما يقع لهؤلاء الموسوسين، أن بعضهم يشتغل بتكرير الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ومنهم من يشتغل بالنية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما تفوته ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أن لا يزيد على هذه التكبيرة ثم يكذب.
ثم من العجب أن بعضهم يتوسوس فى حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم يحصل له النية فى القيام الطويل حال فراغ باله، فكيف حصلت له فى الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة.
ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير، حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه، ومنهم من يزعج أعضاءه، ويحنى جبهته، ويقيم
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (46) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، وللحديث شواهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أصحاب السنن.
عروق عينيه، ويصرح بالتكبير كأنه يكبر على العدو ومنهم من يغسل عضوه غسلا يشاهده ويبصره، ويكبر ويقرأ بلسانه، ويسمع بأذنه، ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان فى إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره، وسمعه بأذنه.
وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل فقال: إنى أكبر وأقول ما كبرت، وأغسل العضو فى الوضوء وأقول ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة فإنها لا تجب عليك، فقال له: كيف ذلك؟ فقال لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال:
«رفع القلم عن المجنون حتى يفيق» «1» ، ومن يكبر ثم يقول ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة.
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- السنية، ويقتدى بملته الحنيفية، فإن غلبه الأمر وضاقت عليه المسالك فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه فى كشف ذلك.
,
عن على: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى قبل العصر ركعتين «3» . رواه أبو داود.
وعن على أيضا: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين «4» . رواه الترمذى. وروى مرفوعا أيضا حديث «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا» «5» .
__________
(1) سورة النحل: 48.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3128) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة النحل. من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث غريب، قال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف.
(3) أخرجه أبو داود (1272) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، قال الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» : حسن لكن بلفظ أربع ركعات.
(4) حسن: أخرجه الترمذى (429) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الأربع قبل العصر، والنسائى (874) فى الإمامة، باب: الصلاة قبل العصر. من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال الترمذى: حديث حسن. وقال الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : حسن.
(5) أخرجه أبو داود (1371) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، والترمذى (430) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الأربع قبل العصر، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. قال الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» : صحيح لكن البخارى جعل قوله: فتوفى رسول الله.. من كلام الزهرى.
وقالت عائشة: ما كان- صلى الله عليه وسلم- يأتينى فى يومى بعد العصر إلا صلى ركعتين «1» ، وفى رواية: ما ترك ركعتين بعد العصر عندى قط «2» . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم: أن أبا سلمة سألها عن السجدتين اللتين كان يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما ونسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعنى داوم عليها «3» . ولأبى داود، قالت: كان يصلى بعد العصر ركعتين وينهى عنهما، ويواصل وينهى عن الوصال «4» .
وقال ابن عباس: إنما صلى- صلى الله عليه وسلم- ركعتين بعد العصر، لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين اللتين بعد الظهر فقضاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما «5» . رواه الترمذى.
وقالت أم سلمة: سمعته- صلى الله عليه وسلم- ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم سألته عنهما فقال: «إنه أتانى من عبد القيس بالإسلام فشغلونى عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان» ، الحديث. وفيه: أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (593) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت، من حديث عائشة وتقدم أكثر من مرة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (835) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبى بعد العصر. من حديث عائشة وقد تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1380) فى الصلاة، باب: من رخص فيها إذا كانت الشمس مرتفعة، من حديث عائشة وقد تقدم فى الذى قبله. قال الألبانى فى «صحيح أبى داود» : حسن صحيح.
(5) أخرجه الترمذى (184) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة بعد العصر، من حديث ابن عباس. قال الترمذى: حديث حسن، قال الألبانى فى ضعيف الترمذى ضعيف الإسناد وقوله: ثم لم يعد لهما منكر.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (1233) فى الجمعة، باب: إذا كلم وهو يصلى فأشار بيده واستمع، ومسلم (834) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبى بعد العصر. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.
قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب فى اوقات النهى عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين فى وقت النهى فخاص به، قال: وقد عد هذا من خصائصه. انتهى. والدليل عليه رواية عائشة: كان يصلى ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال. لكن قال البيهقى: الذى اختص به- صلى الله عليه وسلم- المداومة على ذلك، لا أصل القضاء.
وأما رواية ابن عباس عند الترمذى: أنه إنما صلاهما بعد العصر لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه. فهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سمع منه بعد اختلاطه، وإن صح فهو شاهد لحديث أم سلمة، لكن ظاهر قوله: «ثم لم يعد» معارض لحديث عائشة المذكور فى الباب، فيحمل النفى على نفى علم الراوى، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافى.
وكذا ما رواه النسائى من طريق أبى سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة «1» ، الحديث، وفى رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد. فيجمع بين الحديثين بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصليهما إلا فى بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة فى رواية: «وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته» «2» .
ومراد عائشة بقولها: «ما كان فى يومى بعد العصر إلا صلى ركعتين» من الوقت الذى شغل عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما. ولم ترد أنه كان يصلى بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم.
,
عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «قد توفى اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه» ، قال: فصففنا فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه «1» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1320) فى الجنائز، باب: الصفوف على الجنائز، من حديث جابر بن عبد الله.
البخارى ومسلم. وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات «1» . رواه الشيخان أيضا. وعند البخارى من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: «فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» «2» .
وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت فى المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن فى الصلاة فيه عليهم بأس.
قال النووى: ولا حجة فيه، لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله.
وقال ابن بزبزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل، لأنه ليس فيه صيغة نهى، ولا احتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى على سهيل بن بيضاء فى المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد روى ابن أبى حاتم فى التفسير، والدار قطنى فى الأفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشى قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «3» ، الآية، وله شاهد من حديث أبى سعيد عند الطبرانى فى معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذى طعن بذلك كان منافقا.
وقد قال البخارى: «باب الصلاة على الجنازة بالمصلى والمسجد» وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- برجل منهم وامرأة زنيا
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) سورة آل عمران: 199.
فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد «1» . وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوى من ناحية المشرق، انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، لأنه لم يكن عند المسجد النبوى مكان مهيأ للرجم.
ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز فى المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز فى المسجد، ويقويه حديث عائشة «ما صلى- صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إلا فى المسجد» «2» أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور. وحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا.
وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلى عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فيدل على أنها حفظت ما نسوه.
وقد روى ابن أبى شيبة وغيره أن عمر صلى على أبى بكر فى المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر فى المسجد، زاد فى رواية: ووضعت الجنازة فى المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك. وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشى على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعى وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك. وعن بعض
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1329) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، ومسلم (1699) فى الحدود، باب: رجم اليهود وأهل الذمة فى الزنا. من حديث ابن عمر واللفظ للبخارى.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (973) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز فى المسجد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
أهل العلم: إنما يجوز ذلك فى اليوم الذى يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر.
وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن فى جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبرى: لم أر ذلك لغيره. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشى بأمور:
منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك؛ ومن ثم قال الخطابى: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلى عليه، واستحسنه الرويانى من الشافعية.
ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له- صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضى عياض فى «الشفاء» بقوله: ورفع له النجاشى حتى صلى عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف فى جوازها. قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال.
وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف فى مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدى فى أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبى- صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشى حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن الجنازة بين يديه.
ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشى، لأنه لم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثى. واستند من قال بتخصيص النجاشى بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا فى حياته.
قال النووى: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شئ مما ذكروه لتوفرت الدواعى على نقله. وقال ابن العربى: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد- صلى الله عليه وسلم-، قلنا: وما عمل به محمد- صلى الله عليه وسلم-
تعمل به أمته، يعنى لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف. وقال الكرمانى: قولهم «رفع الحجاب عنه» ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا مع النبى- صلى الله عليه وسلم-، انتهى ملخصا من فتح البارى.
,
عن أبى برزة: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة «5» . رواه النسائى. وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ
__________
(1) سورة الفاتحة: 7.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (932) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والترمذى (248) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التأمين، وأحمد فى «المسند» (4/ 316 و 317) ، من حديث وائل بن حجر، - رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سورة الفاتحة: 7.
(4) سورة الفاتحة: 7.
(5) قلت: بل هو عند البخارى (771) فى الأذان، باب: القراءة فى الفجر، ومسلم (461) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، و (647) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالصبح فى أول وقتها. وقوله (صلاة الغداة) : هى الفجر.
فى الفجر وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ «1» «2» رواه مسلم. وفى رواية النسائى: أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ فى الفجر إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «3» «4» وعن جابر بن سمرة كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «5» ونحوها، وكانت قراءته بعد تخفيفا «6» . رواه مسلم.
وعن عبد الله بن السائب قال: صلى- صلى الله عليه وسلم- الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى- شك الراوى، أو اختلف عليه- أخذت النبى- صلى الله عليه وسلم- سعلة فركع. الحديث «7» رواه مسلم. قال النووى: فيه جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة.
وكرهه مالك. انتهى.
وتعقب: بأن الذى كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر فى أنه كان للضرورة فلا يرد عليه. وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كلّا من الموضعين يقع فى وسط آية، نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل.
وأدلة الجواز كثيرة: وفى حديث زيد بن ثابت أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ الأعراف فى الركعتين «8» ، وأمّ أبو بكر بالصحابة فى صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها
__________
(1) سورة التكوير: 17.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (456) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(3) سورة التكوير: 1.
(4) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 257) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح ب إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، من حديث عمرو بن حريث- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(5) سورة ق: 1.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (458) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (455) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(8) صحيح: أخرجه البخارى (764) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، بلفظ: «كان يقرأ بطولى الطوليين» ، وقد حصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف.
فى الركعتين. وهذا إجماع منهم. وقرأ فى الصبح إِذا زُلْزِلَتِ «1» فى الركعتين كلتيهما، قال الراوى: فلا أدرى أنسى أم قرأ ذلك عمدا «2» . رواه أبو داود.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صبح الجمعة الم (1) تَنْزِيلُ «3» ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «4» «5» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث أبى هريرة. وإنما كان يقرؤهما كاملتين، وقراءة بعضهما خلاف السنة. وإنما كان يقرأ بهما لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك يقع يوم الجمعة. ذكره ابن دحية فى «العلم المشهور» وقرره تقريرا حسنا، كما أفاده ابن حجر.
قال: وقد ورد فى حديث ابن مسعود التصريح بمداومته- صلى الله عليه وسلم- على قراءتهما فى صبح الجمعة «6» . أخرجه الطبرانى، ولفظه «يديم ذلك» وأصله فى ابن ماجه لكن بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله.
__________
(1) سورة الزلزلة: 1.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (816) فى الصلاة، باب: الرجل يعيد سورة واحدة فى الركعتين، من حديث رجل من جهينة سمع النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا يضر جهالته لعدالة الصحابة، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سورة السجد: 1، 2.
(4) سورة الإنسان: 1.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (891) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الفجر يوم الجمعة، ومسلم (880) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والنسائى (2/ 159) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح يوم الجمعة، وابن ماجه (823) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وهو ليس عند أبى داود والترمذى كما ذكر المصنف، إلا أنه عندهما ولكن من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) صحيح: أخرجه ابن ماجه (824) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، بنحوه، بسند رجاله ثقات.
قال: وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال فى الكلام على حديث الباب: «ليس فى الحديث ما يقتضى فعل ذلك دائما اقتضاء قويّا» ، وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصّا فى المداومة، لكن الزيادة المذكورة نص فى ذلك، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس بلفظ:
«كل جمعة» أخرجه الطبرانى فى الكبير.
وأما تعيين السورة للركعة فورد من حديث على- عند الطبرانى- بلفظ:
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة الم (1) تَنْزِيلُ «1» ، وفى الركعة الثانية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ «2» .
وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السجدة فى الصلاة.
فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود فى الفرض. قال القرطبى:
وهو تعليل فاسد، بشهادة هذا الحديث.
وقيل لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط لكن صح من حديث ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة فيها سجدة فى صلاة الظهر فسجد بهم فيها «3» . رواه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة. ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهية مطلقا فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغى أن تترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك فى بعض الأوقات. انتهى.
وقال صاحب «المحيط» من الحنفية: يستحب قراءتها فى صبح يوم
__________
(1) سورة السجدة: 1، 2.
(2) سورة الإنسان: 1.
(3) لعله يشير إلى الحديث الذى أخرجه أبو داود (1411) في الصلاة، باب: فى الرجل يسمع السجدة وهو راكب وفى غير الصلاة، وابن خزيمة فى «صحيحه» (556) ، والحاكم فى «المستدرك» (798) إلا أنه فيه أن قرأ عام الفتح سجدة، ولم أقف على رواية صلاة الظهر هذه.
الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أر فى شئ من الطرق التصريح بأنه- صلى الله عليه وسلم- سجد لما قرأ سورة الم (1) تَنْزِيلُ «1» فى هذا المحل، إلا فى كتاب «الشريعة» لابن أبى داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فى صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد، الحديث، وفى إسناده من ينظر فى حاله. انتهى. وعن على عند الطبرانى فى الأوسط: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سجد فى الصبح يوم الجمعة فى الم (1) تَنْزِيلُ «2» ، وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد.
الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاتى الظهر والعصر
عن أبى قتادة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفى الركعتين الآخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول فى الركعة الأولى ما لا يطول فى الركعة الثانية، وهكذا فى العصر، وهكذا فى الصبح «3» . رواه البخارى ومسلم.
قال الشيخ تقى الدين السبكى: كأن السبب فى تطويله الأولى على الثانية أن النشاط فى الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف فى الثانية حذرا من الملل. انتهى. وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى فى آخر هذا الحديث:
فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وعن أبى سعيد الخدرى قال: كنا نحزر أى نقدر- قيام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الظهر والعصر، فحزرنا قيامه فى الركعتين الأوليين من الظهر قدر الم (1) تَنْزِيلُ «4» ، وفى
__________
(1) سورة السجدة: 1، 2.
(2) سورة السجدة: 1، 2.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (759) فى الأذان، باب: القراءة فى الظهر، ومسلم (451) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر.
(4) سورة السجدة: 1، 2.
رواية: فى كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه فى الآخريين قدر النصف من ذلك، وحزرناه فى الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه فى الآخريين من الظهر، وفى الآخريين من العصر على النصف من ذلك «1» .
رواه مسلم.
وعن جابر بن سمرة: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر بالليل إذا يغشى، وفى رواية ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «2» وفى العصر نحو ذلك «3» . الحديث رواه مسلم. وعنه: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق «4» ، رواه أبو داود والترمذى. وعن البراء: كنا نصلى خلفه- صلى الله عليه وسلم- الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من لقمان والذاريات «5» . رواه النسائى.
قال ابن دقيق العيد: فيه جواز الاكتفاء بظاهر الحال فى الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة فى السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان فى الجهرية. وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدّا.
انتهى.
وعن أنس: قرأ- صلى الله عليه وسلم- فى الظهر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «6»
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (452) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر.
(2) سورة الأعلى: 1.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (459) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (805) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى صلاة الظهر والعصر، والترمذى (307) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى الظهر والعصر، وقال الترمذى: حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(5) ضعيف: أخرجه النسائى (2/ 163) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(6) سورة الأعلى: 1.
وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» «2» رواه النسائى. وعن أبى سعيد: كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته، ثم يأتى أهله فيتوضأ ويدرك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الركعة الأولى «3» . رواه مسلم.
,
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين فى بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى ركعتين «3» . رواه البخارى ولم يذكر شيئا فى الصلاة قبل صلاة الجمعة.
قال ابن المنير- كما حكاه فى فتح البارى-: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر.
وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى سنة الجمعة فى بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها فى المسجد خشية أن يظن أنها التى حذفت. انتهى.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1303) فى الصلاة، باب: الصلاة بعد العشاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (730) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (937) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، ومسلم (729) فى صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
وعلى هذا فينبغى أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها فى المسجد لهذا المعنى. وقد روى أبو داود وابن حبان من طريق أيوب عن نافع قال:
كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلى بعدها ركعتين فى بيته، ويحدث أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك، وقد احتج به النووى فى «الخلاصة» على إثبات سنة الجمعة التى قبلها.
وتعقب: بأن قوله: «كان يفعل ذلك» عائد على قوله: «ويصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته» ، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين فى بيته ثم قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. رواه مسلم.
وأما قوله: «كان يطيل الصلاة قبل الجمعة» فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التى قبلها، بل هو تنفل مطلق.
وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا فى الإنكار منهم:
الإمام شهاب الدين أبو شامة، لأنه لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه- صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة. قال ابن العراقى: ولم أر فى كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة التى قبلها. انتهى. وقد ورد فى سنة الجمعة التى قبلها أحاديث أخرى ضعيفة، منها عن أبى هريرة، رواه البزار، ولفظه:
كان يصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا.
وأقوى ما يتمسك به فى مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: «ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان» «1» . قاله فى فتح البارى.
__________
(1) ذكره ابن حجر فى «الفتح» (2/ 427) وعزاه لابن حبان فى صحيحه من حديث عبد الله ابن الزبير- رضى الله عنهما-.
وعن عطاء قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلى أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فيصلى ركعتين ولم يصل فى المسجد، فقيل له: فقال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعله «1» . رواه أبو داود.
وفى رواية الترمذى: قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين ثم صلى بعد ذلك أربعا «2» . وعن ابن عمر أيضا قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بعد الجمعة ركعتين «3» . رواه النسائى، وفى رواية أنه كان يصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته «4» . وفى أخرى: أن ابن عمر كان يصلى بعد الجمعة ركعتين يطيل فيهما ويقول: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعله «5» .
وتقدم حديث دخول سليك الغطفانى يوم الجمعة، وهو- صلى الله عليه وسلم- يخطب، وقوله- صلى الله عليه وسلم- له: «صليت؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» . مع ما فيه من المباحث فى صلاة الجمعة.
,
عن البراء: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «1» فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى الله عليه وسلم- «2» . رواه البخارى ومسلم.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتى على آية عذاب وقف وتعوذ «3» ، رواه الترمذى من حديث حذيفة.
وكان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» قال: سبحان ربى الأعلى «5» ، رواه أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «6» فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ
__________
(1) سورة التين: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (767) فى الأذان، باب: الجهر فى العشاء، ومسلم (464) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، وأبو داود (871) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، والترمذى (262) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسبيح فى الركوع والسجود.
(4) سورة الأعلى: 1.
(5) أخرجه أبو داود (883) فى الصلاة، باب: الدعاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (1/ 232) ، وأعله أبو داود بالوقف عن ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) سورة التين: 1- 8.
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «1» فليقل: بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «2» فليقل: آمنا بالله» «3» رواه أبو داود، والترمذى إلى قوله «وأنا على ذلك من الشاهدين» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة وعنها سأله أبو هريرة «4» ، ويسكت بعد الفاتحة، ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهى سكتة لطيفة جدّا حتى يترادّ إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع. وأما السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة، فينبغى تطويلها بقدرها. ذكره فى زاد المعاد.
وعن سمرة بن جندب: سكتتان حفظتهما من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إذا دخل فى صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ وَلَا الضَّالِّينَ «5» قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادّ إليه نفسه «6» . رواه الترمذى.
,
قالت عائشة: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتى إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات «1» . رواه أبو داود. وفى مسلم قالت عائشة: ثم يصلى بالناس العشاء فيدخل بيتى فيصلى ركعتين «2» . وكذا فى حديث ابن عمر عند الشيخين. وتقدما أول هذا القسم، والله أعلم.
,
عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالمرسلات عرفا «4» رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى وصرح عقيل فى روايته عن ابن شهاب: أنها آخر صلاته- صلى الله عليه وسلم- ولفظه: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله تعالى. أورده البخارى فى باب الوفاة.
وعنده فى باب «إنما جعل الإمام ليؤتم به» من حديث عائشة: أن الصلاة التى صلاها النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فى مرض موته كانت الظهر.
وجمع بينهما: بأن الصلاة التى حكتها عائشة كانت فى المسجد، والتى حكتها أم الفضل كانت فى بيته، كما رواه النسائى. لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب فى هذا الحديث بلفظ: خرج إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عاصب رأسه فى مرضه فصلى المغرب. الحديث رواه الترمذى. ويمكن حمل قوله: «خرج إلينا» أى من مكانه الذى هو راقد فيه إلى من فى البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات.
__________
(1) سورة الغاشية: 1.
(2) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (2/ 163) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (454) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر.
(4) صحيح: أخرجه مالك (1/ 78) فى الصلاة، باب: القراءة فى المغرب والعشاء، والبخارى (763) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، ومسلم (462) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، وأبو داود (810) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى المغرب، والترمذى (308) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى المغرب، والنسائى (2/ 168) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب بالمرسلات.
وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالطور «1» . رواه البخارى ومسلم. زاد مسلم فى «الجهاد» : وكان جبير بن مطعم جاء فى أسارى بدر. وزاد الإسماعيلى: وهو يومئذ مشرك. وللبخارى فى «المغازى» : وذلك أول ما وقر الإيمان فى قلبى. وللطبرانى: وأخذنى من قراءته الكرب، ولسعيد بن منصور: فكأنما صدع قلبى. وفى قوله: «سمعته- صلى الله عليه وسلم-» دليل على الجهر بها، والله أعلم. وعن مروان بن الحكم قال: قال لى زيد بن ثابت: ما لك تقرأ فى المغرب بقصار المفصل؟ وقد سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بطولى الطوليين «2» . رواه البخارى. زاد أبو داود: قلت وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف. وفى رواية النسائى من حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها فى ركعتين «3» . وعن عبد الله بن عتبة: قرأ- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة المغرب ب «حم» الدخان «4» . رواه النسائى.
وهذه الأحاديث فى القراءة مختلفة المقادير، لأن «الأعراف» من السبع الطوال، و «الطور» من طوال المفصل، و «المرسلات» من أوساطه قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشئ من قصار المفصل، إلا حديثا فى ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص «5» . ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدار قطنى: أخطأ بعض رواته فيه،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (765) فى الأذان، باب: الجهر فى المغرب، وأطرافه (3050 و 4023 و 4854) ، ومسلم (463) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 170) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب- «المص» . والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) ضعيف: أخرجه النسائى (2/ 169) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب ب «حم الدخان» ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(5) شاذ: أخرجه ابن ماجه (833) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة المغرب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» : شاذ والمحفوظ أنه كان يقرأ بهما فى سنة المغرب.
وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعد بن السماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما فى الركعتين بعد المغرب.
واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبى هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من فلان، قال سليمان:
فكان يقرأ فى الصبح بطوال المفصل، وفى المغرب بقصار المفصل «1» . رواه النسائى، وصححه ابن خزيمة وغيره.
وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن فى الاستدلال به نظر، نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتضلون «2» بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان أحيانا يطيل القراءة فى المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس فى حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه- فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وفى حديث أم الفضل إشعاره بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فى الصحة بأطول من المرسلات، لكونه كان فى حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف. وهو يرد على أبى داود ادعاء نسخ التطويل فى المغرب، لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ فى المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة. وكيف تصح دعوى النسخ وأم
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 167) فى الافتتاح، باب: تخفيف القيام والقراءة، باب: القراءة فى المغرب بقصار المفصل، وأحمد فى «المسند» (2/ 532) ، وابن حبان (1837) ، وابن خزيمة (520) فى «صحيحيهما» بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) ينتضلون: أى يلعبون بالنضال، وهى السهام، وفى رواية «يتنضلون» ، ورجح الزرقانى فى الشرح الرواية الأولى.
الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة فى صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلى أن يقرأ فى المغرب وفى الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما أستحب له أن يخفف القراءة.
انتهى.
والراجح عند النووى: أن المفصل من الحجرات إلى آخر القرآن، والله أعلم.
,
عن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لى، يتأول القرآن «1» . رواه البخارى ومسلم.
ومعنى «يتأول القرآن» : يعمل بما أمر به فى قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «2» فكان- صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الكلام البديع فى الجزالة المستوفى ما أمر به فى الآية. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى ركوعه: سبوح قدوس رب الملائكة والروح «3» . رواه البخارى.
وعن حذيفة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى ركوعه: سبحان ربى العظيم، وفى سجوده سبحان ربى الأعلى، وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد «4» . رواه مسلم. قال النووى: يبدأ- يعنى المصلى- بقوله: «سمع الله لمن حمده» حين الشروع فى الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع فى ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد إلخ.
قال: وفى هذا الحديث دلالة للشافعى وطائفة: أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين «سمع الله لمن حمده» و «ربنا ولك الحمد» فى حال انتصابه فى الاعتدال. لأنه ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- فعلهما جميعا.
وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» «5» رواه البخارى. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7 8) فى الأذن، باب: التسبيح والدعاء فى السجود، ومسلم (484) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود.
(2) سورة النصر: 3.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (487) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، والحديث ليس في البخارى كما قال المصنف، بل عند مسلم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر، من حديث مالك ابن الحويرث- رضى الله عنه-.
وقال ابن القيم: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا استوى قائما قال: ربنا ولك الحمد، وربما قال: وربنا لك الحمد، وربما قال: اللهم ربنا لك الحمد. صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين «اللهم» و «الواو» فلم يصح. انتهى.
قلت: وقع فى صحيح البخاري من حديث أبى هريرة- فى رواية الأصيلى- مرفوعا: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد» «1» فجمع بين «اللهم» و «الواو» وهو يرد على ابن القيم كما ترى.
وقال الشيخ تقى الدين فى شرح العمدة: كأن إثبات «الواو» دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب، أو ما قارب ذلك، ولك الحمد، فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء، ومعنى الخبر، وإذا قيل بإسقاط «الواو» دل على أحد هذين. انتهى.
وقال ابن العراقى: إسقاط «الواو» حكاه عن الشافعى ابن قدامة وقال:
لأن «الواو» للعطف، وليس هنا شئ يعطف عليه. وعن مالك وأحمد فى ذلك خلاف.
وقال النووى: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. انتهى.
وعن أبى سعيد الخدرى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد- وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «2» رواه مسلم.
قوله: «ملء السماوات وملء الأرض» : أى حمدا لو كان أجساما لملأ السماوات والأرض.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (734) فى الأذان، باب: إيجاب التكبير.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (477) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
ومعنى سمع الله لمن حمده» أى أجاب، يعنى: أن من حمد الله تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله له، فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك.
وقوله «أهل» : منصوب على النداء.
وقوله: «وكلنا لك عبد» بالواو، يعنى: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت إلخ. واعترض بينهما قوله: «وكلنا لك عبد» ، ومثل هذا الاعتراض قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى «1» على قراءة من قرأ «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء.
و «الجد» بفتح الجيم، الغنى أى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقيل غير ذلك والله أعلم.
وفى رواية ابن أبى أوفى- عند مسلم-: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول بعد قوله «من شئ» : «اللهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد» «2» .
,
روى أبو داود أنه- عليه الصلاة والسلام- سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال: «أقامها الله وأدامها» «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (422) في الصلاة، باب: فى وقت العشاء الآخرة، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (167) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تأخير صلاة العشاء الآخرة، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (528) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 411) من حديث أبى أمامة أو بعض أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند فيه محمد بن ثابت العبدى، ضعيف الحديث، وشهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد، وكذا الرجل الذى بينهما مجهول، وانظر «الإرواء» (241) .
يفتتح الصلاة بالتكبير. رواه عبد الرزاق من حديث عائشة. وروى البخارى عن ابن عمر قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- افتتح التكبير فى الصلاة «1» .
واستدل بهما على تعيين لفظ «التكبير» دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. وقد روى البزار بإسناد صحيح، على شرط مسلم، عن على أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام إلى الصلاة قال: «الله أكبر» .
ولأحمد والنسائى من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: الله أكبر كلما وضع ورفع «2» . وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط، وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل سنة، قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهرى.
ولم يختلف أحد فى إيجاب النية فى الصلاة. قال البخارى- فى أواخر الإيمان-: باب ما جاء فى قوله- صلى الله عليه وسلم- الأعمال بالنية، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة «3» .
وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة قال:
الله أكبر، ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أصلى صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا أداء ولا قضاء، ولا فرض الوقت. قال: وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة البتة، بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. وقال الشافعى:
«إنها ليست كالصيام فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر» أى تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة واحدة، ولا أحد من أصحابه. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (739) فى الأذان، باب: رفع اليدين إذا قام من الركعتين.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 62) فى السهو، باب: كيف السلام على اليمين، وأحمد فى «المسند» (2/ 71 و 152) ، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) انظر الباب رقم (39) ، من كتاب الإيمان.
وعبارة الشافعى فى كتاب المناسك: «ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأة، وليس كالصلاة، لأن فى أولها نطقا واجبا» ، هذا نصه. وقد قال الشيخ أبو على السنجى فى شرح التلخيص، وابن الرفعة فى المطلب، والزركشى فى الديباج وغيرهم: إنما أراد الشافعى بذلك تكبيرة الإحرام فقط، انتهى.
وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه- صلى الله عليه وسلم- تلفظ بالنية، ولا علّم أحدا من أصحابه التلفظ بها، ولا أقره على ذلك. بل المنقول عنه فى السنن أنه قال:
«مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» «1» . وفى الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- لما علم المسئ صلاته قال له: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» »
فلم يأمره بالتلفظ بشئ قبل التكبير. نعم اختلف العلماء فى التلفظ بها:
فقال قائلون: هو بدعة لأنه لم ينقل فعله.
وقال آخرون: هو مستحب، لأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة للسان، كما أنه عبودية للقلب، والأفعال المعنوية عبودية الجوارح.
وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقى الدين السبكى والحافظ عماد الدين بن كثير.
وأطنب ابن القيم- فى غير الهدى- فى رد الاستحباب، وأكثر فى الاستدلال بما فى ذكره طول يخرجنا عن المقصود، لا سيما والذى استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها.
وقاسه بعضهم على ما فى الصحيحين، من حديث أنس: أنه سمع
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (61) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (3) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، وأحمد فى «المسند» (3/ 203) من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (301) .
(2) صحيح: وحديث المسئ صلاته عند البخارى (757) فى الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام المأموم، وأطرافه (793 و 6251 و 6667) ، ومسلم (397) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى بالحج والعمرة جميعا، يقول: «لبيك عمرة وحجّا» «1» وفى البخارى من حديث عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول- وهو بوادى العقيق-: «أتانى الليلة آت من ربى فقال: صل فى هذا الوادى المبارك وقل:
عمرة فى حجة» «2» . وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس.
ولكن تعقب هذا بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك فى ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك، وامتثالا للأمر الذى جاءه من ربه تعالى فى ذلك الوادى، ولقد صلى- صلى الله عليه وسلم- أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلى صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوى بين ما فعله وتركه، فنأتى من القول فى الموضع الذى تركه بنظير ما أتى به فى الموضع الذى فعله، والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر. انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، فإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك.
وفى رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال:
«سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» . وفى أخرى: نحوه وقال: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود «3» . رواه البخارى ومسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1551) فى الحج، باب: التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإحلال، ومسلم (1251) فى الحج، باب: إحلال النبى- صلى الله عليه وسلم- وهديه، واللفظ له.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1534) فى الحج، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «العقيق واد مبارك» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (735) فى الأذان، باب: رفع اليدين فى التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وأطرافه (736 و 738 و 739) ، ومسلم (390) فى الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
وعند أبى داود من حديث علقمة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من سجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح «1» . وهو قطعة من حديث رواه أيضا الترمذى. وكان يكبر فى كل خفض ورفع. رواه مالك.
وقال النووى: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها: فقال الشافعى وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وهو رواية عن مالك. وللشافعى قول: أنه يستحب رفعهما فى موضع رابع وهو: إذا قام من التشهد الأول. وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يفعله «2» . رواه البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يضع يده اليمنى على اليسرى «3» ، رواه أبو داود.
ومذهب الشافعى والأكثرين: أن المصلى إذا وضع يديه حطهما تحت صدره فوق سرته. وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية: تحت سرته.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقال له أبو هريرة:
يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، إسكاتتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟
قال: «أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد» «4» . رواه البخارى ومسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والترمذى (304) فى الصلاة، باب: منه، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-، ولم أقف على حديث علقمة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: وقد تقدم حديث ابن عمر قبل حديث.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (401) فى الصلاة، باب: وضع اليد اليمنى على اليسرى، وأبو داود (723) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الصلاة، وأطرافه (726 و 727 و 957) من حديث وائل بن حجر- رضى الله عنه-
(4) صحيح: أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام.
وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة- وفى رواية: إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: «وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربى وأنا عبدك، ظلمت نفسى، واعترفت بذنبى فاغفر لى ذنوبى جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدنى لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها، لا يصرف عنى سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله فى يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» «1» ، الحديث رواه مسلم.
وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» «2» . رواه الترمذى وأبو داود.
وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة قال: «الله أكبر كبيرا ثلاث مرات «3» ، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا،
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه.
(2) أخرجه أبو داود (776) فى الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والترمذى (243) فى الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (806) فى إقامة الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع حيث إن الراوى عن عائشة أبو الجوزاء، لم يسمع منها شيئا على الراجح، وهو عند مسلم (399) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة، عن عمر موقوفا عليه، إلا أن الراوى عنه عبدة بن أبى لبابة، لا يعرف له سماع عنه أيضا، وإنما سمع من ابنه عبد الله بن عمر، ويقال رأى عمر رؤية، ولذلك قال الشوكانى فى «النيل» (2/ 280) : ولا يخفى أن ما صح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أولى بالإيثار والاختيار. وأصح ما روى فى الاستفتاح حديث أبى هريرة المتقدم ثم حديث على، وأما حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال. ا. هـ.
(3) زيادة من مصدر التخريج.
أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه» «1» . قال عمرو «2» : نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه الموتة «3» . رواه أبو داود.
وعن محمد بن مسلمة «4» قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام يصلى تطوعا قال: «الله أكبر، وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» «5» . وذكر الحديث مثل حديث جابر إلا أنه قال:
وأنا من المسلمين، ثم قال: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك» ، ثم يقرأ. رواه النسائى.
,
,
الكسوف لغة التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها. عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال: «إنما هذه الآية يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا» «1» . رواه أبو داود والنسائى.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1185) فى الصلاة، عن قبيصة الهلالى وأصله فى الصحيح من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
وفى قوله: - صلى الله عليه وسلم- «يخوف الله بها عباده» رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادى لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن فى ذلك تخويف.
وقد رد عليهم ابن العربى وغيره، بما فى حديث أبى موسى عند البخارى، حيث قال فيه: «فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة» قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعنى كما فى حديث أسماء عند البخارى «لقد أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة فى كسوف الشمس» «1» وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» «2» فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كلما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يندفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف.
ومما نقض به ابن العربى وغيره أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما فى العقدتين. فقال: «هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر فى الجرم فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس.
وقد وقع فى حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى بشئ من خلقه خشع له» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1054) فى الجمعة، باب: من أحب العتاقة فى كسوف الشمس، من حديث أسماء- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1044) فى الجمعة، باب: الصدقة فى الكسوف. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1063) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف القمر، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وليس فيها وأن الله إذا تجلى لشىء من خلقه خشع له.
وقد استشكل الغزالى هذه الزيادة، وقال: أنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة.
وقال ابن بزبزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كرى الشكل، وظاهر الشرع يعطى خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق فى هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقيف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذى رده الغزالى قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسى، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا «1» ، انتهى.
ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، وقال: هى أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذى يذكره أهل الحساب ينافى قوله: «يخوف الله به عباده» ، وليس بشئ، لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم فى عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شئ غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجرى عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله: أن الذى يذكره أهل الحساب إن كان حقّا فى نفس الأمر لا ينافى كون ذلك مخوفّا لعباد الله تعالى. قاله فى فتح البارى.
وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة الأعراف: 143.
فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون قيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» ، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا فى مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال: «إنى رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط» «1» . رواه البخارى ومسلم.
وقوله: «ورأيت الجنة والنار» قال القاضى عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف الله له عنهما، وأزال الحجاب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فى عرض هذا الحائط» - كما فى رواية-: فى جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحى باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضى: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى.
واستشكل قوله: «ولو أصبته» مع قوله: «تناولت» . وأجيب: بحمل «التناول» على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسى ولو أخذته لكم، حكاه الكرمانى، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدى عليه، بحيث كنت قادرا على
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1052) فى الجمعة، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
تحويله، لكن لم يقدر لى قطفه، ولو أصبته، أى لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه من قوله فى حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة «أهوى بيده ليتناول شيئا» وفى حديث أسماء عند البخارى «حتى لو اجترأت عليه» وكأنه لم يؤذن له فى ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى.
وفى حديث أسماء بنت أبى بكر، عند البخارى ومسلم ومالك والنسائى قال: ما من شئ كنت لم أره إلا رأيته فى مقامى هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحى إلىّ أنكم تفتنون فى قبوركم، مثل أو قريبا- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم فى قبره فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدرى، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
وفى رواية: فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا. وفى رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه فى النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب «1» .
قوله: «قصبه» بضم القاف وسكون الصاد، أى أمعاءه. وفى رواية عائشة: ثم قال: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا هل بلغت» «2» .
أى لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1053) فى الجمعة، باب: صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف، من حديث أسماء بنت أبى بكر، - رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: وقد تقدم.
القيامة ما أعلم، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت فى مقامى هذا وفى غيره لبكيتم كثيرا، ولقلّ ضحككم لتفكركم فيما علمتوه. وفى حديث عائشة عند البخارى. فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال:
«سمع الله لمن حمده» فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهى أدنى من القراءة الأولى، وزاد فى رواية: «ربنا ولك الحمد» «1» .
واستدل به على استحباب الذكر المشروع فى الاعتدال فى أول القيام الثانى من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخرى الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع فى كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكى خالف فيه.
والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعا، لأنها أصل برأسها. وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شئ بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به.
وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة فى القيام وغيره، ومن زيادة ركوع فى كل ركعة، وقد وردت زيادة فى ذلك من طرق أخر، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن فى كل ركعة ثلاث ركوعات «2» ، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن فى كل ركعة أربع ركوعات، ولأبى داود من حديث أبى بن كعب، والبزار من
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) أخرجه مسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، و (904) باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة.
حديث على: أن فى كل ركعة خمس ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة «1» .
ونقل ابن القيم فى «الهدى» عن الشافعى وأحمد والبخارى: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين فى كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم- عليه السّلام- وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح.
وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابى وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووى فى شرح مسلم.
وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة فى الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء فى أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد فى الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد فى ذلك. وتعقبه النووى وغيره: بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم فى أول الحال، ولا فى الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع فى الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود فى نفسه، منوى من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وعند الإمام أحمد: أنه لما سلم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبد الله ورسوله، ثم قال: «يا أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى ذلك» فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذى عليك، ثم قال: «وايم الله لقد رأيت منذ قمت أصلى ما أنتم لاقون من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله» «2» .
__________
(1) انظره فى «فتح البارى» (2/ 532) .
(2) أخرجه أحمد (5/ 19) قال: حدثنا أبو كامل حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثنا ثعلبة بن عباد العبدى من أهل البصرة قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب فذكر فى خطبته حديثا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: بينا أنا وغلام من الأنصار نرمى فى غرضين
وفى البخارى: وقالت عائشة وأسماء: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقد اختلف فى الخطبة فيه، فاستحبها الشافعى وإسحاق وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس فى الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهى ذات كثرة.
والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.
وتعقب: بما فى الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، انتهى.
وعن المغيرة بن شعبة عند البخارى: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله» «1» .
وإبراهيم هو ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات
__________
لنا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كانت قيد رمحين أو ثلاثة فى عين الناظر اسودت حتى آضت كأنها تنومة قال: فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فو الله ليحدثن شأن هذه الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أمته حدثا قال: فدفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز، قال: ووافقنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى الناس فاستقدم فقام بنا كأطول ما قام بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم ركع كأطول ما ركع بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم فعل فى الركعة الثانية مثل ذلك فوافق تجلى الشمس جلوسه فى الركعة الثانية: قال زهير حسبته قال: فسلّم فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1043) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-.
فى السنة العاشرة من الهجرة، فقيل فى ربيع الأول، وقيل فى رمضان، وقيل فى ذى الحجة، والأكثر على أنها وقعت فى عاشر الشهر، وقيل فى رابعه وقيل فى رابع عشره، ولا يصح شئ منها على قول ذى الحجة، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذ ذاك بمكة فى الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف.
نعم قيل إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووى بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان فى آخر ذى القعدة حين رجع منها.
وفى هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب فى الأرض. قال الخطابى: كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير فى الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان فى غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نودى: أن الصلاة جامعة «1» . رواه البخارى: وقوله: «أن» بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهى المفسرة. وفى رواية له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- مناديا فنادى: الصلاة جامعة «2» .
قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام. وروى ابن حبان أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم «3» ، وأخرجه الدار قطنى أيضا. وفيه: رد
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1045) فى الجمعة، باب: النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف، ومسلم (910) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1066) فى الجمعة، باب: الجهر بالقراءة فى الكسوف، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 146) فى الكسوف، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
على من أطلق- كابن رشيد- أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل فى كسوف القمر، ومنهم من أول قوله: «صلى» أى أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين.
وقال ابن القيم فى «الهدى» : لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى كسوف القمر فى جماعة، لكن حكى ابن حبان فى السيرة له: أن القمر خسف فى السنة الخامسة، فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف فى الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاى فى سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقى فى نظمها.
وفى البخارى من حديث عائشة: جهر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، فإذا فرغ من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» ثم يعاود القراءة فى صلاة الكسوف، أربع ركعات وأربع سجدات «1» .
واستدل به على الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، لأن الإسماعيلى روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس فى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفى مسند أبى داود الطيالسى أنه- صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فى صلاة الكسوف «2» . وقد ورد فيها عن على مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره.
وقال به صاحبا أبى حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثى الشافعية وابن العربى من المالكية. وقال الطبرى:
يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر فى الشمس ويجهر فى القمر.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1047) فى الجمعة، باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت، وأبو داود (1180) فى الصلاة، باب: من قال أربع ركعات. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه أبو داود الطيالسى (1466) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
واحتج الشافعى بقول ابن عباس: «قرأ نحوا من سورة البقرة» «1» لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعى تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الكسوف فلم يسمع منه حرفا «2» ، ووصله البيهقى من ثلاثة طرق أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى.
قال ابن العربى: الجهر عندى أولى، لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا والله أعلم.
,
عن أنس قال: فرضت على النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لدى، وإن لك بهذه الخمس خمسين «1» . رواه الترمذى هكذا مختصرا، ورواه البخارى ومسلم من حديث طويل تقدم فى مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث.
وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة «2» . رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقوله: «فى الخوف ركعة» محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالآخرى.
وعن عائشة: فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها فى الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» . رواه
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وأبو داود (1247) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون، والنسائى (3/ 118) فى أول كتاب تقصير الصلاة فى السفر.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (350) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، وأطرافه (1090 و 3935) ، ومسلم (685) فى أول صلاة المسافرين.
البخارى. وعنده- فى كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهرى، عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر- صلى الله عليه وسلم- ففرضت أربعا.
فعيّن فى هذه الرواية أن الزيادة فى قوله فى الحديث الذى قبله «وزيد فى صلاة الحضر» وقعت بالمدينة. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر فى السفر عزيمة لا رخصة.
واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «1» ، لأن نفى الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شئ أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله- عليه الصلاة والسلام-:
«صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «2» رواه مسلم. وأما خبر:
فرضت الصلاة ركعتين، أى فى السفر فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما، جمعا بين الأخبار. قاله فى المجموع.
الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس
عن جابر: أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى العصر، ثم أتاه جبريل حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى المغرب، ثم تاه جبريل حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى الغداة.
__________
(1) سورة النساء: 101.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (685) فى أول صلاة المسافرين، من حديث عمر- رضى الله عنه-.
ثم أتاه فى اليوم الثانى حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلى شخصه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت «1» . رواه النسائى.
وفى رواية قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفئ قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفئ قدر الشراك، وظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين الفجر، ثم صلى الغداة- أى الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل- شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر.
وعن ابن عباس: قال- صلى الله عليه وسلم-: «أمّنى جبريل عند البيت مرتين، فصلى بى الظهر فى الأولى حين كان الفئ مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (150) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (1/ 251- 252) فى المواقيت، باب: أول وقت العصر، و (1/ 255- 256) ، باب: آخر وقت العصر، و (1/ 261) باب: آخر وقت المغرب، و (1/ 263) باب: أول وقت العشاء، وأحمد فى «المسند» (3/ 330 و 351) ، والحديث صححه الألبانى فى «الإرواء» (250) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (393) فى الصلاة، باب: فى المواقيت، والترمذى (149) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (1/ 333) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (249) .
وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شئ مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثليه، ثم صلى المغرب كوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إلى جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين، رواه الترمذى وغيره.
وقوله: «صلى بى الظهر حين كان ظل كل شئ مثله» أى فرغ منها حينئذ، كما شرع فى العصر فى اليوم الأول، وحينئذ فلا اشتراك بينهما فى وقت، ويدل له حديث مسلم «وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر» .
وقوله فى حديث جابر «فصلى الظهر حين زالت الشمس» يقتضى جواز فعل الظهر إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفئ، مثل الشراك، كما اتفقت عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وأما حديث ابن عباس فالمراد به أنه حين زالت الشمس كان الفئ حينئذ مثل الشراك، لا أنه أخر إلى أن صار مثل الشراك. ذكره فى المجموع.
وقد بيّن ابن إسحاق فى المغازى أن صلاة جبريل به- صلى الله عليه وسلم- كانت صبيحة الليلة التى فرضت الصلاة فيها، وهى ليلة الإسراء. ولفظه: قال نافع ابن جبير وغيره: لما أصبح- صلى الله عليه وسلم- من الليلة التى أسرى به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت «الأولى» - أى صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: «الصلاة جامعة» ، فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فذكر الحديث.
وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبى- صلى الله عليه وسلم-. وإنما دعاهم بقوله:
«الصلاة جامعة» لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ. واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره. ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبى بكر فى صلاته خلف النبى- صلى الله عليه وسلم- وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما سيأتى تقريره- إن شاء الله تعالى-.
وقد صلى- صلى الله عليه وسلم- العصر والشمس فى حجرة عائشة لم يظهر الفئ من حجرتها «1» . رواه البخارى ومسلم. وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالى فيأتيهم والشمس مرتفعة «2» ، وبعض العوالى من المدينة على أربعة أميال. رواه البخارى.
وفى ذلك دليل على تعجيله- صلى الله عليه وسلم- بصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضى مسافة أربعة أميال، والمراد بالشمس ضوؤها وعن سلمة بن الأكوع أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب «3» . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن رافع بن خديج: كنا نصلى المغرب معه- صلى الله عليه وسلم- فينصرف أحدنا، وإنه ليرى مواقع نبله «4» . رواه البخارى ومسلم.
والنبل- بفتح النون-: السهام العربية: أى يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب فى أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل «5» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (545) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (611) فى المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (548 و 550 و 551) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (621) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالعصر.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (561) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (636) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس، وأبو داود (417) فى الصلاة، باب: فى وقت المغرب، والترمذى (164) فى الصلاة، باب: ما جاء فى وقت المغرب، وابن ماجه (688) فى الصلاة، باب: وقت صلاة المغرب.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (559) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (637) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس.
(5) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 248) فى المواقيت، باب: تعجيل الظهر فى البرد، وللبخارى نحوه أخرجه برقم (560) من حديث جابر- رضى الله عنه-.
النسائى من حديث أنس. ويؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية «1» .
رواه أبو داود من رواية على بن شيبان. وقال- عليه الصلاة والسلام-: «إذا قدّم العشاء فابدؤوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم» «2» ، رواه البخارى ومسلم.
وعند أبى داود: «ولا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره» «3» .
واعتم- صلى الله عليه وسلم- بالعشاء ليلة، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم» ، قال: ولا تصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول «4» . زاد فى رواية: وذلك قبل أن يفشوا الإسلام.
وفى رواية: فخرج ورأسه تقطر ماء يقول: «لولا أن أشق على أمتى، أو على الناس، لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة» «5» . رواه البخارى ومسلم.
وفى رواية أبى داود من حديث أبى سعيد: فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: «خذوا مقاعدكم» ، فأخذنا مقاعدنا، فقال: «إن الناس قد صلوها وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة،
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (408) فى الصلاة، باب: فى وقت صلاة العصر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى ضعيف سنن أبى داود.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (672) فى الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (557) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذى يريد أكله فى الحال، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود عن جابر كما فى «ضعيف الجامع» (6182) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (566) فى المواقيت، باب: فضل العشاء، وأطرافه (569 و 862 و 864) ، ومسلم (638) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (7239) فى التمنى، باب: ما يجوز من اللهو، ومسلم (639) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لآخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل» «1» . وفى حديث أبى هريرة: «لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» «2» ، صححه الترمذى.
فعلى هذا: من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمورين فالتأخير فى حقه أفضل. وقد قرر النووى ذلك فى شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم. وقال الطحاوى: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعى فى الجديد.
وقال فى القديم: التعجيل أفضل. وكذا قال فى «الإملاء» وصححه النووى فى جماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به على القديم. وتعقب: بأنه ذكره فى «الإملاء» وهو من كتبه الجديدة. والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، قاله فى فتح البارى.
,
وفيه فرعان:
,
اعلم أن الوضوء، بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذى يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمى به لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا. وقد استنبط بعض العلماء- كما حكاه فى فتح البارى- إيجاب النية فى الوضوء من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «3» لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أى، لأجله.
وقال ابن القيم: لم يرو أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى.
__________
(1) القال هنا: شيخ الإسلام البلقينى أحد شراح البخارى.
(2) ضعيف: أخرجه ابن أبى الدنيا فى الفرج، وابن عساكر عن على، كما فى «ضعيف الجامع» (1331) وانظر رقمى (1329 و 1330) .
(3) سورة المائدة: 6.
قال: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روى عنه- صلى الله عليه وسلم-، وأما كونه أتى بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى «المعالم» : اعلم أنا إذا أردنا أن نقول فى أمر من الأمور: هل فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم-؟ قلنا فى إثباته طرق:
الأول: أنا إذا أردنا أن نقول إنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ مع النية والترتيب، قلنا:
لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضرورى حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العارى عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، فوجب أن يجب علينا مثله.
والطريق الثانى: أن نقول: لو أنه- صلى الله عليه وسلم- ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله. وفى الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» «1» . قال البخارى:
«فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام» .
وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لم يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعى وأبى حنيفة وغيرهما. وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة. ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية. واستدل الجمهور على اشتراط النية فى الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه فلا بد من قصد يميزه ليحصل الثواب الموعود به.
وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ليس المراد منه نفى ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفى أحكامها كالصحة والكمال. ولكن الحمل على نفى الصحة أولى لأنه أشبه بنفى الشئ نفسه، ولأن اللفظ دل على نفى الذات بالصريح وعلى نفى الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفى الذات بقيت دلالته على نفى الصفات مستمرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1) فى بدء الوحى، باب: بدء الوحى، ومسلم (1907) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنية» .
قال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا: صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال. ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى.
وفى هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم فى ذلك إلا فى الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم فى اشتراط النية لها. ومن ثم خالف الحنفية فى اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعى فى اشتراطها فى التيمم أيضا. نعم بين العلماء اختلاف فى اقتران النية بأول العمل كما هو معروف فى مبسوطات الفقه.
وأما قوله- أى البخارى- «فدخل فيه الإيمان» ، فتوجيه دخول النية فى الإيمان على طريقة البخارى: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية الله وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة لله فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية.
وقوله أيضا: «والأحكام» أى المعاملات التى يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فتشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص.
وقد ذكر ابن المنير ضابطا- لما تشترط فيه النية مما لا تشترط فيه- فقال:
كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب.
قال: وإنما اختلف العلماء فى بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة.
قال: وأما ما كان من المعانى المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويّا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلى.
وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية فى ثلاثة مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء، والثانى: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر فى فتح البارى.
وقد اختلف العلماء فى الوقت الذى وجب فيه الوضوء:
فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «1» الآية. ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه- صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، كما افترضت الصلاة، وأنه لم يصل قطّ إلا بوضوء، وقال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم فى المستدرك: أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس:
دخلت فاطمة- رضى الله عنها- على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهى تبكى فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: «ائتونى بوضوء فتوضأ» «2» . قال الحافظ ابن حجر: وذا يصلح أن يكون ردّا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ.
وقد جزم ابن الجهم المالكى بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة. ورد عليه بما أخرجه ابن لهيعة فى المغازى التى يرويها عن أبى الأسود عن عروة أن جبريل- عليه السّلام- علم النبى- صلى الله عليه وسلم- الوضوء عند نزوله عليه بالوحى. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال: عن الزهرى عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهرى نحوه،
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 268) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الحاكم: حديث صحيح ولا أعلم له علة. قلت: إن مولد ابن عباس- رضى الله عنهما- كان فى الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فمتى تحمل رواية هذا الخبر فى مكة قبل الهجرة!.
لكن لم يذكر زيد بن حارثة فى السند، وأخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا. ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة.
وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة. قيل له:
كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث «1» . رواه البخارى وأبو داود والترمذى. وعن عثمان- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمى. وروى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تكن تفعله، فقال: «عمدا فعلته يا عمر» «2» يعنى لبيان الجواز. وفى رواية أحمد وأبى داود، من حديث عبد الله بن أبى عامر الغسيل، أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة»
ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. واختلف العلماء فى موجب الوضوء:
فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا.
وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا، ورجحه جماعة من الشافعية.
وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبى عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه- صلى الله عليه وسلم-، لكن فى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (214) فى الوضوء، باب: الوضوء من غير حدث، وأبو داود (171) فى الطهارة، باب: الرجل يصلى الصلوات بوضوء واحد، والترمذى (60) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء لكل صلاة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (277) فى الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (48) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى (658) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 258) والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
وأخرج الطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى السنن عن عائشة مرفوعا:
«ثلاث هن علىّ فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل» «1» . وقد روى أحمد فى مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على» «2» . وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكى عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه. واتفقوا على أنه مستحب مطلقا، ويتأكد بأحوال:
منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة.
ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت فى الصحيحين من حديث حذيفة أنه- صلى الله عليه وسلم- (كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) «3» لكن قد يقال:
المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء.
ومنها: قراءة القرآن، كما جزم به الرافعى.
ومنها: تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعى.
ومنها: دخول المنزل، جزم به النووى فى زيادة الروضة، لما روى مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه، من حديث عائشة، أنه- صلى الله عليه وسلم- (كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك) «4» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 231) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 441) ، والدار قطنى فى «سننه» (2/ 21) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 468) و (9/ 264) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، بسند فيه أبو جناب الكلبى، اسمه يحيى بن أبى حية، ضعيف الحديث، ولم يتابع عليه.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 490) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 76) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 98) وقال: وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة مدلس، وقد عنعنه.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (246) فى الوضوء، باب: السواك، ومسلم (255) فى الطهارة، باب: السواك.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (253) فى الطهارة، باب: السواك.
ومنها: إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد «1» فى «الرونق» «2» ، وروى فيه ما رواه ابن عدى فى الكامل من حديث جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يستاك إذا أخذ مضجعه «3» . وفيه: حرام بن عثمان، متروك.
ومنها: الانصراف من صلاة الليل، لما روى ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك «4» .
ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووى فى شرح المهذب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما أدرى ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزآ منه لا يظهر منه ما يقتضى منعه، بل كونها أصبعه أبلغ فى الإزالة، لأنه يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم. قال النووى فى شرح المهذب: المختار أجزاؤه مطلقا. قال: وبه قطع القاضى حسين والمحاملى فى اللباب والبغوى واختاره فى البحر. انتهى.
ولقد أطبق أصحاب الشافعى على استحباب «الأراك» فروى الطبرانى من حديث أبى خيرة الصنابحى- وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأراك فقال: «استاكوا بهذا» «5» .
__________
(1) هو: الشيخ أبو حامد الإسفرايينى الفقيه الشافعى المعروف، المتوفى سنة 406 هـ.
(2) الرونق: مختصر فى فروع الشافعية على طريقة اللباب للمحاملى، وقد اختلف فى مؤلفه، قيل إنه منسوب إلى الشيخ أبى حامد الإسفرايينى، وقيل إنه من تصانيف أبى حاتم القزوينى كذا فى طبقات السبكى، قال ابن السبكى: وهذا غير مستبعد فإن أبا حاتم قرأ على المحاملى والرونق أشبه شئ بكلام المحاملى فى اللباب، انظر كشف الظنون (1/ 934) .
(3) ضعيف: لضعيف راويه.
(4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (288) فى الطهارة، باب: السواك، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح الجامع» (4961) .
(5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 61- 62) وقال: رواه الطبرانى، وفيه جماعة لم أعرفهم.
وفى مستدرك الحاكم من حديث عائشة فى دخول أخيها عبد الرحمن ابن أبى بكر فى مرضه- صلى الله عليه وسلم- ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستاك به «1» . والحديث فى الصحيح وليس فيه ذكر الأراك. وفى بعض طرقه عند البخارى: ومعه سواك من جريد النخل.
وقد روى أبو نعيم فى كتاب السواك، من حديث عائشة قالت: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يستاك عرضا «2» ، وروى البيهقى أيضا من حديث ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستاك عرضا الحديث.
قال أصحابنا: والمراد بقوله «عرضا» : عرض الأسنان فى طول الفم.
وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث:
كان يعجبه التيمن فى ترجله وتنعله وطهره وسواكه. وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمنى، وإن قلنا بالثانى فبشماله لحديث عائشة:
كانت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليمين لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى «3» . رواه أبو داود بإسناد صحيح.
قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن فى الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى فى التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن فى الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 8) ، وهو فى صحيح البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره، بدون ذكر (الأراك) ورواية (جريد النخل) عند البخارى (4451) .
(2) ضعيف: أخرجه البغوى وابن قانع والطبرانى فى الكبير وابن السنى وأبو نعيم فى الطب عن بهز، والبيهقى فى السنن عن ربيعة بن أكثم، كما فى «ضعيف الجامع» (4552) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (33 و 34) فى الطهارة، باب: كراهية مس الذكر باليمين فى الاستبراء، وأحمد فى «المسند» (6/ 156 و 170 و 265) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس أحمد القرطبى فقال فى «المفهم» حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك فى المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم.
وأما مقدار ما كان- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ أو يغتسل به من الماء:
فعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفى رواية: كان يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذى وعنده: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يجزئ فى الوضوء رطلان من الماء» «2» . وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد «3» . رواه أبو داود. وعن ابن عباس، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد «4» . والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووى مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.
وحذر- صلى الله عليه وسلم- أمته من الإسراف فيه.
ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟» قال: أفى الوضوء سرف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار» «5» ، رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (201) فى الوضوء، باب: الوضوء بالمد، ومسلم (325) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة، وأبو داود (95) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء من الوضوء.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (609) فى الجمعة، باب: قدر ما يجزئ من الماء فى الوضوء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (92) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء فى الوضوء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (253) فى الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (322) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة.
(5) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 221) ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنه-، بسند فيه ضعف.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء» «1» . رواه الترمذى من حديث أبى بن كعب.
,
عن ابن عمر قال: سافرت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ولا يصلى قبلهما ولا بعدهما، وقال ابن عمر: لو كنت مصليا قبلهما أو بعدهما لأتممتهما «6» . رواه الترمذى. وفى رواية: صحبت النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم أره يسبح فى السفر «7» ، أى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1673) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1288) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة فى هذه الليلة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) تقدم.
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (544) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التقصير فى السفر. قال الترمذى: حسن غريب. وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : صحيح.
(7) صحيح: أخرجه البخارى (1101) فى الجمعة، باب: من لم يتطوع فى السفر دبر الصلاة وقبلها. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
تنفل للرواتب التى قبل الفرائض وبعدها. وهو مستفاد من قوله فى الرواية الآخرى، فكان لا يزيد فى السفر على ركعتين «1» .
قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل أن يريد: لا يزيد على عدد ركعات الفرض، فيكون كناية عن نفى الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا، ويمكن أن يريد ما هو أعم من ذلك. وفى رواية مسلم: صحبت ابن عمر فى طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رجل فجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال:
لو كنت مسبحا لأتممت «2» .
قال النووى: أجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهى إلى خيرة المصلى، فطريق الرفق به أن تكون مشروعة، ويخير فيها. انتهى. وتعقب: بأن مراد ابن عمر بقول:
«لو كنت مسبحا لأتممت» يعنى أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلى الراتبة ولا يتم.
وفى البخارى، من حديث ابن عمر: كان- صلى الله عليه وسلم- يوتر على راحلته «3» ، وبوب عليه «باب الوتر فى السفر» ، وأشار به إلى الرد على من قال: «لا يسن الوتر فى السفر» ، وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر: «لو كنت مسبحا فى السفر لأتممت» كما أخرجه مسلم، فإنما أراد به راتبة المكتوبة، لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بيّن من سياق الحديث المذكور عند الترمذى من وجه آخر بلفظ «لو كنت مصليا قبلهما أو بعدهما
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (689) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، والذى صحب عمر هو حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1000) فى الجمعة، باب: الوتر فى السفر. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
لأتممت» «1» وأما حديث عائشة عند البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها فليس بصريح فى فعله ذلك فى السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء.
وأجاب النووى- تبعا لغيره- بما لفظه: لعل النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى الرواتب فى رحله فلا يراه ابن عمر، أو لعله تركها فى بعض الأوقات لبيان الجواز. انتهى. وفى رواية الترمذى من حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر فى السفر ركعتين، وبعدها ركعتين «2» . وفى رواية:
صليت معه فى الحضر والسفر، فصليت معه فى الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين. وصليت معه فى السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصل بعدها شيئا والمغرب فى الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص فى حضر ولا سفر، وهى وتر النهار وبعدها ركعتين «3» .
وفى حديث أبى قتادة عند مسلم فى قصة النوم عن صلاة الصبح: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلى «4» .
وقول صاحب «الهدى» إنه لم يحفظ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها فى السفر إلا ما كان من سنة الفجر. يرد على إطلاقه ما قدمناه فى رواية الترمذى من حديث ابن عمر. وما رواه أبو داود والترمذى من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر «5» ، وكأنه لم يثبت عند ذلك، لكن
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الترمذى (551) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع فى السفر، وقد تقدم أكثر من مرة. قال الترمذى: حديث حسن. قال الألبانى: ضعيف الإسناد.
(3) تقدم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (681) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1222) فى الصلاة، باب: التطوع فى الصلاة، والترمذى (550) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التطوع فى السفر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
الترمذى استغربه، ونقل عن البخارى أنه رآه حسنا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر.
,
,
عن عثمان بن عفان- رضى الله عنه- أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» «1» رواه البخارى.
وقد استدل بعضهم بقوله: «ثم أدخل يمينه» على عدم اشتراط نية الاغتراف. ولا دلالة فيه نفيّا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس فى هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالى: مجرد الاغتراف لا يصيّر الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع فى المغترف منه. وبهذا قطع البغوى.
وقد ذكروا فى حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة.
وقال النووى فى قوله: «نحو وضوئى» ، إنما لم يقل- صلى الله عليه وسلم-: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. لكن تعقبه فى «فتح البارى» بأنه ثبت
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (160) فى الوضوء، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.
التعبير بها فى رواية البخارى فى الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران بن عثمان ولفظه: «من توضأ مثل وضوئى هذا» . وفى الصيام من رواية معمر: «من توضأ وضوئى هذا» ، قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن «مثل» وإن كانت تقتضى المساواة ظاهرا، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود، انتهى.
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصارى، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فدعا بإناء، فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فتمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا «1» . ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا. ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وفى رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه «2» . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. وفى رواية لأبى داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه فى صماخى أذنيه.
وفى رواية أبى داود والترمذى والنسائى عن عبد خير، أبى عمارة بن زيد بن خولى- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمدانى،
__________
(1) زيادة من مصادر التخريج.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (185) فى الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235) فى الطهارة، باب: وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأبو داود (118- 120) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (32) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره، والنسائى (1/ 71) فى الطهارة، باب: حد الغسل، وباب: صفة مسح الرأس، وابن ماجه (434) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس، ومالك (1/ 18) فى الطهارة، باب: العمل فى الوضوء.
من كبار أصحاب على بن أبى طالب، قال: أتانا على وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتى بإنا فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من الكف الذى يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده اليمنى فى الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا، وقال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو هذا «1» .
وقال ابن القيم: والصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكرر مسح رأسه، انتهى.
وقال النووى: والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة وفى بعضها الاقتصار على قوله: مسح. واحتج الشافعى بحديث عثمان- رضى الله عنه- فى صحيح مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، وبالقياس على باقى الأعضاء، انتهى.
وأجيب: بأنه مجمل مبين فى الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبنى على التخفيف فلا يقاس على الغسل الذى المراد منه المبالغة فى الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر فى المسح لصار فى صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.
واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود فى سننه عن عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه ثلاثا «2» . وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح رأسه مرتين بدأ
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (116) مختصرا فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (48) فى الطهارة، باب: ما جاء فى وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (1/ 70) فى الطهارة، باب: عدد غسل اليدين، وأحمد فى «المسند» (1/ 127) بسند حسن.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (110) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند فيه عامر بن شقيق بن جمرة، ضعيف الحديث.
بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما ظهورهما وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا» .
وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه. وقال ابن السمعانى- كما حكاه فى فتح البارى- اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق فى الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح.
قال «2» : ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذى صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصى فى صفة الوضوء بعد أن فرغ: «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» «3» فإن فى رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة فى مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث فى تثليث المسح، إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى.
وفى حديث عبد الله بن زيد- عند البخارى- الذى ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. وفى رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما فى المكان الذى بدأ منه. وزاد ابن الطباع بعد قوله:
«ثم مسح رأسه» كله، كما هو فى رواية ابن خزيمة. وفى رواية غيره- كما
__________
(1) أخرجه أبو داود (126- 131) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (33) فى الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (390) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، و (438) باب: ما جاء فى مسح الرأس، وأحمد فى «المسند» (6/ 379) بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال مشهور، ولا سيما إذا عنعن.
(2) القائل هنا: هو الحافظ ابن حجر صاحب فتح البارى.
(3) تقدم: وفيه ضعف بهذه الزيادة.
قدمته-: «برأسه» بزيادة الباء، موافقة لقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «1» .
قال البيضاوى: «الباء» أى فى الآية مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل وبالمنديل، ووجه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فلكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، انتهى.
وقال الشافعى: احتمل قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «2» جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ، والفرق بينه وبين قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ «3» فى التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.
وقد روى من حديث عطاء أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس «4» ، وفى إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعى من أن المرسل يعضد بمرسل آخر أو مسند.
وفى الباب أيضا عن عثمان فى صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه،
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) حديث أنس أخرجه أبو داود (147) فى الطهارة، باب: المسح على العمامة وابن ماجه (564) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، والحديث فى إسناده أبو معقل الراوى عن أنس مجهول، والراوى عنه عبد العزيز بن مسلم مقبول الحديث، قاله الحافظ فى «التقريب» (4123) .
أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبى مالك مختلف فيه.
وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك قاله ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر:
وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى.
واختلف فى القدر الواجب فى مسح الرأس، فذهب الشافعى وجماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين. وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة فى رواية: الواجب ربعه، لأنه- صلى الله عليه وسلم- مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. والله أعلم.
وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق «1» . رواه أبو داود. وعنه أيضا قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد «2» . رواه ابن ماجه.
وفى حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات. وفى حديث عبد الله بن زيد عند البخارى: ثم غسل ومضمض واستنشق من كف واحد ثم قال: هكذا وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . قال النووى: فيه أن السنة فى المضمضة والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه، قال: وفى الأفضل فى كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (139) فى الطهارة، باب: فى الفرق بين المضمضة والاستنشاق، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 51) وقال: قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: أن ابن عيينة كان ينكره ويقول: أيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.
(2) قلت: هو عند ابن ماجه (404) فى الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق من كف واحد، من حديث على- رضى الله عنه-، وذكر حديثان معه فى نفس الباب ليس فيها أحد من طريق طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.
(3) تقدم حديثى عثمان وعبد الله بن زيد- رضى الله عنهما-.
الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق.
والثانى: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا.
والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق.
والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثا، ثم يستنشق من الآخرى ثلاثا.
والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.
قال: والصحيح الأول: وبه جاءت الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشمه، مستدلين بقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى هريرة: «إذا توضأ أحدكم فليجعل فى أنفه ماء ثم ليستنثر» «1» لظاهر الأمر. وحمله الجمهور ومالك والشافعى وأهل الكوفة على الندب، لقوله- صلى الله عليه وسلم- للأعرابى: «توضأ كما أمر الله» «2» ، وليس فى الآية المائدة: 6 ذكر الاستنشاق، والله أعلم.
وعند أبى داود: كان- صلى الله عليه وسلم- يمسح الماقين «3» . وعن عثمان أنه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (162) فى الوضوء، باب: الاستجمار وترا، ومسلم (237) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (861) فى الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود، من حديث رفاعة بن رافع- رضى الله عنه-، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (134) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (444) فى الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، وأحمد فى «المسند» (5/ 258 و 264) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والراوى عنه شهر بن حوشب، وفيه مقال مشهور.
كان يخلل لحيته «1» ، رواه الترمذى وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر:
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ عرك «2» عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها «3» . وعن أنس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: «بهذا أمرنى ربى عز وجل» «4» رواه أبو داود. وعن أبى رافع: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ حرك خاتمه «5» . رواه ابن ماجه والدار قطنى وضعفه. وعن المستورد بن شداد: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره «6» ، رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه.
وعن عائشة: كانت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه. وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى «7» .
وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، وأنه ذهب لحاجة له وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ «8» . رواه
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (31) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وابن ماجه (430) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح.
(2) عرك: أى دلك.
(3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (432) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (145) فى الطهارة، باب: تخليل اللحية، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (449) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 83) وقال البوصيرى فى «الزوائد» : إسناده ضعيف، لضعف معمر وأبيه محمد بن عبيد الله.
(6) حسن: أخرجه أبو داود (148) فى الطهارة، باب: غسل الرجلين، والترمذى (40) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل الأصابع، وابن ماجه (446) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، وأحمد فى «المسند» (4/ 229) ، وقال الترمذى: حديث حسن غريب، وهو كما قال.
(7) صحيح: وقد تقدم.
(8) صحيح: أخرجه البخارى (182) فى الطهارة، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ومسلم (274) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.
البخارى ومسلم. وعن صفوان بن عسال: صببت على النبى- صلى الله عليه وسلم- الماء فى السفر والحضر فى الوضوء «1» . رواه ابن ماجه. وفى ذلك جواز استعانة الرجل بغيره فى صب الماء فى الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل فى هذين الحديثين لجواز الإعانة المباشرة.
وقد روى الحاكم فى المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت:
أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بوضوء فقال: «أمسكى» ، فمسكت عليه. وهذا أصرح فى عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه فى الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، والله أعلم.
وفى الترمذى، من حديث معاذ بن جبل: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه «2» . وعن عائشة: كانت له- صلى الله عليه وسلم- خرقة ينشف بها بعد الوضوء «3» . قال الترمذى: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الراوى ضعيف عند أهل الحديث.
وقد احتجم- صلى الله عليه وسلم- ولم يتوضأ، ولم يزد، على غسل محاجمه «4» ، رواه الدار قطنى. وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ «5» . رواه البخارى ومسلم. وللنسائى: قال كان آخر الأمرين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (391) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، وفى إسناده حذيفة بن أبى حذيفة، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولذا قال عنه الحافظ فى «التقريب» (1155) : مقبول، أى: عند المتابعة.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (54) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المنديل بعد الوضوء، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : إسناده ضعيف.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (53) فيما سبق، وقال الترمذى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الباب شئ، وهو كما قال.
(4) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 151، 152) وضعفه.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (207) فى الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، ومسلم (354) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما-.
مما غيرت النار «1» . وشرب- صلى الله عليه وسلم- لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ وصلى «2» . رواه أبو داود، وأتى بالسويق فأمر به فثرى فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض «3» . رواه البخارى ومالك والنسائى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من النوم ربما توضأ، وربما لم يتوضأ، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه «4» كما فى البخارى وغيره. وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابى: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحى الذى يأتيه فى منامه.
,
وفيه فرعان أيضا:
,
وفيه فروع:
__________
(1) أخرجه أبو داود (1127) فى الصلاة، باب: الصلاة بعد الجمعة، والنسائى (3/ 113) فى الجمعة، باب: إطالة الركعتين بعد الجمعة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى فى «صحيح أبى داود» : صحيح المرفوع منه.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (523) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الصلاة قبل الجمعة وبعدها، عن عطاء عن ابن عمر- رضى الله عنهما-. قال الترمذى: حسن صحيح. وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : صحيح.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (882) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. من حديث ابن عمر وقد تقدم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (882) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. وقد تقدم.
(5) تقدم.
,
اعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أى طلب العطاء. ولم يخالف أحد من العلماء فى سنية الصلاة فى الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التى ليس فيها صلاة.
واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة فى الصحيحين وغيرهما: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الاستسقاء ركعتين «3» . وأما الأحاديث التى ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوى، وبعضها كان فى الخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفى بها، ولو لم تصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف فى جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، والاستسقاء أنواع:
الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه أحمد (1/ 293) من حديث ابن عباس ولفظه قال صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا من القرآن.
(3) تقدم.
وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال ابن عباس: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما صلى فى العيد «1» . رواه الترمذى وغيره.
وفى حديث عبد الله بن زيد المازنى، قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المصلى ليستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى «2» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية: خرج بالناس إلى المصلى ليستسقى فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه حين استقبل القبلة «3» . وفى رواية؛ قال: وحول رداءه وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله «4» .
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1165) فى الصلاة من حديث ابن عباس ولفظه خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى زاد عثمان فرقى على المنبر ثم اتفقا ولم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيد. والترمذى (558) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء، عن ابن عباس أيضا، وابن ماجه (1266) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء عن ابن عباس أيضا. واللفظ للترمذى. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6343) فى الدعوات، باب: الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (894) فى صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- واللفظ للبخارى.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (556) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) حسن: أخرجه الترمذى (1165) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. عن محمد بن مسلم بإسناده. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته- صلى الله عليه وسلم- حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك فى حديث عائشة عند أبى داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له فى المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله، ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، الذى لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذى لا إله إلا أنت الغنى ونحن الفقراء، اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين» ، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب- أو حول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال:
«أشهد أن الله على كل شئ قدير، وأنى عبد الله ورسوله» «2» .
وقد حكى ابن المنذر الاختلاف فى وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه- صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل.
ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى فى وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه- صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى للاستسقاء كان فى شهر رمضان سنة
__________
(1) سورة الفاتحة: 1- 5.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (1173) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث حسنه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
ست من الهجرة. وذكر الواقدى: أن طول ردائه- صلى الله عليه وسلم- كان ستة أذرع فى ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين فى ذراعين وشبر، كان يلبسهما فى الجمعة والعيدين.
وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه «1» . وقد استحب الشافعى فى الجديد فعل ما همّ به- صلى الله عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبى تبعا لغيره أن الشافعى اختار فى الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذى فى الأم ما ذكرته.
والجمهور على استحباب التحويل فقط. ولا ريب أن الذى استحبه الشافعى أحوط. وعن أبى حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شئ من ذلك.
واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد فى هذا الحديث بلفظ: «وحول الناس معه» «2» .
وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب فى حقهن.
واختلف فى حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه. وتعقبه ابن العربى بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك.
وتعقب بأن الذى جزم به يحتاج إلى نقل، والذى رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدار قطنى والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن جابر. ورجح الدار قطنى إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1164) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائى (1507) فى الاستسقاء، باب: الحال التى يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) أخرجه أحمد (4/ 39 و 41) .
واستدل بقوله فى حديث عائشة: «ثم صلى ركعتين» بعد قوله: «فقعد على المنبر» على أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة، وهى مقتضى حديث ابن عباس، لكن وقع عند أحمد فى حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا فى حديث أبى هريرة عند ابن ماجه، حيث قال:
فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة «1» ، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثانى.
ولم يقع فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدار قطنى من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما ب سَبِّحِ «2» وهَلْ أَتاكَ «3» «4» . وفى إسناده مقال. لكن أصله فى السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيدين. فأخذ بظاهره الشافعى فقال يكبر فيهما.
الثانى: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- فى خطبة الجمعة. عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، قال أنس: ولا والله ما نرى فى السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين «سلع» من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب فى الجمعة المقبلة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1274) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين، من حديث ابن عباس وليس أبى هريرة.
(2) سورة الأعلى: 1.
(3) سورة الغاشية: 1.
(4) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 66) .
الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» ، قال:
فانقطعت وخرجنا نمشى فى الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك:
أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدرى «1» . رواه مسلم. وفى رواية قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة مثل الجوبة، وسال وادى قناة شهرا. ولم يجئ أحدا من ناحية إلا أخبر بجود «2» .
وقوله: «يغيثنا» بفتح أوله، يقال: غاث الله البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر. وقوله: «من باب كان نحو دار القضاء» هى دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك لأنها بيعت فى قضاء دينه. وقوله: «هلكت الأموال» ، وفى رواية كريمة وأبى ذر عند الكشميهنى: هلكت المواشى، وهى المراد بالأموال هنا: وفى رواية البخارى: هلك الكراع- بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفى البخارى أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد فى طريقها من الكلأ ما يقيم أودها.
و «الآكام» بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع «أكمة» - بفتحات-:
التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل؛ ما ارتفع من الأرض.
و «الظراب» بكسر المعجمة، جمع «ظرب» - بكسر الراء-: الجبل المنبسط العالى. وقوله: «مثل الجوبة» بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هى الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة فى السحاب. و «الجود» :
المطر الغزير. وقوله: «قناة شهرا» : أى جرى فيه المطر من الماء شهرا.
وفى هذا دليل على عظم معجزته- صلى الله عليه وسلم-، وهو أن سخرت السحاب
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (933) فى الجمعة، باب: الاستسقاء فى الخطبة يوم الجمعة، ومسلم (897) فى الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) تقدم فى الذى قبله.
له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام، لأن كلامه- صلى الله عليه وسلم- مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالطاعة له- صلى الله عليه وسلم- لما كان ذلك، لأنها أيضا- كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ورحم الله الشقراطيسى فلقد أحسن حيث قال:
دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل
صعّدت كفيك إذ كفّ الغمام فما ... صوبت إلا بصوب الواكف الهطل
أراق بالأرض ثجا صوب ريقه ... فحل بالروض نسجا رائق الحلل
زهر من النور حلت روض أرضهم ... زهرا من النّور صافى النبت مكتمل
من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل
تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السبل بالسبل
دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل
وقوله فى الحديث «سبتا» : أى من السبت إلى السبت. وقوله: «ثم دخل رجل» الظاهر أنه غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفى رواية ابن إسحاق: فقام الرجل أو غيره، وفى رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفى مثل الإكليل- وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شئ دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج-.
وفى رواية له أيضا: فألف الله بين السحاب ومكثت حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتى أهله، وفى رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى. والملاء: بضم الميم والقصر وقد تمد، جمع ملاءة وهى ثوب معروف.
واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعى، وأما الثانى
فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذى وقع فى هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافى مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت فى واقعة أخرى كما تقدم، والله أعلم.
الثالث: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- على منبر المدينة. روى البيهقى فى الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمى قال: لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أتاه وفد من بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، وفيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم فقالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله!! ويلك، أنا شفعت إلى ربى، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد» فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم» ، فقال أعرابى: أو يضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، فقال الأعرابى: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا. فضحك- صلى الله عليه وسلم- من قوله، فقام- صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه فى شئ من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعاءه:
«اللهم اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مربعا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» .
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر فى المربد، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اسقنا» ، فقال أبو لبابة: إن التمر فى المرابد، ثلاث
مرات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» .
قال: فلا والله ما فى السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فو الله ما رأوا الشمس سبتا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.
فقال الرجل: يا رسول الله- يعنى الذى سأله أن يستسقى له-: هلكت الأموال، وانقطعت السبل. فصعد- صلى الله عليه وسلم- المنبر فدعا ورفع يديه مدّا، حتى رؤى بياض إبطيه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب «1» .
و «الأطيط» صوت الأقتاب، يعنى: أن الكرسى ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله. وهذا مثل لعظمته تعالى وجلاله، ولم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى.
وقوله: «طبقا» بفتح الطاء والموحدة، أى مالئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق أى عام واسع. و «المربد» : موضع يجفف فيه التمر.
و «ثعلبه» ثقبه الذى يسيل منه ماء المطر.
وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبى يغط، ولا بعير يئط- أى ما لنا بعير أصلا لأن البعير لا بد أن يئط- وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمى لبانها ... وقد شغلت أم الصبى عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلى
__________
(1) تقدم فى الذى قبله.
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامى والعلهز الغسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام- صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيى به الأرض بعد موتها» قال: فما رد- صلى الله عليه وسلم- يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل. وضحك- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: «لله در أبى طالب، لو كان حيّا لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟» فقال على: يا رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال: «أجل» رواه البيهقى.
وقوله: «يدمى لبانها» أى يدمى صدرها لامتهانها نفسها فى الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللبان من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس. وقوله: «ما يمر وما يحلى» أى ما ينطق بخير ولا بشر من الجوع والضعف. وقوله: «سوى الحنظل العامى» نسبة إلى العام، لأنه يتخذ فى عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة. «والعلهز» بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير فى سنى المجاعة. قاله الجوهرى. و «الغسل» الرذل، قال السهيلى: فإن قلت: كيف قال أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» ولم يره قط يستسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟
وأجاب بما حاصله: أن أبو طالب أشار إلى ما وقع فى زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبى- صلى الله عليه وسلم- معه وهو غلام. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك فيه. انتهى.
قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقى؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما فى السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا، وأغدق واغدودق وانفجر له الوادى وأخصب النادى والبادى، وفى ذلك يقول أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» انتهى.
الرابع: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- بالدعاء من غير صلاة. عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ «1» ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «2» ، يوم بدر. زاد أسباط عن منصور: فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، وشكا الناس كثرة المطر فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم «3» . رواه البخارى.
وأفاد الدمياطى أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلا الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبى- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة الدخان: 10.
(2) سورة الدخان: 16.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1169) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
بذلك بالمدينة فى القنوت كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو عليهم مرارا. والظاهر أن مجئ أبى سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: «ثم عادوا، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «1» يوم بدر» ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فلذلك قال: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل.
وفى الدلائل للبيهقى عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، وأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق الله لمضر، قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ودعوت الله فأجابك، فرفع يديه فقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا» الحديث فظهر أن هذا الرجل المبهم المقول له: «إنك لجرئ» هو أبو سفيان.
لكن يظهر أن فاعل «قال يا رسول الله استنصرت الله إلخ» هو كعب بن مرة راوى هذا الحديث، فما أخرجه أحمد والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال: «دعا رسول الله على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا» . وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشئ، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت فى هذه ما ثبت فى تلك من قوله «إنك لجرئ» ومن قوله: «اللهم حوالينا ولا علينا» . وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله «استنصرت الله فنصرك» .
ولا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة مع قصة أنس السابقة، فهى واقعة أخرى، لأن فى رواية أنس «فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا» وفى هذه «فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا» ، والسائل فى هذه القصة غير السائل فى تلك، فهما قصتان، وقع فى كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم
__________
(1) سورة الدخان: 16.
طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: «استنصرت الله فنصرك» على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصا من فتح البارى.
الخامس: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، وهى خارج باب المسجد الذى يدعى باب السلام نحو قذفة بحجر، ينعطف على يمين الخارج من المسجد. عن عمير، مولى أبى اللحم، أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يستسقى رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوزهما رأسه «1» ، رواه أبو داود والترمذى.
السادس: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- فى بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيّا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أو قد قالوها، عسى ربكم أن يسقيكم» ، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادى، فشرب الناس وارتووا.
,
عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرة مرة «2» . رواه البخارى وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «3» الآية. إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة، للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب. وأما حديث أبى بن كعب أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» «4» ، ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قال فى فتح البارى.
وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ مرتين مرتين وقال:
«نور على نور» «5» ذكره رزين، وعن عثمان- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (57) فى الطهارة، باب: ما جاء فى كراهية الإسراف فى الوضوء بالماء، وابن ماجه (421) فى الطهارة، باب: ما جاء فى القصد فى الوضوء وكراهة التعدى فيه، وأحمد فى «المسند» (5/ 136) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (157) فى الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (420) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى في «سننه» (1/ 81) ، وقال البوصيرى فى الزوائد. فى إسناده زيد هو العمى، ضعيف، وكذا الراوى عنه، ورواه الإمام أحمد فى مسنده عن أبى إسرائيل عن زيد العمى عن نافع عن ابن عمر.
(5) صحيح دون طرفه الأخير: والحديث أخرجه البخارى (158) فى الوضوء، باب: الوضوء مرتين مرتين، ولم أقف على زيادة «نور على نور» .
توضأ ثلاثا ثلاثا «1» . رواه أحمد ومسلم. وعنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا وقال: «هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى ووضوء إبراهيم» «2» .
ذكره رزين، وضعفه النووى فى شرح مسلم كما حكاه فى مشكاة المصابيح.
ولم يأت فى شئ من الأحاديث المرفوعة فى صفة وضوئه- صلى الله عليه وسلم- أنه زاد على ثلاث، بل روى عنه أنه نهى عن الزيادة على الثلاث.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» «3» ، رواه أبو داود بإسناد جيد، لكن عده مسلم فى جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة.
وأجيب: بأنه أمر نسبى، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة، وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم عن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: «الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على الثلاث فقد أخطأ» «4» وهو مرسل رجاله ثقات.
وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد فقط، كذا رواه ابن خزيمة فى صحيحه. قال الشافعى: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد أكرهه، أى لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضى الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (230) فى الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (419) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 79- 81) ، من حديث ابن عمر، ولم أجده من حديث عثمان، وقال البوصيرى فى «الزوائد» فى الإسناد زيد العمى وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلق ابن عمر، قاله أبو حاتم فى العلل وصرح به الحاكم فى المستدرك.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (135) فى الطهارة، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.
(4) المطلب بن حنطب، مختلف فى صحبته بين من أثبتها وبين من نفاها، وعلى ذلك فمن الممكن أن يكون حديثه موصولا.
وحكى الدارمى من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة فى الصلاة، وهو قياس فاسد. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.
ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.
,
عن ثوبان: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» «1» رواه مسلم. ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك. وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى أقبل على أصحابه. فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقول بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يسرع الانفتال إلى المأمومين، وكان ينفتل عن يمينه وعن شماله.
وقال ابن مسعود: رأيته- صلى الله عليه وسلم- كثيرا ينصرف عن يساره «2» ، رواه الشيخان. وقالت أم سلمة: كان إذا سلم مكث فى مكانه يسيرا «3» ، قالت «4» : فنرى- والله أعلم- لكى ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال.
رواه البخارى.
وقالت عائشة: كان لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (591) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته من حديث ثوبان وعائشة، والترمذى (298) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (852) فى الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، ومسلم (707) فى صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (850) فى الأذان، باب: مكث الإمام فى مصلاه بعد الصلاة، وابن ماجه (932) فى إقامة الصلاة، باب: الانصراف من الصلاة من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.
(4) القائل هو الزهرى وليست أم سلمة كما ذكر المصنف.
ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام» «1» . رواه مسلم. وهذا الحديث يتمسك به من قال إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع.
والجواب: إن المراد بالنفى المذكور نفى استمراره- صلى الله عليه وسلم- جالسا على هيئته قبل السلام إلا بمقدار أن يقول ما ذكر. وكان يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «2» . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة.
وكان يقول بأعلى صوته: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» «3» ، رواه مسلم من حديث عبد الله بن الزبير.
وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهن دبر الصلوات «اللهم إنى أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» «4» رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (592) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والترمذى (298) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (844) فى الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، من حديث المغيرة ابن شعبة- رضى الله عنه-، ومسلم (477) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (594) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائى (1340) فى السهو، باب: عدد التهليل والذكر بعد التسليم، من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (2822) فى الجهاد، باب: ما يتعوذ من الجبن، والترمذى (3567) فى الدعوات، باب: دعاء النبى وتعوذه فى دبر كل صلاة، من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-.
وعن زيد بن أرقم: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول دبر كل صلاة: «اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة، اللهم ربنا ورب كل شئ، اجعلنى مخلصا لك وأهلى فى كل ساعة فى الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر حسبى الله ونعم الوكيل، الله أكبر الله أكبر» «1» . رواه أبو داود وأحمد.
ورأيت فى كتاب «الهدى» لابن القيم: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء للمنفرد والإمام والمأموم، فلم يكن ذلك من هدى النبى- صلى الله عليه وسلم- أصلا، ولا روى عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخصص بعضهم بصلاتى الفجر والعصر، ولم يفعله النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا عن السنة بعدهما.
قال: وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو الأليق بحال المصلى، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله فى حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه.
ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهى الذكر الوارد بعد المكتوبة، لا لكونه دبر المكتوبة، انتهى.
وقد كان فى خاطرى من دعواه «النفى مطلقا» شئ لما سيأتى، ثم رأيت شيخ مشايخنا إمام الحفاظ أبا الفضل ابن حجر تعقبه فقال:
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 369) ، وأبو داود (1508) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
وما ادعاه من النفى مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا معاذ والله إنى لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول:
اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» «1» . أخرجه أبو داود والنسائى.
وحديث زيد بن أرقم: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يدعو فى دبر الصلاة: «اللهم ربنا ورب كل شئ» «2» . أخرجه أبو داود والنسائى.
وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة: «اللهم أصلح لى دينى» «3» . أخرجه النسائى وصححه ابن حبان. وغير ذلك.
ثم قال: فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا:
قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد أخرج الترمذى من حديث أمامة: قيل يا رسول الله أى الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات» «4» ، وقال: حسن، وأخرج الطبرانى من رواية جعفر بن محمد الصادق قال:
«الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1522) فى الصلاة، باب: الاستغفار، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-، وصححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1508) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم. من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (3/ 73) فى السهو، باب: نوع آخر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة، من طريق عطاء بن أبى مروان عن أبيه قال: وحدثنى كعب أن صهيبا حلف أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- كان يقولهن عند انصرافه من صلاته، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى إسناده فى «ضعيف سنن النسائى» .
(4) حسن: أخرجه الترمذى (3499) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: حديث حسن، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
قال: وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفى الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلى القبلة، وإيراده عقب السلام، وأما إذا انفتل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- حين تقام الصلاة فى المسجد إذا رآهم قليلا جلس، وإذا رآهم جماعة صلى. رواه أبو داود. وقال أبو مسعود البدرى: كان- صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا فى الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلنى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم» «1» رواه مسلم.
وقال ابن عباس: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى فقمت عن يساره، فأخذ بيدى من وراء ظهره فعدلنى كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن «2» .
رواه البخارى ومسلم.
قال أنس: سقط- صلى الله عليه وسلم- عن فرس، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا» ، حتى قال: «وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون» «3» . زاد بعض الرواة: وإذا صلى قائما فصلوا قياما. رواه البخارى ومسلم.
قال الحميدى: ومعانى سائر الروايات متقاربة وزاد البخارى: قوله:
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (432) فى الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، وأبو داود (674) فى الصلاة، باب: من يستحب أن يلى الإمام فى الصف وكراهية التأخير. والنسائى (2/ 87) فى الإمامة، باب: من يلى الإمام ثم الذى يليه، من حديث أبى مسعود وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (117) فى العلم، باب: السمر فى العلم، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، فى الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (688) فى الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، من حديث عائشة- رضى الله عنهما-، ومسلم (411) فى الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام من حديث أنس- رضى الله عنه-.
«وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» «1» هو فى مرضه القديم. وقد صلى فى مرضه الذى مات فيه جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره- صلى الله عليه وسلم- انتهى.
وقال الشافعى وأبو حنيفة وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلى خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى مرض موته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما. وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر- رضى الله عنه- كان هو الإمام، والنبى- صلى الله عليه وسلم- مقتد به، لكن الصواب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان هو الإمام.
,
اعلم أن السهو هو الغافلة عن الشئ، وذهاب القلب إلى غيره، قاله
الأزهرى. وفرق بعضهم- فيما حكاه القاضى عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز فى الصلاة على الأنبياء، - عليهم الصلاة والسلام-، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يسهو فى الصلاة ولا يغافل عنها، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما هو فى الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى.
قال ابن كيكلدى: وهو ضعيف من جهة الحديث ومن جهة اللغة، أما من جهة الحديث فلما ثبت فى الصحيحين من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» «1» ، وأما من جهة اللغة فقول الأزهرى الماضى، ونحوه قول الجوهرى وغيره.
وقال فى النهاية: السهو فى الشئ: تركه من غير علم، والسهو عنه:
تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذى وقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- غير مرة، والسهو عن الصلاة الذى ذم الله فاعله.
وقد كان سهوه- صلى الله عليه وسلم- من إتمام نعم الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذى فى الموطأ- الآتى التنبيه عليه إن شاء الله تعالى- إنما أنسى أو أنسى لأسن «2» ، فكان- صلى الله عليه وسلم- ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجرى على سهو أمته إلى يوم القيامة. واختلف فى حكمه: فقال الشافعية والمالكية:
مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة.
وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات، فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (401) فى الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (572) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له.
(2) أخرجه مالك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.
وعن الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث ابن مسعود عند البخارى «ليسجد سجدتين» «1» والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله فى الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» «2» انتهى.
وقد ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم. فعن الأعرج عن عبد الله بن مالك بن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم «3» . رواه البخارى.
وهو رواية له عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن بحينة أيضا أنه قال:
إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وفى روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام فى صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس.
ورواه مسلم أيضا. وزاد الضحاك عن الأعرج- عند ابن خزيمة- بعد قوله:
«ثم قام فلم يجلس» فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته.
وفى رواية الترمذى: قام فى الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كان جماعة، والدارمى (1253) فى الصلاة، باب: من أحق بالإمامة. من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1225) فى الجمعة، باب: ما جاء فى السهو إذا قام من ركعتى الفريضة، ومسلم (570) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-.
وفى هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان. فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شئ، أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر فى غيرهما من السجود. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، فى كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية.
واستدل به أيضا على أن المأمون يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم.
وأن سجود السهود لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور. وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية ابن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلى الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعى.
عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «أحق ما يقول هذا؟» قالوا: نعم.
فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقى منها، وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-. رواه البخارى. وقوله: «صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» ظاهر فى أن أبا هريرة حضر القصة.
وحمله الطحاوى على المجاز، فقال المراد به: صلى بالمسلمين. وسبب ذلك قول الزهرى: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبى هريرة بأكثر من خمس سنين. لكن اتفق أئمة الحديث- كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهرى وهم فى ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذى الشمالين، وذو الشمالين هو الذى قتل ببدر، وهو خزاعى، واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-
بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- كما أخرجه الطبرانى وغيره، وهو سلمى، واسمه الخرباق، كما سيأتى، فلما وقع عند الزهرى بلفظ «فقام ذو الشمالين» وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر.
وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذى الشمالين وذى اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذى الشمالين، وشاهد الآخرى وهى قصة ذى اليدين، وهذا محتمل فى طريق الجمع. وروى البخارى أيضا عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتى العشى- قال محمد بن سيرين: وأكثر ظنى العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبى- صلى الله عليه وسلم- ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: «لم أنس، ولم تقصر» ، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر «1» .
وعن ابن عمران بن حصين أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان فى يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: «أصدق هذا؟» قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم «2» . رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخارى.
ورواه أحمد وأبو داود.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (482) فى الصلاة، باب: تشبيك الأصابع، وفى الجمعة، باب: من يكبر فى سجدتى السهو، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (574) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، وأبو داود (1018) فى الصلاة باب: السهو فى السجدتين، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.
و «الخرباق» بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذى اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو كناية عن طولهما بالعمل أو البذل.
قال الحافظ ابن حجر: الظاهر فى نظرى توحد حديث أبى هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحامل لهم على ذلك الخلاف الواقع فى السياقين، ففى حديث أبى هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه- صلى الله عليه وسلم- قام إلي خشبة فى المسجد، وفى حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى كيكلدى العلائى أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم فى ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذى اليدين فى كل مرة استفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، واستفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- الصحابة عن صحة قوله. وأما الثانى: فلعل الراوى لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت فى جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبى هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعى وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة. انتهى.
وعن معاوية بن حديج- بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى يوما فانصرف وقد بقى من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال:
نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت:
لا، إلا أن أراه، فمر بى فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله «1» . رواه أبو داود والبيهقى فى سننهما، وابن خزيمة فى صحيحه، وعين الصلاة المغرب.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1023) فى الصلاة، باب: إذا صلى خمسا، والنسائى (2- 12) فى الأذان، باب الإقامة لمن نسى ركعة من الصلاة، من حديث معاوية بن حديج- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذى اليدين، لأن المعلم للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه القصة طلحة بن عبيد الله، ومخبره فى تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه- صلى الله عليه وسلم- فى قصة ذى اليدين إنما كان فى الظهر أو العصر، وفى هذه القصة إنما كان السهو فى المغرب لا فى الظهر ولا فى العصر.
وعن محمد بن سيرين عن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أصدق ذو اليدين؟» فقال الناس. نعم، فقام- صلى الله عليه وسلم- فصلى اثنتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة أو أطول، ثم رفع.
وفى رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد- يعنى ابن سيرين- فى سجدتى السهو تشهد؟ فقال: ليس فى حديث أبى هريرة. رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع فى غير هذه الرواية لفظ «القيام» وقد استشكل بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان قائما.
وأجيب: بأن المراد بقوله: «فقام» أى اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما أمر.
وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: «ليس فى حديث أبى هريرة» أنه ورد فى حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذى وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبى قلابة أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذى: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقى وابن عبد البر وغيرهما.
ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فرواية أشعث شاذة.
لكن قد ورد فى التشهد فى سجود السهو عن ابن مسعود عند أبى داود والنسائى، وعن المغيرة عند البيهقى، وفى إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة فى التشهد باجتماعها ترتقى إلى درجة الحسن، قال العلائى: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبى شيبة. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وفى رواية أبى سفيان عن أبى هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر، فسلم فى ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كل ذلك لم يكن» ، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله.
وفى رواية أبى داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبى هريرة فى هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو.
وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام فى سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث.
وقال أبو داود: لم يقل أحد: «كبر ثم كبر» إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة فى هذا الحديث الجذع الذى كان- صلى الله عليه وسلم- يستند إليه قبل اتخاذ المنبر. وإنما وقع الاستفهام «هل قصرت الصلاة؟» لأن الزمان كان زمان النسخ.
وقوله: فقال: «لم أنس ولم تقصر» صريح فى نفى النسيان ونفى القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله فى رواية أبى سفيان المتقدمة «كل ذلك لم يكن» ، وتأييد لما قاله أصحابه المعانى بأن لفظة «كل» إذا تقدمت وعقبها النفى كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين فى رواية أبى سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه فى هذه الرواية بقوله: «بلى قد نسيت» لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه فى الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.
وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبى السهو، وهذا الحديث يرد عليهم- يعنى حديث ابن مسعود- فإن فيه «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» . وإن كان القاضى عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو فى الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه.
نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع فى هذا الحديث من قوله: «لم أنس ولم تقصر» ثم تبين أنه نسى.
ومعنى قوله: «لم أنس» أى فى اعتقادى، لا فى نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو فى مثل ذلك بيان الحكم الشرعى إذا وقع مثله لغيره. وأما من منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:
فقيل: قوله «لم أنس» نفى للنسيان، ولا يلزم منه نفى السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم تضعيفه، ويكفى فيه قوله فى هذه الرواية:
«بلى قد نسيت» وأقره على ذلك.
وقيل: قوله: «لم أنس» على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول.
وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخارى ومسلم بلفظ «صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث فى الصلاة شئ؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا:
صليت كذا وكذا، قالوا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: «إنه لو حدث فى الصلاة شئ لنبأتكم به، ولكن
إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون. فإذا نسيت فذكرونى، وإذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» .
ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله: «إنما أنا بشر مثلكم» ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له، حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: «كما تنسون» .
وبهذا الحديث أيضا يرد قول من قال: «معنى قوله لم أنس» إنكار اللفظ الذى نفاه عن نفسه حيث قال: «إنى لأنس أو أنسّى لأسن» «2» وإنكار للفظ الذى أنكره على غيره حيث قال: «بئسما لأحدكما أن يقول نسيت آية كذا وكذا» «3» .
وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث «لا أنسى» لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التى لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهى أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شئ، فإن الفرق بينهما واضح جدّا.
وقيل: إن قوله «لم أنس» راجع إلى السلام، أى سلمت قصدا بانيا على اعتقادى أنى صليت أربعا، وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال: «بلى قد نسيت» ، وكأن هذا القول أوقع شكّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين.
وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذى اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغايرا لما فى اعتقاده.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه ملك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5032) فى فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعهده، بلفظ (نسيت آية كيت وكيت) ، ومسلم (790) فى صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسى بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به.
وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع فى العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره.
وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافى سهوا. وقال سحنون:
إنما يا بنى من سلم من ركعتين كما فى قصة ذى اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتى العشى، فيمنعه مثلا فى الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل.
وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها.
وتعقب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذى اليدين له:
«بلى قد نسيت» وقول الصحابة له: «صدق ذو اليدين» فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ فى وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنّا أنهم ليسوا فى صلاة. كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لم تقصر» .
وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا، كما عند أبى داود فى رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابى، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ، بخلاف عكسه، فينبغى رد الروايات التى فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهو قوى، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم قال بالإشارة. لكن يقول قول ذى اليدين: «بلى قد نسيت» .
ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان
جوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم-، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة.
وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته فى التشهد، وهو حى، بقولهم: السلام عليك أيها النبى، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه. وعن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد فى الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه: «بعد ما سلم» وعبد الله هذا هو ابن مسعود. ففى هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف فى ذلك.
فقال مالك والمزنى، وأبو ثور- من الشافعية- بالتفرقة إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، فى الأول يسجد قبل السلام، وفى الزيادة يسجد بعده.
وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه فى النقص جبر، فينبغى أن يكون من أصل الصلاة، وفى الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها.
وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها فيعم الحكم جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص.
وتعقب بأن كون السجود فى الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص فى المعنى.
وقال الخطابى: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذى اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهى عن نقصان.
وأما قول النووى: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره:
بل طريق أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه شئ يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم. وعند
إمامنا الشافعى: سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا.
وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد فى الصلاة، وقد اتفق العلماء فى هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة فى الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ.
وأجاب بعضهم: بما وقع فى حديث ابن مسعود من الزيادة. وهى:
«إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» .
وأجيب: بأنه معارض بحديث أبى سعيد عند مسلم، ولفظه: «إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» «2» . وبه تمسك الشافعية.
وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقى طريقة التخيير فى سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردى الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف فى الأفضل، وكذا أطلق النووى.
وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل فى «النهاية» الخلاف فى الإجزاء عن المذهب: واستبعد القول بالجواز. ويمكن أن يقال: الإجماع الذى نقله الماوردى والنووى قبل هذه الآراء فى المذاهب المذكورة والله أعلم، قاله الحافظ ابن حجر- رحمه الله-. ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعى ومالك وأبى حنيفة وأحمد سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو فى التطوع كالفرض.
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (571) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
,
عن ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى سبحته حيثما توجهت به ناقته «1» . وفى رواية: يصلى وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيث كان وجهه وفيه نزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «2» «3» . وفى رواية: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وفى رواية: كان يوتر على البعير «4» ، رواه مسلم.
وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، فى جواز التنفل على الراحلة فى السفر حيث توجهت، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبلا القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك ما فى حديث أنس عند أبى داود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتطوع فى السفر استقبل بناقته القبلة ثم صلى حيث توجهت ركابه «5» . وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت فى أسفاره- صلى الله عليه وسلم-، ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار فى ذلك.
وقوله: «يصلى على حمار» ، قال النووى: قال الدار قطنى وغيره: هذا
__________
(1) تقدم.
(2) سورة البقرة: 115.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (1225) فى الصلاة، باب: التطوع على الراحلة والوتر. من حديث أنس وتقدم بنحوه فى الصحيح عن ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
غلط من عمرو بن يحيى المازنى، وإنما المعروف فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على راحلة أو بعير. والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم. ثم قال: وفى تغليط راويه نظر لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات، لكن قد يقال إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور، والشاذ مردود. انتهى.
وعن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده، أنهم كانوا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مسيرة فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا، السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماء، فجعل السجود أخفض من الركوع «1» . رواه الترمذى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر. من حديث يعلى بن مرة بن وهب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
,
وفيه فصول:
,
,
وفيه فروع أربعة:
,
اعلم أن بالصلاة يحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة. وقد جمع الله تعالى للمصلين فى كل ركعة ما فرق على أهل السموات، فلله ملائكة فى الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود.
واجتمع فيها أيضا من العبوديات ما لم يجتمع فى غيرها، منها:
الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (288) فى الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (305) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له.
والركوع والسجود، والتسبيح فى الركوع، والدعاء فى السجود، إلى غير ذلك. فهى مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة وكذا كل فرد فرد.
وقد أمر الله تعالى نبيه بالصلاة فى قوله سبحانه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ «1» ، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» .
وفى ذلك- كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير «3» : أمدنا الله بمدده- إشارة إلى أن فى الصلاة تكليفا للنفوس شاقّا عليها، لأنها تأتى فى أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فيطالبون بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ مما سوى الله تعالى، فلذلك قال تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «4» .
قال: ومما يدل على أن فى القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «5» . فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج فى الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها من غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «6» فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر، إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير، فذلك يدل على ما قلنا، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى فى الآية الآخرى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «7» . انتهى ملخصا.
ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام:
__________
(1) سورة العنكبوت: 45.
(2) سورة طه: 132.
(3) هو: كتاب «التنوير فى إسقاط التدبير» لابن عطاء الله الإسكندرانى المتوفى سنة (709 هـ) . انظر كشف الظنون لحاجى خليفة (1/ 502) .
(4) سورة طه: 132.
(5) سورة البقرة: 45.
(6) سورة البقرة: 45.
(7) سورة التوبة: 62.
[القسم الأول] فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب
,
عن شريح بن هانئ قالت عائشة- رضى الله عنها-: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتى إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات «1» . رواه أبو داود. وكان يقوم إذا سمع الصارخ «2» . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. وهو يصرخ فى النصف الثانى. وقالت: كان- صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل ويقوم آخره، فيصلى ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج «3» . رواه الشيخان. وقالت أيضا:
كان- صلى الله عليه وسلم- ربما اغتسل فى أول الليل، وربما اغتسل فى آخره، وربما أوتر فى أول الليل، وربما أوتر فى آخره، وربما جهر بالقراءة، وربما خفت «4» .
وقالت أم سلمة: كان يصلى بنا ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح «5» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى.
وفى رواية للنسائى: كان يصلى العتمة، ثم يسبح ثم يصلى بعدها ما شاء من
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1353) فى الصلاة، باب: بعد صلاة العشاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1132) فى الجمعة، باب: من نام عند السحر، ومسلم (741) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (علي 1146) فى الجمعة، باب: من نام أول الليل وأحيا آخره، ومسلم (739) فى صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أخرجه أحمد (6/ 256) ، وأبو داود (236) فى الطهارة، باب الجنب يؤخر الغسل من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: حسن إلا قول أم سليم المرأة ترى ... إلخ.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1466) فى الصلاة باب: استحباب الترتيل فى القراءة، والترمذى (2923) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبى، من حديث أم سلمة زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وليس فيه (صلى بنا) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه فيصلى مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح «1» .
وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه «2» . رواه النسائى.
وكان إذا استيقظ من الليل قال: «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبى، وأسألك رحمتك، اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى إذ هديتنى، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» «3» رواه أبو داود من حديث عائشة.
وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا هب من الليل كبر الله عشرا، وحمد الله عشرا، وقال سبحان الله وبحمده عشرا، وقال سبحان الملك القدوس عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل عشرا، ثم قال: «اللهم إنى أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا» ، ثم يفتتح الصلاة «4» . رواه أبو داود. وقد روى حديث قيامه بالليل ووتره عائشة وابن عباس.
قال ابن القيم: وإذا اختلف ابن عباس وعائشة فى شئ من أمر قيامه- صلى الله عليه وسلم- بالليل، فالقول قول عائشة، لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل.
__________
(1) ضعيف: أخرجه النسائى (3/ 214) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر صلاة رسول الله بالليل، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1141) فى الجمعة، باب: قيام النبى بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، والترمذى (769) فى الصوم، باب: ما جاء فى سرد الصوم من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (5061) فى الأدب، باب: ما يقول الرجل إذا تعار من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها- ولفظه (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبى وأسألك رحمتك، اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (5085) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
انتهى. فأما حديث ابن عباس، فرواه البخارى ومسلم بلفظ: بت عند خالتى ميمونة ليلة والنبى- صلى الله عليه وسلم- عندها، فتحدث النبى- صلى الله عليه وسلم- مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قعد ينظر إلى السماء فقرأ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها «2» ، ثم صب فى الجفنة «3» ، ثم توضأ وضوآ حسنا بين الوضوءين «4» لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت فقمت عن يساره، فأخذ بأذنى فأدارنى عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فاذنه بلال الصلاة فصلى ولم يتوضأ. وكان يقول فى دعائه: «اللهم اجعل فى قلبى نورا، وفى بصرى نورا، وفى سمعى نورا، وعن يمينى نورا، وعن يسارى نورا، وفوقى نورا وتحتى نورا، وأمامى نورا وخلفى نورا، واجعل لى نورا» «5» ، وزاد بعضهم: وفى لسانى نورا، وذكر: عصبى ولحمى ودمى وشعرى وبشرى «6» .
وفى رواية: فصلى ركعتين خفيفتين، قلت قرأ فيها بأم الكتاب فى كل ركعة، ثم سلم، ثم صلى إحدى عشر ركعة بالوتر ثم نام، فأتاه بلال فقال:
الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين ثم صلى للناس «7» . وفى رواية:
فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه فى كل ركعة
__________
(1) سورة آل عمران: 190.
(2) القربة: إناء من جلد لحفظ الماء والشناق رباط القربة وما تشد به.
(3) الجفنة: القصعة وهى إناء يسع ما يشبع عشرة.
(4) قوله (وضوآ بين وضوءين) وقال ابن حجر: قد فسره بقوله (لم يكثر وقد أبلغ) وهو يحتمل أن يكون قلل الماء مع التثليث أو اقتصر على دون الثلاث.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (6316) فى الدعوات، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) تقدم فى الحديث الذى قبله.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (763) فى صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
بقدر يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» . وفى رواية: فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمانى ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس فيهن. وفى رواية النسائى: أنه صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام حتى استثقل فرأيته ينفخ فأتاه بلال، الحديث.
وفى أخرى له: فتوضأ واستاك وهو يقرأ هذه الآية حتى فرغ منها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ثم صلى ركعتين. ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك ثم صلى ركعتين ثم نام ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر بثلاث.
ولمسلم: فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاث «4» .
وأما حديث عائشة فعن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة فقلت:
يا أم المؤمنين، انبئينى عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن، قلت: يا أم المؤمنين، أنبئينى عن وتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقالت: كنا نعد له- صلى الله عليه وسلم- سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلى تسع ركعات ولا يجلس فيها إلا فى الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع فى الركعتين مثل صنيعه
__________
(1) سورة المزمل: 1.
(2) سورة البقرة: 164.
(3) سورة البقرة: 164.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (763) وقد تقدم.
فى الأول، فتلك تسع يا بنى «1» . رواه مسلم. وللنسائى: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلى تسع ركعات، ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، ويحمد الله تعالى ويصلى على نبيه ويدعو بينهن ولا يسلم، ثم يصلى ويقعد ويحمد الله تعالى ويصلى على نبيه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين وهو قاعد- زاد فى أخرى:
فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى «2» - فلما أسن- صلى الله عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم، فتلك تسع، أى بنى «3» .
وفى رواية له: فصلى ست ركعات يخيل إلىّ أنه سوى بينهن فى القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة، ثم يصلى ركعتين وهو جالس ثم يضع جنبه. وعن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين «4» . رواه مسلم وأحمد.
وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة فى ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين لنا الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة «5» ، رواه أبو داود. وعنها قالت: كان يصلى ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس فى شئ إلا فى آخرها «6» . رواه البخارى ومسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والنسائى (1601) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: قيام الليل، وهو جزء من حديث سعد بن هشام أنه لقى ابن عباس فسأله عن الوتر، فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: نعم، قال عائشة ائتها فسلها ... الحديث.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (767) وتقدم فى الذى قبله.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (994) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الوتر، وأبو داود (1336) فى الصلاة، باب: صلاة الليل، من حديث عائشة واللفظ لأبى داود.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (1164) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى ركعتى الفجر، ومسلم (737) فى صلاة المسافرين، باب. صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل من حديث عائشة واللفظ لمسلم.
وفى البخارى عن مسروق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتى الفجر «1» . وعنده أيضا، عن القاسم بن محمد، عنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر «2» .
قال القرطبى: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم، حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب. وهذا إنما يتم لو كان الراوى عنها واحدا، وأخبرت عن وقت واحد.
والصواب: أن كل شئ ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة، وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، انتهى. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله. قيل: والحكمة فى عدم الزيادة على إحدى عشرة: أن التهجد، والوتر مختص بصلاة الليل، وفرائض النهار: الظهر وهى أربع، والعصر وهى أربع، والمغرب وهى ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار فى العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة «ثلاث عشرة» فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها.
انتهى.
وعن زيد بن خالد الجهنى أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الليلة، قال: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة «3» . رواه مسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1139) فى الجمعة، باب: كيف كان صلاة النبى وكم كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1140) فى الجمعة، باب: كيف كان صلاة النبى وكم كان النبى- صلى الله عليه وسلم- من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (765) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (1366) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، من حديث زيد بن خالد الجهنى- رضى الله عنه-.
وقوله: «ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما» أربع مرات، هكذا فى صحيح مسلم وموطأ مالك وسنن أبى داود وجامع الأصول لابن الأثير.
فقد كان قيامه- صلى الله عليه وسلم- بالليل أنواعا.
أحدها: ست ركعات، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بثلاث، كما فى حديث ابن عباس، عند مسلم.
ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم يتم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة. رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة.
ثالثها: ثلاث عشرة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهنى.
رابعها: ثمانى ركعات، يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بخمس سردا متوالية، لا يجلس إلا فى آخرهن. رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس.
خامسها: تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا فى الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم ينهض ولا يسلم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيحمده ويدعوه ثم يسلم، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم قاعدا. رواه مسلم من حديث عائشة.
سادسها: يصلى سبعا كالتسع، ثم يصلى بعدها ركعتين جالسا. رواه مسلم أيضا من حديثها.
سابعها: كان يصلى مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. رواه أحمد عنها.
ثامنها: ما رواه النسائى عن حذيفة أنه صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فركع فقال فى ركوعه: «سبحان ربى العظيم» مثل ما كان قائما، ثم
جلس يقول: «رب اغفر لى، رب اغفر لى» ، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة «1» .
ورواه أبو داود، ولفظه: أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل فكان يقول: «الله أكبر، ثلاثا، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» ، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول فى ركوعه: «سبحان ربى العظيم» ، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: «لربى الحمد» ، ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه، فكان يقول فى سجوده: «سبحان ربى الأعلى» ، ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: «رب اغفر لى» ، فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهم البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة «2» .
ورواه البخارى ومسلم بلفظ: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلى بها فى ركعة، فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر باية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: «سبحان ربى العظيم» ، فكان ركوعه نحو قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» - زاد فى رواية: «ربنا لك الحمد» - ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: «سبحان ربى الأعلى» ، فكان سجوده قريبا من قيامه «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 226) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: تسوية القيام والركوع والقيام بعد الركوع والسجود، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، قال النسائى: هذا حديث عندى مرسل، وقال الألبانى فى «صحيح النسائى» صحيح.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (874) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-.
وزاد النسائى: لا يمر باية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره «1» .
وقد كانت هيئة صلاته- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة:
أحدها: أنه كان أكثر صلاته قائما: فعن حفصة قالت: ما رأيته- صلى الله عليه وسلم- صلى فى سبحته قاعدا «2» ، حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلى فى سبحته قاعدا، الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائى وصححه الترمذى.
الثانى: كان يصلى قاعدا ويركع قاعدا. رواه البخارى ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ: وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد «3» .
الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقى يسير من قراءته قام فركع قائما. رواه مسلم من حديث عائشة ولفظه: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى جالسا، ويقرأ وهو جالس فإذا بقى من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل فى الركعة الثانية مثل ذلك «4» .
وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى متربعا «5» . رواه الدار قطنى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى ركعتين بعد الوتر جالسا تارة، وتارة يقرأ فيهما وهو جالس
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 224) فى التطبيق، باب: نوع آخر، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (733) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا، والترمذى (373) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الرجل يتطوع جالسا، والنسائى (1658) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: صلاة القاعد فى النافلة، من حديث حفصة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (730) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا، والترمذى (373) وقد تقدم فى الذى قبله من حديث حفصة.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1119) فى الجمعة، باب: إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقى، ومسلم (731) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) أخرجه النسائى (3/ 224) فى قيام الليل والتطوع بالنهار، باب: كيف صلاة القاعد، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، قال النسائى: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث غير أبى داود وهو ثقة ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ، قال الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» : صحيح.
فإذا أراد أن يركع قام فركع «1» . قالت عائشة: كان يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع «2» . رواه ابن ماجه.
وعن أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما إِذا زُلْزِلَتِ «3» والْكافِرُونَ «4» . رواه أحمد:
واختلف فى هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووى فى المجموع. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى.
والصواب: أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر، وجواز الصلاة جالسا، ولفظة «كان» لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا. وغلط من ظنهما سنة راتبة، فإنه- صلى الله عليه وسلم- ما داومهما، ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده.
وأما قيامه- صلى الله عليه وسلم- ليلة النصف من شعبان، فعن عائشة- رضى الله عنها- قالت:
قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته، قال: «يا عائشة، أو يا حميراء، أظننت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قد خاس بك» ، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنى ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال: «أتدرين أى ليلة هذه؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1195) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الركعتين بعد الوتر جالسا، من حديث أم سلمة، ولفظه: (أن النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان يصلى بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1196) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الركعتين بعد الوتر جالسا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) سورة الزلزلة: 1.
(4) سورة الكافرون: 1.
عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم» ، رواه البيهقى من طريق العلاء بن الحارث عنها، وقال:
هذا مرسل جيد، يعنى أن العلاء لم يسمع من عائشة.
وقد ورد فى فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجه فى صحيحه، ومن أمثلها- كما نبه عليه الحافظ ابن رجب- حديث عائشة قالت: فقدت النبى- صلى الله عليه وسلم- فخرجت فإذا هو بالبقيع، رافع رأسه إلى السماء، فقال: «أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله» ، فقلت: يا رسول الله قد ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: «إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» «1» . رواه أحمد، وقال الترمذى: إن البخارى ضعفه.
وفى سنن ابن ماجه: بإسناد ضعيف، عن على مرفوعا: «إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر» «2» . وقد كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول يجتهدون ليلة النصف من شعبان فى العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنه بلغهم فى ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس، فمنهم من قبله منهم، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء، وابن أبى مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (739) فى الصوم عن رسول الله، باب: ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، وابن ماجه (1389) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (1388) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، قال الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» : ضعيف جدّا أو موضوع.
أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة. واختلف علماء أهل الشام فى صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: إنه يستحب إحياؤها جماعة فى المساجد، وكان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون فى المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهواه على ذلك، وقال فى قيامها فى المساجد جماعة ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرمانى فى مسائله.
الثانى: أنه يكره الاجتماع لها فى المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلى الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعى إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم.
ولا يعرف للإمام أحمد كلام فى ليلة النصف من شعبان، ويتخرج فى استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه فى قيام ليلتى العيد، فإنه فى رواية لم يستحب قيامها جماعة، لأنه لم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها فى رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شئ عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، إنما ثبت عن جماعة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام. انتهى ملخصا من اللطائف.
وأما قوله تعالى فى سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن فى ليلة القدر، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» وكان ذلك فى شهر رمضان، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3» .
قال الحافظ ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روى
__________
(1) سورة الدخان: 3.
(2) سورة القدر: 1.
(3) سورة البقرة: 185.
عن عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها فى رمضان. وأما الحديث الذى رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهرى، أخبرنى عثمان بن محمد بن المغيرة: أن الأخنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«تقطع الأجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد وقد أخرج اسمه فى الموتى» «1» . فهو حديث مرسل، ومثله لا تعارض به النصوص.
انتهى.
وأما قيامه- صلى الله عليه وسلم- فى شهر رمضان، وهو الذى يسمى بالتراويح: جمع روحية، وهى المرة الواحدة من الراحة، وسميت بذلك لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.
فعن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى.
ولمسلم: قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يجتهد فى رمضان ما لا يجتهد فى غيره، وفى العشر الأخير منه ما لا يجتهد فى غيره «3» . وفى رواية الترمذى: كان يجتهد فى العشر الأواخر منه ما لا يجتهد فى غيره «4» .
وعنها: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذى صنعتم، ولم
__________
(1) أخرجه ابن زنجويه، والديلمى عن عثمان بن محمد الأخنس كما فى «كنز العمال» (42780) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2024) فى صلاة التراويح، باب: العمل فى العشر الأواخر من رمضان، ومسلم (1174) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1175) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، والترمذى (796) فى الصوم، باب: منه من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) تقدم فى الذى قبله.
يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم» ، وذلك فى رمضان «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود.
وفى رواية للبخارى ومسلم، أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج من جوف الليل فصلى فى المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج- صلى الله عليه وسلم- فى الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كان فى الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليه- صلى الله عليه وسلم-، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلا يخرج إليهم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد فقال: «أما بعد؛ إنه لم يخف على شأنكم الليلة، ولكنى خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليلة فتعجزوا عنها» «2» . وفى رواية بنحوه ومعناه مختصرا: قال: وذلك فى رمضان.
قال فى فتح البارى: ظاهر الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها، وفى ذلك إشكال بناه بعض المالكية على قاعدتهم: فى أن الشروع ملزم، وفيه نظر.
وأجاب المحب الطبرى: أنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه:
إنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم.
وقيل: خشى أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، قال القرطبى: أى يظنوه فرضا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شئ أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1129) فى الجمعة، باب: تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل، ومسلم (761) فى صلاة المسافرين، باب: الترغيب فى قيام رمضان وهو التراويح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2012) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان ومسلم وقد تقدم فى الذى قبله.
وقد استشكل الخطابى أصل هذه الخشية، مع ما ثبت فى حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال: (هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدى) فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وهذا يدفع فى صدور الأجوبة المتقدمة.
وقد أجاب عنه الخطابى: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه- صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها- يعنى عند المواظبة- فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك فى الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب عليه ولا يلزم من ذلك زيادة فرض فى أصل الشرع.
قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن الله تعالى فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم- صلى الله عليه وسلم- منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابى جماعة كابن الجوزى، وهو مبنى على أن قيام الليل كان واجبا على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفى كل من الأمرين نزاع.
ثم أجاب منه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد فى المسجد جماعة شرطا فى صحة التنفل بالليل، قال: ويومئ إليه قوله فى حديث زيد بن ثابت: «حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم» «1» فمنعهم من التجمع فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (731) فى الأذان، باب صلاة الليل، والنسائى (1599) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الحث على الصلاة فى البيوت والفضل فى ذلك من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.
المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه فى المواظبة على ذلك فى بيوتهم من افتراضه عليهم.
وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم فى العيد ونحوها.
وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع فى حديث الباب أن ذلك كان فى رمضان، وفى حديث سفيان بن حسين «خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر» «1» ، قال: فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم فى السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة فى نظرى الأول.
وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور «2» . رواه النسائى. واختلف العلماء:
هل الأفضل فى صلاة التراويح أن تصلى جماعة فى المسجد، أو فى البيوت فرادى؟
فقال الشافعى وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم:
الأفضل صلاتها جماعة، كما فعل عمر بن الخطاب والصحابة، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد.
فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (761) وقد تقدم أكثر من مرة ولفظه خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 203) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
خشيت أن تفرض عليكم» على التجميع فى المسجد، وقال: إنه أقوى الأوجه. فالجواب: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما مات حصل الأمن من ذلك، ورجح عمر التجميع لما فى الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحدة أنشط لكثير من المصلين.
وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى فى البيوت، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة» «1» ، قالوا: وإنما فعلها- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا.
وأما عدد الركعات التى كان- صلى الله عليه وسلم- يصليها فى رمضان، فعن أبى سلمة أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان؟
قالت: ما كان يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: «يا عائشة، إن عينى تنامان ولا ينام قلبى» «2» . رواه البخارى ومسلم.
وأما ما رواه ابن أبى شيبة من حديث ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر «3» ، فإسناده ضعيف. وقد عارضه حديث عائشة هذا، وهى أعلم بحال النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا من غيرها.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (731) فى الأذان، باب: صلاة الليل، ومسلم (781) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة النافلة فى بيته وجوازها فى المسجد، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2013) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، ومسلم (738) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2010) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، ومالك فى الموطأ (252) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى قيام رمضان، عن عبد الرحمن بن عبد القارى أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب فى رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ... فذكره.
وقد كان الأمر فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- استمر على أن كل واحد يقوم فى رمضان فى بيته منفردا، حتى انقضى صدر من خلافة عمر.
وفى البخارى: أن عمر خرج ليلة فى رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط، فقال عمر: إنى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع، ثم عزم فجمعهم على أبى بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه، والتى تنامون عنها أفضل من التى تقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. وإنما اختار أبيّا لأنه كان أقرأهم، كما قال عمر.
وروى سعيد بن منصور من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبى ابن كعب، فكان يصلى بالرجال، وكان تميم الدارى يصلى بالنساء. وفى الموطأ: أمر عمر أبى بن كعب وتميما الدارى أن يقوما للناس فى رمضان «1» .
وروى البيهقى بإسناد صحيح أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب فى شهر رمضان بعشرين ركعة.
قال الحليمى: والسر فى كونها عشرين ركعة أن الرواتب فى غير رمضان عشر ركعات، فضوعفت لأنه وقت جد وتشمير.
وفى الموطأ: بثلاث وعشرين «2» . وجمع البيهقى بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث. وفى الموطأ: عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة «3» ، وعند عبد العزيز: إحدى وعشرين.
والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة يقل الركعات وبالعكس.
__________
(1) أخرجه مالك فى «الموطأ» (254) .
(2) أخرجه مالك فى «الموطأ» (255) .
(3) أخرجه مالك فى «الموطأ» (253) .
وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس، قال: أدركت الناس فى إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز- يعنى بالمدينة- يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفرانى عن الشافعى: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس فى شئ من ذلك ضيق. وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلى. انتهى.
وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستّا وثلاثين، قال النووى: قال الشافعى: لا يجوز ذلك لغيرهم، لأن لأهلها شرفا بهجرته- صلى الله عليه وسلم- ومدفنه، ويخالفه قول الحليمى: ومن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا.
وينبغى أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة واحدة لم يصح وفاقا للقاضى حسين فى فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق: أن التراويح بمشروعية الجماعة أشبهت الفرائض، قاله النووى فى فتاويه، وصرح به فى «الروضة» .
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة فى رمضان بالليل أكثر من غيره. وقد صلى معه حذيفة ليلة فى رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم بالنساء ثم آل عمران، لا يمر باية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فاذنه بالصلاة «1» . أخرجه أحمد وأخرجه النسائى. وعنده أيضا:
أنه ما صلى إلا أربع ركعات «2» . وكان للشافعى فى رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.