...
خامسًا: تطبيق بنود صلح الحديبية وأداء العمرة
حافظ المسلمون والقرشيون على ما تعاهدوا عليه في الحديبية، وتفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل في جبهات جديدة عديدة بعد أن أمن جبهة قريش، ولذلك تضاعف العمل، ونشطت الدعوة بعد صلح الحديبية، ومر عام من الجهاد والدعوة، وجاء موسم الحج وهو الموعد المتفق عليه لأداء العمرة، فتحرك المسلمون لأداء عمرتهم وتم لهم وعد الله تعالى حينما قال لهم سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} 1.
وبعد أداء العمرة واصلوا حركتهم بالدعوة ومواجهة الطغيان والمتمردين:
وفي هذه الدراسة سنتناول الأمور الآتية:
1- عمرة القضاء:
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وجماديين، ورجبًا وشعبان ورمضان وشوالا.
فلما أهل شهر ذي القعدة من العام السابع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتجهزوا لأداء العمرة التي أجلوها من العام الماضي.
وتسمى هذه العمرة عمرة القضاء لأنها قضاء عن عمرة العام السابق.
كما تسمى عمرة القصاص لأن الله كتبها لهم عوضًا عن الأولى التي لم تمكنهم قريش منها فتمت مثلا بمثل، وتسمى عمرة الصلح لأنها تمت بناء على بنود صلح الحديبية.
وتسمى عمرة القضية لأن رسول الله قاضى أهل مكة وصالحهم على هذه العمرة. والبعض يسميها: غزوة القضاء لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسها قاصدًا مكة
__________
1 سورة الفتح الآية 27.
ليدخلها، رغم أنف المشركين فيها1.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف من أهلها أحد، ممن هو حي، وخرج معهم عدد من غير أهل الحديبية فبلغ عدد الخارجين للعمرة ألفين.
وقال جماعة من المسلمين: والله يا رسول الله ما لنا زاد، وما من أحد يطعمنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا.
فقلوا: يا رسول الله بما نتصدق، وأحدنا لا يجد شيئًا؟
فقال: "بما كان ولو بشق تمرة، ولو بمشقص يحمل به أحدكم في سبيل الله" 2.
فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 3 يعني أن ترك النفقة في سبيل الله يؤدي إلى الهلكة.
وساق صلى الله عليه وسلم ستين بدنة جعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه، يطلب الرعي بها في الشجر، ومعه أربعة فتيان من أسلم، وكان أبو رهم كلثوم بن حصين الغفاري، ممن يسوقها ويركبها.
وقلد صلى الله عليه وسلم هديه بيده، وحمل السلاح وفيها البيض والدروع، وقاد مائة فرس أمر عليها محمد بن مسلمة، واصطحب العتاد والسلاح، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وأحرم من باب المسجد، وسار يلبي والمسلمون معه يلبون.
فلما انتهى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، وجد بها نفرًا من قريش، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يصبح في هذا المنزل غدًا إن شاء الله.
فلما رأوا سلاحًا كثيرا مع بشير بن سعد، أسرعوا إلى مكة، وأخبروا قريشًا ففزعوا، وقالوا: والله ما أحدثنا حدثًا، ففيم يغزونا محمد؟
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قدم السلاح إلى بطن يأجج، وترك معه مائتين من
__________
1 البداية والنهاية ج4 ص226، 227.
2 إمتاع الأسماع ج1 ص336 والمشقص السهم العريض النصل.
3 سورة البقرة: 195.
أصحابه، عليهم أوس بن خولى رضي الله عنه.
وخرج مكرز بن حفص في نفر حتى لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن يأجج.
فقالوا: يا محمد! والله ما عرفت صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم! وقد اشترطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر والسيوف في القرب؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أدخل عليهم السلاح".
فعاد مكرز إلى مكة فخرجت قريش إلى رءوس الجبال وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه وحبس صلى الله عليه وسلم الهدى بذي طوى، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلع على الحجون وقد ركب القصواء، وأصحابه حوله متوشحو السيوف يلبون، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن1.
وتحدثت قريش عن جهد المسلمين وضعفهم، ووقف منهم جماعات عند دار الندوة ليروا ما تصوروه فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، وأخرج عضده الأيمن، ثم قال: "رحم الله امرأ أراهم اليوم قوة"!. فلما انتهى إلى البيت وهو على راحلته، وابن رواحة آخذ بزمامها، وقد صف له المسلمون دنا من الركن فاستلمه بمحجنه، وهو مضطبع بثوبه، وهرول هو والمسلمون في الثلاثة الأشواط الأول، وكان ابن رواحة يرتجز في طوافه، وهو آخذ بزمام الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إيه يابن رواحه! قل: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده! فقالها ابن رواحة وقالها الناس".
فلما قضى صلى الله عليه وسلم طوافه، خرج إلى الصفا فسعى على راحلته، والمسلمون يسترونه من أهل مكة أن يرميه أحد منهم أو يصيبه بشيء، ووقف عند فراغه قريبًا من المروة، وأوقف الهدي عندها فقال: "هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" 2.
ونحر عند المروة وكان قد اعتمر معه قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا، وشركه في الهدي من شهد الحديبية، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخص له في البقرة، وكان قد قدم رجل من الأعراب ببقر فاشتراه الناس منه، وحلق صلى الله عليه وسلم عند المروة حلقه معمر بن عبد الله العدوي.
__________
1 الفتح الرباني باب عمرة القضاء ج21 ص131.
2 البداية والنهاية ج4 ص231.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم البيت، ولم يزل فيه حتى أذن بلال بالظهر فوق ظهر الكعبة.
وخطب صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو في مكة فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فتزوجها صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وقيل: بل تزوجها لما أحل بسرف.
ولما حان موعد خروج المسلمين من مكة ورجوعهم إلى المدينة جاءتهم عمارة بنت حمزة رضي الله عنها تنادي: يا عم، يا عم.
فأخذها علي رضي الله عنه.
وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين! فخرج بها، حتى إذا دنوا من المدينة أراد زيد بن حارثة أن يتزوجها لأنه كان وصي حمزة وأخوه أخوة المهاجرين، وقال: أنا أحق بها، إنها ابنة أخي.
فقال جعفر بن أبي طالب: الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس.
فقال علي رضي الله عنه: ألا أراكم في ابنة عمي، وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسب دوني، وأنا أحق بها منكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ورسوله, وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي, وأما أنت يا جعفر فتشبه خَلقي وخُلقي، أنت يا جعفر أولى بها، تحبك خالتك". فقضى بها لجعفر.
فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا يا جعفر"؟.
قال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدًا قام فحجل حوله.
فقال علي رضي الله عنه: تزوجها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: "هي ابنه أخي من الرضاعة" 1.
ولما كان الظهر في اليوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار، وهو يتحدث مع سعد بن عبادة، فقالا: قد انقضى
__________
1 زاد المعاد ج3 ص372.
أجلك يا محمد، فاخرج عنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: "وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعت طعامًا"؟.
فقالا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا، ننشدك الله والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا! فهذه الثلاث قد مضت!
فغضب سعد بن عبادة وقال لسهيل: كذبت لا أم لك! ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يبرح منها إلا طائعًا راضيًا.
فتبسم صلى الله عليه وسلم ثم قال: "يا سعد! لا تؤذ قومًا زارونا في رحالنا". فأسكت الرجلين عن سعد, وروي أنهم بعثوا عليًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج عن بلدهم1.
وأمر صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل، وقال: "لا يمسين بها أحد من المسلمين". وركب حتى نزل سرف، وخلف أبا رافع ليحمل إليه ميمونة حين يمسي، فخرج بها مساء، ولقي عنتًا من سفهاء المشركين فبنى صلى الله عليه وسلم على ميمونة بسرف.
ولم ينزل بمكة بيتًا، وإنما ضربت له قبة من أدم بالأبطح، وظل هناك حتى سار منها وأثناء إقامته بعث بمائتي رجل ممن طافوا بالبيت إلى بطن يأجج، فأقاموا عند السلاح حتى أتى الآخرون فقضوا نسكهم، وبعد أن أدى المسلمون عمرتهم عادوا إلى المدينة في ذي الحجة من نفس العام2.
وفي صفر من العام الثامن، وبعد استقرار المسلمين في المدينة خرج عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي من مكة، بعد مرجعه من الحبشة، يريد المدينة، فهاجر فوجد في طريقه خالد بن الوليد القرشي المخزومي، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة القرشي العبدري، وقد قصدوا قصده، فقدموا المدينة، ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه خالد أولا، ثم بايعه عثمان، ثم عمرو فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما كان قبله والهجرة تجب ما كان قبلها".
وهكذا أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بعد هذه الرحلة الطويلة من الجهاد والمعاناة، وصارا من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولله في خلقه شئون.
__________
1 زاد المعاد ج3 ص372.
2 إمتاع الأسماع ص336 إلى ص341.
2-