ولما فتح الله تعالى في الكافر الزنديق كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، رغبت الخزرج في مثل ذلك تزيدا في الأجر، والفناء في الإسلام فتذكروا أن سلامة بن أبي الحقيق من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمين على مثل حال كعب بن الأشرف، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم.
فخرج إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن الأسود حليف لهم من المسلمين.
وأمّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاه عن قتل النساء والصبيان، فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلا، وكان سلام ساكنا في دار مع جماعة، وهو في علية
منها، فتسوروا الدار، ولم يدعوا بابا من أبوابها إلا استوثقوا منه من خارج، ثم أبوا العلية التي هو فيها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب، فقالت: ذاكم صاحبكم، فادخلوا، فلما دخلوا، واغلقوا الباب على أنفسهم، أيقنت بالشر وصاحت، فهموا بقتلها، ثم تذكروا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء؛ فأمسكوا عنها ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه، أبيض في سواد الليل كأنه قبطية «1» .
ووضع عبد الله بن عتيك سيفه في بطنه حتى أنفده، وعدو الله يقول: قطني قطني «2» . ثم نزلوا، وكان عبد الله بن عتيك سيىء البصر، فوقع، فوثئت رجله، فحمله أصحابه، حتى أتوا منهرا «3» منه مناهرهم.
فدخلوا فيه واستتروا عن الأعين، وخرج أهل الآطام، وأوقدوا النيران في كل وجه وصوب، فلما يئسوا رجعوا، فقال المسلمون: كيف لنا، وأن نعلم أن عدو الله قد مات؟ فرجع أحدهم ودخل بين الناس ثم رجع إلى أصحابه، فذكر لهم أنه وقف مع الجماعة، وأنه سمع امرأته تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي، وقلت أنّى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت:
قاض وإله يهود ...
قال: فسررت، وانصرف إلى أصحابه يزف إليهم بشرى هلاك عدو الله.
فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه وتداعوا في قتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوا سيوفكم فأروني إياها، فقال عن سيف عبد الله بن أنس:
هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
__________
(1) - القبطية: هي ثياب من كتان، وهي منسوبة إلى القبط.
(2) - قطني قطني: حسبي وكفاني.
(3) - المنهر: هو الشق في الحصن، وهو نافذ ينبجس منه الماء.
غزوة بني لحيان «1»
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزو بني قريظة بقية ذي الحجة ومحرم وصفرا، وربيعا الأول وربيعا الآخر، وجمادى الأولى، ثم خرج وهو في الشهر السادس من غزو بني قريظة في الشهر الثالث من السنة السادسة من الهجرة، كذا قالوا، والصحيح أنها السنة الخامسة- قاصدا إلى بني لحيان مطالبا بثأر عاصم بن ثابت، وخبيب بن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل، فسلك صلى الله عليه وسلم على غراب جبل بناحية المدينة على طريق الشام- إلى محيصن ثم إلى البتراء، ثم أخذ وسلك ذات اليسار، فخرج على (يين) «2» ، ثم على صخرات اليمام. ثم أخذ المحجة من طريق مكة، فأغذ السير حتى نزل (غران) «3» إلى أرض يقال لها: ساية.
فوجدهم قد حضروا، وتمنعوا في رؤوس الجبال وشعافها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فاته غرتهم- في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث عليه الصلاة والسلام رجلين من أصحابه فارسين حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرى ورجع السلام الى المدينة قافلا إليها.