محمد وأهل الكتاب- موقفه من النصارى- مجادلته إياهم- وحدة موقف محمد منهم- بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن- دعوة محمد الناس للحج ومجيئهم إلى المدينة من كل صوب- مسيرتهم في نحو مائة ألف إلى مكة- مناسك الحج- خطبة محمد.
,
بينما كان عليّ يتأهب للعودة إلى مكة كان النبي يتجهز للحج ويأمر الناس بالتجهز له. ذلك أن أشهر السنة استدارت وأقبل ذو القعدة وأوشك أن يولي ولم يكن النبي قد حج الحج الأكبر وإن يكن قد اعتمر فأدى الحج الأصغر قبل ذلك مرتين. وللحج مناسك يجب أن يكون عليه السلام قدوة المسلمين فيها. وما كاد الناس يعرفون ما صحّ عليه عز النبيّ ودعوته إيّاهم للحج معه حتى انتشرت الدعوة في كل ناحية من شبه الجزيرة.
وحتى أقبل الناس على المدينة ألوفا ألوفا من كل فج وحدب: من المدائن والبوادي، من الجبال والصحاري، من كل بقعة في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، التي استنارت كلها بنور الله ونور نبيه الكريم. وحول المدينة ضربت الخيام لمائة ألف أو يزيدون جاؤا تلبية لدعوة نبيّهم رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام. جاؤا إخوة متعارفين تجمع بينهم المودّة الصادقة والأخوّة الإسلامية، وكانوا إلى سنوات قبل ذلك أعداء متنافرين. وجعلت هذه الألوف المؤلّفة تجوس خلال المدينة، وكلّ باسم الثغر، وضّاح الطلعة، مشرق الجبين، يصف اجتماعهم انتصار الحق وانتشار نور الله انتشارا ربط بينهم وجعلهم جميعا كالبنيان المرصوص.
,
وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة سار النبيّ وأخذ نساءه جميعا معه، كلّ
في محقّتها. سار وتبعه هذا الجمع الزاخر، يذكر طائفة من المؤرّخين أنه كان تسعين ألفا، ويذكر آخرون أنه كان أربعة ومائة ألف: ساروا يحدوهم الإيمان وتملأ قلوبهم الغبطة الصادقة لسيرهم إلى بيت الله الحرام يؤدون عنده فريضة الحجّ الأكبر. فلمّا بلغوا ذا الحليفة نزلوا وأقاموا ليلتهم بها. فلما أصبحوا أحرم النبيّ وأحرم المسلمون معه، فلبس كلّ منهم إزاره ورداءه وصاروا ينتظمهم جميعا زيّ واحد هو أبسط ما يكون زيّا، وقد حققوا بذلك المساواة بأسمى معانيها وأبلغها. وتوجّه محمد بكل قلبه إلى ربه ونادى ملبّيا والمسلمون من ورائه: «لبيك اللهم لبّيك لا شريك لك لبيك. الحمد والنعمة والشكر لك لبّيك. لبّيك، لا شريك لك لبيك» . وتجاوبت الأودية والصحاري بهذا النداء تلبي كلها وتنادي بارئها مؤمنة عابدة. وانطلق الركب بألوفه وعشرات ألوفه يقطع الطريق بين مدينة الرسول ومدينة المسجد الحرام، وهو ينزل عند كل مسجد يؤدّي فيه فرضه، وهو يرفع الصوت بالتلبية طاعة لله وشكرا لنعمته، وهو ينتظر يوم الحج الأكبر نافذ الصبر مشوق القلب ممتلئ الفؤاد لبيت الله هوى ومحبة، وصحاري شبه الجزيرة وجبالها وأوديتها وزروعها النضرة في دهش مما تسمع وتتجاوب به أصداؤها مما لم تعرف قطّ قبل أن يباركها هذا النبيّ الأمّي عبد الله ورسوله.
,
فلما بلغ القوم سرفا، وهي محلّة في الطريق بين مكة والمدينة، قال محمد لأصحابه: من لم يكن منكم معه هدي فأحبّ أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا.
وبلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجّة، فأسرع النبيّ والمسلمون من بعده إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود فقبّله، وطاف بالبيت سبعا هرول في الثلاث الأولى منها على نحو ما فعل في عمرة القضاء. وبعد أن صلى عند مقام إبراهيم عاد فقبّل الحجر الأسود كرة أخرى، ثم خرج من المسجد إلى ربوة الصّفا، ثم سعى بين الصفا والمروة. ثم نادى محمد في الناس أن لا يبق على إحرامه من لا هدي معه ينحره.
وتردّد بعضهم، فغضب النبيّ لهذا التردّد أشد الغضب وقال: ما آمركم به فافعلوه. ودخل قبّته مغضبا.
فسألته عائشة. ما أغضبك؟ فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا يتّبع!. ودخل أحد أصحابه وما يزال غضبان، فقال: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار. فكان جواب الرسول: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يتردّدون! ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلّوا. كذلك روى مسلم. فلما بلغ المسلمين غضب رسول الله حلّ الألوف من الناس إحرامهم على أسف منهم، وحلّ نساء النبيّ وحلّت ابنته فاطمة مع الناس، ولم يبق على إحرامه إلا من ساق الهدي معه.
عودة عليّ من اليمن
وبينما المسلمون في حجّهم أقبل عليّ عائدا من غزوته باليمن وقد أحرم للحج لمّا علم أن رسول الله حج بالناس. ودخل على فاطمة فوجدها قد حلّت إحرامها. فسألها فذكرت له أن النبي أمرهم أن يحلوا بعمرة.
فذهب إلى النبي فقصّ عليه أخبار سفرته باليمن. فلما أتمّ حديثه، قال له النبي: انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك. قال عليّ: يا رسول الله، إنني أهللت كما أهللت. قال النبي: إرجع فأحلل كما حلّ أصحابك. قال عليّ: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهدل بما أهلّ به نبيك وعبدك ورسولك محمد. فسأله النبيّ: أمعه هدي؟ فلما نفي عليّ أشركه محمد في هديه، وثبت عليّ على إحرامه وأدّى مناسك الحج الأكبر.
,
وفي الثامن من ذي الحجة يوم التروية ذهب محمد إلى منى، فأقام بخيامه فيها وصلى فروض يومه بها وقضى الليل حتى مطلع الفجر من يوم الحج، فصلى الفجر وركب ناقته القصواء حين بزغت الشمس ويمّم بها جبل عرفات والناس من ورائه. فلمّا ارتقى الجبل أحاط به ألوف المسلمين يتبعونه في مسيرته، ومنهم الملبّي ومنهم المكبّر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء. وضربت للنبي قبة بنمرة، (قرية بشرق عرفات) ، وكان ذلك بعض ما أمر به. فلمّا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة، وهناك نادى في الناس وما يزال على ناقته بصوت جهوريّ كان يردّده مع ذلك من بعده ربيعة بن أميّة بن خلف وهو يقف بين عبارة وأخرى قائلا بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
,
«أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
«أيها الناس، إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا.
«وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت.
«فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.
«وإنّ كل ربا موضوع «1» ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
«قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عبّاس بن عبد المطلب موضوع كلّه.
«وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أوّل دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ...
«أمّا بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
«أيها الناس، إنّ النسىء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلّوا ما حرم الله ويحرّموا ما أحل الله.
«وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مفرد الذي بين جمادي وشعبان.
«أمّا بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقّا ولهن عليكم حقّا، لكم عليهن ألّا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألّا يأتين بفاحشة مبيّنة. فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرّح. فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان «2» لا يملكن لأنفسهن شيئا. وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله.
«فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا: كتاب الله وسنّة رسوله.
__________
(1) أي مهدر.
(2) عوان: أسرى أو كالأسرى، الواحدة عانية.
«أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه. تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسي منه، فلا تظلمنّ أنفسكم.
«اللهم هل بلغت!» .
كان النبي يقول هذا وربيعة يردّده من بعده مقطعا مقطعا، ويسأل الناس أثناء ذلك ليحتفظ بيقظة أذهانهم. فكان النبيّ يكلّفه أن يسألهم مثلا: إن رسول الله يقول. هل تدرون أي يوم هذا؟ فيقولون: يوم الحج الأكبر. فيقول النبي: قل لهم إن الله قد حرّم كلامه وقال: اللهم هل بلّغت، أجاب الناس من كل صوب. نعم. فقال: «اللهم اشهد» .
,
ولما أتم النبي خطابه نزل عن ناقته القصواء، وأقام حتى صلى الظهر والعصر ثم ركبها حتى الصّخرات، وهناك تلا عليه السلام على الناس قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» .
فلما سمعها أبو بكر بكى أن أحس أن النبي وقد تمت رسالته قد دنا يومه الذي يلقى فيه ربه.
وترك النبي عرفات وقضى ليله بالمزدلفة، ثم قام في الصباح فنزل بالمشعر الحرام؛ ثم ذهب إلى منى وألقى في طريقه إليها الجمرات، حتى إذا بلغ خيامه نحو ثلاثا وستين ناقة، واحدة عن كل سنة من سني حياته، ونحر عليّ ما بقي من الهدي المائة التي ساق النبي منذ خروجه من المدينة. ثم حلق النبيّ رأسه وأتم حجه. أتم هذا الحج الذي يسميه بعضهم حجّة الوداع، وآخرون حجّة البلاغ، وغيرهم حجّة الإسلام.
وهي في الحق ذلك كله؛ فقد كانت حجة الوداع، رأى فيها محمد مكة والبيت الحرام للمرة الأخيرة. وكانت حجة الإسلام، أكمل الله فيها للناس دينه وأتم عليهم نعمته. وكانت حجة البلاغ، أتم النبي فيها بلاغه للناس ما أمره الله ببلاغه. وما محمد إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
__________
(1) سورة المائدة آية 3.
,
تمّت حجّة الوداع وآن لعشرات الألوف ممن صحبوا النّبي فيها أن يعودوا إلى ديارهم، فأنجد منهم أهل نجد، وأتهم أهل تهامة، وانحدر إلى الجنوب أهل اليمن وحضرموت وما حاذاها. وسار النبي وأصحابه ميممين المدينة حتى إذا بلغوها أقاموا بها في أمن من شبه الجزيرة كلها، وفي تفكير متصل من جانب محمد في أمر البلاد الخاضعة للروم والفرس بالشام ومصر والعراق. فهو قد أمن من ناحية شبه جزيرة العرب جمعاء بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وبعد أن جعلت الوفود تقبل تترى إلى يثرب تعلن الطاعة وتتفيأ ظلالها تحت لواء الإسلام، وبعد أن انحاز العرب جميعا إليه في حجّة الوداع. وكيف لا يخلص ملوك العرب في ولائهم للنبيّ ولدينه ولم يبق لهم أحد ما أبقاه لهم النبيّ الأميّ من سلطان واستقلال ذاتي. أو لم يبق بدهان عامل فارس على أرض اليمن في ملكه حين أعلن بدهان إسلامه وحرص على وحدة العرب وألقى نير المجوس؟ ولم يكن ما يقوم به بعضهم في أنحاء من شبه الجزيرة من حركات تشبه الانتقاض ليستغرق من النبي شيئا من التفكير أو ليثير في نفسه شيئا من المخاوف، بعد أن انبسط سلطان الدين الجديد على كل الأنحاء، وعنت الوجوه للحيّ القيوم، وآمنت القلوب بالله الواحد القهار.