جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش تعبد الأصنام، ويتفاخرون بالأحساب والأنساب والأموال، ويستعبدون عامة الناس، ويطلقون العنان لأهوائهم وشهواتهم؛ فكان طبيعيًا حال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يقفوا بالمرصاد لهذه الدعوة.
ولم يكتف الكفار بتكذيب الدعوة الإسلامية، بل إنهم سلكوا أساليب شتى لمجابهتها والصد عنها، منها: السخرية والاستهزاء من الإسلام والنبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن أتباعه: فتارة يدَّعون أنه رجل مسحور، وتارة يدَّعون أنه ساحر كذَّاب، وتارة شاعر مجنون ... إلى غير ذلك من التهم المتباينة والأحكام المتناقضة، والتي لا تدل إلا على افترائهم ومزاعمهم الباطلة.
وكانوا إذا رأوه ينظرون إليه مغضبين ناقمين، كما قال الله تعالى : (وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ ٥١ ) [القلم: 51]
كما كانوا يتهكمون به إذا رأوه، فيقولون استهزاءً: (أَهَٰذَا ٱلَّذِي يَذۡكُرُ ءَالِهَتَكُمۡ) [الأنبياء: 36]، وإذا رأوا ضعفاء الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا استهزاءً وسخرية: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) [الأنعام: 53].
فلما لم يفلح أسلوب السخرية والاستهزاء في الصد عن هذا الدين، لجأوا إلى الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم؛ لأن الحق متى وصل للناس كما أنزل فسرعان ما تؤمن به، فكانوا يرفعون أصواتهم عند سماع القرآن ويصنعون الضوضاء كلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدعو أحدًا أو يسمعه القرآن، وقد تواصوا بذلك فيما بينهم، قال الله تعالى: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسۡمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡاْ فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ ٢٦) [فصلت: 26].
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم استمر في دعوته إلى الله مواجها صناديد قريش وكبراءها، فعمدوا إلى الجدال وإثارة الشبهات، لا سيما في قضية البعث بعد الموت، فكانوا يشككون فيها، ويجادلون حولها ويزعمون أنها من أساطير الأولين: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 82]
وكانوا يقولون: (هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ يُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍ ) [سبأ: 7]،
فكان القرآن ينزل بدحض أباطيلهم وزعمهم فيقرعهم بالرد فلا يستطيعون له دفعًا في غير ما آية، منها قوله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ ٧٩) [يس: 78، 79].
فلما لم تفلح تلك الأساليب في الصد عن الإسلام والدعوة إليه، سلكوا مسلك الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، معتقدين أنهم بإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتعذيبهم لأصحابه سينالون من عزيمتهم فيرضخون لهم ويطيعونهم فيما أرادوا، ولكن هيهات هيهات أن تنزع إيمانًا خالطت بشاشته القلوب من قلوب وأفئدة ذاقت حلاوته!
ومن أمثلة إيذاء المشركين للصحابة رضي الله عنهم ما يلي:
-قام أبو بكر يوما خطيبا في المسجد الحرام ذات يوم فضربه المشركون ضربا شديدا، وممن ضربه عتبة بن ربيعة حيث جعل يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين حتى ما يعرف وجهه من أنفه. وجاء بنو تميم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب إلى منزله، ولا يشكون في موته، وأقسموا لئن مات أبو بكر ليقتلن عتبة بن ربيعة.
-كان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل، ثم يدخنه من تحته ، وروي أنه عند ما أسلم أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطا، وأقسم ألا يحله إلّا إذا ترك الإسلام، فأقسم عثمان على عدم تركه الإسلام، فلما رأى عمه صلابته في دينه تركه .
-ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيتها، وكان من أنعم الناس عيشا، فتخشف جلده تخشف الحية، وحتى حمله أصحابه على قسيهم، لشدة ما به من الجهد .
-وعندما سمع أبوذر الغفاري بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء ودخل مكة، وأخذ يسأل عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ضربه أهل مكة حتى غشي عليه، وكاد أن يموت، فخلصه العباس- رضي الله عنه- منهم .
- أمّا بلال بن رباح فكان مملوكا لأميّة بن خلف الجمحي، وكان يعذبه بإلقائه في الرمضاء على وجهه وظهره، ويضع الصخرة العظيمة على صدره، وذلك إذا حميت الشمس وقت الظهيرة، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، وبلال صابر يردد كلمة: «أحد.. أحد» . وأخيرا استبدله أبو بكر الصديق بعبد مشرك عنده وأعتقه- رضي الله عنهما-.
-وأمّا عمّار وأمه ووالده ياسر فقد كانوا يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحرّها، فمر بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم يعذبون، فقال: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنّة» . فمات ياسر تحت التعذيب.وأمّا سميّة فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها بحربته في قبلها فماتت شهيدة، فكانت أول شهيد في الإسلام.
وشدد أعداء الله العذاب على عمّار ونوّعوا العذاب عليه فمرة بالجرّ ومرة بوضع الصخرة على صدره، وأخرى بالغمس في الماء إلى حد الاختناق ويقولون له لا نتركك حتى تسب محمدا، وتقول في اللات والعزى خيرا، وفعل ما طلبوه منه فتركوه، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يبكي فقال: «ما وراءك؟» . فقال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا.
فقال له: «كيف تجد قلبك؟» . قال: أجده مطمئنا بالإيمان. فقال: «إن عادوا يا عمّار فعد» . وأنزل الله تعالى قوله من سورة النحل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106]
-أمّا خبّاب بن الأرت سادس ستة فقد عذبه المشركون عذابا شديدا إذ كانوا يلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالحجارة المحماة بالنار ويلوون رأسه. وأمّا عامر بن فهيرة فقد أسلم قديما قبل دخول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى دار الأرقم، وكان من المستضعفين فعذّب عذابا شديدا، ولم يرده ذلك عن دينه، وكان يرعى غنما لأبي بكر، ، وأمّا أبو فكيهة واسمه أبو يسار فكان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال فأخذه أميّة بن خلف وربط في رجليه حبلا وأمر فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل (حشرة معروفة) فقال له أمية: أليس هذا ربك؟. فقال: الله ربي وربك وربّ هذا. فخنقه خنقا شديدا، وكان معه أخوه أبي بن خلف فيقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره ولم يزالوا يعذبونه كذلك حتى أغمي عليه فظنوه مات ثم أفاق فاشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه.
وأمّا النساء المؤمنات زنّيرة وأم عبيس ولبيبة والنهدية فقد عذّبن كذلك أشدّ العذاب من قبل مواليهنّ ولم عنهن يرجعن عن دينهنّ، فرضي الله وأرضاهن (بتصرف من نضرة النعيم)