استعداد قريش بمكة- خروجها للغزو- كيف علم به محمد- تشاور المسلمين في التحصن بالمدينة أو الخروج لملاقاة العدو- انتصار المسلمين ثم هزيمتهم- خروج النبي من المدينة غداة أحد ليلحق بالمنتصرين فيغزوهم- عودة أبي سفيان وقريش إلى مكة.
,
لم يهدأ منذ بدر لقريش بال، ولم تغنها غزوة السويق شيئا، وزادتها سرية زيد بن حارثة التي أخذت تجارتهم حين سلوكها سبيل العراق إلى الشام حرصا على الثأر واذّكارا لقتلى بدر. وكيف لقريش نسيانهم وهم أشراف مكة وساداتها وذوو النخوة والكرامة من كبارها! وكيف لها نسيانهم وما تزال نساء مكة تذكر كلّ منهن في القتلى لها ابنا أو أخا أو أبا أو زوجا أو حميما، فهي له تتوجّع وعليه تبكي وتولول! هذا، وكانت قريش- منذ قدم أبو سفيان بن حرب بالعير التي كانت سبب بدر من الشام وعاد الذين شهدوا بدرا وسلموا من القتل فيها- قد وقفت العير بدار الندوة، واتّفق كبراؤها: جبير بن مطعم وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وحويطب بن عبد العزّى وغيرهم، على أن تباع العير وأن تعزل أرباحها وأن يجهّز بها جيش لقتال محمد، جرّار في عدده وعدّته، وأن تستنفر بها القبائل ليشاركوا قريشا في أخذهم بالثأر من المسلمين. وقد استنفروا معهم أبا عزّة الشاعر الذي عفا عنه النبيّ من أسرى بدر، كما استنفروا معهم من اتّبعهم من الأحابيش. وأصرّت النسوة من قريش على أن يسرن مع الغزاة. فتشاور القوم؛ فمن قائل بخروجهن، «فإنه أقمن أن يحفظكم «1» ويذكركم قتلى بدر، ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه» . ومن قائل: «يا معشر قريش! هذا ليس برأي أن تعرضوا حرمكم لعدوّكم، ولا آمن أن تكون الدّبرة «2» عليكم فتفضحوا في نسائكم» . وبينما هم يتشاورون صاحت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بمن يعترض خروج النساء: «إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك. نعم تخرج فنشهد القتال، ولا يردّنا أحدكما ردّت الفتيات في سفرهم إلى بدر حين بلغوا الجحفة «3» فقتلت الأحبّة يومئذ أن لم يكن معهم من يحرّضهم» . وخرجت قريش ومعها نساؤها وعلى رأسهن هند وهي أشدهن على الثأر حرقة، أن قتل يوم بدر
__________
(1) يحفظكم: يغضبكم.
(2) الدبرة (بفتح الباء وتسكن) هنا الهزيمة. وتكون أيضا بمعنى النصر.
(3) الجحفة: موضع على طريق المدينة من مكة على ثلاث أو أربع مراحل من مكة، وهي ميقات أهل مصر والشام.
أبوها وأخوها وأعمّ الناس عليها- خرجت قريش تقصد المدينة في ثلاثة ألوية عقدت في دار النّدوة، وعلى اللواء الأكبر منها طلحة بن أبي طلحة، وهم ثلاثة آلاف، ليس بينهم غير مائة رجل من ثقيف، وسائرهم من مكة سادتها ومواليها وأحابيشها. وقد أخذوا معهم من العدّة والسلاح الشيء الكثير، وقادوا مائتي فرس وثلاثة آلاف بعير، ومن بينهم سبعمائة دراع.
تهيأ القوم للمسير بعد أن أجمعوا عليه والعبّاس بن عبد المطلب عم النبيّ بينهم واقف على أمرهم مطّلع على كل دقيق وجليل من شأنهم. وكان العباس على حرصه على دين آبائه ودين قومه يحسّ لمحمد شعور العصبيّة وشعور الإعجاب، ويذكر له حسن معاملته إياه يوم بدر. ولعل الإعجاب والعصبية اللذين جعلاه يشهد مع محمد بيعة العقبة الكبرى ويخاطب الأوس والخزرج بأنهم إن لم يكونوا مانعي ابن أخيه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم فليدعوه إلى أهله يذودون عنه ذيادهم من قبل، هما اللذان دفعاه حين أجمعت قريش المسير في هذا العدد العظيم إلى أن يكتب كتابا يصف فيه صنيعهم وجمعهم وعدّتهم وعديدهم، ويدفع به إلى رجل غفاريّ يسير به إلى النبيّ حتى يبلغ المدينة في ثلاثة أيام فيدفعه إليه. فأمّا قريش فسارت حتى بلغت الأبواء، ومرّت بقبر آمنة بنت وهب، فدفعت الحميّة بعض الطائشين منها إلى التفكير في نبشه. ولكن زعماءها أبوا عليهم هذه الفعلة، حتى لا تكون سنة عند العرب، وقالوا لا تذكروا من هذا شيئا؛ فلو فعلنا نبشت بنو بكر وبنو خزاعة موتانا. وتابعت قريش مسيرها حتى بلغت العقيق، ثم نزلت عند السفوح من جبل أحد على خمسة أميال من المدينة.
,
وبلغ الغفاري الذي بعثه العبّاس بن عبد المطلب بكتابه المدينة، فوجد محمدا بقباء، فذهب إليه فألفاه على باب المسجد هناك يركب حماره، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليه أبي بن كعب، فاستكتمه محمد ما فيه وعاد إلى المدينة فقصد إلى سعد بن الرّبيع في داره فقصّ عليه ما بعث العباس به إليه واستكتمه أيضا إيّاه. على أن زوج سعد كانت بالمنزل وكانت تسمع ما دار فلم يبق سرّا. وبعث محمد ابني فضالة أنسا ومضنسا يتنطسان خبر قريش، فألفياها قاربت المدينة وأطلقت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها. وبعث محمد من بعدهما الحباب بن المنذر بن الجموح. فلمّا جاءه من خبرهم بالذي أخبره العباس أخذته عليه السلام الحيرة.
وخرج سلمة بن سلامة، فإذا طليعة خيل قريش تقارب المدينة وتكاد تدخلها، فعاد فخبّر قومه بما رأى.
فخشي الأوس والخزرج وأهل المدينة جميعا عاقبة هذه الغزوة التي أعدّت لها قريش خير ما أعدت في تاريخ حروبها، حتى لقد بات وجوه المسلمين من أهل المدينة وعليهم السلاح بالمسجد خوفا على النبيّ، وحرست المدينة كلها طيلة الليل. فلما أصبحوا جمع النبيّ أهل الرأي من المسلمين ومن المتظاهرين بالإسلام- أو المنافقين على ما كانوا يدعون يومئذ وما نعتوا في القرآن وجعلوا يتشاورون؛ كيف يلقون عدوّهم.
,
رأى النبيّ عليه السلام أن يتحصّنوا بالمدينة وأن يدعوا قريشا خارجها، فإذا حاولوا اقتحامها كانوا أهلها فكانوا أقدر على دفعهم والتغلّب عليهم. ورأى عبد الله بن أبيّ بن سلول رأى النبيّ وقال: «لقد كنّا يا رسول الله نقاتل فيها ونجعل النساء والأطفال في هذه الصّياصي ونجعل معهم الحجارة، ونشبك المدينة بالبنيان، فتكون كالحصن من كل ناحية، فإذا أقبل العدوّ رمته النسوة والأطفال بالحجارة وقابلناه بأسيافنا في
السكك. إن مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فضّت علينا قطّ، وما دخل علينا عدوّ فيها إلا أصبناه، وما خرجنا إلى عدوّ قطّ منها إلا أصاب منا، فدعهم يا رسول الله وأطعني في هذا الأمر؛ فإني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم» .
,
وكان كلام ابن أبيّ هذا هو رأي الأكابر من أصحاب الرسول من المهاجرين ومن الأنصار، كما كان رأي الرسول عليه السلام. لكن فتيانا ذوي حميّة لم يشهدوا بدرا، ورجالا شهدوها وأمتعهم الله بالنصر فيها وملأ الإيمان قلوبهم أن ليس لقوّة أن تغالبهم أو تتغلّب عليهم، أحبّوا الخروج إلى العدوّ وملاقاته حيث نزل، مخافة أن يظن أنهم كرهوا الخروج وتحصّنوا بالمدينة جبنا عن لقائه. ثم إنهم إلى جانب المدينة وعلى مقربة منها أقوى منهم يوم كانوا ببدر لا يعرف أهلوهم من أمرهم شيئا. قال قائل منهم: «إني لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها فتكون هذه مجرّئة لقريش. وها هم هؤلاء قد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا «1» لم يزرع، وإن قريشا قد مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب من بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاؤنا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا أفيحبسوننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا! لئن فعلنا لازدادوا جرأة، ولشنوا الغارات علينا وأصابوا من أطرافنا، ووضعوا العيون والأرصاد على مدينتنا، ثم لقطعوا الطريق علينا» . وتعاقب الدّعاة إلى الخروج يتحدّث كلّ حديثه، ويذكرون جميعا أنهم إذا أظفرهم الله بعدوهم فذلك الذي أرادوا، وذلك الذي وعد الله ورسوله بالحق، وإن هم انهزموا واستشهدوا كانت لهم الجنة.
وهز حديث الشجاعة وحديث الاستشهاد القلوب، واستنفر روح الجماعة الأنفس لتجري كلها في هذا التيار، ولتتحدث كلها على هذه النغمة، فلم يبق تلك اللحظة أمام الجمع الماثل في حضرة محمد الممتلئ القلب بالإيمان بالله ورسوله وكتابه وحسابه، إلا صورة الظفر بهذا العدوّ المعتدي تفرّقه سيوفهم أيدي سبا، ويبعثه بأسهم بددا شذر مذر، وتستولي أيديهم على مغانمه ومحارمه، وصورة الجنة أعدّت للذين قتلوا في سبيل الله، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين يلقون فيها أحبتهم الذين شهدوا بدرا واستشهدوا فيها، (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) «2» .
قال خيثمة أبو سعد بن خيثمة: «عسى الله أن يظفرنا بهم أو تكون الآخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت عليها حريصا، حتى بلغ من حرصي عليها أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرزق الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنّة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقّا. وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنّة؛ وقد كبرت سنّي ورقّ عظمي وأحببت لقاء ربي» فلمّا ظهرت الكثرة واضحة في جانب الذين يقولون بالخروج إلى العدوّ وملاقاته قال لهم محمد: إني أخاف عليكم الهزيمة؛ فأبوا مع ذلك إلا الخروج. فلم يكن له إلا أن ينزل على رأيهم. وقد كانت الشورى أساس نظامه لهذه الحياة، فلم يكن يتفرد بأمر إلا ما أوحي إليه من عند الله.
وكان اليوم يوم جمعة، فصلّى النبيّ بالناس، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدّوهم. ودخل محمد بيته بعد صلاة العصر ودخل معه أبو بكر وعمر فعمماه وألبساه درعه وتقلّد سيفه،
__________
(1) العرض (بكسر العين وسكون الراء) : هنا كل واد فيه شجر.
(2) سورة الواقعة آيتا 25، 26.
والناس أثناء غيبته هذه في جدل يتحاورون. قال أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا ممن أشاروا بالتحصّن بالمدينة، للذين رأوا الخروج منها: «لقد رأيتم رسول الله يرى التحصن بالمدينة، فقلتم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج وهو له كاره، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى أو رأيا فأطيعوه» . ولان الداعون للخروج لما سمعوا، وحسبوا أنهم خالفوا الرسول إلى شيء قد يكون لله فيه آية. فلما خرج النبي إليهم لابسا درعه متقلدا سيفه أقبل عليه الذين كانوا يرون الخروج فقالوا: «ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك؛ والأمر إلى الله ثم إليك» . قال محمد: «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم. وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.
انظروا ما آمركم به فاتّبعوه، والنصر لكم ما صبرتم» . وكذلك وضع محمد إلى جانب مبدأ الشورى أساس النظام. فإذا تمّ للكثرة رأي بعد بحث، لم يكن لها أن تنقضه لهوى أو لغاية، بل يجب أن ينفذ الأمر على أن يحسن من يتولى تنفيذه ويوجهه إلى حيث يتحقق نجاحه.
وتقدّم محمد بالمسلمين متّجها إلى أحد، حتى نزل الشيخين «1» . وهناك بصر بكتيبة لا يعرف أهلها، فسأل عنها فقيل: هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود قال عليه السلام: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ما لم يسلموا فانصرف اليهود عائدين إلى المدينة. إذ ذاك جعل حلفاء ابن أبى يقولون له: لقد نصحته وأشرت عليه برأي من مضى من آبائك فكان رأيه مع رأيك، ثم أبى أن يقبله وأطاع الغلمان الذين معه. وصادف حديثهم هوى من نفس ابن أبيّ، فلما أصبحوا انخذل مع كتيبة من أصحابه. وبقي النبيّ ومعه المؤمنون حقّا وعدّتهم، سبعمائة، ليقاتلوا ثلاثة آلاف قرشي من أهل مكة كلهم موتور من يوم بدر، وكلهم على ثأره حريص.
,
وسار المسلمون مع الصبح حتى بلغوا أحدا، فاجتازوا مسالكه وجعلوه إلى ظهورهم. وجعل محمد يصفّ أصحابه، وقد وضع منهم خمسين من الرماة على شعب في الجبل وقال لهم: «احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئونا من ورائنا. والزموا مكانكم لا تبرحوا منه. وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم. وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا. وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنّبل؛ فإن الخيل لا تقدم على النبل» ؛ ثم نهى غير الرماة أن يقاتل أحد حتى يأمر هو بالقتال.
,
فأمّا قريش فصفّت صفوفها، وجعلت على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعت اللواء إلى عبد العزّى طلحة بن أبي طلحة. وجعلت نساء قريش يمشين خلال صفوفها يضربن بالدفوف والطبول، فيكنّ تارة في مقدمة الصفوف وتارة في مؤخّرتها، وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وهنّ يقلن:
ويها بني عبد الدّار ... ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتّار
__________
(1) الشيخان: موضع، كان به في الجاهلية اطمأن فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان فسمى المكان الشيخين لذلك.
ويقلن:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
واستعدّ الفريقان للقتال وكلّ يحرّض رجاله. فأما قريش فتذكر بدرا وقتلاها. وأما المسلمون فيذكرون الله ونصره. ومحمد يخطب ويحض على القتال، ويعد رجاله النصر ما صبروا. مدّ يده بسيف فقال: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ فقال: أن تضرب به في العدوّ حتى ينحني. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا له عصابة حمراء، إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل وأنه أخرج عصابة الموت. فأخذ السيف وأخرج عصابته وعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفّين على عادته إذ يختال عند الحرب. فلمّا رآه محمد يتبختر قال:
«إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن» .
وكان أوّل من أنشب الحرب بين الفريقين أبو عامر عبد عمرو بن صيفيّ الأوسيّ، وكان قد انتقل من المدينة إلى مكة يحرّض قريشا على قتال محمد، ولم يكن شهد بدرا، فخرج في أحد في خمسة عشر رجلا من الأوس، وفي عبيد أهل مكة؛ وكان يزعم أنه إذا نادى أهله المسلمين من الأوس الذي يحاربون في صفّ محمد، استجابوا له وانحازوا معه ونصروا قريشا: فخرج فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر. فأجابه الأوس المسلمون: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق! ثم نشب القتال بينهم. وحاول عبيد قريش وحاول عكرمة بن أبي جهل، وكان على الميسرة، أن يأخذوا المسلمين من جناحهم، ولكن المسلمين رشقوهم بالحجارة حتى ولّى أبو عامر ومن معه مدبرين. هنالك صاح حمزة بن عبد المطلب صيحة القتال يوم أحد: «أمت، أمت» واندفع إلى قلب جيش قريش. وصاح طلحة بن أبي طلحة حامل لواء أهل مكة: من يبارز! فبرز له عليّ بن أبي طالب والتقيا بين الصفّين، فبادره عليّ بضربة فلقت هامته. واغتبط النبيّ وكبّر المسلمون وشدّوا واندفع أبو دجانة وفي يده سيف النبيّ وعلى رأسه عصابة الموت، فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله حتى شقّ صفوف المشركين، فرأى إنسانا يخمش «1» الناس خمشا شديدا، فحمل عليه بالسيف فولول، إذا هند بنت عتبة فارتدّ عنها مكرما سيف الرسول أن يضرب به امرأة.
,
والحقّ أن ظفر المسلمين في صبيحة يوم أحد كان معجزة من معجزات الحرب، قد يفسّرها بعضهم بمها محمد في وضعه الرّماة في شعب الجبل يصدّون الفرسان بالنبل فلا يتقدّمون ولا يأتون المسلمين من خلفهم.
وهذا حقّ. ولكنه من الحق أيضا أنّ ستّ المائة من المسلمين الذين هاجموا عددا يوازي خمسة أمثالهم، وعدّة في
__________
(1) الأورق من الإبل: الآدم، وقيل ما في لونه بياض إلى سواد.
(2) الثنة: ما بين السرة والعانة من أسفل البطن.
مثل هذه النسبة، إنما دفعهم إلى معجزات البطولة التي أتوا شيء أعظم من مهارة القيادة: ذلك هو الإيمان، الإيمان الصادق بأنهم على الحق. ومن آمن بالحق لم تزعجه قوّة مادية مهما عظمت، ولم تضعضع من عزمته كل قوّات الباطل وإن اجتمعت. وهل رأيت مهارة القيادة وحدها كانت تغني والرّماة الذين وضعهم النبيّ في الشعب لم يكونوا إلا خمسين، فلو أن مائتين أو ثلثمائة رجل هاجموهم مستقتلين لما ثبتوا ولا صبروا أمامهم.
لكن القوّة الكبرى، قوة الفكرة، قوّة العقيدة، قوّة الإيمان الصادق بالحق العلي الأعلى، هذه القوة لا غالب لها ما أراد صاحبها وجه الحق وحده. ولذلك تمزّقت قريش في ثلاثة آلاف من فرسانها أمام هجمات ستمائة مسلم، وأوشكت نسوتها أن يؤخذن أسرى ذليلات. وتبع المسلمون عدوهم يضعون السلاح فيه حيث شاؤا حتى بعد عن معسكره؛ فجعل المسلمون ينتهبون الغنيمة، وما أكثر ما كانت! وصرفهم ذلك عن اتباعه عدوهم ابتغاء عرض الدنيا.
,
ورآهم الرّماة الذين أمرهم الرسول ألّا يبرحوا الشعب ولو رأوه وأصحابه يقتلون فقال بعضهم لبعض وقد سال لمرأى الغنيمة لعابهم: «لم تقيمون ههنا في غير شيء وقد هزم الله عدوكم وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فأدخلوا فأغنموا مع الغانمين» قال قائل منهم: «ألم يقل لكم رسول الله لا تبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا؟!» قال الأولون! «لم يرد رسول الله أن نبقي بعد أن أذلّ الله المشركين» .
واختلفوا فخطبهم أميرهم عبد الله بن جبير أن لا يخالفوا أمر الرسول، فعصاه أكثرهم وانطلقوا ولم يبق معه إلا نفر دون العشرة. واشترك المنطلقون في النهب وشغلوا كما شغل سائر المسلمين به. إذ ذاك اهتبل الفرصة خالد بن الوليد، وكان على فرسان مكة، فشد برجاله على مكان الرّماة فأجلاهم. ولم يفطن المسلمون لفعله لأنهم شغلوا عنه وعن كل شيء بهذه الغنائم يعبّون منها، حتى ولم يبق رجل منهم وقع في يده شيء إلا أخذه.
وإنهم لكذلك إذ صاح ابن الوليد صيحة أدركت قريش معها أنه دار برجاله وراء جيش المسلمين. عند ذلك عاد منهم كل منهزم فأثخنوا في المسلمين ضربا وقتلا. وهناك دارت الدائرة؛ فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به. ولكن هيهات هيهات! لقد تفرّقت الصفوف وتمزّقت الوحدة وابتلع البحر اللجي من رجال قريش هذه الصفوة من المسلمين كانت إلى ساعة تقاتل بأمر ربها تنضج عن إيمانها، وهي الساعة تقاتل لتنجو من براثن الموت ومخالب المذلّة. وكانت تقاتل متراصة متضامنة، وهي الآن تقاتل مبعثرة متناكرة. وكانت تقاتل تحت قيادة قوية حازمة حكيمة، وهي الآن تقاتل ولا قيادة لها. فلم يكن عجبا أن توى مسلما يضرب مسلما بسيفه وهو لا يكاد يعرفه. وصاح صائح بالناس: إن محمدا قد قتل، فازدادت الفوضى وعظمت البلبلة، واختلف المسلمون وصاروا يقتتلون ويضرب بعضهم بعضا وهم لا يشعرون لما هم فيه من العجلة والدهش. قتل المسلمون مواطنهم المسلم حسيل بن جابر أبا حذيفة وهم لا يعرفونه. وكان أكبرهم كل مسلم أن ينجو بنفسه إلا من عصم الله من أمثال عليّ بن أبي طالب.
على أن قريشا ما لبثت حين سمعت بمقتل محمد أن تدافعت تدافع السيل إلى الناحية التي كان فيها، وكلّ يريد أن يكون له في قتله أو التمثيل به ما يفاخر الأجيال به. هنالك أحاط المسلمون القريبون بنبيهم يدافعون عنه ويحمونه، وقد عاد الإيمان فملأ نفوسهم وملك قلوبهم وحبب إليهم الموت وهون عليهم الحياة الدنيا.
وزادهم إيمانا واستماتة أن رأوا الحجارة التي تقذفها قريش قد أصابت النبيّ فوقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشجّ في وجهه، وكلمات شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته. وكان رامي الحجر الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. وتمالك الرسول وسار وأصحابه من حوله، فإذا به يقع في حفرة حفرها أبو عامر
ليقع فيها المسلمون. هنالك أسرع إليه عليّ بن أبي طالب فأخذ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى وجعل يسير وأصحابه، متسلقين أحدا ناجين من العدوّ واتّباعه إيّاهم.
,
وفي لحظة قاموا كان قد اجتمع حولهم من المسلمين من استماتوا في الدفاع عن رسول الله استماتة لا يقهر صاحبها أبدا. كانت أمّ عمارة الأنصارية قد خرجت أول النهار ومعها سقاء فيها ماء تدور به على المسلمين المجاهدين تسقي منهم من استسقى. فلما انهزم المسلمون ألقت سقاءها واستلّت سيفا وقامت تباشر القتال تذبّ عن محمد بالسيف وترمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليها. وترّس أبو دجانة بنفسه دون رسول الله، فحنى ظهره والنبل يقع فيه. ووقف سعد بن أبي وقاص إلى جانب محمد يرمي بالنبل دونه ومحمد يناوله النبل ويقول له: ارم فداك أبي وأمي. وكان محمد قبل ذلك يرمي بنفسه عن قوسه حتى اندقت سيتها.
هذا، فأمّا الذين ظنوا محمدا قد مات ومن بينهم أبو بكر وعمر فانتحوا الجبل وألقوا بأيديهم. فرآهم أنس بن النّضر فقال: ما يجلسكم قالوا: قتل رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعد! قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء منقطع النظير، حتى إنه لم يقتل إلا بعد أن ضرب سبعين ضربة، وحتى إنه لم يعرفه أحد إلا أخته عرفته من بنانه.
,
وفرحت قريش بما اعتقدت من موت محمد، فراح أبو سفيان يفتقده في القتلى؛ ذلك بأن الذين كانوا ينضحون عنه عليه السلام لم يكذّب أحد منهم خبر قتله إطاعة لأمره حتى لا تتكاثر عليهم قريش فتغلبهم دونه. على أن كعب بن مالك أقبل إلى ناحية أبي دجانة ومن معه فعرف محمدا حين رأى عينيه تزهران تحت المغفر فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله؛ فأشار النبيّ إليه ليسكت. لكن المسلمين ما لبثوا حين عرفوا أن نهضوا بالنبيّ ونهض هو معهم نحو الشعب، ومن حوله أبو بكر وعمر وعليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط وغيرهم. وكان لصيحة كعب عند قريش كذلك أثرها. صحيح أن أكثرهم لم يصدّقها وحسبها صيحة أريد بها شدّ عزائم المسلمين. إلا أن بعضهم اندفع وراء محمد والذين ساروا معه.
وقد أدركهم أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا!. فطعنه الرسول بحربة الحارث بن الصّمة طعنة جعلته يتقلب على فرسه ويعود أدراجه ليموت في الطريق. فلما انتهى المسلمون إلى فم الشعب خرج عليّ فملأ درقته ماء، فغسل محمد به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه؛ ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرسول فسقطت ثنيتاه. وإنهم لكذلك إذ علا خالد بن الوليد على رأس فرسان معه الجبل، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من أصحاب الرسول فردّوهم. وازداد المسلمون في الجبل تصعيدا وقد نهكهم التعب وهدّهم الجهد، حتى صلى النبيّ الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
,
فأمّا قريش فطارت بنصرها سرورا، وحسبت نفسها انتقمت لبدر أشدّ الانتقام؛ حتى صاح أبو سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل» . وأمّا هند بنت عتبة زوجه فلم يكفها النصر، ولم يكفها قتل حمزة بن عبد المطلب، بل انطلقت هي والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجد عن الآذان والأنوف، وجعلت هند لنفسها منها قلائد وأقراطا، ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها
بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرأ أبو سفيان من تبعتها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد إشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت» .
,
وانصرفت قريش بعد أن دفنت قتلاها؛ وعاد المسلمون إلى الميدان لدفن قتلاهم. وخرج محمد يلتمس عمّه حمزة. فلما رآه قد بقر بطنه ومثّل به حزن من أجله أشدّ الحزن وقال: «لن أصاب بمثلك أبدا. ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا» . ثم قال: «والله لئن أظهرنا الله عليهم يوما من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب» . وفي هذا نزل قوله تعالى: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) «1» فعفا رسول الله وصبر ونهى عن المثلة، وسجّى حمزة ببرده وصلى عليه. وجاءت أخته صفية بنت عبد المطلب، فنظرت إليه وصلّت عليه واستغفرت له. ودفن حمزة، وأمر النبيّ بالقتلى فدفنوا حيث لقوا مصارعهم. وانصرف المسلمون إلى المدينة ومحمد على رأسهم، تاركين وراءهم سبعين من القتلى، يحزّ في نفوسهم الألم لما أصابهم من هزيمة من بعد نصر، ومن مذلة وهوان بعد ظفر لا ظفر مثله؛ وذلك كله لعصيان الرّماة أمر النبيّ واشتغال المسلمين عن العدو بغنائمه.
ودخل النبيّ إلى بيته وجعل يفكر. ها هم أولاء أهل يثرب من اليهود والمنافقين والمشركين يظهرون السرور أشدّ السرور لما كان من هزيمته وهزيمة أصحابه. وهذا سلطان المسلمين بالمدينة كان قد استقرّ فلم يبق لأحد أن ينازع فيه، وها هو يوشك أن يضطرب ويتزعزع. وهذا عبد الله بن أبي بن سلول قد خرج على الجماعة وعاد من أحد ولم يشترك في القتال بدعوى أن محمدا لم يسمع رأيه، أو أن محمدا غضب على مواليه من اليهود. فلو أنّ هزيمة أحد بقيت الكلمة الأخيرة بين المسلمين وقريش لهان أمر محمد وأصحابه على العرب، ولتضعضع سلطانهم بيثرب، ولكانوا عرضة لاستخفاف قريش بهم وإرسالها دعاية السخر والاستهزاء منهم في أنحاء شبه الجزيرة جميعا. ولئن حدث هذا لجاء في أثره اجتراء المشركين وعبّاد الأوثان على دين الله فتكون الطامّة الكبرى. فلا بدّ إذا من ضربة جريئة تخفف من وقع هزيمة أحد وتردّ إلى المسلمين قوّتهم المعنوية، وتدخل إلى روع اليهود والمنافقين الرّهبة وتعيد إلى محمد وأصحابه سلطانهم بيثرب قويّا كما كان.
,
فلمّا كان الغد من يوم أحد، وكان الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوّال، أذّن مؤذّن النبيّ في المسلمين بطلب العدوّ واستنفرهم لمطاردته، على ألّا يخرج إلا من حضر الغزوة. وخرج المسلمون، فوقع في روع أبي سفيان أن أعداءه جاؤا من المدينة بمدد جديد فخاف لقاءهم. وبلغ محمد حمراء الأسد «2» ، وكان أبو سفيان وأصحابه بالرّوحاء فمرّ به معبد الخزاعيّ، وكان قد مرّ بمحمد ومن معه، فسأله عن شأنهم فأجابه معبد- وكان لا يزال على الشرك-: «إن محمدا قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ، وقد اجتمع معه من كان قد تخلّف عنه، وكلهم أشدّ ما يكون عليكم حنقا ومنكم للثأر طلبا» . على أن أبا سفيان فكر فيما يكون لفراره من محمد ومن عدم مواجهته إياه بعد انتصاره عليه بأحد من الأثر. أفلا تقول العرب في قريش ما
__________
(1) سورة النحل آيتا 126 و 127.
(2) موضع على ثمانية أميال من المدينة.
كان يودّ هو أن تقوله في محمد وأصحابه؟ ولكن هبه رجع إلى محمد فهزمه المسلمون، إذا ليكون ذلك القضاء الأخير على قريش قضاء لا تقوم لها من بعده قائمة أبدا. فلجأ إلى الحيلة، فبعث مع ركب من عبد القيس يقصدون المدينة أن يبلغوا محمدا أنه قد أجمع السير إليه وإلى أصحابه ليستأصل بقيّتهم. فلمّا أبلغ الركب الرسالة إلى محمد بحمراء الأسد لم يتضعضع عزمه ولم تهن قوّته، بل ظلّ في مكانه يوقد النار طيلة الليل ثلاثة أيام متتابعة، ليدلّ قريشا على أنه على عزمه وأنه منتظر رجعتهم. وأخيرا تزعزعت «1» همّة أبي سفيان وقريش، وآثروا أن يبقوا على نصرهم بأحد وعادوا أدراجهم ميممين مكة. ورجع محمد إلى المدينة وقد استردّ كثيرا من مكانة تزعزعت على أثر أحد، وإن كان المنافقون قد بدؤا يرفعون رؤسهم ضاحكين من المسلمين يسألونهم:
إذا كانت بدر آية من الله برسالة محمد فماذا عسى أن تكون آية أحد وماذا تكون دلالتها؟!
__________
(1) تزعزعت: تفرقت.
,
ائتمار القبائل المجاورة بالمسلمين- غزوة بني أسد- أمر الهذلي- مقتل خبيب وأصحابه بالرجيع- مقتل المسلمين ببئر معونة- إجلاء بني النضير عن المدينة- غزوة بدر الآخرة- غزوة دومة الجندل.
,
عاد أبو سفيان من أحد إلى مكة، وقد سبقته إليها أخبار النصر، ممتلئ النفس غبطة وسرورا بما زال عن قريش من عار بدر. ولم يلبث حين بلغها أن قصد الكعبة قبل أن يدخل إلى بيته، وبها رفع إلى كبير الهتهم هبل آي الثناء والحمد؛ ثم حلق لمّته ورجع إلى داره موفيا نذره ألا يقرب زوجه حتى ينتصر على محمد. أمّا المسلمون فألفوا المدينة وقد تنكّر لهم الكثير من أمرها، على رغم مطاردتهم عدوهم وثباتهم له ثلاثة أيام سويّا من غير أن يجترئ على الرجعة إليهم وهو المنتصر قبل أربع وعشرين ساعة عليهم. ألفوا المدينة وقد تنكّر لهم الكثير من أمرها وإن بقي سلطان محمد فيها السلطان الأعلى، وشعر عليه السلام بدقة الموقف وحرج المركز، لا في المدينة وحدها، بل كذلك عند قبائل العرب ممن كان الرعب منه قد داخل نفوسها؛ فقد ردّت أحد إليها من السكينة ما سمح لها أن تفكر في معارضته ومناوأته. لذلك حرص على أن يقف من أخبار أهل المدينة ومن أخبار العرب جميعا، على ما يمكنه من استعادة مكانة المسلمين وسطوتهم وهيبتهم في النفوس.