لما كثُرَ الإِسلام بالمدينة وظهر، اجتمع الانصار فقالوا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويُخاف؟ فعزموا على إِخراجه من مكة إِليهم (2). وقدم مصعب إِلى مكة في حج السنة الثالثة عشرة من البعثة، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من
__________
(1) أخرجه أبو داوود، كتاب الجهاد، باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله ح 2537، وحسنه الشيخ الألباني، وأخرجه أحمد في المسند 5/ 428.
(2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 322 من حديث جابر بن عبد الله، وقال الحافظ في الفتح 7/ 220: رواه أحمد بإسناد حسن، وصححه الحاكم.
الأنصار من المسلمين والمشركين، قال كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، فلمّا توجّهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إِني قد رأيتُ والله رأيًا، وإِنّي والله ما أدري توافقوني عليه، أم لا؟ قال؛ قلنا له: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البِنْيَة مني بظهرٍ -يعني: الكعبة- وأن أصلي إِليها. قال: فقلنا: والله، ما بلغنا أن نبيّنا يصلِّي إِلَّا إِلى الشام، وما نريد أن نخالفه. فقال: إِنّي أصلي إِليها. قال: فقلنا له: لكنّا لا نفعل.
فكنّا إِذا حضرت الصلاة؟ صلينا إِلى الشام، وصلَّى إِلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، قال: وقد كنّا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلَّا الإِقامة عليه، فلما قدمنا مكة، قال: يا ابن أخي، انطلق بنا إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأسأله عمّا صنعتُ في سفري هذا، فإِنه والله قد وقع في نفسي منه شيءٌ لما رأيت من خلافكم إِيّاي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنّا لا نعرفه، لم نره قبل ذلك، فلقينا رجل من أهل مكة؛، فسألناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هل تعرفانه؟ قال: قلنا: لا. قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمّه؟ قلنا: نعم. قال: وكنّا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا. قال: فإِذا دخلتما المسجد، فهو الرجل الجالس مع العباس. قال: فدخلنا المسجد، فإِذا العباس جالس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه جالس، فسلمنا، ثم جلسنا إِليه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: "هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ ". قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيّدُ قومه، وهذا كعب بن مالك. قال: فوالله، ما أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشاعر؟ ". قال: نعم. قال: فقال البراء بن معرور: يا نبي الله، إِنّي خرجتُ في سفري هذا، وهداني الله للإِسلام، فرأيتُ أن لا أجعل هذه البَنيّة منّي بظهر، فصليت إِليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك؛ حتى وقع في نفسي من ذلك شيءٌ، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: "لقد كنتَ على قبلة لو صبرتَ عليها".
قال: فرجع البراء إِلى قبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى معنا إِلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلَّى إِلى الكعبة، حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
قال: وخرجنا إِلى الحجّ، فواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبةَ من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحجّ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيّد من ساداتنا، وكنّا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إِنّك سيّد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإِنّا نرغب بك عمّا أنت فيه: أن تكون حطبًا للنار غدًا. ثم دعوته إِلى الإِسلام، وأخبرته بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأسلم، وشهد معنا العقبة، وكان نقيبًا. قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا؛ حتى إِذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائهم، نسيبة بنت كعب أم عمارة إِحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إِحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع.
قال: فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى جاءنا، ومعه يومئذ عمّه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إِلَّا أنّه أحبّ أن يحضر أمرَ ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أوّلَ متكلم، فقال: يا معشر الخزرج -قال: وكانت العرب ممّا يسمّون هذا الحي من الأنصار الخزرج؛ أوسها وخزرجها- إِنّ محمدا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممّن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزٍّ من قومه، ومنعة في بلده. قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلتَ، فتكلَّمْ يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
قال: فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلا القرآن ودعا إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ورَغّب في الإِسلام، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". قال: فأخذ البراء
بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق، لنمنعنك ممّا نمنع منه أزرنا، فبايعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر.
قال: فاعترض القولَ -والبراء يُكلِّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله، إِنّ بيننا وبن الرجال حبالًا، وإِنّا قاطعوها -يعني: العهود- فهل عسيتَ إِن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله: أن ترجع إِلى قومك، وتدعنا قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم".
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخْرِجوا إِليَّ منكم اثني عشر نقيبًا، يكونون على قومهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا منهم، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس (1).
قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب -والجباجب: المنازل- هل لكم في مذمم والصباة معه، قد أجمعوا على حربكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع أيْ عدوَ الله، أما والله لأفرغنّ لك". ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ارجعوا إِلى رحالكم". قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنميلنّ على أهل مني غدًا بأسيافنا. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم أومر بذلك".
قال: فرجعنا فنمنا، حتى أصبحنا، فلما أصبحنا، غدت علينا جلّة قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إِنّه قد بلغنا أنّكم قد جئتم إِلى صاحبنا
__________
(1) النقباء هم
1 - أسعد بن زرارة 2 - سعد بن الربيع 3 - عبد الله بن رواحة 4 - رافع بن مالك بن العجلان 5 - البراء بن معرور 6 - عبد الله بن عمرو بن حرام 7 - عبادة بن الصامت
8 - سعد بن عبادة 9 - المنذر بن عمرو 10 - أسيد بن الحضير 11 - سعد بن خيثمة 12 - رفاعة بن عبد المنذر، ويقال: الهيثم بن التيهان.
هذا، تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، والله، إِنّه ما من العرب أحدٌ أبغض إِلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم. قال: فانبعث مَن هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منّا. قال: فبعضنا ينظر إِلى بعض، قال: وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان، قال: فقلتُ كلمة كأنّي أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا، ما تستطيع يا أبا جابر، وأنت سيد من ساداتنا: أن تتخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟. فسمعها الحارث فخلعهما، ثم رمى بهما إِليَّ، فقال: والله، لتنتعلنهما. قال: يقول أبو جابر: أحفظتَ والله الفتى، فارددْ عليه نعليه. قال: فقلتُ: والله لا أردهما فأل والله صالح، والله لئِن صدق الفأل لأسلبنّه (1).
ومن حديث البيعة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "تبايعوني على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إِذا قدمتُ عليكم، وتمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنّة"، فقاموا ليبايعوه، فأخذ بيده أسعدُ بن زرارة، وهو أصغر السبعين، فقال: (رويدًا يا أهل يثرب، إِنّا لم نضرِبْ إِليه أكباد المطيّ إِلَّا ونحنُ نعلمُ إِنه رسول الله، وإن إِخراجَه اليومَ مفارقةُ العرب كافّة، وقتلُ خياركم، وأن تعضّكم السيوفُ، فإِمّا أن تصبروا على ذلك، فخذوه، وأجركُم على الله، وإمّا أنتم تخافون من أنفسكم خيفةً فذروه، فهو أعذرُ لكم عند الله)، فقالوا: يا أسعدُ، أمطْ عنّا يدَك، فوالله لا نقيل هذه البيعة، ولا نستقيلها)، فقاموا إِليه رجلًا رجلا، فأخذ عليهم وشرط، يعطيهم بذلك الجنّة) (2).
__________
(1) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 86 - 94، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 460 - 462) من طريق محمَّد بن إِسحاق به. وقد قوّى الحديث وحسّن إسناده الأرنؤوط في تحقيقه للمسند
(25/ 95).
(2) أخرجه أحمد في المسند (3/ 323، 329) وله شاهد في الصحيحين، البخاري، كتاب الفتن ح 7056، ومسلم، كتاب الإمارة 3/ 1470.
هكذا تمت البيعة بسرّية تامة، ثم تتبعت قريش الخبر فثبت عندهم، ورحل البراء بن معرور فتقدَّم إِلى بطن يأجج، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وتطلبتهم قريشٌ، فأدركوا سعدَ بن عبادة، فربطوا يديه إِلى عنقه بنسع رَحْلِه، وجعلوا يضربونه ويجرّونه، ويجذبونه بجمَّته؛ حتى أدخلوه مكةَ، فجاء مطعم بن عدي، والحارث بن حرب بن أميَّة، فخلَّصاه من أيديهم، وتشاورت الأنصار حين فقدوه: أن يكرُّوا إِليه، فإِذا سعدٌ قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إِلى المدينه (1).