خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به. وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارّة بوادي القرى ومدين وديار ثمود بتلك البقاع التي مرّ بها محمد مع عمّه أبي طالب وهو في الثانية عشرة من عمره. وأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملا وتفكيرا في كل ما رأى وسمع من قبل عن العبادات والعقائد بالشام أو بالأسواق المحيطة بمكة. فلما بلغ بصرى اتّصل بنصرانية الشام وتحدّث إلى رهبانها وأحبارها وتحدّث إليه راهب نسطوريّ وسمع منه. ولعلّه أو لعلّ غيره من الرهبان قد جادل محمدا في دين عيسى، هذا الدين الذي كان قد انقسم يومئذ شيعا وأحزابا، كما بسطنا من قبل. واستطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتّجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحا مما فعل غيره من قبل، واستطاع بحلو شمائله وجمال عواطفه أن يكسب محبّة ميسرة وإجلاله. فلما آن لهم أن يعودوا ابتاع لخديجة من تجارة الشام لك ما رغبت إليه أن يأتيها به.
فلمّا بلغت القافلة مرّ الظّهران في طريق عودتها، قال ميسرة: يا محمد، أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف ذلك لك. وانطلق محمد حتى دخل مكة في ساعة الظّهيرة، وكانت خديجة في علّيّة لها، فرأته وهو على بعيره؛ ونزلت حين دخل دارها واستقبلته. واستمعت إليه يقص بعبارته البليغة الساحرة خبر رحلته وربح تجارته وما جاء به من صناعة الشام، وهي تنصت مغتبطة مأخوذة. وأقبل ميسرة من بعد فروى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه ما زادها علما به فوق ما كانت تعرف من فضله على شباب مكة. ولم يك إلا ردّ الطرف حتى انقلبت غبطتها حبّا جعلها وهي في الأربعين من سنّها، وهي التي ردّت من قبل أعظم قريش شرفا ونسبا، تود أن تتزوج من هذا الشابّ الذي نفذت نظراته ونفذت كلماته إلى أعماق قلبها. وتحدّثت في ذلك إلى أختها على قول، وإلى صديقتها نفيسة بنت منية على قول آخر. وذهبت نفيسة دسيسا إلى محمد فقالت له: ما يمنعك أن تتزوّج؟ قال: ما بيدي ما أتزوّج به. قالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ أجابت نفيسة بكلمة واحدة:
خديجة. قال محمد: كيف لي بذلك؟! وكان قد انس هو أيضا إلى خديجة وإن لم تحدّثه نفسه بزواج منها لما كان يعلم من ردّها أشراف قريش وأغنياءها. فلما قالت له نفيسة جوابا عن سؤاله: عليّ ذلك، سارع إلى إعلان
قبوله. ولم تبطئ خديجة أن حدّدت الساعة التي يحضر فيها مع أعمامه ليجدوا أهلها عندها فيتم الزواج.
وزوجها عمها عمر بن أسد، لأن خويلدا كان قد مات قبل حرب الفجار، مما يكذّب ما يروى من أنه كان حاضرا ولم يكن راضيا هذا الزواج، وأن خديجة سقته خمرا حتى أخذت فيه، وحتى زوّجها محمدا.
وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد: تبدأ حياة الزوجية والأبوة. الزوجية الموفقة الهنية من جانبه وجانب خديجة جميعا، والأبوّة التي تعرف من الآلام لفقد الأبناء ما عرف محمد في طفولته لفقد الآباء.
الفصل الرّابع من الزواج إلى البعث
صفة محمد- بناء المكيين الكعبة- حكم محمد بينهم في الحجر الأسود- حكماء قريش والوثنية- ابناء محمد وبناته- موت ابنائه- زواج بناته- ميل محمد للعزلة- تحنثه في حراء- الرؤيا الصادقة- أول الوحي.
تزوج محمد من خديجة بعد أن أصدقها عشرين بكرة. وانتقل إلى بيتها ليبدأ وإياها صفحة جديدة من صفحات الحياة، صفحة الزوجية والأبوّة، وليبادلها من جانبه حبّ شاب في الخامسة والعشرين لم يعرف نزوات الشباب ولا طيشه، ولا هو عرف هذا الحب الأهوج يبدأ كأنه الشعلة المتوهّجة لينطفئ من بعد ذلك سراجه، وليرزق منها البنين والبنات؛ فيحتسب ولديه القاسم وعبد الله الطاهر الطيب «1» بما يثير في نفسه لاعج الحزن والألم، وتبقى له بناته وهو بهنّ البر والشفقة، وهنّ له الإكرام والإعزاز الخالص.