في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف وخمسمائة من أصحابه إِلى مكة معتمرًا، حيث أحرم وساق الهدي وأشعره، فلما علمت قريش بذلك تهيأت لحرب المسلمين وصدهم (2)، وحين بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك تفادى الصدام معهم وحَوّل طريقه عن مقاتليهم حتى وصل الحديبية، وبركت ناقته فقال الناس: خلأت القصواء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إِلا أعطيتهم إِياها) (3).
ثم عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، فقامت قريش بإِرسال عدة رسل لمفاوضة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى انتهى الأمر إِلى سهيل بن عمرو الذي عقد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية نيابة عن قريش، وقد تم الاتفاق على البنود التالية (4):
__________
(1) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 526. والغابة: اسم مكان به أشجار الطرفاء وغيرها، شمال المدينة عند اجتماع أودية المدينة: قناة، وبطحان، والعقيق، ويسمى الوادي بعد اجتماعها بالخُلَيل -مصغرًا- انظر: البلادي، المعالم الجغرافية 223.
(2) ابن هشام، السيرة 2/ 204. ومعنى أشهر الهدي: وضع علامة وشارة تدل عليه.
(3) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 5/ 329.
(4) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 211.
1 - تضع الحرب أوزارها بين المسلمين وقريش مدة عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.
2 - أنه من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش بغير إِذن وليه يرده على قريش، ومن أتى قريشًا ممن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليه.
3 - أنه من أحب أن يدخل في عقد محمَّد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه.
4 - أن يرجع المسلمون هذا العام دون أن يدخلوا مكة على أن يأتوها معتمرين العام القادم.
,
,
نشر الدعوة الإِسلامية:
صلح الحديبية سماه الله فتحا مبينا، وقد ساد الأمن بين القبائل زمن الصلح، وانفتح الباب للدعوة إِلى الإِسلام، فقد تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمراسلة الملوك والزعماء في داخل الجزيرة العربية وخارجها، فأرسل إِلى هرقل عظيم الروم رسالة مع دحية الكلبي ورد نصها في الصحيح "بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد عبد الله ورسوله إِلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإِني أدعوك بدعاية الإِسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإِن توليت فإِن عليك إِثم الأريسيين (1). {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) ومع الرد الحسن من هرقل إِلا أن حرصه على منصبه منعه أن يسلم.
كذلك أرسل - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة السهمي إلى ملك البحرين، ومن ثم أوصلها إِلى كسرى الذي غضب ومزق الرسالة (3)، وأرسل إِلى واليه على اليمن يأمره بإِرسال من يعتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصله إِليه. وبالفعل أرسل والي اليمن رجلين وصلا إِلى المدينة، فأخبرهما - صلى الله عليه وسلم - بأن ربه أهلك ربهما (4)، حيث استجاب الله دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على كسرى فوقعت ثورة قتل فيها، ثم ما زال أمرهم في نقص حتى تمزقت الدولة الفارسية وانمحت من الوجود فيما بعد في عهد الخلفاء الراشدين.
__________
(1) الأريسيون، الفلاحون والرعية.
(2) البخاري ح 7 ومسلم ح 1773، والآية 64 من سورة آل عمران.
(3) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح 4424.
(4) الطبري، التاريخ 2/ 655 - 656. وقد حسن الألباني الخبر في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص 389.
وممن راسله - صلى الله عليه وسلم - المقوقس ملك الإسكندرية الذي قابل الرسالة بالاحترام والتقدير الذي يليق بها، وأكرم حاملها حاطب بن أبي بلتعة ورده محملا بالهدايا مع أنه لم يسلم (1).
وكذلك أرسل - صلى الله عليه وسلم - إِلى النجاشي أصحمه، وقد أسلم ومات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعاه إِلى الصحابة وصلى عليه صلاة الغائب، ثم راسل مَنْ خَلَفَه ولم يكن مسلما (2).
أما ملوك الجزيرة العربية الذين راسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إِلى الإِسلام فمنهم: المنذر بن ساوى أمير البحرين، الذي أسلم فأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بلده. وهوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة أرسل له النبي - صلى الله عليه وسلم - سليط بن عمرو - رضي الله عنه - برسالة ولم يسلم. وملكا عمان جيفر وعمار ابنا الجلندي اللذان وصلهما العلاء بن الحضرمي فأسلما (3).