وقعت في محرم لعام تسعة (9)هـ، وذلك بأرض السقيا وهي تبعد عن الجحفة 17 ميلا.
قادها عُيينة الفزاري، وهو أحد الأعراب المؤلفة قلوبهم، وقد خرج في 50 فارسًا من الأعراب ليس فيهم مهاجر ولا أنصاري، لتأديب بني تميم.(قبيلة عربية تسكن شمال نجد، ومشهورة بالحروب).
(كان عيينة ممن أسلموا قبل الفتح وشهد حنينا والطائف، وسمي بالأحمق المطاع لأنه كان يتبعه عشرة آلاف مقاتل أينما ذهب من قومه، وقد عفا النبي عنه بعد غارة قديمة شنها ضد رعي المسلمين، فلم يقتله، وجاء أنه ارتد في زمن أبي بكر ثم عاد لإسلامه، وكان فيه جفاء الأعراب)
إغارة بني تميم على قوم من خزاعة، لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بشر بن أبي سفيان العدوي يأخذ الصدقات، فجمعوا له ما طلبه، ولكن بنو تميم المجاورين لهم في الأرض، استكثروا أخذ المسلمين لتلك الصدقات برغم رضا خزاعة وقولها بإسلامها، فشهروا السيوف وتعهدوا بعدم خروجه، وبهذا أدخلوا أنفسهم في حرب مع المسلمين..
لما شاهدت بنو تميم، جارتها خزاعة تجمع الصدقة المفروضة عليها بعد إسلامها، قالوا وأقسموا: لا يصل إلى بعير منها أبدا،(أي مبعوث رسول الله)، فولى الصحابي رضي الله عنه وأخبر النبي بما كان.
وكان من خزاعة أن وثبوا على تميم، يخشون غضبة النبي، قائلين: "ليدخلن علينا بلاء من محمد صلى الله عليه وسلم حيث تعرضتم لرسوله تردونه عن صدقات أموالنا".
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، قال: "من لهؤلاء القوم، فانتدب أول الناس عيينة"، وبعثه في فرسان من العرب ليسوا من أصحابه المهاجرين ولا الأنصار ليجنبهم ملاقاة قساة الأعراب.
سار عيينة بالفرسان معه وكان يسير ليلا ويكمن نهارا، ثم هاجمهم بغتة، فهرب القوم، وأسر عيينة منهم 11 رجلا، و11 امرأة، و30 صبيا، فجلبهم إلى المدينة المنورة. [ابن هشام 4/479]
أمر رسول الله بحبس الرهائن في دار "رملة بنت الحارث" وهي إحدى دور الضيافة التي كانت للنبي في المدينة، لصحابية من بني النجار.
وقد قدم وفد من رؤساء تميم، يعتذرون للنبي ويطلبون العفو عن هؤلاء، فعفا النبي عن الأسرى والسبي، وتركهم يعودوا لقبيلتهم لم يمسسهم سوء. [ابن سعد 2/160]
في عام الوفود، وهو التاسع الهجري، قدم وفد من تميم على النبي، وفيهم رؤساؤهم عطارد بن حاجب، الأقرع بن حابس، الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وهم أشراف بني تميم، فلما اقتربوا من مسجد الرسول، صاحوا عليه بصوت غليظ ليخرج إليهم، وقالوا: "أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وذمنا شين" .
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم – وقد ساءه فعلتهم، وقال: «إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين» [رواه الترمذي 3267]
وقد نزل في تلك الواقعة قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4،5]
وقال وفد تميم: نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ".
قام أحد شعراء بني تميم فقال: «الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن، وهو أهله الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عدداً، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس وأولي فضلهم ؟ ».
ورد عليه ثابت بن قيس شاعر الرسول بمقالة جاء فيها: "الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمه نسباً، وأصدقه حديثاً، وأفضله حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين.. فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً وبدأت مباراة الشعراء، واحد من تميم لقاء واحد من المسلمين.
وكان شعراء تميم يفاخرون بقبيلتهم؛ فدعا الزبرقان أحد الرجال فأنشد أبياتا منها:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا & نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد & إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليّ بحسان بن ثابت، فحضر، فقال له: قم فأجبه، فأنشد :
نصرنا رسول الله والدين عنوة & على رغم عات من بعيد وحاضر
وأحياؤنا من خير من وطىء الحصا & وأمواتنا من خير أهل المقابر
لما استمع وفد تميم لما قاله المسلمون، قام الأقرع بن حابس، فقال : إن محمدا لمؤتى له والله ما أدري هذا الأمر، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما يضرك ما كان قبل هذا " ثم أعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكساهم.
وقد برز من قبيلة بني تميم الكثير من الصحابة رضي الله عنه، ومن أشهرهم : الأقرع بن حابس وقد شهد فتح مكة والطائف وحنين وكان من المؤلفة قلوبهم، وقيس بن عاصم المنقري الذي أسماه النبي "سيد أهل الوبر" [الإصابة 3/253]
وقد اختلف في عدد هذا الوفد ما بين السبعين والتسعين رجلا.
ثم أسلم القوم وبقوا في المدينة مدة يتعلمون الدين والقرآن، ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم النبي أسراهم ونساءهم، وقال: أما بقي منكم أحد؟ وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم، فأعطاه مثلهم. [السيرة الحلبية 3/221]
إسلام قبيلة تميم، والعفو عن أسراهم وسباياهم.
- حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار المقاتلين؛ فلم يكن أسدى لقتال أعراب بني تميم أهل الحرب سوى فرسان أعراب مثلهم، وليس صحابة النبي، ثم أنه اختار عيينة لرئاستهم وكان من المؤلفة قلوبهم وله ماض في الحروب مشهود.
-كرم النبي وسماحته يؤلف القلوب: كان رؤساء بنو تميم قد عادوا بجوائز سخية، بعد قدومهم للنبي، وردت لهم سباياهم وأسراهم من السرية، وبعضهم كان قد ألف النبي قلبه بعشرات الإبل بعد غزوة حنين.
-من البيان لسحر: وقد تأثر رؤوس تميم بهذه ببلاغة شعراء الإسلام وحسن إيمانهم وبيانهم فأسلموا جميعا وتعلموا القرآن.
-التوجيه الإلهي بالأدب مع رسول الله ومناداته بصوت خفيض والصبر لأن ذلك خير للمؤمنين .
-اليقظة في طلب أهل الفتنة والتحريض، بعدما حالت تميم دون زكاة خزاعة الواجبة (وكانت القبيلة تدفع إن أسلمت زكاة مفروضة)