وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع قائدهم، مالك بن عوف النضري، وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على النخبة اليمانية، ثم على قرن المنازل، ثم على لية، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريبًا من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن.
ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يومًا، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يومًا، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر1.
ووقعت في هذه المدة عدة مناوشات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رميًا شديدًا كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مكان مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك.
ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذفهم به حتى فتحت طاقة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار، فأحرقت الدبابة وخرج المسلمون من تحتها فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالا.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعًا ذريعًا، فسألته ثقيف أن يدعها لله والرحم.
ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، تسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة
__________
1 انظر البداية والنهاية ج4 ص351، المغازي ج3 ص936.
يستقي عليها، فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبا بكرة" فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة.
ولما طال الحصار، واستعصى الحصن وأصيب المسلمون بما أصيبوا من رشق النبال والحديد المحمى، وكان أهل الحصن، قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي فقال: هم ثعلب في جحر، وإن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غدًا إن شاء الله، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغدوا على القتال". فغدوا فأصابهم جراح.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون غدًا إن شاء الله". فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
ولما ارتحلوا واستقلوا قال صلى الله عليه وسلم: "قولوا: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون".
وقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع على ثقيف، فقال: "اللهم اهد ثقيفًا وآت بهم".
وقد استشهد من المسلمين في حصار الطائف اثنا عشر رجلا1.
__________
1 انظر المغازي ج3 ص922-938 بتصرف.
6- ,
انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة والغنائم بها ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرون ألف بعير، فيها اثنا عشر ألف ناقة، والغنم أربعون ألفًا وقيل: أكثر، فأمر صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان الخزاعي أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابًا من برود هجر، فكساهم كلهم، واستأنى صلى الله عليه وسلم بالسبي ولم يوزع منهم، وأقام يتربص أن يقدم وفدهم، وكان قد فرق منه وهو بحنين، فأعطى عبد الرحمن بن عوف امرأة، وأعطى صفوان بن أمية، وعليًا، وعثمان، وعمر، وجبير بن مطعم، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام رضي الله عنهم فلما رجع إلى
الجعرانة بدأ بالأموال فقسمها، فأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، فجاء أبو سفيان بن بن حرب والفضة بين يديه، فقال: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالا، فتبسم صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو سفيان: أعطني من هذا يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال! زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل".
قال: ابني معاوية يا رسول الله!
قال صلى الله عليه وسلم: "زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل".
قال أبو سفيان: إنك لكريم فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت! ثم سالمتك فنعم المسالم أنت جزاك الله خيرًا1.
وسأل حكيم بن حزام يومئذ مائة من الإبل فأعطاه، ثم سأل مائة أخرى فأعطاه ثم سأل مائة ثالثة فأعطاه، ثم قال: "يا حكيم بن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول". فأخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك ما عداها وقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعد. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعوه لعطاء فيرفضه2.
وأعطى النضير بن الحارث علقمة بن كلدة أخا النضر بن الحارث مائة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية، حليف بني زهرة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيرًا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وسعيد بن يربوع خمسين بعيرًا.
وفي صحيح مسلم عن الزهري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى يومئذ صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل، ويقال إنه طاف مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتصفح الغنائم، إذ مر بشعب مما أفاء الله عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:
__________
1 المغازي ج3 ص944-945.
2 المرجع السابق ج3 ص945.
"أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب"؟.
قال صفوان: نعم.
قال: "هو لك وما هو فيه"!.
فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي، وأشهد أنك رسول الله1 وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين بعيرًا، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وأعطى أبا عامر العباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة السلمي دون المائة، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في شعر قاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا عني لسانه فأعطوه مائة من الخمس".
وقال يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟
فقال: "أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه".
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس وكانت سهامهم: لكل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة، وإن كان فارسًا أخذ ثنتي عشرة من الإبل أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له.
وقدم وفد هوازن، وهم أربعة عشر رجلا رأسهم أبو صرد زهير بن صرد الجشمي السعدي، قد أسلموا وأخبروا بإسلام من وراءهم من قومهم.
فقال أبو صرد: يا رسول الله أنا أصل العشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا من الله عليك، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا منحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا أحدهما بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته، وأنت خير المكفولين.
__________
1 صحيح مسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي من ترون من المسلمين، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم"؟.
قالوا: يا رسول الله! خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا! وما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فرد علينا أبناءنا ونساءنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس، فإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس". فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس: قاموا فتكلموا بما أمرهم به، فأجابهم بما تقدم، فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول الله.
وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عيينة بن حصن: أما أنا وفزارة فلا.
وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا!
فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا فقال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت أستأنيت بهم فخيرتهم بين النساء والأبناء والأموال، فلم يعدلوا بالنساء والأبناء فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أبى منكم ويمسك بحقه فليرد عليهم، وليكن قرضًا علينا ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا به". فقالوا: يا رسول الله رضينا وسلمنا.
قال صلى الله عليه وسلم: "فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم". فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف منهم رجل واحد، وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العرفاء واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على قول واحد: أنهم سلموا ورضوا، ودفع عند ذلك السبي إليهم.
وتمسكت بنو تميم مع الأقرع بن حابس بالسبي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء ست فرائض: ثلاث حقائق وثلاث جذاع.
وقال يومئذ: "لو كان ثابتًا على أحد من العرب ولاء أورق لثبت اليوم، ولكن إنما هو إسار أو فدية". وجعل أبا حذيفة العدوي على مقاسم المغنم.
وقال للوفد: "ما فعل مالك بن عوف"؟.
قالوا: هرب ولحق بحصن الطائف مع ثقيف.
فقال صلى الله عليه وسلم: إنه إن يأت مسلمًا رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، وكان قد حبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بهمة ابنة أبي أمية، ووقف ماله فلم تجر فيه السهام، فلما بلغ ذلك مالكًا، فر من ثقيف ليلا، وقدم الجعرانة وأسلم، وأخذ أهله وماله ومائة من الإبل.
ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاياه وجد الأنصار في أنفسهم إذ لم يكن فيهم منها شيء، وكثرت القالة، فقال واحد: لقي رسول الله قومه! أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا؟ إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله استعتبناه.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضبًا شديدًا، ودخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال له: "ما يقول قومك"؟.
فقال سعد: وما يقولون يا رسول الله؟
فذكر له ما بلغه وقال: "فأين أنت من ذلك يا سعد"؟.
فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فاجمع لي من كان ها هنا من الأنصار".
فلما اجتمعوا، حمد الرسول ربه وأثنى عليه ثم قال: "يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم"؟.
قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل.
قال: "ألا تجيبوني"؟.
قالوا: وماذا نجيبك يا رسول الله؟
قال: "أما والله ولو شئتم قلتم فصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدًا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفًا فأمناك، وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدنيا تألفت به قومًا أسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم، بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟
والذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، أكتب لكم بالبحرين كتابا من بعدي تكون لكم خاصة دون الناس"؟.
قالوا: وما حاجتنا بعدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: "إما لا فسترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". فبكوا حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله حظًا وقسمًا، وانصرفوا1.
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الطائف ج7 ص32، 37 وللحديث روايات متعددة في الباب.
7- ,
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من توزيع الغنائم وأداء العمرة انصرف راجعًا إلى المدينة في آخر ذي القعدة من العام الثامن الهجري بعدما ولى على مكة عتاب بن أسيد، وترك معاذ بن جبل معه لتعليم الناس الفقه والقرآن وما يحتاجونه من أحكام دين الله تعالى.
المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب
,
...
رابعًا: غزوة تبوك والتصدي لعدوانية الرومان
لم يقبل الرومان انتصار المسلمين، وتوحد الجزيرة تحت راية الإسلام وكبر عليهم أن تظهر قوة كبرى مجاورة لهم، فجهزوا جموعا كثيرة بالشام عند حلفائهم الغساسنة، وأرادوا غزو المسلمين في ديارهم، والقضاء على دولتهم الناشئة فكان أن جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم غازيًا في "تبوك".
والحديث عن غزوة تبوك يتطلب النقاط التالية:
1- استعداد المسلمين للغزوة:
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعمل له الرومان فجهز المسلمين وأعد العدة وكانت غزوة تبوك.
وتبوك موضع بين الحجر وأول الشام، وإليها كانت غزوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقعت هذه الغزوة في حر شديد، ومع قلة أموال المسلمين ولذلك سميت "غزوة العسرة".
ونظرًا لبعد مسافة تبوك عن المدينة، وللظروف التي أحاطت بها صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بجهة الغزوة على غير عادته ليستعد الصحابة لها، وليكونوا على بينة من المشاق التي سيتحملونها في خروجهم.
ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة للخروج إلى تبوك، وأرسل إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم فبعث بريدة بن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع، وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه، وأبا واقد الليثي إلى قومه، وأبا جعدة الضمري إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث بن جندب بن جنادة إلى جهينة، ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبسر بن سفيان إلى بني كعب بن عمرو، والعباس بن مرداس إلى بني سليم.
وحض على الجهاد ورغب فيه، وأمر بالصدقة فحملت صدقات كثيرة، وأول من
حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه, جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت لبناتك شيئًا"؟.
قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت شيئًا"؟.
قال: نعم، نصف مالي جئت به.
وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه.
وحمل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مالا يقال: إنه تسعون ألفًا.
وحمل طلحة بن عبيد الله مالا.
وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية.
وحمل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة مالا.
وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقًا تمرًا.
وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، فلقد كفلت نفقته مئونة ثلث الجيش حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة!
جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار ففرغها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل صلى الله عليه وسلم يقبلها ويقول: "ما ضر عثمان ما فعل هذا اليوم". قالها مرارًا.
ورغب صلى الله عليه وسلم أهل الغنى في الخير والمعروف، فتبادل المسلمون في ذلك حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، وأتت النساء بكل ما قدرن عليه، فكن يلقين في ثوب مبسوط بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، المسك، والمعاضد، والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم، والخدمات.
وكان الناس في حر شديد، وحين طابت الثمار، وحسنت الظلال، وبدأ الناس يحبون المقام، ويكرهون الشخوص أخذهم صلى الله عليه وسلم بالجد، ودعاهم إلى الخروج وعسكر بثنية الوداع.
تجمع المسلمون بثنية الوداع حتى بلغ عددهم قريبًا من أربعين ألفًا فيهم كثير من
الأعراب، وعبد الله بن أبي وأشياعه من المنافقين.
وكان لا بد من حمولة للمجاهدين لطول السفر، وصعوبة الطريق، وظهر واضحًا أن الذي لا يجد ما يحمله لن يغزو، وله عذره، وهنا جاء عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشكون له عدم وجود ما يركبون، وأخذوا في البكاء حزنًا على فوت الجهاد منهم.
وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السلمي، وهرمي بن عمرو المزني، وسالم بن عمير، جاءوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا أجد ما أحملكم عليه".
فولوا يبكون، فلقي اثنان منهما يامين بن عمير بن كعب فقال: ما يبكيكما؟
قالا: جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهما ناضحًا له، فارتحله اثنان منهم، وزود كل واحد صاعين من تمر.
وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين.
وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة1.
وأبطأ أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بعيره، وكان الحر شديدًا فخرج وحده، حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وقد بلغ منه العطش.
فقال له صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ما خلفك"؟.
فأخبره أبو ذر رضي الله عنه خبر بعيره.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كنت لمن أعز أهلي عليّ تخلفًا! لقد غفر الله لك بكل خطوة ذنبًا إلى أن بلغتني".
يروي ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى سائرًا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيقول: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم،
__________
1 إمتاع الأسماع ص446.
وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". حتى قيل: يا رسول الله! قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فلقد أراحكم الله منه". وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر". فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده" 1.
وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة "سباع بن عرفطة رضي الله عنه" وخلف معه علي بن أبي طالب على أهله، وعقد الألوية والرايات، فدفع اللواء الأعظم لأبي بكر، والراية الكبرى للزبير بن العوام، وأمر صلى الله عليه وسلم كل من خرج معه باتخاذ لواء أو راية.
وأخذ الجيش الإسلامي يتحرك من ذات الثنية باتجاه الشام.
وهنا برز أصحاب النفاق وانسحبوا من ذي الثنية ورجعوا إلى المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي وأشياعه.
وقالوا: يحسب محمد صلى الله عليه وسلم أن قتال بني الأصفر -الروم- للعب؟
ونافق آخرون وهم الأعراب الذين أخذوا يتخلفون عن الجيش معتذرين بأسباب واهية كاذبة.
وكان تخلفهم رحمة بالمؤمنين الصادقين, ولذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما أخبره أصحابه بتخلف فلان يقول: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه".
وسار الجيش إلى تبوك، بعدما تخلص من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بلغ عدده ثلاثين ألفًا.
وعندما وصل المسلمون إلى "ذي خشب" وهو جبل يقع شمال المدينة قريبًا منها أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي والمسلمون معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعًا، يؤخر الظهر حتى تدبر
__________
1 سيرة النبي ج2 ص523.
الشمس ويصلي العصر جمع تقديم، ويصلي المغرب مع العشاء وقت العشاء جمع تأخير واستمر صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى رجع من تبوك.
لما وصل الجيش إلى تبوك جمع النبي صلى الله عليه وسلم جنوده، وخطب فيهم وقال صلى الله عليه وسلم:
"أيها الناس! أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرًا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرًا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر.
النياحة من عمل الجاهلية، والغلو من جمر جهنم، والشكر وقاية من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المال أكل مال اليتيم.
والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الرؤيا رؤيا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي أستغفر الله لي ولكم".
وطاف على ناقته بالناس وهو يقول: "يا أيها الناس! يد الله فوق يد المعطي،
ويد المعطِي الوسطى ويد المعطَى السفلى، أيها الناس استغنوا ولو بحزم الحطب، اللهم هل بلغت! اللهم هل بلغت! اللهم هل بلغت! ".
وجلس بتبوك في نفر من أصحابه وهو سابعهم، فجاء رجل من بني سعد هذيم فسلم فقال: "اجلس".
فقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: "أفلح وجهك".
ثم قال: "يا بلال، أطعمنا"!. فبسط نطعًا، ثم أخرج من حميت له خرجات من تمر معجون بسمن وأقط، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "كلوا". فأكلوا حتى شبعوا.
فقال الرجل: يا رسول الله إني كنت لآكل هذا وحدي!!
فقال صلى الله عليه وسلم: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد".
ثم جاء من الغد متحينًا الغداء ليزداد في الإسلام يقينًا، فإذا عشرة حوله عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم: "هات أطعمنا يا بلال"!. فجعل يخرج من جراب تمرًا بكفه قبضة قبضة، فقال: "أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتارًا"!. فجاء بالجراب فنثره، فحزره الرجل مدين، فوضع صلى الله عليه وسلم يده على التمر ثم قال: "كلوا باسم الله". فأكل القوم وأكل الرجل وكان صاحب تمر، حتى ما يجد له مسلكًا، وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال كأنهم لم يأكلوا منه تمرة واحدة.
ثم عاد الرجل من الغد، وعاد نفر، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال أطعمنا". فجاء بذلك الجراب بعينه فنثره، ووضع صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: "كلوا باسم الله". فأكلوا حتى شبعوا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام1.
وعسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجنوده في "تبوك" عشرين يومًا حتى فتح الله عليهم فعادوا إلى المدينة بلا قتال وبلا حرب.
__________
1 إمتاع الأسماع ص460.
2- ,
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في تبوك، وعسكر قبالتهم جيش الروم، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في التقدم بعد أن بين لهم أن الأمر بيدهم وعليهم أن يختاروا لأنفسهم، وبخاصة أن الله لم يأمر بشيء، فرأوا الرجوع إلى المدينة، والاكتفاء بما حقق الله لهم في هذه الغزوة, إن غزوة "تبوك" خلت من القتال ولكنها تركت آثارًا عديدة على المسلمين وعلى غيرهم أما أثرها مع المسلمين فقد محص الله صفهم، وأحاطهم بآيات من عنده كإكثار الطعام وهم في أمس الحاجة إليه، ونزول المطر بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وجه النبي من عسكره في تبوك سرايا إلى القبائل العربية الموجودة في المنطقة وكانت تابعة للرومان, فلما رأى العرب قوة المسلمين قبلت العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا من أهل الذمة, وعلى رأس هذه القبائل أهل أيلة، وأهل جرباء، وأهل أذرح، وأهل مقتا، حيث أتى يحنة بن رؤبة صاحب أيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحه على إعطاء الجزية وتبعه أهل جرباء وأذرح، فكتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا وأعطاه لهم وجاء فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة1: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقًا يريدونه، من بر أو بحر".
وقد كتب الكتاب جهيم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة، بإذن رسول الله2.
وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل "جرباء" كتابًا جاء فيه: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل جرباء وأذرح, أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم"3.
__________
1 وأيلة بفتح الهمزة وسكون الياء مدينة على البحر الأحمر مما يلي الشام وهي من بلاد الشام.
2 سيرة النبي ج2 ص525، 526.
3 إمتاع الأسماع ج ص, جرباء بفتح فسكون موضع جنوب الشام يقع في شمال جبل السراة.
وكتب لأهل أذرح ما يلي: "من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة، وهم آمنون حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه"1.
وكتب لأهل "مقتا" كتابًا جاء فيه: "أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزولهم وربع ثمارهم"2.
وأرسل خالد بن الوليد في بعث إلى أكيدر دومة، رجل من كندة وكان ملكًا عليها، وكان نصرانيًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟
قال: لا والله.
قالت: فمن يترك هذه.
قال: لا أحد.
فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسان فركب، وخرجوا معه بمطاردهم فلما خرجوا لقيهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلمه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه به عليه فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من لين هذه؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها" 3.
ثم إن رسول الله حقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته4 وبذلك تحقق للمسلمين العزة والقوة في هذه المناطق البعيدة.
أما آثار تبوك على غير المسلمين فلقد أيقنوا أن قوة الإسلام غالبة، وأنه لا قبل لأي فريق في مواجهة المسلمين وبدءوا يدركون صدق الإسلام وخطأهم فيه.
__________
1 أذرح بفتح الهمزة وسكون الذال وضم الراء بلد صغير يقع في أطراف الشام من ناحية الجنوب.
2 سيرة ابن هشام ج2 ص527.
3 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مناقب سعد بن معاذ ج6 ص155.
4 سيرة النبي ج2 ص526.
3- ,
سارع المنافقون بالخروج إلى ثنية الوداع حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك.
ويبدو أن خروج المنافقين كان مناورة منهم لتثبيط همة المؤمنين ونشر الذعر بينهم وحتى لا يتهموا بالقعود والنكوص، وظنوا أن بمقدورهم القعود بالجيش كله من الغزو ولذلك ناقشوا كثيرًا في التخلف، وأكثروا من الحلف وهم كاذبون، وبدءوا في إضعاف عزائم المجاهدين مرة ببعد المسافة، وأخرى بقسوة الحر، وثالثة بوعورة الطريق، ورابعة بقوة الروم والأعراب المتحالفين معهم, وكل تلك أمور بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين دعاهم للخروج.
وكان أمل المنافقين القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام كله، ولذلك خرجوا مع الجيش الإسلامي، وانتهزوا كل ما أمكنهم لتحقيق مآربهم، وأهم أفعالهم:
1- إنشاء مسجد الضرار:
بنى المنافقون في "ذي أوان" بجوار المدينة مسجدًا يتآمرون فيه، بعدما كانوا يجلسون في الخلاء ويراهم المسلمون، ويطلعون على مكرهم، وخبثهم، وهذا المسجد هو الذي عرف بمسجد الضرار، وقد دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، فوعدهم بالصلاة معهم فيه حين رجوعه من الغزوة، وأثناء عودته من تبوك نزل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1.
__________
1 سورة التوبة: 107-108.
لقد كان المسجد ستارًا للمنافقين عن أعين المسلمين، لكن عين الله لا تنام، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد، وحرقه، بعدما أمره الله تعالى بعدم الصلاة فيه، وبين له أن سبب تأسيسه هو الإضرار بالمسلمين والكفر بما أنزل الله، وتفريق المسلمين وإيواء أعداء الله ورسوله.
2- نشر الإشاعات الكاذبة:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يبقى في أهله، وحينئذ قال المنافقون: ما خلفه محمد إلا خوفًا عليه، ويسرًا به, فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق بالمسلمين بـ"الجرف" فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "كذبوا إنما خلفتك ورائي في أهلي وأهلك".
وأخذ المنافقون يهولون في قوة الرومان، ويستهينون بالمسلمين.
يقول وديعة بن ثابت المنافق: ما لي أرى أصحاب محمد اتسعت بطونهم، وكذب لسانهم، وجبنوا عن اللقاء.
ويقول الجلاس بن سويد المنافق: الرومان سادتنا وعظماؤنا، ولئن كان محمد صادقًا فنحن شر من الحمير.
فقال له عمير رضي الله عنه: أنت شر من الحمير، محمد الصادق وأنت الكاذب.
فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين وسألهم عن أقوالهم السيئة قال وديعة: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 1.
وجاء الجلاس فحلف أنه ما قال من ذلك شيئًا وأن عميرًا كذب عليه، فأنزل الله فيه قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي
__________
1 سورة التوبة: 65-66.
الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} 1.
فلما نزلت الآية قال الجلاس: عمير صادق وأنا كاذب يا رسول الله وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجًا، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذها منهم وأعطاها له فاستغنى بها وتاب فتاب الله عليه2.
3- محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم:
وفي أثناء الطريق مكر أناس من المنافقين لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة3، فلما بلغوها أرادوا أن يسلكوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الله بخبرهم فقال صلى الله عليه وسلم للناس: "اسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع"!. ليبعد المنافقين عن مؤامرتهم فسلك الناس بطن الوادي، وسلك صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق خلفه، فغضب المنافقون، وأصروا على سلوك العقبة فأمر صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يردهم، فرجع إليهم فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا، الناس فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أسيد بن حضير: يا رسول الله! ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا يحيى! أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما هموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني عن راحلتي "!.
فقال أسيد: يا رسول الله! فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا.
قال صلى الله عليه وسلم: "يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمدًا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه".
فقال أسيد: يا رسول الله! هؤلاء ليسوا بأصحاب!
__________
1 سورة التوبة: 74.
2 إمتاع الأسماع: ص453.
3 العقبة جبل يعرض للطريق فيجعله مضيقًا، والمراد المضيق في شمال مكة عند "واقص".
قال صلى الله عليه وسلم: "أوليس يظهرون شهادة ألا إله إلا الله"!.
قال: بلى! ولا شهادة لهم!
قال: "أوليس يظهرون أني رسول الله"؟.
قال: بلى! ولا شهادة لهم!
قال صلى الله عليه وسلم: "فقد نهيت عن قتل أولئك" 1.
وقد فضح الله المنافقين بنزول الوحي يوضح صفاتهم، ويبين أكاذيبهم، ويحدد منزلتهم السافلة، وخلقهم الرديء.
فإنهم لما اعتذروا لعدم الاستعداد قال الله عنهم {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} 2.
وحتى يعرف المؤمنون أن في تخلف المنافقين خيرًا قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 3.
وحتى لا يغتر المسلمون بمظهر المنافقين قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 4.
وحتى لا يصدق المسلمون أيمانهم قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} 5 ويقول تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 6.
وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ
__________
1 إمتاع الأسماع ج1 ص477.
2 سورة التوبة: 46.
3 سورة التوبة: 47.
4 سورة التوبة: 55.
5 سورة التوبة: 56.
6 سورة التوبة: 62.
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 1.
لقد رد الله أقوال المنافقين جميعًا، وبين طوايا قلوبهم، وخبايا نفوسهم، فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 2 وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، وقال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5.
وهكذا:
فضح الله النفاق والمنافقين، وبرزت سيم الإيمان والجهاد، وظهرت معالم الحياة أمام البصائر والأبصار.
__________
1 سورة التوبة: 96.
2 سورة التوبة: 58.
3 سورة التوبة: 61.
4 سورة التوبة: 79.
5 سورة التوبة: 94.
4-