,
,
...
لا بد من التعريف ببني المصطلق وبيان حدود ديارهم التي قطنوها قبل الكلام على الغزوة وما جرى فيها. وسوف يشتمل هذا التعريف على مبحثين:
المبحث الأول: نسب عشيرة بني المصطلق، وصلتهم بقبائل المدينة المنورة
والحديث عن نسب قبيلة بني المصطلق ينحصر فيما يلي:
أولا: سياق نسب الحارث بن أبي ضرار قائد هذه القبيلة والمتحدث عنها.
ثانياً: سياق نسب المصطلق الذي هو أصل هذه القبيلة ومنه تفرعت.
ثالثاً: بيان المتفق عليه من نسب هذه القبيلة والمختلف فيه، مع ذكر وجهة نظر كل فريق، وتحقيق المقام في ذلك حسب الإمكان.
فالحارث: هو ابن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة1.
__________
1 الاستيعاب لابن عبد البر مع الإصابة4/258، والروض الأنف للسهيلي 6/435، وأسد الغابة لابن الأثير 1/400 و 7/56.
وذكر ابن حجر وابن الأثير في موضع من أسد الغابة (الحارث) بين حبيب وعائذ، وسمى ابن حجر (حبيباً) خبيباً بالخاء المعجمة.
انظر: أسد الغابة1/400والإصابة 1/281، ومعجم قبائل العرب لكحالة 3/1104، وجذيمة: بجيم مضمومة فذال معجمة مفتوحة فتحتانية ساكنة.
انظر: شرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/96.
وجذيمة هو: "المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمر بن عامر ماء السماء، بطن من خزاعة"1.
وعمرو بن ربيعة هو أبو خزاعة كلها2.
والمتفق عليه في هذا كون بني المصطلق من خزاعة، وكون خزاعة من ولد عمرو بن لحي34 ولخلاف في نسب عمرو بن لحي على قولين:
القول الأول: ذهب أكثر العلماء إلى أن عمرو بن لحى من قحطان وهو: عمرو بن لحيى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
واستدلوا بما يأتي:
1- أن هذا قول أكثر علماء النسب وهم أعرف بذلك من غيرهم لأن هذا من اختصاصهم.
2- أن هذا هو قول خزاعة أنفسهم، فكانت تقول: نحن بنو عمرو بن عامر من اليمن5.
__________
1 أسد الغابة 7/56، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير 3/219-220 وفتح الباري 5/171 و7/430، وتاج العروس للزبيدي 6/412، ونيل الأوطار للشوكاني 7/246.
وخزاعة: بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي المخففة.
2 انظر: أسد الغابة 7/56، ونهاية الأرب للنويري 2/332، وقلائد الجمان للقلقشندي ص98، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338.
3 لحيى: باللام والمهملة مصغراً فتح الباري 6/547.
4 نهاية الأرب للنويري 2/332، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير 1/439، وفتح الباري 6/547، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338.
5 انظر: سيرة ابن هشام 1/91.
المصطلق: بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المشالة المهلمة المبدلة من التاء لأجل الصاد وكسر اللام بعدها قاف، وهو لقب جذيمة بن سعد، لقب بذلك لحسن صوته وهو أول من غنى من خزاعة (شرح المواهب اللدنية 2/96) .
3- علة التسمية بخزاعة وهو من التخزع وهو التأخر والمفارقة، وذلك أن خزاعة انخزعت من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلت خزاعة بمر الظهران فأقامت بها.
ولذا قال عون بن أيوب الأنصاري في الاسلام:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت
خزاعة منا في حلول1 كراكر2
فعلى هذا تكون خزاعة3 قحطانية يمنية، وجمهور العلماء على أن العرب القحطانية من اليمن وأنهم ليسوا من سلالة إسماعيل عليه السلام.
القول الثاني: أن خزاعة قبيلة عدنانية من ولد قمعة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وإليه ذهب ابن اسحاق وابن حزم وابن عبد البر وابن خلدون وغيرهم4.
واستدلوا على ذلك بأحاديث اقتصر منها على حديثين:
الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه
__________
(حلول) : الحلول: البيوت الكثيرة، وروى (خيول) و (كراكر) : جماعات
انظر التعليق على سيرة ابن هشام 1/92.
2 سيرة ابن هشام 1/91-92، وشفاء الغرام بأخيار البلد الحرام 2/45، و47، والبداية والنهاية لابن كثير 2/156، و161، 185، 187-189، وفتح الباري 6/548، والأعلام للزركلي 2/348.
3 ذكر ابن كثير أن خزاعة انْتَزعت ولاية البيت من جرهم لما بغت وأكثرت الفساد والإلحاد في البلد الحرام، وأن ولاية البيت استمرت في خزاعة ثلاثمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية ابن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي، الذي تزوج قصيّ بن كلاب على ابنته حبى بنت حليل بن حبشية. وأن ولاية البيت صارت إليه بعد حليل قيل بوصية من حليل، وقيل: إن قصيّاً استغاث بأخوته من أمه وبني كنانة وقضاعة وقبائل من قريش على خزاعة، فأجلاهم عن ولاية البيت.
انظر: البداية والنهاية 2/1565، و185، و187، 205، 206، 207، وانظر: فتح الباري 6/534، و548.
4 سيرة ابن هشام 1/76، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص: 480، وتاريخ ابن خلدون 2/315، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 2/44، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338.
وسلم قال: "عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدَف أبو خزاعة" 1.
الثاني: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم2ينتضلون3، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً" الحديث4.
وبهذين الحديثين وغيرهما ذهب هؤلاء العلماء وغيرهم إلى أن خزاعة قبيلة عدنانية، والظاهر أن خزاعة قبيلة قحطانية يمنية وهو المعروف عند أكثر العلماء.
وهذه الأحاديث التي استدل بها من قال بأن خزاعة من بني إسماعيل محتملة للتأويل، ولذا فقد أجاب عنها العلامة الهمداني: بقوله: "أما وصفهم بأنهم بنو إسماعيل فلا يدل أنهم من ولد إسماعيل من جهة الآباء، بل يحتمل أن يكون ذلك من جهة الأمهات، لأن القحطانية والعدنانية، قد اختلطوا بالمصاهرة"5. فعلى هذا فتكون خزاعة من بني إسماعيل من جهة الأمهات فقط. وهو جمع وجيه.
وقال ابن حجر نقلاً عن ابن الكلبي: "لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له غسان، فمن أقام به منهم فهو غساني، وانخزعت منهم بنو عمرو بن لحي عن قومهم فنزلوا مكة. وما حولها فسموا خزاعة، وتفرقت سائر الأزد".
__________
1 صحيح البخاري 4/147 كتاب المناقب (باب قصة خزاعة) واللفظ له، ومسلم 8/155 (كتاب الجنة) .
2 الشاهد من هذا كون أسلم من خزاعة وقد نسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إسماعيل عليه السلام. ولذا بوب البخاري بقوله باب نسبة اليمن إلى إسماعيل ثم قال: "منهم أسلم ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة" 4/144 كتاب المناقب.
3 ينتضلون: يرتمون بالسهم: يقال: انتضل القوم وتناضلوا: أي رموا اللسيق.
انظر: النهاية لابن الأثير 5/72.
4 صحيح البخاري 4/30 كتاب الجهاد/باب التحريض علىالرمي و 4/117 كتاب أحاديث الأنبياء/ باب {وَاذْكُرُوا} في الكتاب إسماعيل و 4/144 كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل.
5 فتح الباري 6/539.
ثم قال ابن حجر: "ووقع في حديث الباب1 أنه عمرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدَف2، وهذا يؤيد قول من يقول إن خزاعة من مضر، وذلك أن خندف اسم امرأة إلياس بن مضر، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة. واشتهر بنوها بالنسبة إليها دون أبيهم، لأن إلياس لما مات حزنت عليه حزناً شديداً بحيث هجرت أهلها ودارها وساحت في الأرض حتى ماتت، فكان من رأى أولادها الصغار يقول من هؤلاء؟ فيقال: بنو خندف، إشارة إلى أنها ضيعتهم …" إلى أن قال: "وجمع بعضهم بين القولين أعني نسبة خزاعة إلى اليمن وإلى مضر، فزعم أن حارثة بن عمرو لما مات قمعة بن خندف كانت امرأته حاملاً بلحي فولدته وهي عند حارثة فتبناه فنسب إليه، فعلى هذا فهو من مضر بالولادة، ومن اليمن بالتبني".
والخلاصة: أنه اختلف في نسب خزاعة فمنهم من يراها قحطانية من جهة الآباء. ومنهم في قال بأنها قحطانية بالتبني. والذي يظهر أن خزاعة قبيلة يمنية قحطانية. فقد ذكر ابن حجر: حول قول البخاري: "باب نسبة اليمن إلى إسماعيل" منهم أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر ابن خزاعة - قوله: (ابن حارثة بن عمرو بن عامر) أي: ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ثم أورد قول الرشاطي المصرح بأن الأزد من قحطان وأن من قبائل الأزد الأنصار وخزاعة فقال:
__________
1 انظر: الحديث ص 29.
2 قمعة: بفتح القاف والميم بعدها مهملة خفيفة، وخندف: بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء.
انظر: القاموس المحيط للفيروز أبادي 3/74 و139، وفتح الباري 6/548، وفي لسان العرب 10/447، قال: الخندفة: مشية كالهرولة ومنه سميت فيما – زعموا – خندف امرأة إلياس بن مضر بن نزار واسمها ليلى بنت حلوان فغلبت نسبة أولادها من إلياس إليها، وذكروا إن إبلا لإلياس انتشرت ليلاً فخرج مدركة في بغائها فردها فسمي مدركة، وخندفت الأم في أثره أي أسرعت فسميت خندف، وقعد طابخة يطبخ القدر فسمي طابخة وانقمع قمعة في البيت فسمي قمعة، وقالت خندف لزوجها ما زلت أخندف في أثركم فقال لها: فأنت خندف فذهب لها اسماً ولولد نسباً وسميت بها القبلية.
"قال الرشاطي1: "الأزد جرثومة من جراثيم قحطان، وفيهم قبائل، فمنهم الأنصار وخزاعة وغسان وبارق وغامد والعتيك، وغيرهم، وهو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان2"".
وهناك من ذهب إلى أن اليمن وعدنان الجميع من ولد إسماعيل عليه السلام كما هو صنيع البخاري في تبويبه وإيراه الأحاديث المؤيدة لقوله ومنها حديثا الباب3. وعلى هذا فلا اعتراض على نسبة أسلم أو خزاعة إلى العدنانية.
غير أن كون اليمن من ولد إسماعيل فيه نظر وذلك لما ورد عند أحمد وغيره، وهذا نصه عند أحمد: حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا مسعر4 عن عبيد5 بن حنين بن حسن عن ابن معقل6 عن عائشة: "أنها كان عليها رقبة من ولد إسماعيل فجاء سبي من اليمن من خولان فأرادت أن تعتق منهم 7.
__________
1 هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن أحمد الحافظ النسابة أبو محمد اللخمي المري المعروف بالرشاطي، روى عن أبي علي الغساني وأبي علي الصدفي وابن فتحون وجماعة وعنه أبو محمد عبيد الله وابن مضار وأبو بكر بن أبي جمرة وابن خالد بن رفاعة وغيرهم. قال الذهبي: ألف كتابه الحافل المسمى باقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب رواة الآثار، وكتاب الإعلام لما في المختلف والمؤتلف للدراقطني من الأوهام … الخ، ولد سنة 406هـ واستشهد عند دخول العدو المرية في جمادى الآخرة سنة 542هـ وكان مولده سنة 406 وقال ابن عاف في سنة 465 والأول أصح. تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1307، والبداية والنهاية لابن كثير 12/223، ومعجم المؤلفين لكحالة 6/90.
2 فتح الباري 6/539.
3 انظر ص 47.
4 هو ابن كدام.
5 عبيد بن الحسن المزني أو الثعلبي أبو الحسن الكوفي، ثقة. والظاهر أن لفظ (ابن حنين) خطأ.
انظر: التقريب 1/542، وتهذيب التهذيب 7/62.
6 ابن معقل: بفتح أوله وسكون المهملة بعدها قاف هو عبد الله بن مقرن المزني. التقريب 1/453.
7 مسند أحمد 6/263.
الحديث رجاله رجال الصحيح.
وفي مجمع الزوائد رواه أحمد والبزار بنحوه. ورجال أحمد رجال الصحيح1.
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن القحطانيين لا ينحدرون من إسماعيل عليه السلام.
وقال محمد السفاريني حول حديث سلمة بن الأكوع المتقدم2: "ظاهر الحديث أن أسلم من ولد إسماعيل عليه السلام".والمشهور أنهم من قحطان وهم بطن من خزاعة القحطانية.
ويدل على أنهم من قحطان: أنه لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم عمرو3 بن أفصى في عصابة من أسلم، فقالوا: "قد آمنا بالله ورسوله، واتبعنا مِنْهاجَك، فاجعل لنا عندك منزلة تعرف العرب فضيلتنا، فإنا أخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء، والنصر في الشدة والرخاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله" 4.
__________
1 مجمع الزوائد للهيثمي 10/46-47، وفتح الباري 5/172- 173 والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2/216 عن عائشة من طريقين:
الأولى: عن مسعر عن عبيد بن الحسن كرواية أحمد.
والثانية: عن شعبة عن عبيد بن الحسن به. وقال في الطريق الثانية: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
2 انظر: ص 48.
3 لم أجد هذا الاسم بعد مراجعة طبقات ابن سعد وتاريخ البخاري الكبير والصغير، والاستيعاب، وأسد العابة، والإصابة، كما أني راجعت سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري، وابن كثير، فلم أجد هذا الاسم في جملة من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 شرح ثلاثيات مسند أحمد 2/801.
وانظر: الحديث في صحيح البخاري 4/145 كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة..الخ، وصحيح مسلم7/178كتاب الفضائل من حديث عبد الله بن عمر.
ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: "غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله وعصية عصت الله ورسوله" لفظ البخاري.
صلة بني المصطلق بقبائل المدينة المنورة:
أما صلة بني المصطلق بقبائل المدينة فإن الجميع يرجعون إلى الأزد القبيلة اليمانية المشهورة1.
إذ إن الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد بن الغوث ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان2.
زاد ابن قتيبة: "ابن سبأ وهما ابنا قبيلة نسبا إلى أمهما وهما الأنصار"3.
والمصطلق: هو جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو الجد الثاني بالنسبة للأوس والخزرج، والجد الرابع بالنسبة للمصطلق، فالأوس والخزرج وبنو المصطلق يجتمعون فيه4.
وذكر ابن حزم بأن الأزد بن الغوث ينتهي نسبه إلى قحطان.
ثم قال: "وللأزد قبائل وهي الأنصار: وهم بنو الخزرج والأوس ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث"5.
ولم يذكر خزاعة في قبائل قحطان لأنه يرى أنها قبيلة عدنانية كما تقدم6.
وقد وافق النويري ابن حزم في سياق نسب عمرو مزيقياء وأنه ينتهي إلى الأزد بن الغوث غير أنه ذكر أن امرئ القيس يلقب البطريق وأن ثعلبة يلقب العنقاء وذكر بين مازن والأزد غساناً وأنه يلقب بالسراج. ثم بين أن عقب عمرو مزيقياء يشكلون أفخاذاً ستة7.
يهمنا منها ثعلبة وهم بطن الأنصار، وحارثة وهم بطن خزاعة8 وكذلك
__________
1 في القاموس المحيط 1/374 (أزد بن الغوث) وبالسين أفصح أبو حي باليمن ومن أولاده: الأنصار كلهم، ويقال: أزد شنئوة وعمان والسراة.
2 انظر: طبقات خليفة ص 76.
3 ابن قتيبة: المعارف ص 49.
4 خليفة: الطبقات ص 107 وابن قتيبة: المعارف ص 49.
5 جمهرة أنساب العرب ص 484.
6 انظر ص 47.
7 بقية الأفخاذ هم جفنة وعمران ومحرق وكعب.
8 نهاية الأرب 2/329.
قرر القلقشندي أن الأوس والخزرج وخزاعة كلهم في الأزد.
إذ بين بأن الأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء1، وخزاعة هم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء. وإن الجميع يرجعون للأزد2.
وبذلك يتضح أن بني المصطلق لهم رابطة قوية بأهل المدينة المنورة هي رابطة النسب والرحم. إذ عرفنا أن بني المصطلق بطن من خزاعة بلا نزاع.
__________
1 قلائد الجمان ص 93 ومزيقياء: بمضمومة وفتح زاي وسكون مثناة تحت وكسر قاف وفتح تحتية أخرى ومد همزة. (المغني لمحمد طاهر الهندي ص 71) .
وفي القاموس المحيط3/283 قال: ومزيقياء لقب عمرو بن عامر ملك اليمن كان يلبس كل يوم حلتين ويمزقهما بالعشي يكره العود فيهما ويأنف أن يلبسهما غيره.
2 قلائد الجمان ص 98.
,
أما المنطقة التي كانت تسكنها بنو المصطلق فقد عرفنا مما تقدم أن بني المصطلق بطن من خزاعة.
وبالتالي نستطيع تحديد المنطقة التي كانت تقطنها خزاعة قبل مجيء الإسلام وبعده.
ومن خلال تحديد مساكن خزاعة نعرف أماكن بني المصطلق.
وتذكر كتب التواريخ من مساكن بني المصطلق قديداً1 فقط حيث وقعت فيه غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
وانفرد أبو إسحاق الحربي بذكر عسفان2 على أنها من مساكن بني المصطلق3. ولكن المؤرخين وغيرهم ذكروا ديار خزاعة، وبنو المصطلق منهم، فديارها ديارهم
__________
1 قديد: تصغير قد وانظر تحديدها ص 56.
2 عسفان، كعثمان، وانظر تحديدها ص 55.
3 كتاب المناسك للحربي ص463،والقاموس المحيط2/133،وتاج العروس 3/539.
ويتبين مما ذكرته المصادر أن منازل خزاعة تقع بمكة وما حولها. كما أنهم يشاركون بني ضمرة في جبل الأبواء. وقد سمت المصادر من منازلهم ما يأتي:
(أ) مر الظهران1:
قال الحربي: "بينها وبين مكة ثلاثة عشر ميلاً"2 وحددها ياقوت وابن منظور والفيروز آبادي والزبيدي بمرحلة3.
وقال الأسدي4 والسمهودي: "بين مكة ومر الظهران سبعة عشر ميلاً"5.
ويتضح لنا مما تقدم أن تحديد المسافة بين مر الظهران ومكة بمرحلة هو الصحيح، وأما ما ذكره الحربي من تحديد هذه المسافة بثلاثة عشر ميلاً فهو خطأ وكذلك ما نقله ياقوت عن الواقدي بأن المسافة بين مر الظهران ومكة خمسة أميال خطأ أيضاً6 إذ أن ياقوتاً نفسه حد السفر الذي تجوز فيه قصر الصلاة بثمانية وأربعين ميلاً7.
فتكون المرحلة أربعة وعشرين ميلاً. فيكون الفرق شاسعاً بين تحديد هذه المسافة بمرحلة وبين قول الحربي، وقول الواقدي من باب أولى.
والذي يظهر من هذا أن المسافة بين مكة ومر الظهران هي مرحلة إلاّ ربع مرحلة، وينطبق هذا على تحديد الأسدي والسمهودي.
__________
1 مر الظهران هو وادي فاطمة بينه وبين مكة 30 كلم. (ومر) بفتح الميم وتشديد الراء المضمومة، (والظهران) تثنية ظهر، وهي من ديار خزاعة.
2 كتاب المناسك للحربي ص 465.
3 معجم البلدان 5/104، ولسان العرب 7/17، والأم للشافعي 5/134.
4 هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الأسدي، هكذا قال عنه السمهودي وقال لا يعرف زمنه غير أنه يعتقد أنه من أهل القرن الثالث.
انظر: مقدمة حمد الجاسر لكتاب الحربي ص 262 و267.
5 ص465 تعليق على كتاب المناسك للحربي، وخلاصة الوفاء ص 482.
6 معجم البلدان 5/104.
7 المصدر السابق 1/35.
ويؤيد هذا القول أن المسافة الآن بين مكة ومر الظهران ثلاثون كيلو متراً. والمرحلة أربعون كيلو متراً كما قرر ذلك صاحب تيسير العلام1.
والفرق يسير بين تحديدها بمرحلة أو مرحلة إلاّ ربعاً، إذا نظرنا إلى اختلاف الناس في سرعة السير، وعدمه.
فقد قطع بعضهم المسافة بمرحلة، ويقطعها غيره بأقل من ذلك. لا سيما أن الفرق بين تحديدها بمرحلة أو مرحلة إلاّ ربعاً، وهو سبعة أميال أو عشرة كيلو مترات.
وعلى كل حال فأقرب تحديد لهذه المسافة هو ما بين مرحلة أو مرحلة إلاّ ربعاً، لاختلاف الناس سرعة وبطأ.
(ب) عُسْفان2:
ذكر الحربي نقلاً عن أبي3 إسحاق البكري: "أن تحديد المسافة بين عسفان ومر الظهران ثلاثة وعشرون ميلاً وهي لني المصطلق من خزاعة"4.
ونقل ياقوت عن السكري5 وغيره تحديد المسافة بين مكة وعسفان بمرحلتين6.
وهو أيضاً قول الفيروز آبادي والزبيدي7.
وبهذا تكون المسافة بين عسفان ومكة مرحلتين. وهو موافق لتحديدها
__________
1 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام لعبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام 1/500- 502.
2 تبعد عسفان عن مر الظهران (وادي فاطمة) 50 كيلو متراً شمالاً وعن مكة 80 كيلو متراً.
انظر: نسب حرب للبلادي ص 370.
3 أبو إسحاق البكري: هو إبراهيم بن إسحاق بن محمد بن زكريا بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. مقدمة كتاب المناسك للحربي ص 15.
4 كتاب المناسك ص 463.
5 السكري: هو الحافظ أبو سعد علي بن موسى النيسابوري، معدود في حفاظ خرسان (ت 465) تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1161.
6 معجم البلدان 4/121 - 122.
7 القاموس المحيط 3/175، وتاج العروس 6/198.
بالكيلومترات إذ إن بين عسفان ومكة ثمانين كيلومتراً، وتقدم1 لنا تحديد المرحلة بأربعين كيلومتراً.
(ج) خليص - كربيز -:
ذكر الزبيدي أنها تبعد عن مكة بثلاث مراحل2.
والذي يظهر أنها تبعد عن مكة بمرحلتين ونصف مرحلة؛ لأن بينها وبين مكة الآن 100 ك م، وهي تساوي مرحلتين ونصف3 مرحلة وذكر الحربي المسافة بين خليص وقديد، وأنها تبعد عن قديد من جهة مكة بثمانية أميال4.
(د) قديد5:
ذكر الحربي أن المسافة بينها وبين عسفان ثلاثة وعشرون ميلاً، وفيها هضبة يقال لها المشلل كان بها مناة الطاغية6
فعلى هذا تكون المسافة بين قديد ومكة ثلاث مراحل؛ لأن عسفان على مرحلتين من مكة7.
(هـ) الجحفة:
بينها وبين قديد أربعة وعشرون ميلاً، وبينها وبين البحر نحو من ستة8 أميال. هكذا ذكر الحربي9.
__________
1 تقدم ص 55.
2 تاج العروس 4/389.
3 انظر: نسب حرب للبلادي ص 357.
4 كتاب المناسك ص 460.
5 قديد (يقع شمال خليص بـ1/2 13 كيلو مترات، لأن الحربي ذكر أن المسافة بين خليص وقديد ثمانية أميال، والميل يساوي 2/3 1 كيلومترات، وبقديد ماء المريسيع الذي غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكديد غير قديد وهو جنوب بـ 42 كيلو متر.
6 كتاب المناسك 458 –460.
7 انظر: ص55.
8 تقدر الستة الأميال: بـ 10 كيلو مترات، وانظر تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/501.
9 كتاب المناسك ص 457 و 459.
وبهذا يتضح أن الحربي يرى أن المسافة بين الجحفة ومكة أربع مراحل وهو قول ياقوت1.
ونقل ياقوت أيضاً عن السكري: أن المسافة بينها وبين مكة ثلاث مراحل، وبهذا قال النووي2.
ونص ابن حزم على أنها تبعد عن مكة باثنين وثمانين ميلاً. وهو يساوي ثلاث مراحل ونصفاً إلاّ ميلين3. وتبعه على هذا الفيروز آبادي والزبيدي4.
وقرر ابن حجر أن بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست5.
والصحيح أن المسافة بين الجحفة ومكة خمس مراحل، وقد نص على هذا المعاصرون من أهل هذه البلاد وهو أعرف بها من غيرهم6.
(و) الأبواء:
ومن المنازل التي استقرت فيها خزاعة قرية الأبواء التي كانت في العهد الإسلامي الأول تابعة إدارياً للفرع7 التي تتبع بدورها المدينة المنورة.
والأبواء جبل مرتفع ليس فيه سوى نبات الخزم والبشام، سميت به القرية وهي لأخلاط من الناس. منهم خزاعة وضمرة.
__________
1 معجم البلدان 2/111.
2 المصدر السابق 2/111، وشرح صحيح مسلم 3/252.
3 المحلى 7/63.
4 القاموس المحيط 3/121،وتاج العروس 6/53.
5 فتح الباري 3/385.
6 انظر: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/501، وغزوة بدر لباشميل ص 132.
7 الفرع: قال حمد الجاسر والفرع: بضم الفاء وإسكان الراء وقيل بضمهما عمل واسع من أعمال المدينة لا يزال معروفاً بهذا الاسم وفيه قرى كثيرة.
انظر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص 341.
وذكر البلادي أن الفرع قرية نسب الوادي إليها وهو واد خصب أكثر أودية الحجاز اليوم عيوناً ويجتمع مع القاحة في وادي الأبواء. ويطلق عليه الآن (وادي النخل) وهو لنبي عمرو بن حرب، ولذا يطلق عليه أيضاً وادي بني عمرو لأنهم سكانه. وهو يبعد عن المدينة المنورة جنوباً 150 كيلو متراً. نسب حرب لعاتق البلادي ص 376 – 377.
وتقع شمال الجحفة بثلاثة وعشرين ميلاً، هكذا نص الحربي. وهو قول ياقوت1 وبهذا تكون المسافة بين الجحفة والأبواء ثلاثة وعشرين ميلاً، وهكذا أقر هذا التحديد من المعاصرين محمد أحمد باشميل وعبد الله آل بسام. وعلى هذا فتكون المسافة بينها مرحلة إلاّ ميلاً واحداً.
وذكر عبد الرحمن السعدي بأن الأبواء هي المسماة (مستورة) الآن. وتعبقه عبد الله آل بسام بقوله: "قد تحققنا من أهل تلك البلاد أن الأبواء تقع عن مستورة شرقاً بنحو ثلاث كيلومترات، وأن سيلهما واحد، ويسقيهما وادي النخل"2.
وعلى هذا فتكون المسافة بين الأبواء ومكة ست مراحل3.
لأنه تقدم لنا أن الجحفة4 تبعد عن مكة بخمس مراحل. وعرفنا أيضاً أن الأبواء ليست لخزاعة5 وحدهم.
__________
1 كتاب المناسك ص 454،ومعجم البلدان 1/79، وانظر فتح الباري 7/279.
2 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/584،وغزوة بدر لباشميل ص 132، الأبواء: بالفتح ثم السكون وواو وألف ممدودة.
3 تقدر الست المراحل بـ 240 كيلو متراً. وقد ذكر البلادي أن الأبواء تقع شمال مكة بـ 235 كيلومتراً والأمر سهل. وذكر أيضاً أن الأبواء الآن تسمى (الخريبة) تصغير خربة وهناك قبر آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وأن سكانها في وقتنا الحاضر بنو محمد من حرب. نسب حرب ص 29 و71 و331.
4 هي من مواقيت الحج المكانية ورد ذكرها في حديث ابن عباس وابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة (ذا الحليفة) ولأهل الشام (الجحفة) الحديث … ولما خربت صار الناس يحرمون الآن من (رابغ) لأنها قبل حذائها بقليل من ناحية الشمال الغربي. وكانت الجحفة تسمى (مَهْيَعَة) بالفتح ثم السكون ثم ياء مفتوحة وعين مهملة. فجحفها السيل فسميت (الجحفة) بالضم ثم السكون والفاء (معجم البلدان لياقوت 2/111و 5/235) .
5 موجود الآن طائفة من بقايا خزاعة في وادي فاطمة من الخبث عند القنفذة وفي الشرق الجنوبي من بحرة.
انظر: قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة ص 156، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338، ونسب حرب. وهم منتشرون بين مكة والمدينة، وأن قدوم قبيلة حرب إلى هذه المناطق كان في القرن الثاني الهجري قادمة من خولان من اليمن، وانكمشت خزاعة إلى أماكنها حالياً.
انظر: قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة ص 150- 151، ونسب حرب للبلادي ص 14و 119. وهذه الأماكن التي مرّت بنا تقطنها الآن قبائل من حرب، وهم منتشرون بين مكة والمدينة. نسب حرب لعاتق البلادي ص (148) .
صورة المصطلق (1)
,
,
...
المبحث الأول: موقف بني المصطلق من الإسلام
تأخر إسلام بني المصطلق شأن القبائل التهامية المجاورة لقريش؛ وذلك لما كان لقريش من السيطرة والحرمة في نفوس القبائل بحكم كونهم سكان الحرم، وحماة بيت الله الأمين، فكانت القبائل تنظر إليهم نظرة احترام وتوقير، وكانوا ينظرون ماذا تصنع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فهم أعرف به من غيرهم، ولما لم يحصل منهم الإذعان لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كان ذلك داعياً للقبائل المجاورة إلى عدم الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما ما كان بين قريش وبين القبائل المجاورة من تبادل المنافع والمصالح، وخاصة قبيلة خزاعة - ومنهم بنو المصطلق - بحسب موقعهم الجغرافي إذ كانت قبيلة بني المصطلق على طريق قريش التجارية إلى الشام، مما جعلها تتأخر في إعلان إسلامها، حفاظاً على مصالحها. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمن جانبها بحكم كونها فرعاً من خزاعة التي كانت محل عناية ونصح للرسول صلى الله عليه وسلم، رغم عدم دخولها في الإسلام.
ويتضح ذلك جلياً في موقف معبد بن أبي معبد الخزاعي في حمراء1 الأسد، التي وقعت عقب غزوة أحد مباشرة. وقد استهدف الرسول صلى الله عليه وسلم تقوية معنويات المسلمين وتثبيت مركزهم داخل المدينة بعد أن أضعفتهم معنويات آثار أحد فخرج صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد يتبع جيش أبي سفيان خشية أن تسوّل لهم أنفسهم الكرة على المسلمين لاستئصالهم - وكان الأمر كما توقّع صلى الله عليه وسلم - فلما وصل حمراء الأسد مرّ به معبد بن أبي معبد الخزاعي فقال: "يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك ولوددنا أن الله عافاك مما حدث بك -" وكان معبد إذ ذاك مشركاً2 ولكن خزاعة كانت عيبة3 نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، مسلمهم ومشركهم فكانوا لا يخفون عنه شيئاً حدث في مكة - ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متجهاً نحو مكة، فلقي أبا سفيان بن حرب وجماعته بالروحاء4 وقد أجمعوا الرجعة إلى المدينة وقالوا: "أصبنا أشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم، لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم، وبينما هم كذلك طلع عليهم معبد بن أبي معبد الخزاعي فلما رآه أبو سفيان قال: "ماوراءك يا معبد؟ "
__________
1 ذكر إبراهيم الحربي أن حمراء الأسد فوق ذي الحليفة بثلاثة أميال يسرة عن الطريق إذا أصعدت إلى مكة. كتاب المناسك ص 440، وقال خليفة بن خياط وابن عبد البر وياقوت والفيروز آبادي أنها تبعد عن المدينة بثمانية أميال، تاريخ خليفة، ص 74، والاستيعاب 3/455، ومعجم البلدان 2/301، والقاموس المحيط 2/13، ولا فرق بين تحديد الحربي وغيره لأن ذا الحليفة على خمسة أميال ونصف من المدينة، انظر كتاب المناسك للحربي ص 427، وهي تبعد عن المدينة بتسعة أميال. نسب حرب للبلادي ص 359، وعلى هذا فتكون المسافة بين حمراء الأسد والمدينة بالكيلومترات 1/3 13 كيلومتراً.
2 كون معبد إذ ذاك كان مشركاً هو المشهور عند العلماء.
انظر: سيرة ابن هشام 2/102، ومغازي الواقدي 1/338، وتاريخ خليفة ص 74، والبداية والنهاية لابن كثير 4/49، والاستيعاب لابن عبد البر 3/454 على هامش الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير 5/217-218.
وذكر ابن القيم أنه أسلم في ذلك الوقت وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق بأبي سفيان فيخذله. انظر: زاد المعاد 2/121.
ومعبد هذا هو غير معبد ولد أم معبد الخزاعية.
انظر: الإصابة لابن حجر 3/441 – 442.
3 عيبة الرجل: موضع سره
انظر: النهاية لابن الأثير 3/327.
4 الروحاء: على طريق مكة تبعد عن المدينة بـ 73 كيلومتراً.
انظر: نسب حرب للبلادي ص 107.
قال: "محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، ولا قبل لكم به، وهم يتحرّقون عليكم تحرّقاً قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم1 وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق ما لم أر مثله قط".
فاندهش أبو سفيان، وقال: "ويحك يا معبد انظر ما تقول؟ " فقال معبد: "والله ما أرى أن ترتحل من مكانك هذا حتى ترى نواصي الخيل".
قال أبو سفيان: "والله لقد أجمعنا الكرة عليهم، لنستأصل بقيتهم"، قال: "فإني أنهاك عن ذلك. والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتاً من الشعر".
قال: "وما قلت؟ "
فأنشده شعراً فيه تحذير له من لقاء المسلمين، وبيان قوتهم، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وانسحبوا في أسرع وقت يواصلون سيرهم نحو مكة2.
فهذا يدل على إخلاص بعض رجال هذه القبيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثقته بهم.
وأما ما يتعلّق بموقف بني المصطلق من الإسلام، فإني لم أجد ما ينص على إسلام فرد منهم بعينه قبل غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يوجد بعض الأفراد من خزاعة عامة أعلنوا إسلامهم سابقاً أذكر بعضاً منهم على سبيل المثال لا الحصر فمنهم:
أ- أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو من خزاعة هاجرت إلى الحبشة مع زوجها
__________
1 يريد يوم أحد أضافه إليهم لكون النصر كان حليفاً لهم.
2 سيرة ابن هشام 2/101-103، مغازي الواقدي 1/334-340، الكامل لابن الأثير 2/164، البداية والنهاية لابن كثير 4/49، الإصابة لابن حجر 3/441.
خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وولدت له بأرض الحبشة سعيد ابن خالد وأمة بنت خالد، التي تزوجها الزبير فيما بعد1.
قال ابن هشام: "ويقال: همينة بنت خلف"2.
ب- أم معبد الخزاعية3 فقد أسلمت عندما مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة ونزل بها، وكان من حديثها أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها عندما جاء بعد ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عندها4.
ج- معتب بن عوف بن عامر بن الفضل بن عفيف بن كليب بن حبشية بن سلول ابن كعب بن عمرو من خزاعة، وهو الذي يقال له: (عيهامة) ويعرف بابن الحمراء. وذكر ابن حجر (هيعانة) (بدل عيهامة) . كان من المهاجرين إلى الحبشة وشهد بدراً وما بعدها 5.
د- نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، استشهد في بئر معونة6.
وبهذا القدر نكتفي لأن القصد هو التمثيل لا الحصر.
__________
1 سيرة بن هشام 1/323.
2 المصدر السابق1/323، وطبقات ابن سعد 8/286، أنساب الأشراف للبلاذري ص 199.
3 هي عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة أم معبد الخزاعية.
انظر: ترجمتها في الاستيعاب1/391،وأسد الغابة1/451،في ترجمة أخيها حبيش.
4 سيرة ابن هشام1/487-488،وطبقات ابن سعد8/289،وانظر الحديث في نزول الرسول صلى الله عليه وسلم عليها في المستدرك3/9-10 وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"،وأقره الذهبي.
5 سيرة ابن هشام 1/327، وطبقات ابن سعد 3/264، والاستيعاب 3/461، مع الإصابة وأسد الغابة 5/224، والإصابة لابن حجر 3/443، ومُعَتَّب بمضمومة وفتح عين وكسر مثناة فوق مشدّدة فموحّدة (المغني لمحمد طاهر الهندي ص73) .
6 سيرة ابن هشام 2/183 و188، وطبقات ابن سعد 4/294، وتاريخ خليفة بن خياط ص 76، الاستيعاب لابن عبد البر 3/541 مع الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير5/299، والإصابة لابن حجر 3/543.
وبه يتضح مدى العلاقة التي تربط قبائل خزاعة عامة بالدعوة الإسلامية في أول أمرها، ومبادرة عدد من رجال هذه القبائل إلى الإسلام، لكن المصادر كما أشرت لا تنص على إسلام رجال من بني المصطلق بالذات، وأحسب أن سكوت المصادر يكفي للدلالة على بقاء هذه القبيلة على الشرك، ولا يمنع ذلك من التزامها بشيء من الولاء للمسلمين وفقاً للأعراف القبلية السائدة، والتي تلزمهم بموقف خزاعة الموالي للدولة الإسلامية.
,
لم تشر المصادر التي بين أيدينا إلى موقف عدائي محدد صدر من بني المصطلق ضد المسلمين منذ أن تأسست دولة الإسلام حتى كانت غزوة أحد، رغم تحرّك المسلمين العسكري في أطراف المدينة من جميع نواحيها، حيث أرسلوا السرايا استهدفت عرقلة التجارة المكية إلى الشام، بتهديد طرقها الرئيسية، كما لم تسهم بنو المصطلق مع المشركين في غزوة بدر الكبرى.
وأول إشارة إلى اتخاذهم موقفاً عدائياً واضحاً ضد المسلمين هو إسهامهم مع قريش في موقعة أحد، ضمن كتلة الأحابيش1، التي اشتركت في المعركة تأييداً لقريش2.
__________
1 الأحابيش هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة، انظر سيرة ابن هشام 1/373، والمعارف لابن قتيبة ص26، وأنساب الأشراف للبلادي ص52، وفتح الباري لابن حجر 5/334 و342، وسمّوا بذلك: لأنهم تحالفوا وتعاقدوا مع قريش على أنهم يد على من سواهم، وكان ذلك عند جبل بأسفل مكة يقال به ((حبشي)) فنسبوا إليه، وقيل سمّوا بذلك لتجمّعهم، والتحبّش التجمع، والحباشة الجماعة.
المعارف لابن قتيبة ص 269، ولسان العرب لابن منظور 8/166، والقاموس المحيط للفيروز آبادي 2/267، فتح الباري 5/334.
2 سيرة ابن هشام 2/61، ومغازي الواقدي 1/200، والكامل لابن الأثير 2/149، وزاد المعاد لابن القيم 2/102، والبداية والنهاية لابن كثير 4/10، ونور اليقين للخضري بك ص 133، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة ص 196.
وبهذا نعلم أن بني المصطلق قد أثّرت فيها دعايات قريش للاشتراك معها في موقعة أحد، لتأخذ بثأرها وتغطي عار الهزيمة التي نزلت بها في موقعة بدر الكبرى.
وأما قبل ذلك فلم يوجد أي دليل على اشتراك بني المصطلق مع قريش ضد المسلمين حتى كانت عزوة أحد وما لحق بالمسلمين فيها من خسائر جسيمة ذات أثر عظيم في أرجاء شبه الجزيرة العربية، وداخل المدينة المنورة نفسها، فضعفت هيبة المسلمين وتجرّأ عليهم الأعراب، وشمت بهم اليهود والمنافقون، وقاموا بدعاية واسعة ضدهم، وقد أدت الظروف التي أعقبت غزوة (أحد) إلى ما يلي:
1- طمع المشركين في القضاء على الإسلام والمسلمين والإجهاز على الدعوة الإسلامية نهائياً، ويتمثّل هذا في رغبة أبي سفيان في العودة إلى المسلمين لاستئصال شأفتهم، غير أنه نكص على عقبيه، بتخذيل معبد بن أبي معبد الذي مرّ ذكره1.
2- تنفّس المنافقين واليهود الصعداء وتربّصهم الشر بالمسلمين، وهذا عدو داخلي بالمدينة المنورة نفسها.
3- رغبة الأعداء المجاورين لعاصمة الإسلام من القبائل العربية في التحرّك ضد المسلمين، بسبب الدعايات المغرضة التي انتشرت على أيدي المرجفين في المدينة من اليهود والمنافقين2.
وأصبح المؤمنون مدّدين في عُقر دارهم من الداخل والخارج، فمن الداخل المنافقون واليهود فكانوا يذيعون خبر المعركة، ويلفّقون الأكاذيب لإشاعة الضعف والخور في صفوف المسلمين، ولتشجيع عدوهم عليهم.
وأما من الخارج فقد صار المسلمون لا يحاربون قريشاً وحدها وإنما يواجهون الجزيرة برمتها.
__________
1 انظر: ص 64.
2 الرسول لسعيد حوى 1/229.
ومن ذلك أن سارعت عدة قبائل إلى التجمّع للإغارة على المدينة والقضاء على المسلمين فيها، كما حدث ذلك:
أ- من بني أسد بقيادة طليحة وسلمة ابني خويلد الأسديين، من القبائل النجدية1.
ب- خالد بن سفيان الهذلي الذي كان مقيماً في عرنة قرب عرفات2.
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجمّعهم ومحاولتهم اقتحام المدينة بعث إليهم من يؤدّبهم في عقر دارهم، فأرسل إلى طليحة ومن شايعه أبا سلمة ابن عبد الأسد3 على رأس مائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار ففرّقوا جمعهم واستاقوا نعمهم وعادوا إلى المدينة سالمين.
وأرسل إلى خالد بن سفيان عبد الله بن أنيس الجهني4 فقتله في عقر داره5 فكان في ذلك ضربة لهم وعبرة لغيرهم ممن يحاول السير على منوالهم. وما نزل بهم حلّ بغيرهم من بني ثعلبة وبني محارب من القبائل الغطفانية التي حاولت الهجوم على المدينة المنورة كذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس سبعمائة مقاتل فساروا حتى نزلوا ديار العدو فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة، فأخذوهن، فبلغ الخبر رجالهن فخافوا وتفرّقوا في رؤوس الجبال، ورجع
__________
1 كان ذلك في شهر محرّم من السنة الثالثة للهجرة.
انظر: طبقات ابن سعد 2/50، وزاد المعاد 2/121.
2 المصدر السابق.
3 عبد الله بن عبد الأسد المخزومي أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وابن عمته برة بنت عبد المطلب كان من السابقين إلى الإسلام وممن هاجر إلى الحبشة شهد بدراً ومات في جمادى الآخرة سنة أربع هجرية، بعد أحد وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده زوجه أم سلمة/ ت س ق التقريب 1/427.
4 عبد الله بن أنيس الجهني أبو يحيى المدني، حليف الأنصار، صحابي شهد العقبة وأحداً (ت 34) بالشام في خلافة معاوية، ووهم من قال توفي سنة 80/ بخ م عم. المصدر السابق 1/403.
5 انظر الحديث في إرسال عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان: سنن أبي داود، باب صلاة الطالب 1/287، ومسند أحمد 3/496، ومسند أبي يعلى 1/107، والسنن الكبرى للبيهقي 3/256. وقال ابن حجر 2/347: إسناده حسن.
المسلمون معزّزي الجانب، وعرفت هذه الغزوة بغزوة ذا الرقاع1.
وهكذا جنّد المسلمون أنفسهم عسكرياً وسياسياً، ليثبتوا للقبائل بأنهم مخطئون في تصوّرهم أن المسلمين بعد معركة (أحد) لا يستطيعون مقاومة من يريد النيل منهم، فجهزّوا تلك السرايا والغزوات ليشعروا عدوهم بأنهم قادرون على سحق كل من تحدّثه نفسه بالاعتداء عليهم، أو محاولة النيل منهم، فكانت حركاتهم العسكرية ناجحة، أنزلوا فيها بالأعداء ضربات زلزلت معنوياتهم، وجعلتهم يصحّحون تصوّراتهم الخاطئة، عن مدى قوة المسلمين العسكرية، وترابطهم السياسي والمعنوي، وخاصة المعسكر القرشي واليهودي2.
وبعد هذا كله جاء دور بين المصطلق؛ إذ إنها كانت ضمن كتلة الأحابيش3 التي انضمت إلى جانب قريش في معركة أحد، ثم أخذت بعد رجوعها من معركة أحد تعد العدة وتجمع الجموع، وتفتني السلاح والخيل، على مدى سنتين، كان المسلمون خلال تلك الفترة يواجهون تحركّات قبائل الجزيرة، فهم ما بين سرية وغزوة.
فانتهزت قبيلة بني المصطلق فرصة انشغال المسلمين ببقية القبائل، فأخذت تجمع الجموع، وتسعى في القبائل المجاورة لها، تحرّضها وتشجّعها على الانضمام معها في الهجوم على دولة الإسلام.
ولما وصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدّر للموقف قدره، وجعل يفكّر في مواجهة هذه القبيلة التي استعدت للمعركة استعداداً كاملاً، فبدأ بمراقبة حركات هذا العدو مراقبة شديدة، ثم أمر بريدة4 بن الحصيب بالذهاب إليهم ليعرف وجهتهم وقوّتهم، فخرج مسرعاً
__________
1 كانت هذه الغزوة في السنة الرابعة في جمادى الأولى على رأي بعض العلماء.
انظر: سيرة ابن هشام 2/203، وزاد المعاد 2/123، وانظر: الخلاف في وقتها في مبحث التيمّم. انظر ص 343 وما بعدها.
2 غزوة الأحزاب لباشميل ص 20.
3 انظر: ص.
4 بريدة بن الحصيب بمهملتين مصغّراً، أبو سهل الأسلمي صحابي، أسلم قبل بدر (ت 63هـ) / ع. التقريب 1/96.
حتى وصل عندهم فوجدهم قوماً مغرورين بأنفسهم وبما لديهم من القوة قد ألبّوا القبائل وجمعوا الجموع، فاتصل برئيسهم الحارث بن أبي ضرار، فسأله الحارث: "من الرجل؟ " قال: "رجل منكم قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فتكون يدنا واحدة، حتى نستأصله"، فازداد فرح القوم بانضمام قوة جديدة إلى قوتهم، فقال له الحارث: "فنحن على ذلك فعجّل علينا"، قال بريدة: "أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني فسرّوا بذلك منه فمضى إلى المدينة وأخبر المسلمين بأمرهم1.
__________
1 انظر: طبقات ابن سعد 2/63، ومغازي الواقدي 1/404- 405، وشرح المواهب اللدنية 2/96.
الفصل الثالث: موقف المسلمين من تحركات بني المصطلق
,
...
,
لم يقف المسلمون من تحركات بني المصطلق الاستفزازية مكتوفي الأيدي، وإنما درسوا الموقف دراسة ميدانية، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عيونه1 لكشف نيات هذه القبيلة ومعرفة استعدادها وتهيئها لغزو المدينة، وقد تم للمسلمين إدراك حقيقة ما تنويه هذه القبيلة من شر وما تبيته للمسلمين من وقيعة، ولم يكن للمسلمين - وقد أدركوا الأمر حق الإدارك وتيقنوا من خبث النيات السيئة لهذه القبيلة - أن يسكتوا عن الأمر ويتجاهلوا الموقف العدائي الواضح خاصة إذا عرفنا أن أعداء المسلمين كثر في تلك الآونة2، فما لم تلقَّن هذه القبيلة درساً قاسياً من المسلمين يوقفها عند حدها فإن غيرها من أعداء الإسلام سيقف الموقف نفسه. ومن هنا اندفع المسلمون لكسر شوكة هذا العدو وتحطيمه في عقر داره.
كما سنفصل القول في ذلك في بداية وصف المعركة. ويحسن أن نذكر الملابسات التي صاحبت هذه الغزوة، وأول أمر يحسن البدء به هو هل أُنذرت هذه القبيلة قبل غزوها أو لا؟
__________
1 انظر: ص.
2 الآونة: جمع أوان وهو الحين. انظر: القاموس المحيط 4/199.
المبحث الأول: حكم إنذار العدو قبل بدئه بالقتال
قبل الحديث عن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق أو عدم إنذاره لهم، يحسن أن نبدأ ببيان حكم الدعوة إلى الإسلام عموماً، وما هي الخطوات التي كان يتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع المدعوين إلى الإسلام، وبيان الأدلة على وجوب إنذار العدو أو عدم وجوبه، وذكر الخلاف الوارد بين أهل العلم في ذلك، باختصار، ليكون ذلك تمهيداً لما نحن بصدده، حيال غزوة بني المصطلق. وفيما يأتي أقوال العلماء:
أ- ذهب بعض العلماء إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام مطلقاً، سواء أكان عند المدعوين علم بالإسلام أم لا، وإليه ذهب مالك وجماعة من العلماء1.
ب- وذهب أكثر العلماء إلى التفصيل بين من بلغتهم الدعوة وعلموا بها، فلا يجب في حقهم الإنذار، وبين من لم تبلغهم الدعوة ولا علموا بها، فيجب الإنذار في حقهم، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة وأتباعهم.
ج- وهناك قول ثالث بعدم وجوب الإنذار مطلقاً، حكاه المازري2.والقاضي عياض34.
استدلّ الفريق الأول بأحاديث منها:
1- ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على
__________
1 منهم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز، والهادوية.
انظر: المدونة الكبرى لمالك 2/3، نيل الأوطار للشوكاني 7/244.
2 هو أبو عبد الله محمد بن علي المازري، صاحب كتاب (المعلم بفوائد كتاب مسلم) لم يكمل (ت 536) من مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/258.
3 هو عياض بن موسى اليحصبي المالكي، صاحب كتاب (الإكمال بشرح مسلم) كمل به كتاب المعلم للمازري، (ت 544) المصدر السابق 1/258.
4 انظر هذه المذاهب: في الاعتبار للحازمي ص 211- 212، شرح مسلم للنووي 4/330، فتح الباري 7/478.
سرية، أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين خيراً"، وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام" وهو محل الشاهد. الحديث …1.
2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ويحبه الله ورسوله".
قال: فبات الناس يدوكون2 ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: "يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ "
فقال: "انفذ3 على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام" الحديث…. 4.
ووجه الدلالة من الحديثين قوله: "ادعهم إلى الإسلام" وهو أمر والأمر
__________
1 مسلم في كتاب الجهاد 5/139، وأبو داود في كتاب الجهاد باب في دعاء المشركين 2/35، واللفظ له وابن ماجة فيه في باب وصية الإمام 2/953، الترمذي في أبواب السير 3/53 إشارة، وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجهاد باب دعاء العدو 5/218، أحمد في المسند 5/352، 358 والدارمي في كتاب السير، في باب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال 2/136، ومنتقى ابن الجارود في الجهاد، باب وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيوش والأمراء ص347، وشرح معاني الآثار للطحاوي في كتاب السير 3/206، والسنن الكبرى للبيهقي في كتاب السير باب الإقامة بدار الشرك 9/15، باب السيرة في أهل الكتاب 9/49، وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 34 في كتاب الفيء، والاعتبار للحازمي ص210.
2 يدوكون: أي يموجون ويخوضون فيمن يعطاها.
انظر: النهاية لابن الأثير 2/140.
3 انفذ على رسلك: أي انفصل وامض سالما. النهاية لابن الأثير 5/92.
4 البخاري في كتاب الجهاد، باب الدعاء إلى الإسلام 4/38، باب فضل من أسلم على يديه رجل 4/48 و5/16، باب مناقب علي بن أبي طالب و5/111 من كتاب المغازي، ومسلم واللفظ له 7/121-122، في فضائل علي بن أبي طالب.
يقتضي الوجوب ما لم يكن هناك صارف، وهو صريح في وجوب الدعوة قبل القتال…
واستدل الفريق الثاني بما يأتي:
1- ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهذا نصه: حدثنا علي1 بن الحسن أخبرنا عبد الله2، أخبرنا ابن عون3 قال: كتبت إلى نافع4 فكتب إلي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية"، حدثني به ابن عمر5 وكان في ذلك الجيش". لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: عن ابن عون قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام، "قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم" الحديث 6 …
__________
1 علي بن الحسن بن شفيق، أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة حافظ، من كبار العاشرة، (ت 215) وقيل قبل ذلك / ع. التقريب 2/34.
2 عبد الله بن المبارك المروزي مولى بني حنظلة، ثقة ثبت فقيه، عالم جواد، مجاهد جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة، (ت 181) /ع المصدر السابق 1/445.
3 عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصري، ثقة ثبت، فاضل، من أقران أيوب في العلم والعمل والسن، من السادسة، (ت150) على الصحيح،/ع المصدر السابق1/439.
4 نافع مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه، مشهور، من الثالثة، (ت 117) أو بعد ذلك / ع المصدر السابق 2/296.
5 عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير واستصغر يوم أحد، وهو أحد المكثرين من الصحابة، والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، (ت 73) / ع التقريب 1/435.
6 البخاري: في كتاب العتق باب من ملك من العرب رقيقا 3/129، ومسلم في كتاب الجهاد 5/139، وأبو داود فيه، باب في دعاء المشركين 2/40، ومسند الشافعي60/244،ومسند أحمد2/32 و51، وشرح معاني الآثار للطحاوي كتاب السير3/209،السنن الكبرى للبيهقي فيه باب قسمة الغنيمة في دار الحرب9/54، 9/107، باب جواز ترك دعاء من بلغته الدعوة، كتاب الأموال لأبي عبيد ص 175، باب الحكم في رقاب أهل العنوة من الأسرى والسبي، كتاب المعارف لابن قتيبة ص 61، والاعتبار للحازمي ص 211- 212، انظر ص من هذه الرسالة.
قال أبو داود بعد إيراده: "هذا حديث نبيل، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد".
قلت: "لا يضر تفرده لأنه إمام جليل ثقة ثبت".
2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل، لم يغر1 بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم2، ومكاتلهم3، فلما رأوه، قالوا: "محمد والله، محمد والخميس"4، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة 5 قوم فساء صباح المنذرين" 6.
وفي لفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يصبح، فنزلنا خيبر ليلاً" وفي لفظ "صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالماسحي" الحديث7.
ووجه الدلالة من هذين الحديثين قوله: "أغار" أي أخذهم على غرة، ويدل على هذا صراحة لفظ: (وهو غارون) أي غافلون.
__________
1 في حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر ليلاً وتقدم في حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا أن يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال. وأجاب ابن حجر: بأن حديث أنس كان أول ما طرقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث علي بعد ذلك، فتح الباري 7/487.
2 بمساحيهم: المساحي: جمع مسحاة وهي المجرفة من الحديد. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/150.
3 والمكاتل: جمع مكتل وهو الزنبيل الكبير. المصدر السابق 4/328.
4 الخميس: الجيش العظيم، سمي بذلك لأنه مقسوم بخمسة أقسام، المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل لأنه تخمس فيه الغنائم.
انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 7/92.
5 الساحة في اللغة الناحية وفضاء بين دور الحي، وجمعه ساح وسوح وساحات. القاموس المحيط 1/230.
6 البخاري في كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام 4/38 و5/108-109 من كتاب المغازي باب غزوة خيبر واللفظ له، ومسلم5/185كتاب الجهاد.
7 المصدر السابق.
أما المذهب الثالث القائل بعدم الإنذار مطلقاً، فهو مذهب ضعيف ترفضه الأحاديث المتقدمة.
وقد صرح بضعفه المازري والقاضي عياض وغيرهما من العلماء. والراجح في هذه المسألة هو مذهب جماهير العلماء القائلين بالتفصيل بين من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام فتجب دعوته، وبين من بلغته الدعوة فلا تجب، وبه يمكن الجمع بين الأحاديث، ومتى أمكن الجمع فلا يصار إلى غيره، لأن العمل بجميع الأحاديث أولى من رد بعضها1.وقد وردت السنة بجواز الإغارة على من بلغته الدعوة إلى الإسلام، من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم:
1- كما هو في حديث عبد الله بن عمر وأنس بن مالك المتقدمين2.
2- ومن تقريره صلى الله عليه وسلم كما في حديث الصعب بن جثامة الليثي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" 3.
3- ومن قوله صلى الله عليه وسلم كما هو في حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: "أغر على أبنى 4 صباحاً وحرق" 5.
__________
1 انظر: الاعتبار للحازمي ص211-212، شرح معاني الآثار للطحاوي3/207 و208و210،وشرح مسلم للنووي4/330و343،ونصب الراية للزيلعي3/379 و382، وفتح الباري 6/112 و7/478، وسبل السلام للصنعاني 4/45، ونيل الأوطار للشوكاني 7/244 و246 و247.
2 انظر: ص.
3 البخاري 4/48 كتاب الجهاد، باب أهل الدار يبيتون، ومسلم 5/144 فيه واللفظ له (ويبيتون) مبني للمفعول.
4 أبنى: بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر بوزن حبلى. موضع بالشام من جهة البلقاء، معجم البلدان لياقوت 1/79.
5 رواه أبو داود في 2/36 من كتاب الجهاد باب الحرق في بلاد العدو وابن ماجه فيه 2/948 كلاهما من طريق صالح بن أبي الأخضر، قال فيه ابن حجر: "ضعيف يعتبر به" التقريب 1/358 والحديث رواه الشافعي أيضاً في الأم 4/174 من غير طريق صالح بن أبي الأخضر، ولفظه: قال الشافعي: أخبرنا بعض أصحابنا عن عبد الله بن جعفر الأزهري، قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن عروة عن أسامة بن زيد قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أغزو صباحاً على أهل أبنى وأحرق".
وخلاصة القول في هذا: أن الدعوة إلى الإسلام واجبة قبل القيام بالهجوم الحربي في حق من لم تبلغه الدعوة الإسلامية ولا علم بها. فإن الإسلام دين هداية وبيان وإرشاد، وليس له غرض في الحروب المدمرة، كما هو واضح من هدي هذا الدين الحنيف.
أما من بغلته الدعوة الإسلامية وعلم بها، فلا يجب في حقه تجديد الدعوة لأن العلم بها حاصل لديه وخاصة إذا علم منه تبيت الشر للمسلمين، ومحاولة ضرب قلعة الإسلام، كما حصل من بني المصطلق.
ومن هنا يفهم الدارس لظروف وملابسات هذه الغزوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بالهجوم على هذه القبيلة إلا بعد أن علم أنها تحتشد لحربه وضرب دار الإسلام (المدينة المنورة) .
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد تثبت في ذلك من بعض سفرائه حين بلغه خبر هذه القبيلة، كما ذكرنا ذلك مفصلاً في محله وقد مر قريباً1.
__________
1 انظر ص.
,
أما ما يتعلق بشأن بني المصطلق فللعلماء في ذلك قولان:
أ- ذهب فريق من العلماء إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاهم قبل القتال، ولكنهم امتنعوا عن قبول الإسلام، وثبتوا للقتال، ودارت المعركة بين الفريقين، وكان النصر حليف المسلمين، وعلى رأس القائلين بهذا:
1- ابن إسحاق: فقد ساق بسنده حدثني عاصم1 بن عمر بن قتادة وعبد الله2 بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حبان3، كل حدثني حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، الحديث.
وفيه "فلما علم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم"4.
والحديث رجاله ثقات رجال الصحيح، ولكنه مرسل5.
2- الواقدي: ذكر الحديث مطولاً وفيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى بني المصطلق دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال: إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس، أن قولوا: لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا فتراموا بالنبل، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد"، الحديث … وهو مرسل أيضاً.
ثم قال: "وكان ابن عمر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار
__________
1 عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأوسي الأنصاري، أبو عمر المدني، ثقة عالم بالمغازي، من الرابعة (ت بعد 120) /ع التقريب 1/385.
2 عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، الأنصاري المدني القاضي، ثقة، من الخامسة، (ت 135) / ع المصدر السابق 1/405.
3 محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ الأنصاري المدني، ثقة، فقيه من الرابعة (ت 121) /ع المصدر السابق 2/216.
4 سيرة ابن هشام 2/290، وانظر الحديث كاملاً من ص من هذه الرسالة.
5 قال الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص 308: "رواه بنحوه ابن جرير في تاريخه من طريق ابن إسحاق بسنده مرسلاً، وكذلك رواه ابن هشام في (السيرة) وهذا الإسناد مع ضعفه ليس فيه أمر لعمر بعرض الإسلام، وقد أشار الزرقاني في شرحه على المواهب إلى ضعف هذه الزيادة، وحق له ذلك، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ما يقتضي ضعفها ثم ساق ما قاله ابن القيم في ذلك، انظر قول ابن القيم ص 84".
على بني المطلق وهو غارون، ونعمهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. والحديث الأول أثبت عندنا"1.
3- و 4- وتابعه في هذا ابن سعد وابن سيد الناس، فقد ساقا القصة بدون إسناد، وأشارا إلى حديث ابن عمر، ثم قالا: "الأول أثبت"2.
5- أما ابن جرير الطبري فقد ساق حديث ابن إسحاق من طريقه3. ولكنه لم يتعرض لذكر حديث ابن عمر.
6- وساق ابن الأثير نحو قول ابن إسحاق بدون إسناد4. ولم يذكر حديث ابن عمر أيضاً.
وسكوت الطبري وابن الأثير وعدم إيرادهما حديث ابن عمر، قد يفهم منه موافقتهما لابن إسحاق في رأيه.
ب- وذهب الفريق الثاني من العلماء إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم دون دعوة. وعلى رأسهم:
1- ابن عبد البر: فقد صرح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون.
ثم قال: وقيل إن بين المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغه ذلك خرج إليهم، فلقيهم على ماء يقال له المريسيع، فاقتتلوا فهزمهم الله.
ثم عقب بقوله: "والقول الأول أصح: أنه أغار عليهم وهم غارون"5.
2- ابن حزم فقد صرح بذلك أيضاً6.
__________
1 مغازي الواقدي 1/404-407.
2 طبقات ابن سعد 2/63-64، وعيون الأثر 2/91- 92.
3 تاريخ الطبري 2/604.
4 الكامل 2/192.
5 الدرر في اختصار المغازي والسير ص 200.
6 جوامع السيرة ص 203.
3- ابن القيم: فقد ساق نحو قول ابن إسحاق وموافقيه.
ثم قال: هكذا قال عبد المؤمن1 بن خلف في سيرته وغيره، وهو وهم؛ فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم، على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم، كما في الصحيح: "أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهو غارون"2.
4- ابن كثير: فقد أورد رواية ابن إسحاق والواقدي بإسنادهما ثم عقب بقوله: وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فقال: "قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهو غارون". الحديث3.
5- ابن حجر: فإنه بعد أن ساق قول ابن إسحاق، قال: هكذا ذكر ابن إسحاق بأسانيد مرسلة. والذي في الصحيح من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم. وساق الحديث.
ثم رام الجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق بقوله: ويحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلاً، فلما كثر فيهم القتل انهزموا، بأن يكون لما دهمهم وهم على الماء ثبتوا وتصافّوا، ووقع القتال بين الطائفتين ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم.
ثم قال: "وقد ذكر هذه القصة ابن سعد نحو ما ذكر ابن إسحاق، وأن الحارث كان جمع جموعاً وأرسل عيناً تأتيه بخبر المسلمين فظفروا به فتقلوه فلما بلغه ذلك4 هلع وتفرق الجمع وانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الماء وهو
__________
1 هو الإمام العلامة الحافظ الحجة الفقيه النسابة، شيخ المحدثين، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، الشافعي، صاحب التصانيف (ت 705) تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1477–1479، والشوكاني في البدر 1/403-404.
2 زاد المعاد 2/125.
3 البداية والنهاية 4/156، وانظر الحديث ص 78.
4 الهلع/ محركة: أشد الجزع والضجر.
انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير5/269،والقاموس المحيط للفيروزآبادي3/100.
المريسيع فصف أصحابه للقتال ورموهم بالنبل ثم حملوا عليهم حملة واحدة فما أفلت منهم إنسان، بل قتل منهم عشرة وأسر الباقون رجلاً ونساء". ثم قال: "وساق ذلك اليعمري في (عيون الأثر) " ثم ذكر حديث ابن عمر ثم قال: "أشار ابن سعد إلى حديث ابن عمر"، ثم قال: "الأول أثبت". قال ابن حجر قلت: "والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردود، ولا سيما مع إمكان الجمع"1.
والصواب في هذا مع القائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم هم غارون وذلك لما يلي:
1- صحة حديث ابن عمر وصراحته في ذلك، وهو ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها2.
2- صرح كثير من العلماء بأن من بلغته الدعوة العامة إلى الإسلام، أو قربت داره أو حاول النيل من المسلمين، أنه يجوز مباغتته على غرة3.
وهذه الأوصاف تنطبق على بني المصطلق، فقد بلغتهم الدعوة العامة وكانوا ضمن المتألبين مع قريش في معركة أحد، ضد المسلمين ولم يكتفوا بهذا بعد عودتهم إلى بلادهم بل أخذوا يجمعون الجموع ويعدون بضرب المسلمين، مما يدل على أنهم على علم وبصيرة بالدعوة الإسلامية، ومثل هؤلاء لا تجب الدعوة في حقهم4.
3- إن مستند القائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنذرهم هو حديث ابن إسحاق5 والواقدي وكلا الحديثين مرسل. والمرسل معدود
في قسم
__________
1 فتح الباري 7/430-431، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/98.
2 انظر الحديث ص.
3 انظر شرح صحيح مسلم للنووي 4/343، فتح الباري 6/112 و7/340 و445 و478، شرح معاني الآثار للطحاوي 3/207-210، والمدونة الكبرى لمالك 2/2، وتحفة الأحوذي 5/155-156.
4 انظر: ص.
5 علما بأن قول ابن إسحاق ليس صريحاً في إنذارهم، وإنما فيه مجرد وجود القتال بين الفريقين. وقد جمع ابن حجر بين ذلك. انظر: ص.
الحديث الضعيف عند جمهور العلماء، وذلك للجهل بحال الراوي المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون غير صحابي، وبالتالي يحتمل أن يكون ضعيفاً.
وإن اتفق أن المرسل لا يروي إلا عن ثقة، فالتوثيق مع الإبهام غير كاف ولأنه إذا كان المجهول المسمى لا يقبل، فالمجهول عيناً وحالاً أولى1.
4- إن الظاهر من صنيع القائلين بحجيته، فيما لو لم يوجد في الباب غيره كما صرح بذلك أبو داود2 وغيره، خلافاً للمالكية3.
5- على فرض صحته فلا يقاوم الحديث المسند.
6- ذكر الدكتور أكرم العمري أنه: "لا يمكن معارضة آية قرآنية أو حديث صحيح برواية من كتب التاريخ والأدب".
وقال في موضع آخر: "ولا شك أن مادة السيرة، في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة. وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة؛ لأنها ثمرة جهود جبارة، قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث، لم تحظ به الكتب التاريخية"4.
__________
1 انظر: مقدمة صحيح مسلم 1/24، ورسالة أبي داود إلى أهل مكة ص 24، والكفاية للخطيب البغدادي ص 550-555، ومقدمة التمهيد لابن عبد البر 1/5-6، ومقدمة ابن الصلاح ص 73- 75 (التقييد والإيضاح) ، والتبصرة والتذكرة للعراقي 1/148، التقييد والإيضاح له ص 73-75، والتقريب للنووي ص 119، (تدريب الراوي) وشرح مسلم له 1/23، تدريب الراوي للسيوطي ص 119، فتح المغيث للسخاوي 1/133 و 135-136.
2 رسالة أبي داود إلى أهل مكة ص 25، وفتح المغيث للسخاوي 1/133.
3 مقدمة التمهيد لابن عبد البر 1/6.
4 انظر: نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية لأكرم ضياء العمري ص 1 و3.
,
الأسباب الدافعة لهذه الغزوة نلخصها فيما يلي:
الأول: تأييد هذه القبيلة لقريش وتكتلها معها في معركة أحد ضد المسلمين1.
والثاني: سيطرتها على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزاً منيعاً من نفوذ المسلمين إلى مكة.
الثالث: ويعتبر أهم الأسباب في هذه الغزوة هو أن قبيلة بني المصطلق أخذت تجمع الجموع لغزو المدينة المنورة وقد أطمعها في التفكير في غزو المدينة والتصميم على ذلك، انتصار المشركين في غزوة أحد بسبب خطأ ارتكبه الرماة في هذه الغزوة كما هو معروف.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ هذه القبيلة أعد عدته، واتخذ جميع التدابير المناسبة، وباغت هذه القبيلة في عقر دارها وهزمهم شر هزيمة.
أما عن تحديد زمن هذه الغزوة، فقد اختلف العلماء في ذلك، وانحصرت أقوالهم فيها فيما بين السنة الرابعة والسادسة للهجرة، وفيما يأتي رأى كل فريق مع أدلته، ثم ترجيح ما يظهر أنه الراجح، من خلال النصوص بعد مناقشتها وتحليلها.
__________
1 انظر: ص من هذه الرسالة.
أ- القائلون بأنها سنة ست:
أول من قال بذلك ابن إسحاق: فقد قال - عقب غزوة ذي قرد1 فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجباً، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست2.
وفي مجمع الزوائد: روى الطبراني من طريق ابن إسحاق قال: "كانت غزوة بني المصطلق في شعبان سنة ست"3. قال الهيثمي: "رجاله ثقات".
وتبع ابن إسحاق في هذا خليفة بن خياط وابن جرير الطبري، وابن حزم وابن عبد البر وابن العربي، وابن الأثير وابن خلدون.
فقد صرح كل منهم بأن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان من السنة السادسة4.
وقد أدى بهم هذا إلى إنكار وجود سعد بن معاذ في هذه الغزوة وتوهيم من ذكره فيها من العلماء، بناء على أنه استشهد في غزوة بني قريظة، التي وقعت عقب الخندق مباشرة، وكانت الخندق في السنة الرابعة على رأي ابن حزم وطائفة من العلماء5.
__________
1 ذو قرد: محركة: على يوم من المدينة، بينها وبين خيبر، وتسمى غزوة (الغابة) وذلك أن عيينة بن حصن الفزاري أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ترعى في الغابة قرب المدينة، فاستاقها. واختلف في تاريخها هل هي قبل الحديبية أو بعدها.
2 سيرة ابن هشام 2/289.
3 مجمع الزوائد 6/142-143.
4 انظر: تاريخ خليفة ص 80، وتاريخ الطبري 2/604، وجوامع السيرة لابن حزم ص 206، والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص 200-202، وعارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي لابن العربي 12/49، والكامل لابن الأثير 2/192، تاريخ ابن خلدون 2/29و 33.
5 منهم: مالك بن أنس وموسى بن عقبة، والبخاري وابن قتيبة، ويعقوب بن سفيان الفسوي، والنووي، وابن خلدون.
انظر: البداية والنهاية لابن كثير 4/93-94، فتح الباري 5/278و 7/393، المعارف لابن قتيبة ص 70، المعرفة والتاريخ للفسوي 3/257-258، شرح صحيح مسلم للنووي 4/532، تاريخ ابن خلدون 2/29.
وهذا نص كلام ابن حزم رحمه الله قال: "ذكر أصحاب المغازي أن الخندق كانت سنة خمس من الهجرة، والثابت أنها في الرابعة بلا شك. لحديث عبد الله بن عمر قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"1. فصح أن بينهما سنة واحدة فقط2.
وقد أجاب البيهقي عن هذا بقوله: "ولا اختلاف في الحقيقة بين من قال بأن الخندق كانت في السنة الخامسة، وبين من قال بأنها في السنة الرابعة، وذلك لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنوات وقبل استكمال خمس. ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعبان سنة أربع، للموعد، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال سنة خمس3" اهـ.
قال ابن كثير: "وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أحداً في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة
__________
1 انظر: الحديث في البخاري 3/154، كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، و 5/89 كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وصحيح مسلم 6/29-30، كتاب الإمارة، وأبو داود 2/124، كتاب الخراج والفيء، باب متى يفرض للرجل في المقاتلة، و2/453 كتاب الحدود، باب في الغلام يصيب الحد، الترمذي 2/127، الجهاد باب ما جاء في حد بلوغ الرجل ومتى يفرض له، 2و/407، أبواب الأحكام، باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة، والنسائي 6/127، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي، وابن ماجة 2/850 كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد.
2 جوامع السيرة لابن حزم ص 185.
3 البداية والنهاية لابن كثير 4/93-94، وفتح الباري 5/278و 7/393، وزاد المعاد 2/130، 2/147، وعون المعبود شرح سنن أبي داود 8/237.
الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي عن جماعة من السلف.
وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، فقد صرح بأن بدراً في الأولى وأحداً في الثانية وبدر الموعد في شعبان من السنة الثالثة، والخندق في شوال من السنة الرابعة".
ثم قال ابن كثير: "وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعند مالك1 من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال أيضاً سنة خمس.
وأما حديث ابن عمر: فقد أجاب عنه جماعة من العلماء منهم البيهقي: بأن معناه أن ابن عمر كان في أحد في أول ما طعن في الرابعة عشرة وكان في الأحزاب قد استكمل الخامسة عشرة"2.
ب- القائلون بأنها سنة خمس:
1- موسى بن عقبة كما نقل ذلك ابن كثير عنه بقوله:
قال موسى بن عقبة عن الزهري: "هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الأحزاب وبني قريظة - في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس.
ثم أورد ابن كثير قول البخاري عن موسى بن عقبة "أنها سنة أربع"3 وعقب عليه بقوله: "هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها سنة
__________
1 وهو قول ابن حزم أيضاً حكاه عنه ابن قيم الجوزية.
انظر: زاد المعاد 2/147.
2 البداية والنهاية لابن كثير 4/93-94، فتح الباري 5/278و 7/393، زاد المعاد 2/130، 2/147، عون المعبود شرح سنن أبي داود 8/237.
3 انظر: صحيح البخاري 5/96، كتاب المغازي، باب غزوة بني المصطلق من خزاعة.
أربع، والذي حكاه موسى بن عقبة عن الزهري وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس"1.
وقد تابع ابن حجر ابن كثير في تعقبه على البخاري بقوله: "كذا ذكره البخاري، وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع" والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد2 النيسابوري والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس. ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب "ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس" ثم قال ابن حجر: وقال الحاكم في (الإكليل) : "قول عروة وغيره أنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق" ثم قال ابن حجر، مؤيداً لقول الحاكم هذا:
"قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطاً، لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة وكانت سنة خمس على الصحيح كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل سنة أربع فهو أشد غلطاً"3.
فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان لتكون قد وقعت قبل الخندق، لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضاً فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجوداً في المريسيع، ورمي بعد ذلك بسهم في الخندق ومات من جراحته في قريظة، ويؤيده أيضاً أن حديث الإفك كان سنة خمس إذ الحديث
__________
1 البداية والنهاية 3/242 و4/156.
2 هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، أبو سعيد، واعظ مفسر، مشارك في بعض العلوم، من آثاره ((دلائل النبوة)) وكتاب التفسير وكتاب الزهد (ت 407) معجم المؤلفين بعمر رضا كحالة 6/108.
3 أي إذا كانت غزوة المريسيع في سنة أربع فهو أشد غلطاً، وذلك لأن في هذه السنة وفي نفس الشهر وقعت غزوة بدر الموعد، ولا يتأتى أيضاً بأن تكون الغزوتان وقعتا في شهر واحد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة المريسيع لليلتين خلتا من شعبان وعاد منها لهلال رمضان. فقد استغرق الشهر كله في غزوة المريسيع. انظر: ص: 96.
فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب. ثم ذكر ثلاثة أقوال في وقت نزول الحجاب وقال: أشهرها سنة أربع، فتكون المريسيع بعد ذلك، فيرجح أنها سنة خمس1.
وروى البيهقي: أخبرنا أبو الحسين2 بن الفضل القطان ببغداد، أنبا عبد الله3 بن جعفر ثنا يعقوب
__________
1 فتح الباري 7/430 وانظر السيرة الحلبية 2/293، شرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/96، وترتيب مسند أحمد للساعاتي 21/70.
2 هو محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل بن يعقوب بن يوسف بن سالم أبو الحسين الأزرق، سمع إسماعيل بن محمد الصفار، وعبد الله بن جعفر درستويه، وغيرهم، قال الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة.
انظر: تاريخ بغداد 2/249.
3 عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي، النحوي، أبو محمد، صاحب يعقوب الفسوي، قال الخطيب: حدَّث عنه أبو الحسن بن رزقوية، وأبو الحسين بن الفضل، وأبو علي بن بن شاذان، سمعت هبة الله بن الحسن الطبري ذكر ابن درستويه وضعفه وقال: "بلغني أنه قيل له حدث عن عباس الدوري حديثاً ونحن نعطيك درهماً ففعل ولم يكن سمع من عباس". قال الخطيب: "وهذه الحكاية باطلة لأن أبا محمد بن درستويه كان أرفع قدراً من أن يكذب لأجل العوض الكثير، فكيف لأجل التافه الحقير"، وقال الخطيب أيضاً: "سألت البرقاني عن ابن درستويه فقال: ضعفوه، لأنه لما روى كتاب التاريخ عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك، وقالوا له إنما حدث يعقوب بهذا الكتاب قديماً فمتى سمعته منه؟ " قال الخطيب: "وفي هذا نظر، لأن جعفر بن درستويه من كبار المحدثين وفهمائهم، وعنده عن علي بن المديني وطبقته، فلا يستنكر أن يكون بكر بابنه في السماع من يعقوب بن سفيان وغيره. ونقل عن الحسين ابن عثمان الشيرازي أنه قال: ابن درستويه ثقة" إلى آخر ما ذكر في ترجمته (ت 347) تاريخ بغداد 9/429، وانظر ميزان الاعتدال 2/401، اللسان 3/267.
وثنا يعقوب وثنا إبراهيم1 بن المنذر، ثنا محمد بن2 فليح عن موسى3 بن عقبة عن ابن شهاب في ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس".
وهذا أصح مما روي عن ابن إسحاق أن ذلك كان سنة ست4.
قلت: الحديث مرسل.
2- أبو معشر5 فقد ذكرها قبل الخندق كما نقل ذلك ابن حجر عنه6. وأبو مشعر روى عن أئمة أثبات أمثال ابن المسيب وهشام ابن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم.
وروى عنه أئمة كذلك أمثال الثوري والليث بن سعد وابن مهدي ووكيع وغيرهم. وهو ضعيف في الحديث بصير بالمغازي، فقد أثنى عليه بذلك أحمد بن حنبل، وأبو زرعة الدمشقي وابن البرقي، والخليلي7.
وخلاصة القول فيه أنه ضعيف في الحديث له إلمام بالمغازي. فمثله يصلح للشواهد والمتابعات.
3- الواقدي، قال في سنة خمس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة، بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي، صدوق تكلم فيه أحمد لأجل القرآن، من العاشرة. (ت 236) خ ت س ق. المصدر السابق 1/43. وفي ميزان الاعتدال 1/67 رمز له (صح) دلالة منه على أنه ثقة.
2 محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي أو الخزاعي، صدوق يهم من التاسعة، (ت197) خ س ق. المصدر السابق 2/201.
3 موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي، مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لينه (ت141) وقيل بعد ذلك./ ع المصدر السابق 2/286.
4 السنن الكبرى للبيهقي 9/54.
5 هو نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، مولى بني هاشم مشهور بكنيته، ضعيف من السادسة. (ت170) / عم. التقريب 2/298. له كتاب في المغازي لكنه مفقود.
6 فتح الباري 7/430.
7 انظر: تهذيب التهذيب 1/419-422.
يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان 1، وقدم المدينة لهلال رمضان وغاب شهراً إلا ليلتين2.
4- وهكذا ذكر ابن سعد وابن قتيبة والبلاذري3.
5- وصرح الذهبي بقوله: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث في شعبان من السنة الخامسة، وفيها على الصحيح غزوة بني المصطلق وتسمى غزوة المريسيع"4.
6- وبنحو هذا قال ابن القيم5.
وممن ذهب إلى هذا من المعاصرين:
أ- الخضري بك: فقد ذكرها في شعبان في حوادث سنة خمس6.
ب- الغزالي: قال في نهاية حديثه عن هذه الغزوة: "وكتاب السيرة على أن حديث الإفك وغزوة بني المصطلق كانا بعد الخندق، لكننا تابعنا ابن القيم في اعتبارها من حوادث السنة الخامسة قبل هجوم الأحزاب على المدينة، والتحقيق يساند ابن القيم ومتابعيه، فستعلم أن سعد بن معاذ قتل في معركة الأحزاب مع أن لسعد في غزوة بني المصطلق شأناً يذكر، إذ إن الرسول عليه الصلاة والسلام، اشتكى إليه عمل7 ابن أبي ولا يتفق أن يستشهد سعد بن معاذ في غزوة الخندق ثم يحضر بعد ذلك في بني المصطلق لو صّح أنها وقعت في السنة السادسة"8.
__________
1 يريد بني المصطلق.
2 مغازي الواقدي 1/404.
3 انظر: طبقات ابن سعد 2/63، والمعارف لابن قتيبة ص 70، وأنساب الأشراف للبلاذري ص 341 و 343.
4 العبر في خبر من غبر 1/7، تاريخ الإسلام له 2/275.
5 زاد المعاد 3/125.
6 نور اليقين ص 152.
7 قال الألباني: لعله وهم أو سبق قلم، فإن المشتكي إليه إنما هو أسيد بن حضير كما في سيرة ابن هشام، وفي الباب مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أشياء صحيحة فيراجع في فتح الباري.
8 فقه السيرة: 316.
ج- وقال الدكتور البوطي: "ذكر ابن إسحاق وبعض علماء السيرة أنها كانت في العام السادس من الهجرة، والصحيح الذي ذهب إليه عامة المحققين أنها كانت في شعبان من العام الخامس للهجرة"1.
د- الدكتور أبو شهبة قال: "اختلف في زمن هذه الغزوة فذهب ابن إسحاق إلى أنها في شعبان سنة ست، ووافقه الطبري، وقال موسى بن عقبة: إنها سنة خمس في شعبان، ووافقه الحاكم والبيهقي وأبو معشر، وهو الراجح الذي تشهد له الأحاديث الصحيحة"2.
هـ- وهكذا ذكر الساعاتي والصابوني: "بأنها كانت في السنة الخامسة على القول الأرجح"3.
فهؤلاء العلماء جميعاً قد صرحوا بأن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان من السنة الخامسة، وأنها قبل الخندق، لأن الخندق كانت في شوال من السنة المذكورة أيضاً4.
ومما يؤيد هذا ما يأتي:
1- اتفاقهم على أن هذه الغزوة كانت بعد نزول آية الحجاب، وكان نزولها في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش وذلك للتصريح بذلك في حديث الإفك كما سيأتي5.
وللعلماء في تاريخ نزول الحجاب الأقوال الآتية:
أ- كان نزوله في السنة الثالثة، وبه جزم خليفة بن خياط وأبو عبيدة6 وغير واحد.
__________
1 فقه السيرة للبوطي القسم الثاني: 93.
2 السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة 196.
3 الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد 14/109، روائع البيان تفسير آيات الأحكام للصابوني 2/119.
4 ما عدا موسى بن عقبة وابن قتيبة فإنهما يريان أن الخندق في السنة الرابعة.
انظر: ص90.
5 انظر: ص 205.
6 هو معمر بن المثنى التيمي، مولاهم، البصري، النحوي اللغوي، صدوق، أخباري وقد رمى برأي الخوارج، من السابعة (ت208) وقيل بعد ذلك وقد قارب المائة. خت د، التقريب 2/266، وتهذيب التهذيب 10/246.
ب- في السنة الرابعة عند جماعة من العلماء، وبه جزم الدمياطي1 والذهبي وابن حجر.
ج- كان في ذي القعدة من السنة الخامسة، وبه قال قتادة والواقدي2.
فعلى القول بأن الحجاب كان في السنة الثالثة أو الرابعة فيترجح كون غزوة بني المصطلق بعد ذلك، في السنة الخامسة، بعد نزول الحجاب وزواج رسول صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، للتصريح بذلك في سياق قصة الإفك. أما قول قتادة والواقدي فلا يلتفت إليه بعد جزم من ذكر بمخالفتهم3.
2- وجود سعد بن معاذ فيها، فهذا مما يرجح تقدمها على غزوة الأحزاب، ولا يلتفت إلى من قال: بأن ذكره في غزوة بني المصطلق وهم من بعض الرواة4، إذ التوهيم لا يكون إلا بأمر قاطع، وما دام الخلاف قائماً في تحديد زمن كل من الغزوتين، وتقديم أحداهما على الأخرى. فلا يستقيم التوهيم، بل الإقدام عليه من الصعوبة بمكان لا يخفى، لا سيما أنه مصرح بذكره في أصح الصحيح بعد كتاب الله صحيحي البخاري ومسلم.
ولذا قال إسماعيل5 القاضي: "الأولى أن تكون المريسيع قبل
__________
1 تقدمت ترجمته ص؟.
2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 4/314 مع الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير 7/125، والمستدرك للحاكم 4/3، وتاريخ الإسلام للذهبي 2/34، وتفسير ابن كثير 3/503، وفتح الباري 7/430و 8/462-463.
3 مع أن الواقدي قد تناقض في هذا فذكر في مغازيه بأن غزوة بني المصطلق كانت في السنة الخامسة من شعبان، وذكر فيها حديث الإفك المصرح بأن ذلك وقع بعد نزول الحجاب وزواج زينب بنت جحش، ثم ذكر بأن الحجاب كان في ذي القعدة من سنة خمس كما نقل عنه. انظر: المغازي للواقدي 1/404 و 2/428، وانظر فتح الباري 8/462.
4 انظر: القائلين بهذا ص؟.
5 هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم أبو إسحاق الأزدي مولى آل جرير بن حازم من أهل البصرة، سمع مسدد بن مسرهد، والقعنبي وابن المديني وغيرهم، وعنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، ويحيى بن صاعد وغيرهم، قال الخطيب البغدادي: كان إسماعيل فاضلاً عالماً متقناً فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، ثم ذكر شيئاً من مصنفاته. (ت 282هـ) تاريخ بغداد 6/284.
الخندق للحديث الصحيح عن عائشة"1.
وأما ما أبداه القطب2 الحلبي من الاحتمال بقوله: "وقع في نسخة سماعنا (فقام سعد بن معاذ) 3 وفي موضع آخر (فقام سعد أخو بني عبد الأشهل) 4.
فيحتمل أن يكون آخر غير سعد بن معاذ، فإن في بني عبد الأشهل جماعة من الصحابة، يسمى كل منهم سعداً، منهم: سعد بن زيد الأشهلي، شهد بدراً، وكان على سبايا قريظة الذين بيعوا بنجد، وله ذكر في عدة أخبار، منها: في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فيحتمل أن يكون هو المتكلم في قصة الإفك فهذا مردود بتصريح القطب الحلبي نفسه بأنه سعد بن معاذ، في الموضع الأول. وأما الموضع الآخر فإن الرواية أيضاً في البخاري "فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل" كما أثبت ذلك في الحاشية. فكيف يتطرق الاحتمال بعد هذا التصريح بأنه سعد بن معاذ، إلى غيره. وأيضاً فإن في رواية معمر بن راشد عند مسلم "فقام سعد بن معاذ الأنصاري"5.
فيتعين بهذا أن يكون المذكور هو سعد بن معاذ، لا غيره. ويندفع الاحتمال الذي أورده القطب الحلبي رحمه الله.
3- ما ذكره المقريزي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق أخذ بيد سعد بن معاذ، في نفر فخرج يقود به حتى
__________
1 انظر: شرح مسلم للنووي 5/635، وزاد المعاد لابن القيم 2/128، وفتح الباري لابن حجر 8/472.
2 هو عبد الكريم بن عبد النور بن منير الحلبي، الحافظ المتقن المقرئ، أبو علي الحلبي، ثم المصري مفيد الديار المصرية، صنف وخرج وأفاد، وشرح أكثر صحيح البخاري في عدة مجلدات (ت 735) . ذيل تذكرة الحفاظ لمحمد بن علي الدمشقي ص13.
3 انظر هذه الرواية في البخاري 3/153، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهنّ بعضاً.
4 انظر هذه الرواية في البخاري 5/98، كتاب المغازي، باب حديث الإفك. وهذا لفظها "فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل" وليس كما ذكر القطب الحلبي بقوله: "فقام سعد أخو بني عبد الأشهل".
5 انظر: صحيح مسلم 8/115، كتاب التوبة. وانظر فتح الباري 8/471-472.
دخل به على سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثا عنده ساعة، وقرب سعد بن عبادة طعاماً، فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن معاذ ومن معه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكث أياماً، ثم أخذ بيد سعد بن عبادة ونفر معه، فانطلق به، حتى دخل منزل سعد بن معاذ، فتحدثا ساعة، وقرب سعد بن معاذ طعاماً، فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن عبادة ومن معهم، ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذهب ما كان في أنفسهم من ذلك القول الذي تقاولا1 اهـ.
4- اتفاق أهل المغازي على أن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان، وأن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال، فمن هذه الناحية تكون غزوة بني المصطلق قبل الأحزاب، إذا غضضنا النظر، عن الخلاف في تحديد سنة كل منهما، وبهذا التقرير يكون الراجح في تحديد زمن هذه الغزوة أنها في شعبان من سنة خمس، وبوجه أعم تكون سابقة على غزوة الأحزاب، إذ الأحزاب في شوال من السنة المذكورة على الأصح كما تقدم2.
ويندفع ما تعلق به الذاهبون إلى تأخرها عن غزوة الأحزاب اعتماداً على ما ذكره ابن إسحاق في تحديدها بالسنة السادسة، وأن المحاورة في شأن أهل الإفك، كانت بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، ومستند ابن إسحاق لا مطعن فيه، غير أن إطباق كتب الصحاح على ذكر سعد بن معاذ في هذه الغزوة، مما يرجح كون غزوة بني المصطلق كانت قبل الخندق، ولا داعي إلى تطرّق الوهم إلى أصحّ الكتب بعد كتاب الله؛ لأنه يمكن اللجوء في مثل هذه القضايا إلى الترجيع بين الأدلة وتمييز الصحيح والأصح أو الراجح والمرجوح، ولا شك أن ما ذكر في الصحيحين أرجح مما ذكر في غيرهما ولاسيما كتب المغازي والتواريخ3.
__________
1 إمتاع الأسماع 1/210، وانظر السيرة الحلبية 2/319.
2 انظر: ص92.
3 راجع نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية، لأكرم ضياء العمري ص1و 3.
والآن نبدأ الحديث مع القائلين بأنها كانت في السنة الرابعة.
ج- القائلون بأن غزوة بني المصطلق في السنة الرابعة:
1- موسى بن عقبة كما نقل ذلك عنه البخاري، وقد تقدم أن الذي حصل للبخاري سبق قلم، وأن الثابت عن موسى بن عقبة سنة خمس1.
2- المسعودي: ذكرها في السنة الرابعة، وذكر أن الخندق في السنة الخامسة2.
3- ابن العربي المالكي: صرح أيضاً بأنها في السنة الرابعة وأن الخندق بعدها3.
4- أبو بكر العامري: اعتمد على النقل عن موسى بن عقبة بأنها كانت في السنة الرابعة4.
ونقل قول ابن إسحاق بأنها كانت في السادسة، ثم عقب عليه بقوله: والصواب الأول- أي أنها كانت في الرابعة - بدليل أن فيها حديث الإفك، وجرى فيه ذكر سعد بن معاذ، وسعد أصيب يوم الخندق، والخندق في السنة الرابعة على الأصح، فعلم بهذا أن المريسيع قبلها5.
5- ومن المعاصرين محمد أحمد باشميل فقد ذكرها في حوادث سنة أربع، ضمن الحوادث الواقعة بين غزوتي أحد والأحزاب6.
ويلاحظ مما ذكره هؤلاء العلماء في شأن غزوة بني المصطلق: أنها سابقة على غزوة الأحزاب، وهذا من المرجحات على تقدمها على غزوة الخندق.
__________
1 انظر: ص؟ وما بعدها.
2 مروج الذهب 2/295.
3 عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي 7/173.
4 قال شارح بهجة المحافل محمد الأشخر: "كذا نقل البخاري عن موسى بن عقبة وهو سبق قلم والذي في مغازيه أنها في سنة خمس".
5 بهجة المحافل 1/241.
6 غزوة الأحزاب ص 94.
غير أن تحديد زمنها بالسنة الرابعة، مردود بما أطبق عليه أهل المغازي بأن في السنة الرابعة كانت بدر الموعد، وكانت في شعبان، ومن المعلوم أن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان اتفاقاً، وكانت مدة غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثمانية وعشرين يوماً، ابتداء من ليلتين خلتا من شعبان1.
فإذا كانت غزوة بني المصطلق في السنة الرابعة على ما ذهب إليه هؤلاء العلماء، فمتى كانت بدر الموعد؟.
وعلى كل حال فكون غزوة بني المصطلق في شعبان سنة أربع، لا يستقيم مع قول أهل المغازي بأن في هذا التاريخ كانت بدر الموعد، وهذا مما يرجح تأخر غزوة بني المصطلق عن هذا التحديد.
الخليفة على المدينة في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم:
اختلف العلماء فيمن استخلف على المدينة في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. وأقوالهم تنحصر في أحد أشخاص أربعة:
وهم: زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وأبو ذر الغفاري، ونميلة ابن عبد الله الليثي، وجعيل بن سراقة الضمري.
ولم أجد ما يرجح قول أحد على آخر، إذ هو مجرد قول بدون إسناد. غير أن الأكثر على أن الخليفة أبو ذر، أو نميلة بن عبد الله الليثي2.
__________
1 انظر: ص93و96.
2 انظر: أنساب الأشراف للبلاذري ص 342، سيرة ابن هشام 2/289، والروض الأنف للسهيلي 6/399، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/92، وتاريخ ابن خلدون 2/33، زاد المعاد 2/125، شرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/97، وأسد الغابة لابن الأثير 1/338.
,
,
...
المبحث الأول: وقوع القتل والسبي في بني المصطلق
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد ابن يحيى بن حبان1 - كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق - قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني2 المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، خرج3
__________
1 تقدمت تراجم رجال الإسناد، ص؟.
2 وعند الواقدي: عن مشايخه قالوا: إن بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء في بني مدلج، وكان رأسهم وسيدهم الحارث بن ضرار وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك فخرج حتى ورد ماءهم فوجد قوماً مغرورين قد تألبوا وجمعوا الجموع، فعاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس فأسرعوا للخروج وقادوا الخيول وهي ثلاثون فرساً؛ من المهاجرين عشرة، وفي الأنصار عشرون. (مغازي الواقدي 1/404، وطبقات ابن سعد 2/63) .
3 قال الذهبي: "خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة". (تاريخ الإسلام 1/230 القسم الخاص بالمغازي) .
إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل* من قتل منهم، ونفّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه، وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له: هشام1 بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ.
__________
* وعند الواقدي في المغازي1/407 فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم.
1 هشام بن صبابة بن حزن بن سيار بن عبد الله بن كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة، الكناني الليثي، أخو مقيس بن صبابة. انظر: أسد الغابة لابن الأثير 5/400، وساق ابن حجر نسبه عن ابن الكلبي إلى كنانة. ثم قال: وقال أبو سعيد السكري: هو هشام بن حزن، وأمه صبابة بنت مقيس بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم. ثم ساق ابن حجر حديث ابن إسحاق هذا ثم قال: "وفي تفسير سعيد بن جبير الذي رواه ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عنه، وكذا في تفسير ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} ، [سورة النساء، من الآية: 93] ، قال: نزلت في مقيس بن صبابة وكان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد مقيس أخاه قتيلاً فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فأخذها ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، وارتد وأقام بمكة وقال في ذلك أبياتاً. وسمي الواقدي بسند له قاتله أوساً. وسمى المقتول هاشماً، وكذا وقع عن ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد عن رجاله"، ثم قال ابن حجر، والأول أرجح وصبابة بالمهملة عند أكثر أهل اللغة، وقال ابن دريد: ضبابة بالضاد المعجمة، ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة". انظر: الإصابة 3/603، فتح الباري 8/258، وعند ابن جرير: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج عن ابن جريج عن عكرمة أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مقيساً وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فاحتمل مقيس الفهري وكان قوياً، فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين، ثم ألفى يتغنى:
قتلت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أظنه قد أحدث حدثاً، أما والله لئن كان فعل لا أؤمنه في حل ولا حرم، ولا سلم ولا حرب"، فقتل يوم الفتح، قال ابن جرير: "وفيه نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} "، الآية، [سورة النساء، من الآية: 93] ، تفسير الطبري 5/217. والحديث أورده الواحدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في سبب نزول هذه الآية. انظر أسباب النزول للواحدي ص 114. قلت: كون هذه الآية نزلت في شأن مقيس قول ضعيف. وذلك لما يأتي:
1- عطاء بن دينار الهذلي، لم يصح أنه سمع التفسير من ابن جبير، وإنما هي صحيفة رواها عنه. انظرك تهذيب التهذيب 7/198 وتقريب التهذيب 2/21 وميزان الاعتدال 3/69-70.
2- الحديث المروي عن ابن عباس فيه الكلبي وهو محمد بن السائب أبو النضر الكوفي النسابة المفسر قال عبد ابن حجر: في التقريب 2/163 متهم بالكذب ورمي بالرفض. وفي ميزان الإعتدال 3/559. قال ابن معين: "الكلبي ليس بثقة"، وقال الجوزجاني وغيره: "كذاب". وقال الدارقطني وجماعة: "متروك". ثم قال الذهبي: "لا يحل ذكره في الكتب فكيف الاحتجاج به". وفيه أبو صالح: وهو باذام مولى أم هانىء. ضعفه البخاري، وقال النسائي: "ليس بثقة"، ثم قال الذهبي: "أبو صالح يروي عن ابن عباس التفسير ولم ير ابن عباس". ميزان الاعتدال 1/296، و3/559.
3- حديث الطبري فيه عنعنة ابن جريج، وفيه انقطاع لأن عكرمة لم يحضر القصة. أما كون هشام بن صبابة قتل في غزوة بني المصطلق فهو الذي أطبق عليه المؤرخون، إلاَّ ما كان من ابن عبد البر فقد ذكر في الاستيعاب 3/595 أنه قتل في غزوة ذي قرد، وهو شيء ذكره بدون إسناد.
وأما مقيس فكان من النفر الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم يوم فتح مكة، فقتله نميلة بن عبد الله وكان من قومه. انظر أسد الغابة 5/363 والإصابة 3/574 وسيرة ابن هشام 2/410.
وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلماً فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئتك مسلماً وجئت أطلب دية أخي، قتل خطأ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه، فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتداً وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم، يقال له: أحمر أو أحمير.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصاب منهم سبياً* كثيراً، قسمه في المسلمين، وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
__________
* وعند الواقدي: وكانت الإبل ألفي بعير، وخمسة آلاف شاة وكان السبي مائتي أهل بيت مغازي الواقدي 1/140، وطبقات ابن سعد 2/64 وشرح المواهب للزرقاني 2/97-98 وزاد: وكانت الأسرى أكثر من سبعمائة.
1 سيرة ابن هشام 2/290 و293.
والحديث أورده من هذه الطريق: خليفة بن خياط، وابن جرير الطبري، وابن كثير1.
وأورده أيضاً الطبراني من هذه الطريق غير أنه قال: "فأمدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى أن قال: "فهزم الله بني المصطلق وقتل الحارث بن أبي ضرار أبا جويرية…"الخ. قال الهيثمي: "رجاله ثقات"2.
قلت: "وسبق إلى هذا القول اليعقوبي فقد صرح في تاريخه بأن والد جويرية قتل في المعركة، ولكنه أورد ذلك بدون إسناد"3.
قلت: "وهذا وهم".
لأن والد جويرية: معدود في الصحابة، وله حديث عند أحمد، في قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وإسلامه4.
الحكم على الحديث:
والحديث مداره على ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالتحديث، ورجال الإسناد ثقات، وهم رجال الصحيح.
غير أنه مرسل. والمرسل من قسم الحديث الضعيف. وذلك يشهد له حديث عبد الله بن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية"5.
فإنه صريح في وجود القتل والسبي فيكون الحديث حسناً لغيره.
__________
1 انظر تاريخ خليفة ص80، وتاريخ ابن جرير 2/604 والبداية والنهاية 4/156.
2 مجمع الزوائد 6/142.
3 تاريخ اليعقوبي 2/53.
4 انظر الاستيعاب على هامش الاصابة 1/299 وأسد الغابة 1/399-400 والإصابة 1/181 وانظر حديثه في المسند 4/279.
5 انظر: الحديث، ص78.
وقد جمع ابن حجر بين الحديث بقوله: ويحتمل أن يكون لما دهم المسلمون بني المصطلق وهم على الماء، ثبتوا قليلاً وقاتلوا، ولكن وقعت الغلبة عليهم1.
__________
1 انظر ص84.
,
كان من الخطط المألوفة في معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفق مع أصحابه على شعار يقولونه في المعركة وذلك خشية الاشتباه بين أفراد المسلمين والكفار ولقد كان شعار المسلمين في هذه المعركة هو "يا منصور أمت أمت"، وإليك النصوص الواردة في ذلك.
ورد في مجمع البحرين: حدثنا محمد1 بن الحسين بن مكرم، ثنا يحيى بن محمد بن السكن2.
ثنا محمد3 بن جهضم، ثنا محمد بن الحسن4، عن خارجة بن
__________
1 محمد بن الحسين بن مكرم، أبو بكر البغدادي، سمع بشر بن الوليد ومحمد بن بكار الريان، وانتقل إلى البصرة فسكنها حتى مات بها، ثم نقل توثيقه عن الدارقطني. وقال فيه إبراهيم بن فهد: "ما قدم علينا البصرة من بغداد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر بن مكرم، بحديث أهل البصرة خاصة ولا أعرف منه". (ت 309) تاريخ بغداد للخطيب 2/233.
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي 2/735 روي عنه محمد بن مخلد وأبو القاسم الطبراني وابن عدي وابن السني، وابن المقرئ، وخلق، ثم نقل فيه قول الدارقطني وإبراهيم ابن فهد.
2 يحيى بن محمد بن السكن بن حبيب القرشي، البزاز، البصري، نزيل بغداد، صدوق، من الحادية عشرة (ت 250) / خ د س. التقريب 2/357.
3 محمد بن جهضم بن عبد الله الثقفي، أبو جعفر البصري، خراساني الأصل، صدوق من العاشرة، /خ م د س. المصدر السابق 2/151.
4 محمد بن الحسن الشيباني، أبو عبد الله، أحد الفقهاء/ لينه النسائي وغيره، من قبل حفظه، ويروي عن مالك بن أنس وغيره، وكان من كبار أهل العلم والفقه، قوياً في مالك، انظر: ميزان الاعتدال 3/513.
الحارث1 بن رافع بن مكيث الجهني عن أبيه2 قال: سمعت سنان بن وبرة3 قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، غزوة بني المصطلق، فكان شعارهم: "يا منصور أمت أمت".
لا يروى عن سنان إلا بهذا الإسناد، تفرد به جهضم45.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد عن سنان المذكور وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وإسناد الكبير حسن6.
وأورده ابن الأثير بهذا الإسناد في ترجمة سنان بن وبرة وقال: "أخرجه ابن منده وأبو نعيم في هذه الترجمة"7.
__________
1 خارجة بن الحارث بن رافع بن مكيث الجهني المدني صدوق من السابقة/ بخ د. التقريب 1/210.
2 الحارث بن رافع بن مكيث الجهني، مقبول من الثالثة، وله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة/ د. التقريب 1/140، وفي تهذيب التهذيب 2/141، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن أبيه، وجابر، وسنان بن وبرة، وعنه ابنه خارجة وابن أخيه محمد بن خالد بن رافع. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان: "لا يعرف". وقال البخاري: "الحارث بن رافع بن مكيث الجهني ثم الربعي. يعد في المدنيين، سمع جابر بن عبد الله، روى عنه ابنه خارجة"، انظر: التاريخ الكبير للبخاري 2/269، وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/74: روى عن جابر، وعنه ابنه خارجة، سمعت أبي يقول ذلك. قال أبو محمد: "روى عنه ابن أخيه محمد بن خالد بن رافع بن مكيث".
3 سنان بن وبرة ويقال: ابن وبر الجهني حليف بني الحارث بن الخزرج وهو الذي تنازع مع جهجاه الغفاري على الماء وكادت تحصل فتنة بين المهاجرين والأنصار. انظر: سيرة ابن هشام 2/290، وأسد الغابة 2/459. ويقال: إنه هو الذي سمع عبد الله بن أُبيّ يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل والصحيح أن الذي سمعه هو زيد بن أرقم كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما. انظر: سيرة بن هشام 2/290، وأسد الغابة 2/459، والإصابة 2/48.
4 تفرد به جهضم (كذا في الأصل وفي المسند محمد بن جهضم، وقال ابن حجر: "نقلاً عن الطبراني تفرد به محمد بن جهضم".
5 مجمع البحرين في زوائد المعجمين 2/240، وتفرد ابن جهضم لا يضر لأنه محتج به ولا مخالف له.
6 6/142.
7 أسد الغابة 2/463 و459.
وأخرجه أبو عمر: في ترجمة سنان بن تيم1.
وقال ابن حجر في الإِصابة: "روى الطبراني من طريق خارجة بن الحارث بن رافع الجهني عن أبيه سمعت سنان بن وبرة الجهني يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وكان شعارنا يا منصور أمت. قال في الأوسط: لا يروى عن سنان إلاَّ بهذا الإِسناد، تفرد به محمد بن جهضم"2.
وأورده في الفتح مقتصراً على قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق"رواه الطبراني من حديث سنان بن وبرة3.
وأورده ابن هشام وغيره بدون إسناد4.
والحديث مداره على الحارث بن رافع بن مكيث الجهني، وقد وصفه ابن حجر بأنه (مقبول) والمقبول عنده هو: "من ليس له من الحديث إلاَّ القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإِشارة بلفظ (مقبول) حيث يتابع وإلاَّ فلين الحديث"5. وهنا قد جزم الطبراني بعدم وجود المتابعة، بقوله: "لا يروى عن سنان إلاَّ بهذا الإِسناد".
والحديث: حسنه الهيثمي كما مر قريباً6 ولعله اعتمد على توثيق ابن حبان للحارث. وهو متساهل في التوثيق، فإنه يوثق المجاهيل7.
__________
1 المصدر السابق 2/459 والاستيعاب مع الإِصابة 2/81.
2 الإِصابة 2/84.
3 الفتح 7/430.
4 سيرة ابن هشام 2/294 وجوامع السيرة لابن حزم ص205 والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر، ص200
5 التقريب 1/5.
6 انظر، ص110.
7 انظر لسان الميزان لابن حجر 1/14 و492، وفتح المغيث للسخاوي 1/294، وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 1/32 و34.
ولعل الهيثمي أيضاً يقول بقاعدة بعض العلماء وهو تحسين حديث المستور إذا كان من التابعين كما هو مذهب ابن كثير وابن رجب1. رحمهما الله2.
وعلى كل حال فالقول بما رآه الهيثمي من تحسين هذا الحديث أقرب إلى الصواب، لأن الحارث من التابعين وقد روى عن جماعة، وروى عنه ابنه وابن أخيه، وقد وثقه ابن حبان. وهي مسألة تاريخية وليست من العقائد حتى نتشدد في ذلك.
وأما قول ابن القطان3: "بأن الحارث لا يعرف، فابن القطان من المتشددين في ذلك، ولم يوافقه الذهبي على هذه القاعدة التي مشى عليها"4.
__________
1 هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب شهاب الدين صاحب كتاب (جامع العلوم والحكم) (ت 795) انظر ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، ص: 13.
2 انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني المجلد الأول، الجزء الربع، ص10.
3 هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الفاسي صاحب كتاب (الوهم والإيهام) (ت628) تذكرة الحفاظ 4/1407.
4 انظر: ميزان الاعتدال 1/556 و3/426 وتذكرة الحفاظ 4/1407 وانظر الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لعبد الحي اللكنوي، ص110.
,
أما كون المسلمين لم يلقوا في هذه الغزوة مقاومة شديدة على الرغم من تحشد بني المصطلق واستعدادهم الكامل للمعركة، فلعل هذا يفسر بأمرين:
الأول: علم المسلمين المسبق باحتشاد هذه القبيلة للهجوم على المدينة، واستعداد المسلمين الكامل في هذه الغزوة، وأخذهم الحذر التام.
الثاني: هجوم المسلمين المبكر على هذه القبيلة قبل أن تقوم هي بالهجوم.
ومن المعلوم أن العدو إذا بوغت في عقر داره على حين غفلة، فإِنه تتحطم معنوياته وتنهار قواه، ويسهل القضاء عليه، ويصاب بالذعر والاندحار، حتى ولو كان قد أعد عدته، وجمع الجموع، كما حصل لهذه القبيلة فإِنها قد تهيأت
عسكرياً وجمعت جموعها لمهاجمة المدينة المنورة، غير أن المسلمين كشفوا القضية قبل أن تقوم هذه القبيلة بالهجوم، فكان المسلمون هم المهاجمين، ولقنوا هذا العدو درساً كان عبرة له، وردعاً لأمثاله، ممن تسول لهم أنفسهم مهاجمة عاصمة الإِسلام (المدينة المنورة) .
وهذان الأمران: يفسران عدم لقاء المسلمين أية مقاومة تذكر في هذه الغزوة، إلاَّ ما يحصل عادة من مناوشات ومحاولات يائسة للدفاع عن النفس. وبه يفسر ما ذكرته كتب المغازي من وجود صدام وقتلى، لم يؤد إلى وجود خسائر في صفوف المسلمين، مما يؤيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد علم بتبييت هذا العدو الغزو له، فعاملهم بنقيض قصدهم وهجم عليهم قبل أن يهجموا عليه، وهذا يدل على ما كان عليه المسلمون - بقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم - من يقظة كاملة لكل تحركات الأعداء من الداخل والخارج على سواء.
,
بعد أن ساق ابن هشام حديث ابن إسحاق من طريق عائشة المصرح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى عن جويرية كتابتها وتزوجها1.
عقب قوله: قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش2 دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار، بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد؟ أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟
فقال الحارث: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، فوالله ما أطلع على ذلك إلاَّ الله"، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت وحسن إسلامها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبيها، فزوجه إياها وأصدقها أربع مئة درهم3.
وأكد السهيلي نسبة هذا القول إلى ابن هشام4.
قلت: هذا لا يقاوم حديث عائشة. لأنه لا إسناد له، وقد صدر (بيقال) الدالة على الضعف.
__________
1 انظر: الحديث، ص.
2 ذات الجيش: من المدينة على بريد من جهة مكة، وبينها وبين العقيق سبعة أميال، ومعجم ما استعجم للبكري 2/409-410. وعلى هذا تكون المسافة بين ذات الجيش والمدينة 20 كيلو متراً لأن البريد أربع فراسخ والفرسخ يساوي خمس كيلومترات.
3 سيرة ابن هشام 2/295 و 2/645-646، وزاد: ويقال: اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس، فأعتقها وتزوجها وأصدقها أربع مئة درهم.
4 الروض الأنف، 6/706-7/537.
وممن وقع في هذا الخطأ محمد الغزالي1.
فرد عليه الألباني بقوله: "هذا غير صحيح، وقد أشار لذلك ابن هشام في سيرته، فإنه ذكر هذه الرواية بدون إسناد، وصدرها بقوله: (ويقال) " ثم قال الألباني أيضاً: "والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قضى عنها كتابتها وتزوجها دون أن يخطبها من أبيها، فإنها كانت أسيرة، كما رواه ابن إسحاق بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريقة أخرجه أحمد وابن هشام، وفي حديثهما (إطلاق الأسرى) "2 انتهى قلت: وأخرجه من هذه الطريقة أبو داود أيضاً كما تقدم3.
وقال عقبة: "وهذا حجة في أن الولي هو يزوج نفسه".
وهذا يرد ما ذكره ابن هشام من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها من أبيها وتزوجها وأصدقها أربع مئة درهم، على أنه قد نسب ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر لابن إسحاق نحو ما ذكر ابن هشام، وليس فيه ذكر الزواج بعد قدوم الحارث إلى المدينة.
وهذا نصه: قال ابن إسحاق: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وكانت في سبايا بني المصطلق من خزاعة، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، وذكر الخبر، وفيه: "فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار لفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء فرغب في بعيرين منها فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فوالله ما أطلع على ذلك إلا الله"، فأسلم الحارث وأسلم معه ابنان وناس من قومه4.
__________
1 فقه السيرة للغزالي، ص 308 وانظر الحديث، ص 113.
2 فقه السيرة للغزالي، ص 308 وانظر الحديث، ص 113.
3 انظر، ص.
4 الاستيعاب 1/299، مع الإصابة وأسد الغابة 1/400، والإصابة 1/281، وهذه الرواية لم أجدها في سيرة ابن هشام.
ولفظ ابن حجر: "ذكر ابن إسحاق في المغازي أن الحارث بن أبي ضرار، ولد جويرة، جاء إلى المدينة ومعه فداء ابنته بعد أن أسرت وتزوجها رسول بي ضرار والد جويرية جاء إلى المدينة، ومعه فداء ابنته بعد أن أسرت وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم ساق القصة1.
فهذا يدل دلالة واضحة أن الحارث لم يكن موجوداً وقت العقد وأن قدومه إلى المدينة كان بعد زواج جويرية، وهذا هو ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد تقدم قول أبي داود عقب حديث عائشة: "وهذا حجة في أن الولي هو يزوج نفسه"2.
فهذا مما يؤكد لنا سقوط هذه القصة التي ذكرها ابن هشام بصيغة التمريض محذوفة السند.
والصحيح في هذا أن مجيء الحارث كان سبباً في إسلامه، ولا يبعد أنه طلب ابنته كما دل عليه حديث ابن إسحاق، ولكنه لم يمكن من ذلك3.
وقد ورد ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيها: اذهب إليها فخيرها، فإن أرادت أن تذهب معك فخذها، فهذا لا يستبعد لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تختار عليه أحداً، وأن ذلك يكون أدعى لتمكن الحارث من الإسلام، لما فيه من حسن المعاملة ومما دل على هذا ما رواه ابن سعد وغيره من مرسل أبي قلابة، أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي4 قال:
__________
1 الإصابة 1/281.
2 انظر: الحديث، ص 115. وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 10/445. باب بيع المكاتب.
3 هذا الحديث نسبه إلى ابن إسحاق كل من عبد البر وابن الأثير وابن حجر، وانظر ص.
4 عبد الله بن جعفر بن غيلان بالمعجمة. الرقي: بفتح الراء وتشديد القاف. أبو عبد الرحمن القرشي، مولاهم، ثقة لكنه تغير بآخره، فلم يفحش اختلاطه من العاشرة (ت 220) ، ع: التقريب 1/406.
حدثنا عبيد الله1 بن عمرو عن أيوب2 عن أبي قلابة3: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سبى جويرية بنت الحارث فجاء أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فأنا أكرم من ذلك فخل سبيلها، قال: "أرأيت إن خيرناها أليس قد أحسنا؟ ".
قال: بلى وأديت ما عليك، قال: فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا، فقالت: فإني قد اخترت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قد والله فضحتنا4.
وأخرجه خليفة: قال أخبرنا عبد الوهاب5 بن عبد المجيد، قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبى جويرية بنت الحارث فجاء أبوها فقال: "إن ابنتي لا تسبى" الحديث6.
وأورده ابن حجر في التهذيب من طريق ابن سعد في ترجمة جويرية، وقال: هذا مرسل صحيح الإسناد7.
وأورده في الإصابة دون أن ينسبه إلى ابن سعد وصحح إسناده أيضاً، ونصه: عن أبي قلابة قال: سبى النبي صلى الله عليه وسلم جويرية – يعني
__________
1 عبيد الله بن عمرو بن الوليد الرقي أبو وهب الأسدي، ثقة فقيه ربما وهم من الثامنة (ت 220) ، ع: المصدر السابق 1/537، وقد وقع بأنه من الثالثة وأنه عبيد الله بن عمر، وهو خطأ.
2 أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني بفتح المهملة بعدها معجمة، ثم مثناة ثم تحتنية وبعد الألف نون أبو بكر البصري. ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، (ت 131) ، ع: المصدر السابق 1/89.
3 هو عبد الله بن زيد بن عمر أو عامر الجرمي، أبو قلابة البصري، ثقة فاضل، كثير الإرسال قال العجلي: فيه نصب يسير، من الثالثة (ت 104) ، بالشام هارباً من القضاء، ع: المصدر السابق 1/17.
4 طبقات ابن سعد الكبرى 8/118.
5 عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة (ت 194) ، ع: التقريب 1/528.
6 تاريخ الخليفة بن خياط، ص 80.
7 تهذيب التهذيب، 12/407.
وتزوجها - فجاء أبوها فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فخل سبيلها، فقال: "أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت؟ " قال: بلى، فأتاها أبوها فذكر لها ذلك، فقالت: اخترت الله ورسوله. ثم قال: وسنده صحيح1.
قلت: الظاهر في هذا الباب هو ما أفاده حديث عائشة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى عن جويرية كتابتها وتزوجها وهو صريح في ذلك، مع أن ما نسب لابن إسحاق، وكذا مرسل أبي قلابة، ليسا نصاً في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى الحارث ابنته ثم تزوجها منه بعد ذلك وإنما فيه مجرد مجيء الحارث يطلب فداء ابنته، وأمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخييرها.
ولسنا بحاجة إلى تلمس التوفيق بين حديث ساقط لا إسناد له. وحديث عائشة الصحيح، ومن هنا يتحتم القول بما في حديث عائشة لثبوته ولا ينظر إلى ما عداه من الروايات الضعيفة.
وخلاصة القول أن هذه الآثار تدل بمجموعها على قدوم الحارث بعد الوقعة. وكان ذلك سبباً في إسلامه، وهو ما دل عليه الحديث الآتي عند أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن سابق2،ثنا عيسى3 بن دينار، ثنا أبي4 أنه سمع
__________
1 الإصابة، 4/265.
2 محمد بن سابق التميمي، أبو جعفر أو أبو سعيد البزاز، الكوفي، نزيل بغداد، صدوق، من كبارالعاشرة (ت213وقيل214) ، خ م د ت س. التقريب2/163.
3 عيسى بن دينار الخزاعي مولاهم، أبو علي الكوفي، المؤذن، ثقة من السابعة، بخ دت. المصدر السابق 2/98.
4 هو دينار الكوفي والد عيسى، مقبول من الثالثة/ عخ دت، المصدر السابق 1/237، وفي تهذيب الكمال2/199 ق، وتهذيب التهذيب3/217. روى عن مولاه عمرو ابن الحارث بن أبي ضرار، وعنه ابنه عيسى بن دينار، وذكره ابن حبان في الثقات.
وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/434. روى عن مولاه عمرو بن الحارث، والحارث بن أبي ضرار الخزاعي، وعنه ابنه عيسى.
ويلاحظ أن المزي وابن حجر لم يذكرا أن ديناراً روى عن الحارث مع أنه موجود في هذا الحديث وتنبه لذلك ابن أبي حاتم.
الحارث1 بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه2، وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته، فيرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسولاً لأبان3 كذا وكذا، ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبَّان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة4 من الله عز وجل ورسوله، فدعا سروات5 قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله، إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده، مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق6 فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
__________
1 قال ابن حجر: "الحارث بن ضرار ويقال بن أبي ضرار الخزاعي، فرق ابن عبد البر بينه وبين والد جويرية. وجزم ابن فتحون وغيره بأن والد جويرية غير صاحب القصة والحديث، ولم يصنعوا شيئاً. والصواب أنه شخص واحد". الإصابة 1/387. باب غلط من غلط في الصحابة.
وقال الساعاتي: "الحارث بن ضرار: جاء في الإصابة وفي كتب الرجال أن اسمه الحارث بن أبي ضرار، وذكره ابن كثير في تفسيره فقال: الحارث بن ضرار بن أبي ضرار ملك بني المصطلق ووالد جويرية أم المؤمنين".
ثم قال الساعاتي: "والظاهر أن اسم والده ضرار، ولكنه اشتهر باسم جده، كما قال سعد بن مالك بن أبي وقاص، فإنه اشتهر باسم جده، فقيل: سعد بن أبي وقاص، والله أعلم" اهـ. الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد 18/282.
2 كان سبب إسلامه ما رواه ابن إسحاق من قصة مجيئه لفداء ابنته وتغييب البعيرين قاله الساعاتي في ترتيب مسند أحمد 18/282. وقد تقدم الحديث المشار إليه ص 120.
3 إبان كذا بكسر الهمزة وتشديد الموحدة، أي وقت كذا، والمراد وقت حصول الثمرة.
4 سخطة: أي عدم الرضا علينا. غريب الحديث لابن الأثير 2/350
5 سروات قومه: أي أشرافهم. المصدر السابق 2/363
6 الفرق بالتحريك: الخوف والفزع. المصدر السابق 3/438.
يا رسول الله إن الحارث منعني من الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه فلما غشيهم1، قال لهم: إلى من بعثتم، قالوا إليك، قال، ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة2 ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل، ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} إلى قوله تعالى: {فَضْلاً مِنَ الله وَنِعْمَة والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ". [سورة الحجرات، الآيات 6-8] 3.
ورواه من هذه الطريق ابن الأثير في ترجمة الحارث وقال: أخرجه الثلاثة4، إلا أن أبا عمر قال: الحارث ابن ضرار، وقيل: ابن أبي ضرار، وقال: أخشى أن يكونا اثنين والله أعلم5.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني، إلا أن الطبراني قال: الحارث بن سرار6، وبدل (ضرار) ثم قال الهيثمي: "ورجال أحمد ثقات"7.
__________
1 غشيهم: اختلط بهم.
2 ما رأيته بتة: أي أصلا.
3 مسند أحمد، 4/279.
4 المراد بالثلاثة عم: ابن منده وأبو نعيم، وأبو عمر ابن عبد البر كما بين ذلك ابن الأثير في مقدمة كتابه 1/11 من أسد الغابة.
5 أسد الغابة 1/399 والاستيعاب لابن عبد البر 1/299-300 مع الإصابة.
6 أورده ابن حجر في الإصابة1/386.في القسم الرابع من الحرف الحاء، ((فيمن ذكر في الصحابة ولا صحبة له، ولا إدراك وبيان غلط من غلط فيه)) فقال الحارث ابن سرار الخزاعي كذا وقع عند الطبراني، والصواب: "الحارث بن أبي ضرار".
7 مجمع الزوائد، 7/108.
وقال ابن كثير: "ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية1 نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وقد روى ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ملك بني المصطلق وهو الحارث بن أبي ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم ساق الحديث بإسناد أحمد".
ثم قال عقبه: "ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به، غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب الحارث بن ضرار"2.
وأورده ابن حجر في الإصابة مقتصراً على ما يأتي: وروى أحمد والطبراني ومطين3 وابن سكن4
وابن مروديه5 من طريق عيسى بن دينار المؤذن عن أبيه أنه سمع الحارث ابن أبي ضرار يقول قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه، فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة الوليد بن عقبة إذ جاء إليه مصدقاً ونزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . [سورة الحجرات، الآية: 6] 6.
وقال السيوطي: "أخرج أحمد وابن حاتم والطبراني
__________
1 هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} ، [سورة الحجرات، من الآية:6] .
2 تفسير ابن كثير 4/208-209.
3 مطين: بضم الميم وفتح الطاء المهملة بعدها تحتية مشددة مفتوحة: هو الحافظ الكبير أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي الكوفي، سمع أحمد بن يونس ويحيى الحماني، وعنه أبو القاسم الطبراني وأبو بكر الإسماعيلي، كان من أوعية العلم. ولد 202 وتوفي 297. صنف المسند وغير ذلك وله تاريخ صغير. تذكرة الحفاظ للذهبي 2/662.
4 ابن السكن: هو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي نزيل مصر. سمع أبا القاسم البغوي ومحمد بن يوسف الفربري، وعنه ابن منده وعبد الغني بن سعيد ولد 294 وتوفي 353. المصدر السابق 3/937.
5 هو الحافظ الثبت العلامة أبو بكر أحمد بن موسى بن مروديه الأصبهاني، صاحب التفسير والتاريخ وغير ذلك، سمع أحمد بن عيسى الخفاف وأحمد بن محمد بن عاصم الكراني، وعنه أبو القاسم عبد الرحمن بن منده وأخوه عبد الوهاب. ولد 323، وتوفي 410، المصدر السابق 3/150.
6 الإصابة 1/281.
وابن منده1 وابن مردويه بسند عن الحارث بن ضرار2 الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة الحديث"3. وفي لباب النقول قال: "وحديث أحمد رجال إسناده ثقات"4.
الحكم على الحديث:
قال الهيثمي: "بأن رجال أحمد ثقات".
ووصفه السيوطي: "بأنه بسند جيد، وبأن رجال إسناد أحمد ثقات".
ولكن الحديث بجميع طرقه يدور على دينار الكوفي ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان وهو متساهل في التوثيق ولذا فإن ابن حجر لم يعتبر توثيقه لدينار المذكور، ووصفه بأنه (مقبول) .
(والمقبول) عنده هو من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ (مقبول) حيث يتابع، وإلا فلين الحديث5. ولعل الهيثمي اعتمد على توثيق ابن حبان، وتابعه السيوطي على ذلك.
والظاهر أن الحديث حسن لغيره للشواهده المتقدمة6 عن ابن إسحاق وكذا مرسل أبي قلابة عند ابن سعد وغيره في قدوم الحارث إلى المدينة لفداء ابنته وإسلامه. ويشهد له أيضاً ما يأتي من الأحاديث الواردة في بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق لجبي الزكاة وقدوم وفد بني المصطلق بعده7.
__________
1 هو الحافظ الإمام الرحال أبو عبد الله محمد بن يحي بن منده بن إبراهيم بن الوليد الأصبهاني، عن إسماعيل بن موسى الفزاري السدي وأبي كريب محمد بن العلاء وعنه أبو القاسم الطبرني وأبو الشيخ توفي في رجب سنة (301) تذكرة الحفاظ للذهبي 2/741.
2 صوابه أبي ضرار كما تقدم، ص 124.
3 الدر المنثور 6/87.
4 لباب النقول في أسباب النزول، ص 201-202.
5 انظر: تقريب التهذيب 1/5.
6 انظر: ص 120-202.
7 انظر: ص130.
وقد حسن المباركفوري حديثاً فيه دينار الكوفي وهو ما رواه أبو داود والترمذي في كتاب الصوم باب الشهر يكون تسعاً وعشرين من طريق عيسى بن دينار عن أبيه عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار عن ابن مسعود1.
قال المباركفوري: سكت عليه أبو داود والمنذري وابن حجر، ثم قال: "والظاهر أن حديث ابن مسعود حسن".انتهى2.
وقد تتبعت رجال الحديث فوجدتهم ثقات ما عدا ديناراً الكوفي. وبهذا التقرير يكون الحديث على أقل تقدير حسناً لغير.
وهو نص في أن الحارث بن أبي ضرار لم يعلم بقدوم الوليد بن عقبة إليه، وأن الجيش الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد رجوع الوليد، لم يصل إلى ديار بني المصطلق، وإنما وجده الحارث خارجاً من المدينة فلما علم وجهتهم حلف أن الوليد لم يصل إليه ثم رجع الجيش والحارث جميعاً إلى المدينة وهذا يرد على ما رواه ابن جرير الطبري: حدثنا بشر3 قال حدثنا يزيد4 قال ثنا سعيد5 عن قتادة6 في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، الآية قال: "هو الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقاً7 فلما أبصروه وأقبلوا نحوه
__________
1 انظر سنن أبي داود 1/542 والترمذي 2/98.
2 تحفة الأحوذي، شرح الترمذي 3/371.
3 بشر بن معاذ العقدي أبو سهل البصري الضرير، صدوق من العاشرة. (ت بضع وأربعين ومائتين) ، ت، س، ق. التقريب 1/101.
4 يزيد بن زريع: بتقديم الزاي مصغراً، البصري أبو معاوية، ثقة ثبت، من الثامنة (ت 182) . ع: المصدر السابق 2/364.
5 سعيد بن أبي عروبة: بفتح مهملة وضم راء خفيفة وبموحدة، مهران: اليشكري بفتح تحتية وشين معجمة وضم كاف. مولاهم أبو النضر البصري، ثقة حافظ له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة من السادسة، (ت 156 وقيل 157) ، ع: المصدر السابق 1/302.
6 قتادة بن دعامة: بكسر المهملة وخفة عين مهملة ابن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة يقال ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، (ت بضع عشرة ومائة) ، ع: المصدر السابق 2/123.
7 مصدقاً أي جابياً للزكاة.
هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى آتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاؤوا أخبروا خالد أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا آذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر فأنزل الله عز وجل، ما تسمعون1، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التبين من الله، والعجلة من الشيطان"2.
والحديث مرسل.
تنبيه:
ذكر الصابوني في روائع البيان نقلاً عن الفخر الرازي قوله: "ما ذكره المفسرون من أن هذه الآيات نزلت في (الوليد بن عقبة) حين بعث إلى بني المصطلق الخ إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبيت من خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهو ضعيف، لأن الوليد لم يتقصد الإساءة إليهم، وحديث أحمد يدل على أن الوليد خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث - وقد خرجت في انتظاره - فظنها خرجت لحربه فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبره ظنًا منه أنهم خرجوا لقتاله، إلى أن قال: ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ (الفسق) على الوليد شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقًا3، وختم ابن حجر ترجمته بقوله: والرجل قد ثبتت صحبته وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى والصواب السكوت والله أعلم4.
__________
1 يريد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .
2 تفسير الطبري، 26/124.
3 روائع البيان تفسير آيات الأحكام 2/476.
4 تهذيب التهذيب11/142-144.
,
1- مرَّ بنا في هذا حديث أحمد في قدوم الحارث بن أبي ضرار إلى المدينة متبرئًا مما نسبه إليه الوليد بن عقبة من منع الزكاة وإرادتهم قتله1.
2- ما رواه ابن إسحاق: حدثني يزيد2 بن رومان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم الوليد3 بن عقبة أبي معيط، فلمَّا سمعوا به، ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يغزوهم، فبينا هم على ذلك، قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعًا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ، [سورة الحجرات، من الآيات: 6-8] ، إلى آخر الآية4.
والحديث مرسل.
وأورده الطبري من هذه الطريق في تفسيره5.
__________
1 تقدم الحديث، ص 123.
2 يزيد بن رومان المدني، مولى آل الزبير، ثقة، من الخامسة، (ت130) ، وروايته عن أبي هريرة مرسلة. ع، التقريب 2/364.
3 الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية القرشي، الأموي، أخو عثمان بن عفان لأمه، له صحبة، وعاش إلى خلافة معاوية، د. المصدر السابق 2/334.
4 سيرة ابن هشام 2/296.
5 26/124-125.
كما أورده أيضاً من طرق أخرى غير طريق ابن إسحاق، منها:
1- من حديث أم سلمة، وهذا نصه: حدثنا أبو كريب1 قال: ثنا جعفر بن عون2 عن موسى3 بن عبيدة، عن ثابت4 مولى أم سلمة، عن أم سلمة5 قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق، بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظّمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال فبلغ القوم رجوعه، قال: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلاً مصدقاً، فسررنا بذلك، وقرّت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون غضباً من الله ورسوله، فلم يزالوا يكلّمونه حتى جاء بلال، وأذّن العصر، قال: ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] 6.
2- من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهذا نصه:
__________
1 هو محمد بن العلاء بن كريب مصغراً، الهمداني، الكوفي، ثقة حافظ، مشهور بكنيته من العاشرة، (ت147 هـ) ، ع: التقريب 2/197.
2 جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث، بمهملتين، ثم تحتانية بعدها مثلثة. مصغراً، المخزومي، صدوق، من التاسعة، (ت206) وقيل: 207، ع: المصدر السابق 1/131.
3 موسى بن عبيدة. مصغراً، ابن نشيط: بفتح النون وكسر المعجمة، بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة، الربذي: بفتح الراء والموحّدة، ثم معجمة، أبو عبد العزيز، ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار، وكان عابداً، من صغار السادسة، (ت 153 هـ) تق: المصدر السابق 2/286.
4 ثابت مولى أم سلمة: روى عن أم سلمة، وعنه موعس بن عبيدة الربذي. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/461.
5 أم سلمة، هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن المغيرة بن المخزوم المخزومية أم المؤمنين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث من الهجرة، وعاشت بعد ذلك ستين سنة. (ت 62 هـ) على الأصح/ ع: التقريب 2/61.
6 تفسير الطبري 26/123.
حدثني محمد1 بن سعد، قال: ثني أبي2، قال: ثني عمي3 قال: ثني أبي4، عن أبيه5، عن ابن عباس: في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] .
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم أحد بني عمرو بن أمية، ثم أحد بني معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ منهم الصدقات، وأنه أتاهم الخبر فرحوا، وخرجوا ليتلقّوا رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. الحديث6 ...
3- من مرسل ابن أبي ليلى، هذا لفظه:
حدثنا محمد7 بن بشار، قال ثنا عبد الرحمن8، قال: ثنا سفيان9 عن
__________
1 هو ابن عطية العوفي. ميزان الاعتدال 3/560.
2 هو سعد بن محمد بن الحسن بن عطية. لسان الميزان لابن حجر 3/18.
3 هو الحسين بن الحسن بن عطية. ميزان الاعتدال 1/532.
4 هو الحسن بن عطية. المصدر السابق 1/503. والتقريب 1/168.
5 هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي، المصدريين السابقين 3/79و2/24. وانظر الحديث في السنن الكبرى للبيهقي 9/54، ولم أترجم لهؤلاء لأن كل واحد منهم لا يخلو عن ضعف وإنما عرفت بهم لأنهم وردوا في السند مثل الرموز فذكرت ذلك توضيحاً لهم.
6 تفسير الطبري 26/123-124.
7 محمد بن بشار بن عثمان العبدي، البصري، أبو بكر، بندار: بضم الموحدة وسكون النون. ثقة، من العاشرة، (252هـ ع: التقريب 2/147.
8 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، مولاهم، أبو سعيد البصري، ثقة، ثبت حافظ، عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. من التاسعة، (ت 198هـ، ع: المصدر السابق 1/499.
9 سفيان هنا: هو ابن عينية لأن هلالا الوزان لم يذكر في تلاميذه غير ابن عينية (انظر: تهذيب التهذيب 11/77، والتاريخ الكبير للبخاري 8/207، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/75) .
هلال الوزان1 عن ابن أبي ليلى2، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] . قال: نزلت في الوليد ابن عقبة بن أبي معيط3.
4- من مرسل قتادة، ولفظه:
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، في قوله، تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] . قال: هو ابن أبي معيط الوليد ابن عقبة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدّقاً إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. الحديث4. وقد تقدّم5.
الحكم على هذه الأحاديث:
هذه الأحاديث الواردة في إرسال الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق مصدقاً، ونزول الآية المذكورة من سورة الحجرات، لا يخلو كل حديث منها عن ضعف وذلك لما يأتي:
أ- حديث أم سلمة فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وفيه ثابت مولى أم سلمة وهو مجهول، لأنني لم أجد من ترجم له غير
__________
1 هلال بن أبي حميد أو ابن مقلاص: بكسر الميم وسكون القاف. أو ابن عبد الله الجهني، مولاهم، أبو الجهم، ويقال غير ذلك في اسم أبيه، وفي كنيته، الصيرفي الوزان الكوفي، ثقة، من السادسة، / خ، م،د، ت،س. التقريب 2/323.
2 هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، المدني، ثم الكوفي، ثقة، من الثانية. اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم، سنة 86هـ/ع. المصدر السابق 1/496. وكانت وقعة الجماجم بين ابن الأشعث ومعه أهل العراق، وبين الحجاج ومعه أهل الشام، وكانت في عهد عبد الملك بن مروان، وكانت سنة 82هـ، ودامت أكثر من سنة. البداية والنهاية 9/40.
3 تفسير الطبري 26/123-124.
4 وذكر ابن سعد أنه بعد أن قدم وفد بني المصطلق ونزلت الآية بتكذيب الوليد، وتصديقهم، يعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، معهم عباد بن بشر، يأخذ صدقاتهم، ويعلّمهم شرائع الإسلام، فأقام عندهم عشراً، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، راضياً. انظر طبقات ابن سعد 2/161-162.
5 تقدم الحديث مع تراجم رجاله، ص 128.
ابن أبي حاتم، ولم يزد في ترجمته على قوله: روى عن أم سلمة وروى عنه موسى بن عبيدة الربذي.
ب- وحديث ابن عباس مسلسل بالضعفاء.
ج- والأحاديث الباقية مراسيل، وعلى هذا فهذه الأحاديث لا يسلم واحد منها عن قدح، غير أن اختلاف مخرج المرسل يدل على أن للحديث أصلاً، فإذا انضم بعضها إلى بعض تقّوت وارتقت إلى درجة الحسن لغيره.
وقد أشار إلى هذه القاعدة ابن الصلاح في مقدمته بقوله:
ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر1.
وهنا قد وجد هذا الشرط الذي أوضحه ابن الصلاح، إذ أن ابن إسحاق أورده من مرسل يزيد بن رومان. وأورده ابن جرير الطبري من مرسل ابن أبي ليلى، وقتادة ومجاهد2.
وقال ابن كثير: "ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضّحاك3 ومقاتل4 بن حيان وغيرهم، في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد ابن عقبة"5.
فهذا الحديث قد ورد من ثلاثة طرق مرفوعة، وهي حديث أحمد في قدوم الحارث ابن أبي ضرار المدينة، وإسلامه، وحديث أم سلمة وابن عباس.
__________
1 مقدّمة ابن صلاح، ص 73. مع (التقييد والإيضاح) .
2 تفسير الطبري 26/123-125.
3 الضّحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم، أبو محمد الخراساني، صدوق كثير الإرسال، من الخامسة، (ت بعد المائة) / عم التقريب 1/373.
4 مقاتل بن حيان النبطي، بفتح النون الموحدة، أبو سطام، الخزاز منقوطتين، صدوق فاضل، من السادسة / م عم التقريب 2/272.
5 تفسير ابن كثير 4/208-210.
كما ورد من خمس طرق مرسلة. ولذلك قال الشوكاني: بعد إيراده حديث أحمد في قدوم الحارث المدينة، "قال ابن كثير: هذا من أحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية". ثم قال الشوكاني: "وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أن سبب نزول هذه الآية. الوليد بن عقبة، وأنه المراد بها، وإن اختلفت القصص"1 قلت: ويؤيد ما تقدّم، ما ذكر ابن عبد البر من اتفاق العلماء بالتأويل على أن هذه الآية نزلت في الوليد2.
وبهذا نكون قد انتهينا إلى أن الحديث لا يقل عن درجة الحسن لغيره.
__________
1 فتح القدير 5/60-62.
2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 3/632. (مع الإصابة) وأسد الغابة 5/451 لابن الأثير. وتهذيب التهذيب 11/143. والإصابة لابن حجر 3/637، وأضواء البيان لمحمد الأمين الشنقطي 7/626. وروائع البيان، تفسير آيات الأحكام للصابوني 2/475-476.
,
اتفق الذين ترجموا له أنه أسلم عام فتح مكة، وأنه خرج زمن هدنة الحديبية مع أخيه1 ليردّا أختهما أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى المدينة، وكان من الشروط التي وافق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من جاء منهم إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم يردّه عليهم، حتى نزلت الآية2 التي أخرجت النساء من هذا الشرط3.
__________
1 هو عمارة بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، قال ابن عبد البركان عمارة وأخوه الوليد وخالد من مسلمة الفتح. انظر الاستيعاب 3/21. وأسد الغابة 4/142. والإصابة 2/516.
2 هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} ، [سورة الممتحنة، من الآية: 10] .
3 الاستيعاب 3/631، وأسد الغابة 5/451، وتهذيب التهذيب 11/142، 144/ والإصابة 3/637.
وانظر ترجمة أم كلثوم، المصادر السابقة 4/488، و7/386، 4/491، و12/476، وسيرة ابن هشام 2/352، وطبقات ابن سعد 8/230.
قلت: هذا يرد قول من قال: بأن الوليد بن عقبة كان زمن فتح مكة صبياً مخلقاً1 وأنه جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ليمسح رأسه ويدعو له كما فعل بغيره من الصبيان، فامتنع بسبب الخلوق الذي خلقته أمه به، وعمدتهم في ذلك هو: ما رواه أبو داود: حدثنا أيوب2 بن محمد الرقي، ثنا عمر3 بن أيوب بن جعفر4 بن برقان، عن ثابت5 بن الحجاج، عن عبد الله6 الهمداني، عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم البركة، ويمسح رؤوسهم، قال: فجيء بي إليه، وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق7.
ورواه أحمد من طريق فياض8 بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان به9.
__________
1 الخلوق: طيب معروف مركب يتخذ من الزعفان وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة. النهاية لابن الأثير 2/71.
2 أيوب بن محمد بن زياد الوزان، أبو محمد الرقي بفتح الراء وتشديد القاف، نسبة إلى رقة بلد بالشام. مولى ابن عباس، ثقة من العاشرة، (ت 249) دسق. التقريب1/19.
3 عمر بن أيوب العبدي الموصلي، صدوق له أوهام، من التاسعة، (ت 188) م، د،س، ق. المصدر السابق 2/52.
4 جعفر بن برقان بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف. الكلابي: بكسر الكاف، بعدها لام ممدودة خفيفة آخرها موحدة مكسورة، أبو عبد الله الرقي، صدوق يهم، في حديث الزهري من السابعة (ت150) وقيل بعدها/بخ م عم المصدر السابق1/129.
5 ثابت بن الحجاج، الكلابي، الرقي، ثقة، من الثّالثة / د. المصدر السابق 1/115.
6 عبد الله الهمداني بسكون الميم والدال المهملة، أبو موسى، مجهول، وخبره منكر، قاله ابن عبد البر من الرابعة/د. المصدر السابق1/463.وفي لسان الميزان 7/112، أبو موسى الهمداني، عن الوليد بن عقبة بن معيط، وعنه ثابت بن الحجاج، قال البخاري في التاريخ الأوسط: اسمه عبد الله لا يعرف ولا يتابع عليه.
7 سنن أبي داود 2/399. (كتاب الترجّل) باب في الخلوق للرجل.
8 فياض بن محمد بن سنان الرقي، أبو محمد محله الصدق، قاله الحسيني، وقال في الإكمال: ليس به بأس، وذكره ابن أبي حاتم وابن خلقون في الثقات. تعجيل المنفعة لابن حجر، ص 221.
9 مسند أحمد 4/32.
وأخرجه البيهقي من طريق أحمد ومن طريق يونس بن بكير، عن جعفر بن برقان به1.
فالحديث بجميع طرقه يدور على عبد الله الهمداني وقد قال فيه ابن عبد البر: "هذا الحديث رواه جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج عن أبي موسى الهمداني، ويقال الهمداني، ذكره البخاري على الشك، عن الوليد بن عقبة، وقالوا: أبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب، لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صبياً يوم الفتح، ويدل أيضاً على فساد ما رواه أبو موسى المجهول، أن الزبير2 وغيره من أهل مكة بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، وكانت هجرتها في الهدنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وقد ذكرنا الخبر في ذلك باب أم كلثوم، ومن كان غلاماً مخلقاً يوم الفتح، ليس يجيء منه مثل هذا، وذلك واضح"3.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله4 الحافظ، ثنا أبو العباس5، ثنا أحمد بن عبد الجبّار6، ثنا يونس7 عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري8 وعبد الله9 بن أبي بكر قالا: هاجرت أم كلثوم بنت
__________
1 السنن الكبرى 9/55.
2 الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، أبو عبد الله الزبيري، عالم، نسابه، أخباري، من أهل المدينة، ولي القضاء مكة، وقدم بغداد، وحدث بها، ولد سنة (172هـ) ، وتوفي بمكة سنة (256هـ) من تصانيفه الكثيرة، أنساب قريش وأخبارها. وأخبار العرب وأيامها ... الخ انظر معجم المؤلفين لكحالة 4/180.
3 الاستيعاب لابن عبد البر 3/631 و 4/488. (مع الإصابة) وسيرة ابن هشام 2/325. والإصابة 4/491.
4 هو الحاكم صاحب المستدرك.
5 هو الأصم محمد بن يعقوب.
6 هو العطاردي.
7 هو ابن بكير بن واصل الشيباني.
8 هو ابن شهاب محمد بن مسلم.
9 هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري.
عقبة بن أبي معيط إلى رسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فجاء أخواها الوليد وفلان ابنا عقبة إلى رسول صلى الله عليه وسلم يطلبانها، فأبى أن يردّها عليهما1.
قلت: الحديث مرسل، لأن الزهري وعبد الله بن أبي بكر، لم يحضرا القصة ولكن يشهد له الحديث عند البخاري غير أنه قال: وجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم.
وهذا نصه: حدثنا يحي2 بن بكير حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان3 والمسور4 بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لما كاتب سهيل بن عمرو ويومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه. فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا5 منه وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرّد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحمد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً.
وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول صلى الله عليه وسلم يومئذ - وهي عاتق6 - فجاء أهلها
__________
1 السنن الكبرى للبيهقي 9/229. وانظر طبقات بن سعد 8/231.
2 هو عبد الله المخزومي مولاهم، ثقة في الليث. / خ، م،ق. من كبار العاشرة، (231) التقريب 2/351.
3 هو ابن الحكم بن أبي العاص الأموي، لا يثبت له صحبة، من الثانية، /خ عم. مصدر السابق 2/238.
4 ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، له، وله ولأبيه صحبة. (ت: 64) ، ع. المصدر السابق 2/249.
5 امتعضوا منه: أي شق عليهم ذلك وعظم، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/342.
6 العاتق: هي الشابة أول ما تدرك، وقيل: هي التي لم تبن من والديها ولم تزوج، وقد أدركت وشبّت، وتجمّع العتق والعواتق. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/178-179.
يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} ،1- إلى قوله - {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 2.
قال ابن حجر: "هذا الحديث من مسند من لم يسم من الصحابة، ولم يصب من أخرجه من أطراف في مسند المسور أو مروان، لأن مروان لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صحبة، وأما المسور فصح سماعه منه صلى الله عليه وسلم، لكنه، إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح وكانت هذه القصة قبل ذلك بسنتين"3.
قلت: لا يضر هنا الإبهام ولا الإرسال لأننا عرفنا أن المبهم أو المحذوف صحابي قطعاً. والصحابة كلهم عدول.
والخلاصة في هذا أن الراجح في إسلام الوليد أنه يوم فتح مكة وأنه كان قد ناهز الاحتلام كما قال ابن عبد البر، وأما الحديث الذي فيه أن الوليد كان يوم فتح مكة طفلاً مخلقاً وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع من المسح على رأسه لوجود الخلوق فهو حديث ضعيف لا يعول عليه. لأن الذي يخرج في زمن هدنة الحديبية يرد أخته وكان ذلك في السنة السادسة، فلا يمكن أن يكون في فتح مكة طفلاً مخلقاً.
وقال ابن حجر: ومما يؤيد أنه كان في الفتح رجلاً أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن أبي وجزة بن أبي عمرو بن أمية، وكان أسر يوم بدر فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أصحاب المغازي4. مع أنه يمكن أن يكون الخلوق
__________
1 من سورة الممتحنة آية: 10، وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [سورة الممتحنة، الآية: 10] .
2 صحيح البخاري 3/165، كتاب الشروط (باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة) . وانظر تفسير ابن كثير 4/350.
3 فتح الباري، 5/313.
4 الإصابة 3/638.
في يده كما ورد ذلك في أخيه عمارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء عمارة يريد مبايعته عام الفتح فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: فقال بعض القوم: إنما يمنعه هذا الخلوق الذي في يدك، قال: فذهب فغسله، ثم جاء فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
__________
1 انظر أسد الغابة 4/142، والإصابة 2/516.
,
لقد صار بنو المصطلق بعد الغزوة دعاة إلى الله عز وجل، منضمّين تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا محل عناية واحترام بين المؤمنين، إذ كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رفعة لهم، وإعلاء لشأنهم، ومنزلتهم، فكان لهذه المصاهرة، أثرها الفعّال في نفوس المسلمين، حتى أطلق المسلمون ما بأيديهم من أسرى بني المصطلق، وكبر عليهم استرقاقهم، بعد أن صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام لأسرى بني المصطلق أثر جميل في قلوب بني المصطلق، فسارعوا إلى الإسلام واعتنقوه عن الإيمان راسخ وقناعة كاملة، ورأوا أن مثل هذه الأخلاق الكريمة لا يمكن أن تصدر إلا من نبي، لأن القوم يعرفون تاريخ الحروب القبلية وما يحصل فيها من فتك ونهب، وسلب، وكان الشعار المعروف لديهم "من عز بز"1.
وأنه لا مكان في عرف القوى الجاهلية للمغلوب المنهزم، ولا للضعيف
__________
1 أي من غلب سلب، وهو مثل، وأول من قاله رجل من طيء يقال له: جابر بن رألان بفتح الراء وسكون الهمزة أحد بني ثعل بضم الثاء وفتح العين المهملة، وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له، حتى إذا كانوا بظهر الحيرة، وكان للمنذر بن ماء السماء يوم يركب فيه، فلا يلقى أحداً إلا قتله، فلقي في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه فأخذتهم الخيل بالسوية فأتى بهم المنذر، فقال: اقترعوا فأيكم قرع خليت سبيله، وقتلت الباقين، فاقترعوا، فقرعم جابر بن رألان فخلى سبيله وقتل صاحبيه، فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال: (من عز بز) فأرسلها مثلاً. مجمع الأمثال للميداني 2/307، رقم 4044.
المنكوب، فحين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهزمهم، كانت معاملته لهم بعد الهزيمة على خلاف ما كان يتوقّعه هؤلاء القوم، فقد عاملهم بالرفق واللين، وتزوج ابنة شريفهم لجبر خاطرها وردّ اعتبارها إليها وإلى قومها، وانطلق المسلمون يفكون أسراهم حين انتشر خبر زواجه صلى الله عليه وسلم من جويرية، فلم يعد يحسن استرقاق أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم كان لهذا الصنيع الإسلامي من جميل الأثر وعظيم الوقع في نفوس بني المصطلق جميعاً فلم يكن موقف هؤلاء بعد هذه الغزوة إلا الانضمام فوراً لكتائب الإسلام المجاهدة وبذل المج والأرواح لنشر هذه المبادئ الإسلامية السامية، التي شملتهم بعطفها وحنانها وذاقوا حلاوة المعاملة الإنسانية الرفيعة تحت توجيهات نبيهم صلى الله عليه وسلم ومما يدل على حسن إسلام هذه القبيلة، وما كان لها من دور فعّال في سبيل الدعوة إلى الإسلام وإعلاء كلمة الله ما رواه أحمد والبيهقي أن الحارث بن أبي ضرار قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة معلناً إسلامه فقال: يا رسول الله أرجع إلى قومي، فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي منهم جمعت زكاته، إذا كان وقت كذا وكذا، أرسل إلي رسولك كان وقت كذا وكذا أرسل إلي رسولك ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما بلغ الوقت الذي أراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من يأتيه بالزكاة، لم يأت أحد، فشق ذلك عليه وظن أنه قد حدث سخطة، من الله عز وجل ورسوله، فدعا بسروات قومه، وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، كانت فلننطلق لإلى المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم الوليد بن عقبة، فلما وصل إلى بعض الطريق رجع، وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحارث منعني الزكاة وهم بقتلي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش بالذهاب إلى الحارث ولما وصل الحارث المدينة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إليك الوليد فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله"، فحلف الحارث بالله ما رأيته، ولا أتاني، فأنزل الله تصديقه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين فَضْلاً مِنَ اللَّهِ
وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [الحجرات، الآيات:6-8] 1.
فهذه الرواية توضح حسن إسلام بني المصطلق وحرصهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بأدائهم الزكاة التي يشق على العرب دفعها، مما يدل على حسن إسلامهم أيضاَ تكريم الله بإنزاله قرآناً في تصديقهم، ويدل الحديث كذلك على ما قامت به هذه القبيلة من خدمات جليلة للإسلام، فلقد كان بنو المصطلق عام الفتح ضمن الكتائب الإسلامية الزاحفة نحو مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليه بشر2 بن سفيان وبديل3 بن ورقاء يستنفرانهم، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قديداً من بلاد بني المصطلق عبأ الجيش وعقد الألوية، واجتمع إليه من كان تخلّف من القبائل، ودخلت خزاعة في خمسمائة مقاتل من ضمنهم بنو المصطلق وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية بقيادة ثلاثة من أبطالهم وهم: عمرو4 بن سالم، وبشر بن سفيان، وأبو شريح5 الكعبي خويلد بن عمرو، وهكذا ظل بنو المصطلق دعاة إلى الله عز وجل ومجاهدين لإعزاز الإسلام ونصرته. فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
__________
1 مسند الإمام أحمد 4/279؛ وسنن البيهقي الكبرى 9/54-55؛ وتقدّم الحديث مع الكلام على الإسناد، ص 123.
2 بشر بن سفيان بن عمرو بن عويمر بن صرمة بن عبد الله بن قمير مصغراً ابن حبُشِيَّة، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة ووكسر الشين المعجمة، ابن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة وهو لحى الخزاعي الكعبي، كان شريفاً في قومه، كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعوه إلى الإسلام، وله ذكر في قصة الحديبية، وشهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/216، أسد الغابة.
3 بيدل بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة بعدها تحتانية ساكنة، ابن ورقاء بن عمرو بن ربيع بن جزي بن عامر بن مازن الخزاعي، المصدر السابق 1/203.
4 عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان من أمر خزاعة، وبني بكر، ومساعدة قريش لبني بكر ضد خزاعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم. المصدر السابق4/224.
5 هو خويلد بن عمرو أو عكسه، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وقيل هانء، وقيل كعب صحابي، نزل المدينة، (ت 68) / ع. التقريب 434.
,
,
,
...
المبحث الأول: ظهور النفاق
قبل الحديث عن ظهور النفاق وأثره في المجتمع الإسلامي يحسن بي أن أعطي نبذة عن تعريف النفاق لغة وشرعاً، فأقول:
أ- النفاق لغة: ضرب من التمويه والستر والتغطية، وحقيقته: إظهار شيء وإبطان ضده. مشتق من النافقاء أحد جحرة1، اليربوع2، يكتمها ويظهر غيرها، فإذا طلب من واحد هرب إلى الآخر وخرج منه.
ب- وشرعا: هو إظهار الإيمان وستر الكفر.
والنفاق وما تصرف منه لم يكن معروفا عند العربية في الجاهلية بهذا
__________
1 جحرة: كعنبة: جمع جحر. المصباح المنير 1/ 100.
2 اليربوع: ويسمى الدرص وذا الرميح - تصغير رمح حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جدا، وله ذنب كذنب الجرذ، يرفعه صعدا، في طرفه شبه النوارة، لونه كلون الغزال.
يسكن باطن الأرض، وتسمى حفرته النافقاء والقاصعاء والراهطاء، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى خرج من الأخرى، وظاهر بيته تراب وباطنه حفر، وكذلك المنافق: ظاهره إيمان وباطنه كفر.
حياة الحيوان: للدميري 2/ 435.
المعنى وإن كان أصله في اللغة معروفا، يقال نافق ينافق منافقة ونفاقا. وإنما هو اسم إسلامي أطلق على من أظهر الإيمان وستر الكفر، مأخوذ من نافقاء اليربوع، لأن المنافق لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان، وورى بشيء عن شيء، ودخل في باب الخديعة وأوهم الغير خلاف ما هو عليه أشبه في ذلك فعل اليربوع.
والمعنيان اللغوي والشرعي متلازمان، إذ إن كلا من اليربوع، والمنافق اتخذ التمويه والتلبيس ذريعة إلى ستر الحقيقة وإظهار خلاف الواقع، فوسيلة كل منهما المكر والكيد والخداع، والتضليل وقلب الحقائق، فإذا طلب من جهة فر إلى جهة أخرى ونجا بحيلته ودهائه1.
ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، واستقبله المسلمون بحرارة الإسلام وعاطفة الإيمان الجياشة، ورأى عبد الله بن أبي ابن سلول ومن شايعه من اليهود وغيرهم، ما قوبل به الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون من حفاوة وإعزاز، ساءهم ذلك، وأخذوا يناوئون الإسلام ويعرقلون سيره، ويترصون الدوائر بالمسلمين.
أما اليهود فذلك دأبهم وديدنهم لأنهم لا يريدون للبشرية خيرا، بل يريدون أن تظل السعادة والسيادة فيهم، لأنهو شعب الله المختار في زعمهم.
وأما عبد الله بن أبي فإنه لم تخسر شخصية مكانتها في المدينة بمقدم نبي الإسلام، خسارته، ذلك أن الرجل كان ينظم له الخرز ليتوج ملكا على الأوس والخزرج، كما سيأتي ذلك واضحا في حديث أسامة بن زيد2 وكان ذلك من أقوى الأسباب التي صرفته عن اعتناق الإسلام، بصدق وإخلاص.
وكان دخوله في الإسلام ظاهرا بعد غزوة بدر الكبرى3
__________
1 انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 98 ولسان العرب لابن منظور 12/ 236- 237 وحياة الحيوان للدميري 2/ 435- 436 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 286.
وشرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفاريني 1/ 249 و 2/ 408- 408 والنفاق والمنافقون لإبراهيم علي سالم، المقدمة ص1.
2 انظر ص 150 وما بعدها.
3 انظر المصدر السابق.
وهذا أمر طبيعي فإنه يريد أن ينظر في هذا الأمر الجديد، فإن اندحر فقد خلص منه، وهذا غاية مناه، وإن حصلت به العزة والمنعة، سالمه، وهذا ما حصل بالفعل، فقد قويت شوكة الإسلام، وأخذت صخرة الكفر تتحطم تحت جحافل المسلمين، خاصة في معركة بدر الكبرى، فلما رأى عبد الله بن أبي أن لا قبل له بمقاومة الإسلام علانية عمد إلى وسيلة أخرى هي طعن الإسلام في السر والخفاء، فتظاهر بالإسلام ليحقن دمه وليقضي بذلك كثيرا من مآربه، "فكان أول ظهور النفاق، في المدينة بدخول هذا المنافق في الإسلام ظاهرا" وهو شخص متبوع، فشايعه على ذلك أتباعه من المنافقين، فكان يقوم بعليمهم النفاق، وقد كان لهذا العدو الخفي، أضراره الجسيمة على الإسلام والمسلمين، ومواقف ابن أبي وأتباعه من دعوة الإسلام تنبئ عن أخطارهم التي لا تقف عند حد.
ولكن الله خيب سعيهم وأحبط أعمالهم، ورد كيدهم في نحورهم، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ، [سورة الصف الآية: 8] .
,
تقدم1 أن يهود بني النضير ثاني طائفة من طوائف يهود نقضت عهدها مع المسلمين وكان رئيسهم حيي بن أخطب2.
وقد وردت روايتان في سبب نقضهم العهد.
الأولى: ما رواه ابن إسحاق حدثني يزيد بن رومان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية3 الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله
__________
1 انظر: ص 158- 159 وما بعدها. وانظر فتح الباري 7/ 275 و330.
2 حيي بن أخطب: هو والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها.
3 عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله، أبو أمية الضمري صحابي مشهور، أول مشاهده بئر معونة، توفي في خلافة معاوية /ع. التقريب 2/ 65.
عليه وسلم عقد لهم،- وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف - فلما أتاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية القتيلين، قالوا: "نعم، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه"، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: "إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ " فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، الحديث.. وفيه فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حتى نزلت بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر بقطع النخيل والتحريق1 فيها، فنادوه: "يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها".
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم، عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: "أن اثبتوا وتمعنوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم"، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، علة أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم، إلا الحلقة2. الحديث ...
ثم ذكر ما أنزل الله في شأن المنافقين من القرآن وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} ، [سورة الحشرة، الآيات: 11-17] ، يعني عبد الله بن أبي وأصحابه ومن كان على مثل أمرهم، {يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} ، يعني: - بني النضير -إلى قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، [سورة الحشر، الآية: 15] ، يعني: بني قينقاع.
ثم ذكر القصة: إلى قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
__________
1 قطع نخيل بني النضير وتحريقه ثابت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، انظر البخاري 5/ 74 كتاب المغازي، ومسلم 5/ 145 كتاب الجهاد والسير.
2 الحلقة: بسكون اللام، السلاح عامة، وقيل الدروع خاصة. النهاية لابن الأثير 1/ 427.
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} ، [سورة الحشر الآية: 16] 1.
وهكذا ذكر المفسرون عند تفسير هذه الآيات أنها نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي وأتباعه الذين حرضوا بني النضير على تمردهم وخروجهم على الدولة الإسلامية، ونقضهم العهد الذي أبرموه على أنفسهم والتزموا به2 فرواية ابن إسحاق، تدل على أن سبب نقضهم العهد هو تواطؤهم على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاء يستعينهم في دية القتيلين، وقد بوب البخاري بقوله: "باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في دية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم".3
الثانية: ما رواه أبو داود حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن4 بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد
__________
1 سيرة ابن هشام 2/ 190- 195 وتاريخ الطبري 2/ 551 وتفسيره 28/ 29 وفتح الباري 7/ 331.
2 تفسير الطبري 28/ 45 وتفسير ابن كثير 4/ 340 وتفسير الشوكاني 5/ 204.
3 البخاري 5/ 74 كتاب المغازي.
4 عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، أبو الخطاب، المدني، ثقة، من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك /ع. التقريب 1/ 496.
وقعة بدر إلى اليهود: "إنكم أهل الحلقة، والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا"، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهي الخلاليل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم اخرج علينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا حتى نلتقي بمكان المنصف* فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فقص خبرهم، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث1. والحديث سكت عليه المنذري2.وفيه محمد بن داود بن سفيان شيخ أبي داود.
قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب بأنه مقبول3.
وفي تهذيب التهذيب لم يزد على قوله: محمد بن داود بن سفيان روى عن عبد الرزاق ويحيى بن حسان، وعنه أبو داود4.
ولكن الحديث عند عبد الرزاق من هذه الطريق وليس فيه محمد ابن داود، ولكنه قال: عبد الله5 بن عبد الرحمن بن كعب بدل (عبد الرحمن بن كعب) وفيه: فأرسلت امرأة ناصحة، من بني النضير إلى بني أخيها6، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته ما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى
* المنصف: بفتح الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة – الموضع الوسط بين الموضعين (ابن الأثير: النهاية 5/ 66) .
__________
1 سنن أبي داود 2/ 139 كتاب الخراج (باب في خبر بني النضير) .
2 انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 8/ 236.
3 التقريب 2/ 160.
4 تهذيب التهذيب 9/ 154.
5 قال ابن حجر في تعجيل المنفعة، ص 153: أظنه انقلب، وأنه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك شيخ الزهري، وهو مترجم في التهذيب / انظر تهذيب التهذيب 6/ 214 أخرج له خ م د س. وتقريب التهذيب 1/ 488 وقال عنه: ثقة عالم، من الثالثة.
6 كذا هو في المصنف ولعله (ابن أخيها) .
الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعا، حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساره بخبرهم. الحديث1 ...
والحديث من هذه الطريق نسبه ابن حجر لابن مردويه، وعبد بن حميد وقال: "بإسناد صحيح إلى معمر عن الزهري"، ثم قال: ابن حجر: "فهذا أقوى مما ذكره ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله أعلم"2.
والذي يهمنا من هذه الغزوة هو موقف المنافقين المتمردة الخارجة على الدولة الإسلامية وعلى العهد الذي التزمت به حيال المسلمين وهذه المواقف العدائية من المنافقين تدل على خطر النفاق وخبثه، وأنه يحمل أصحابه على اتخاذ جميع الوسائل الممكنة للحيلولة دون تقدم دعوة الإسلام، وانتصاره، ومجمل المواقف التي وقفها المنافقون من دعوة الإسلام تدور حول غرضين أساسيين:
أولهما: التخذيل عن اعتناق الإسلام، بإلقاء الرعب في صفوف الجيش الإسلامي، وتخويفه من الوقوف في وجه عدوه، كما حصل في غزوة الأحزاب.
وثانيهما: بث الشبه والتشكيك في الإسلام، ونبي الإسلام، وزرع بذور الفتنة، في ساحة الجيش الإسلامي، كما حصل ذلك في غزوة بني المصطلق التي نحن بصددها.
وقد باءت جميع محاولات المنافقين بالإخفاق، واندحر كيدهم وخاب سعيهم، ونصر الله الإسلام والمسلمين، وكان الوحي ينزل طريا بفضح هذه المواقف على اختلافها، وتثبيت نفوس المسلمين وتصفية الساحة الإسلامية مما علق بها من أدران هذه المواقف المغرضة.
__________
1 مصنف عبد الرزاق 5/ 358- 361.
2 فتح الباري 7/ 331- 332.
,
,
...
المبحث الأول: مقالة عبد الله بن أبي
قال البخاري: "حدثنا عبد الله1 بن رجاء حدثنا إسرائيل2 عن أبي إسحاق3
__________
1 عبد الله بن رجاء بن عمر الغداني بضم الغين المعجمة وفتح الدال المخففة وبع الألف نون، بصري، صدوق يهم قليلا، من التاسعة، (ت220) وقيل قبلها، خ خد س ق. التقريب 1/ 414. وفي تهذيب التهذيب 5/ 210: سئل أبو زرعة عنه، فأثنى عليه وقال: "حسن الحديث عن إسرائيل"، وفي ميزان الاعتدال 2/ 421: رمز له بـ (صح) إشارة إلى أن الأئمة على توثيقه، وأنه لا يلتفت إلى من ضعفه.
2 إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، بفتح المهملة وكسر الموحدة، الهمداني أبو يوسف الكوفي، ثقة، تكلم فيه بلا حجة، من السابعة. (ت160) وقيل بعدها، ع المصدر السابق 1/ 64. وفي تهذيب التهذيب 1/ 261- 263: هو أثبت في أبي إسحاق. وفي ميزان الاعتدال 1/ 208 -210، قال عنه عيسى بن يونس: قال لي أخي إسرائيل: "كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن". وقال أحمد بن حنبل: "ثقة"، وجعل يعجب من حفظه، وقال أيضا: "كان ثبتا"، ونقل تضعيفه عن يحيى القطان وابن المديني وابن حزم الظاهري، ثم قال الذهبي: "قلت: إسرائيل اعتمده البخاري ومسلم في الأصول، وهو في الثبت كالأسطوانة، فلا يلتفت على تضعيف من ضعفه"، ثم قال أيضا: "نعم شعبة أثبت منه إلا في أبي إسحاق".
3 هو عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي الهمداني، مكثر، ثقة عابد، من الثالثة، اختلط بآخره، (ت129) وقيل قبل ذلك. ع. التقريب 2/ 73 وقد وصف بالتدليس كما في تهذيب التهذيب 8/ 66 و 67.
عن زيد بن أرقم1،قال: كنت في غزاة2 فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده3 ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت4 ذلك لعمي - أو لعمر-
__________
1 زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري، الخزرجي، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين. (ت66 أو 68) ، ع: المصدر السابق 1/ 272، وفي أسد الغابة 2/ 276 الإصابة 1/ 560: استصغر يوم أحد، ويقال كان أول مشاهده المريسيع، قلت: كونه حضر غزوة المريسيع فهذا مما لا خلاف فيه لتصريح الأحاديث بذلك، وإنما الخلاف هل كانت هذه الغزوة قبل غزوة الخندق، وعلى هذا يحصل التردد في أول مشاهده.
2 هي غزوة بني المصطلق كما سيأتي في المبحث الثاني ص 176.
3 من (عنده) ك كذا هنا. وبقية الأحاديث لئن رجعنا إلى المدينة.
4 فذكرت ذلك لعمي أو لعمر، فعمه هنا هو سعد بن عبادة كما بينت ذلك رواية الطبراني الآتية وعمر هو ابن الخطاب، ووقع هنا بالشك (فذكرت ذلك لعمي أو لعمر) ووقع من هذه الطريق عند البخاري في التفسير 6/ 126و 127 والترمذي 5/ 87 "فذكرت ذلك لعمي" بدون شك. ووقع من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق، ومن رواية محمد بن كعب القرظي أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هو زيد نفسه. انظر: ص 179. وقد جمع ابن حجر بين هذا الاختلاف بما يأتي:
أ- يحتمل أن زيدا أطلق الإخبار مجازا، ولم يرتض هذا الجواب لأن في مرسل الحسن عند عبد الرزاق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك أخطأ سمعك أو شبه عليك"، وانظر الحديث في تفسير الطبري 28/ 114.
ب- أو لعله راسل بذلك أولا على لسان عمه ثم حضر بعد ذلك فأخبر.
ج- ويحتمل أن يكون أخبر بذلك حقيقة بعد أن أنكر عبد الله بن أبي فتح الباري 8/ 645 و647 قلت: ويدل للتوجيه الثاني حديث الباب، وحديث الترمذي 5/ 87 "فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، ويدل للتوجيه الثالث رواية الطبراني في مجمع الزوائد 7/ 124 "عن زيد بن أرقم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن أبي فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه، فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت سعد بن عبادة فأخبرته فأتى رسول الله فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي فحلف بالله ما تكلم بهذا، فنظر رسول الله إلى سعد، فقال سعد: يا رسول الله إنما أخبرنيه الغلام، زيد بن أرقم فجاء سعد فأخذ بيدي فانطلق بي، فقال: هذا حدثني فانتهرني ابن أبي، فانتهيت إلى رسول الله، وبكيت وقلت: والذي أنزل النور عليك لقد قالهن وانصرف عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله {إذا جاءك المنافقون} إلى آخر السورة، قال الهيثمي: "هو في الصحيح بغير سياقه رواه لطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف". قال ابن حجر: "بينت هذه الرواية ورواية ابن مردويه: أن المراد بعم زيد بن أرقم في هذه الروايات هو سعد بن عبادة وهو سيد قومه الخزرج، وليس عمه حقيقة، وإنما عمه حقيقة هو ثابت بن قيس له صحبة، وعمه زوج أمه عبد الله بن رواحة". فتح الباري 8/ 645.
فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعاني فحدثته، فأرسل1 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني2 هم لم يصبني مثله قط، فجلست3 في البيت، فقال لي عمي: "ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك"4، فأنزل5 الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون} ، [سور المنافقون، الآية: 1] 6.
__________
1 جاء عند الطبري في التفسير 28/ 109 من هذه الطريق أن المرسل إلى عبد الله بن أبي هو علي رضي الله عنه.
2 قوله: "فأصابني هم" وفي رواية زهير بن معاوية: "فوقع في نفسي مما قالوا شدة" انظر ص 180، وفي رواية أبي سعيد الأزدي عن زيد عند الترمذي 5/ 88 "فوقع علي من لهم ما لم يقع على أحد".
3 فجلست في البيت "المراد به المكان الذي كان نازلا فيه". وفي رواية محمد بن كعب القرظي عند البخاري 6/ 127 "فرجعت إلى المنزل فنمت" وعند الترمذي 5/ 89 "ونمت كئيبا حزينا" انظر ص 179 وفي رواية ابن أبي ليلى عند النسائي "جلست في البيت مخافة إذا رآني الناس أن يقولوا كذبت وهي في السنن الكبرى عن إسحاق بن إبراهيم عن يحيى بن آدم عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن أرقم". انظر تحفة الأشراف في معرفة الأطراف للمزي 3/ 198 وفتح الباري 8/ 645 وعلقها البخاري عن ابن أبي زائدة بصيغة الجزم، عقب رواية محمد بن كعب القرظي، انظر البخاري 6/ 127 وانظر الحديث بطوله في تفسير الطبري 28/ 112.
4 وفي رواية محمد بن كعب القرظي عند البخاري (فلامني الأنصار) وعند الترمذي (فلامني قومي) انظر ص 179.
5 في رواية زهير حتى أنزل الله عز وجل تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} انظر ص 180.
6 وكان نزول ذلك وهم راجعون من الغزوة إلى المدينة، كما بينت ذلك رواية الترمذي من طريق أبي سعيد الأزذي وهي: حدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي، أخبرنا زيد بن أرقم، قال: غزونا مع رسول الله صلى اله عليه وسلم الحديث ... وفيه "فبينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم أن أبا بكر لحقني فقال: "ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قلت: ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: "أبشر"، ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون" هذا حديث صحيح. الترمذي 5/ 88، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 488 وقال عقبه: "قد اتفق الشيخان على إخراج أحرف يسيرة من هذا الحديث"، من حديث أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم، وأخرج البخاري متابعا لأبي إسحاق من حديث شعبة، عن الحكم عن محمد بن كعب القرظي، عن زيد بن أرقم، ولم يخرجاه بطوله، والإسناد صحيح وأقره الذهبي، وانظر حاشية ص 180، وفي رواية أبي الأسود عن عروة "فبينما هم يسيرون أبصروا رسول الله صلى اله عليه وسلم يوحى إليه "فنَزلت"، أي: السورة"، انظر فتح الباري 8/ 645.
فبعث1 إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد" 2 والحديث فيه أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس وقد عنعن، ولكنه صرح بالسماع في رواية زهير بن معاوية، وتابعه محمد ابن كعب القرظي3.
وقد رواه البخاري عن شيخين آخرين له هما آدم بن أبي إياس، وعبيد الله بن موسى، كلاهما عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق4.
وكان سبب هذا القول الذي تضمنه حديث زيد بن أرقم هو الشجار
__________
1 وفي رواية محمد بن كعب القرظي عند الترمذي 5/ 89 "فأتاني النبي صلى اله عليه وسلم أو أتيته، فقال: "إن الله قد صدقك" قال: فنزلت هذه لآية: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} " وانظر الحديث أيضا ص 179، وعند الطبري في التفسير 28/ 19: "فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بلغني فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله تبارك وتعالى قد صدقك وعذرك"،" وفي مرسل الحسن عند الطبري أيضا في التفسير 28/ 114 وابن حجر في الفتح 8/ 646 "فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام، فقال: "وفت أذنك، وفت أذنك يا غلام" "وعند البخاري في التفسير 6/ 128 من حديث أنس بن مالك قال: "حزنت على من أصيب بالحرة، فكتب إلى زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني"، يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار" الحديث ... وفيه: فسأل أنسا بعض من كان عنده فقال: هو الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا الذي أوفى الله له بأذنه".
2 البخاري 6/ 126- 127 من كتاب التفسير ومسلم 8/ 119 كتاب صفات المنافقين والترمذي 5/ 87- 88 كتاب التفسير وأحمد 4/ 368 و373، أسباب النزول للواحدي، ص 278، والنسائي في السنن الكبرى نحوه من رواية زهير وسنده: عن أبي داود الحراني عن الحسن بن محمد بن أعين عن زهير. انظر تحفة الأشراف للمزي 3/ 199.
3 البخاري 6/ 127 كتاب التفسير ومسلم كتاب صفات المنافقين.
4 البخاري 6/ 126و127 كتاب التفسير.
الذي حدث بين المهاجري والأنصاري، المصرح به في حديث جابر بن عبد الله وهذا نصه:
قال البخاري: "حدثنا علي1 حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا في غزاة - قال سفيان مرة في جيش - فكسع2 رجل من المهاجرين3 رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري4: يا للمهاجرين فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ "
__________
1 علي هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار.
2 فكسع: الكسع المشهور فيه: أنه ضرب الدبر باليد أو الرجل. القاموس المحيط 3/ 78 وفتح الباري 8/ 649، ووقع عند الطبري في هذا الحديث من طريق الحسين ابن واقد لمروزي عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله، وذلك في أهل اليمن شديد الحديث ... تفسير الطبري 28/ 113.
3 ورد عند ابن إسحاق تسمية المهاجري: بأنه جهجاه بن مسعود الغفاري، أجير لعمر بن الخطاب، والأنصاري: سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج، انظر ص 188، وسمى ابن حجر المهاجري: جهجاه بن قيس ويقال ابن سعيد الغفاري فتح الباري 6/ 547 و8/ 649.
4 قال ابن حجر في الفتح 8/ 649: أثناء شرحه لهذا الحديث: "اتفقت الطرق على أن المهاجري واحد، ووقع عند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر" واقتتل غلامان من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا؟ أدعوى الجاهلية"، قالوا: لا، إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر الحديث ... ثم قال ابن حجر: "ويمكن تأويل هذه الرواية بأن قوله: (من المهاجرين) ، بيان لأحد الغلامين، والتقدير: اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فحذف لفظ غلام من الأول، ويؤيده قوله في بقية الخبر (فنادى المهاجري) فأفرده فتتوافق الروايات"، قلت: هذا التأويل الذي أشار إليه ابن حجر، هو نص الحديث عند مسلم، وهذا لفظه: حدثنا أحمد بن عبد اله بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزير عن جابر قال: اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري أو المهاجرون: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار"، الحديث انظر صحيح مسلم 8/ 19 كتاب البر والصلة والآداب مطبعة المشهد الحسني و 4/ 1998من تحقيق فؤاد عبد الباقي الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي بيروت- لبنان و5/ 444 (بشرح النووي) مطابع الشعب.
والحديث أيضا عند أحمد بلفظه عند مسلم 3/ 323. ولعل الرواية التي أشار إليها ابن حجر اطلع عليها في نسخة غير هذه النسخ الموجودة بين أيدينا.
قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: "دعوها1 فإنها منتنة 2 "، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ 3 أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق4، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه".
وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد.
قال سفيان: فحفظته من عمرو، وقال عمرو: "سمعت جابرا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم"5.
__________
1 دعوها: قال ابن حجر: أي دعوى الجاهلية، وقيل الكسعة، والأول هو المعتمد وأبعد من قال: المراد الكسعة. فتح الباري 6/ 547 و 8/ 649. قلت: وقد ورد عند أحمد "دعوا الكسعة فإنها منتنة" من طريق عمرو بن دينار البصري الأعور المعروف بقهرمان، وهو ضعيف، انظر الحديث في المسند 3/ 385.
2 منتة: أي مذمومة في الشرع، مجتنبة مكروهة، كما يجتنب الشيء النتن، غريب الحديث لابن الأثير 5/ 14 وقال ابن حجر: قبيحة خبيثة وقد ثبت في بعض روايات فتح الباري 8/649. قلت ثبت عند البخاري دعوها فإنها خبيثة)) . انظر: ص 184 من رواية ابن جريج.
3 في رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار "أقد تداعوا علينا". انظر: ص 184.
4 وفي رواية ابن جريج فقال عمر: "ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث" انظر ص 184 وعند ابن إسحاق قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله. انظر ص 188 ويمكن الجمع: "بأن عمر بن الخطاب أولا طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتله فلما لم يأذن له، قال: إن لم تأذن لي بقتله، فمر عباد بن بشر يقتله".
5 البخاري 4/ 146، كتاب المناقب و6/ 128، ومسلم 8/ 19 كتاب البر والصلة والآداب والترمذي 5/ 90 في التفسير، والحميدي 2/ 519 وأحمد 3/ 392.
,
ورد تعيينها بأنها غزوة بني المصطلق من قول سفيان بن عيينة عند أحمد والإسماعيلي والترمذي ورواية الإسماعيلي والترمذي أصرح في ذلك، وإليك النصوص الواردة في ذلك:
قال أحمد: حدثنا حسين1 بن محمد ثنا سفيان - يعني ابن عيينة - عن عمرو قال: حدثنا جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، قال: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين الحديث ... وفيه فبلغ ذلك عبد الله بن أبي فقال: "فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"2. "رجاله رجال الجماعة". والحديث عند البخاري ومسلم وليس فيه تفسير الغزوة3.
عند الإسماعيلي4 في مستخرجه5 من طريق ابن أبي عمر6 وهي زيادة صححة حكمها حكم الصحيح، لأنها خارجة من مخرجه7.
عند الترمذي: وهذا نصه: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول كنا في غزاة 3قال سفيان: أين يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار-
__________
1 الحسين بن محمد بن بهرام، التميمي، أبو محمد، المروذي: بفتح الميم وتشديد الراء، وبذال معجمة، نزيل بغداد، ثقة من التاسعة، (ت213) أو بعدها بسنة أو بسنتين، ع. التقريب 1/ 179.
2 مسند أحمد 3/ 392- 393.
3 البخاري 6/ 128 كتاب التفسير (باب قوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) ومسلم 8/ 19 كتاب البر والصلة والآداب.
4 هو أبو بكر الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الجرجاني كبير الشافعية بناحيته، له مستخرج على صحيح البخاري وله معجم كبير، وله غير ذلك، قال الذهبي: "من جملتها مسند عمر رضي الله عنه هذبه في مجلدين طالعته وعلقت منه وابتهرت بحفظ هذا الإمام وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة، (ت371?ـ) " تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 947- 951.
5 فتح الباري 8/ 649.
6 هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نزيل مكة، صدوق، صنف المسند وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم كانت فيه غفلة. من العاشرة (ت243) م ت س ق التقريب 2/ 218.
7 انظر التبصرة والتذكرة للعراقي 1/ 60. وتدريب الراوي للسيوطي، ص 58.
الحديث ... وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال: أوقد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ... وفي آخره زيادة على ما في الصحيح وهي: وقال غير عمرو فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله:"والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل"1. "هذا حديث حسن صحيح"2.
وقد وصف ابن حجر ابن أبي عمر بأنه من رجال السنن، ولكن تابعه حسين بن محمد بن بهرام عند أحمد وهو ثقة، فيكون الحديث صحيحا لغيره.
ما أخرجه اببن أبي شيبة عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق لما أتوا المنزل كان بين غلمان من المهاجرين، وغلمان من الأنصار الحديث وفيه فقال ابن أبي: "أما والله لو أنهم لم ينفقوا عليهم انفضوا من حوله، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل".الحديث3. وهو مرسل.
وبنحوه عند ابن أبي حاتم من طريق عقيل عن الزهري عن عروة بن الزبير وعمر4 بن ثابت. قال ابن حجر: "وهو مرسل جيد"4.
وهكذا ذكر ابن إسحاق عن مشايخه، عاصم بن عمر وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان بأن قول ابن أبي هذا كان في غزوة بني المصطلق5."
__________
1 ففعل أبي فأقر بأنه الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو العزيز.
2 الترمذي 5/ 90 كتاب التفسير.
3 الدر المنثور للسيوطي6/ 225.
(4) عمر بن ثابت الأنصاري الخزرجي المدني، ثقة من الثالثة، أخطأ من عده في الصحابة، م عم.
المصدر السابق 2/ 52 وتهذيب التهذيب 7/ 430 وقد وقع في هذه الرواية عمرو ابن ثابت قال ابن حجر: وهو خطأ نبه عليه النسائي وقال: الصواب عمر بن ثابت. انظر تهذيب التهذيب 8/ 10 والتقريب 2/ 66.
4 فتح الباري 8/ 649. وتفسير ابن كثير 4/ 371.
5 سيرة ابن هشام 2/ 290- 291.
رجاله رجال الجماعة وهو مرسل أيضا".
فهذه الأحاديث كلها صريحة في أن هذه الكلمة صدرت من عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة بني المصطلق.
صرح الواحدي بأن هذا هو قول أهل التفسير وأصحاب السير1.
وبعد أن بينا أن هذه المقالة صدرت من ابن أبي في غزوة بني المصطلق يحسن أن نذكر الأحاديث الدالة على أن هذه المقالة صدرت من عبد الله بن أبي ابن سلول أيضا في غزوة تبوك، ثم نعقب ذلك بالقول الراجح حسب ما يظهر.
أ- جاء عند الترمذي والنسائي وهذا سياق الترمذي: حدثنا محمد ابن بشار أخبرنا محمد بن أبي عدي، قال: أنبأنا شعبة عن الحكم بن عتبة قال: سمعت محمد بن كعب القرظي منذ أربعين سنة يحدث عن زيد بن أرقم أن عبد الله بن أبي قال في غزوة تبوك: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فحلف ما قاله، فلامني قومي، فقالوا: ما أردت إلا هذه فأتيت البيت ونمت كئيبا حزينان فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أتيته فقال: "إن الله قد صدقك".
قال: فنَزلت هذه الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} ، [سورة المنافقون، من الآية: 7] ، "هذا حديث حسن صحيح"2.
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى: عم محمد بن بشار بندار عن محمد بن جعفر غندر وابن أبي عدي، كلاهما عن شعبة به3. "وكلا الحديثين رجالهما رجال الجماعة".
وهو عند البخاري وأحمد من طريق شعبة عن الحكم به4.
__________
1 أسباب النزول، ص 287.
2 الترمذي 5/ 89، كتاب التفسير.
3 تحفة الأشراف للمزي 3/ 201.
4 البخاري 6/ 127، كتاب التفسير وأحمد 4/ 368.
وليس فيه لفظ: "غزوة تبوك".
فهذا الحديث صحيح وهو صريح في صدور هذا القول من عبد الله ابن أبي في غزوة تبوك.
ب- قال ابن حجر: "ويؤيده قوله في رواية زهير في "سفر أصاب الناس فيه شدة""1.
قلت: رواية زهير المشار إليها هي ما ساقه البخاري: حدثنا عمرو ابن خالد ثنا زهير بن معاوية حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة"2، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله". وقال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، قالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله عز وجل تصديقي في {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، [سورة المنافقون، الآية: 1] .
__________
1 فتح الباري 8/ 644.
2 قلت: يجوز أن تكون الشدة هذه حصلت في غزوة بني المصطلق بقلة الزاد والماء الذي كان سببا في صدور هذه المقالة من عبد الله بن أبي كما صرح بذلك أبو سعيد الأزدي في روايته عن زيد بن أرقم قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه"، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع قباض الماء فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه، فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله" يعني الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام فقال عبد الله: "إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا الطعام"، ثم قال لأصحابه: "لئن رجعنا إلى المدينة فلنخرج الأعز منها الأذل". أخرجه الترمذي 5/ 88 وقال حسن صحيح، والحاكم 2/ 488 وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
فدعاهم النبي صلى اله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم الحديث1 ...
ج- ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الربيع2 الزهراني، حدثنا حماد3 بن زيد حدثنا أيوب عن سعيد4 ابن جبير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال: "ليخرجن الأعز منها الأذل"، فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار، وقيل لعبد الله بن أبي ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} - إلى قوله - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [سورة المنافقون، الآيات: 1-5] .
قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير"5.
قلت: رجاله رجال الجماعة ما عدا أبا الربيع الزهراني، فأخرج له من عدا الترمذي وابن ماجة. ونسبه ابن حجر لبعد بن حميد وقال: "بإسناد صحيح"6.
وهكذا نسبه السيوطي لابن أبي حتم وعبد بن حميد7.
وقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث الدالة بأن المقالة المذكورة كانت في غزوة بوك - بما يأتي:
قال ابن العربي: "اختلفت الرواة في هذا الحديث فروى محمد بن كعب
__________
1 البخاري 6/ 127، كتاب التفسير ومسلم 8/ 119، كتاب صفات المنافقين وأحمد 4/ 373.
2 أبو الربيع الزهراني هو سليمان بن داود العتكي البصري، نزيل بغداد، ثقة، من العاشرة (ت234) ، خ م د س التقريب 1/ 324.
3 حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، من كبار الثامنة، ثقة ثبت فقيه، (ت179) ، ع: المصدر السابق1/ 197.
4 سعيد بن جبير الأسدي مولاهم، الكوفي، ثقة ثبت فقيه من الثالثة، قتل بين يدي الحجاج سنة 50، ع: المصدر السابق1/ 292.
5 تفسير ابن كثير 4/ 369.
6 فتح الباري 8/ 644.
7 الدر المنثور 6/ 224.
القرظي أن ذلك كان في غزوة تبوك، حسبما ذكره أبو عيسى الترمذي".
وروى في الصحيح أنها كانت في غزوة بني المصطلق1، حسن صحيح وهو الصحيح، وإن كان صحح أيو عيسى حديث محمد ابن كعب، لكن صحيح الصحيح ما بيناه2.
وقال ابن كثير عقب مرسل سعيد بن جبير المتقدم3، قوله: "إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر، بل ليس بجيد، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول، لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفة من الجيش، وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق"4.
وقال ابن حجر عقب مرسل سعيد بن جبير نفسه: "والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة بني المصطلق5، ويؤيده "أن في حديث جابر بن عبد الله"، وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين، حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد"6.
فهذا مما يؤيد تقدم القصة، ويوضح وهم من قال إنها كانت بتبوك، لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرا جدا، وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار7 اهـ.
__________
1 يريد حديث جابر بن عبد الله المتقدم، ص 175 وما بعدها.
2 عارضة الأحوذي، 12/ 200.
والمعنى: أن الترمذي قال عن حديث جابر بن عبد الله بأنه حسن صحيح، والحديث ثابت في الصحيحين، وقال عن حديث محمد بن كعب القرظي، بأنه حسن صحيح كذلك، وحديث محمد بن كعب القرظي عند الترمذي والنسائي. فقال ابن العربي: وإن كان الترمذي قد صحح كلا الحديثين، لكن الصحيح حديث جابر بن عبد الله لأنه ثابت في الصحيحين.
3 انظر ص 181.
4 تفسير ابن كثير 4/ 369.
5 فتح الباري 8/ 644 و650.
6 انظر الحديث ص 175- 176 وما بعدها.
7 المصدر السابق 8/ 677 و650.
ومن خلال هذه الأجوبة والأدلة المتقدمة يكون الأرجح أن هذه المقالة كانت في غزوة بني المصطلق.
ويضاف إلى هذا: اتفاق أهل المغازي والسير أن عبد الله بن أبي كان ممن تخلف عن غزوة تبوك ولم يحضرها، ولولا لكان القول بالتعدد أولى من الترجيح.
,
قال البخاري: حدثنا محمد1 أخبرنا مخلد2 بن يزيد أخبرنا ابن جريج3، قال أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب4 معه ناس من المهاجرين، حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب5، فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال دعوى الجاهلية"، ثم قال: "ما شأنهم؟ "
__________
1 محمد هنا: المراد به ابن سلام، كما جزم بذلك أبو نعيم في المستخرج، وأبو علي الجياني، انظر فتح الباري 6/ 547، وهدي السارب مقدمة فتح الباري ص 239، وهو محمد بن سلام بن الفرج، السلمي، مولاهم، البيكندي، بكسر الموحدة وسكون التحتانية وفتح الكاف وسكون النون، أبو جعفر، مختلف في لام أبيه والراجح التخفيف، ثقة ثبت من العاشرة (ت227) ، خ: التقريب 2/ 168.
2 مخلد بن يزيد القرشي، الحراني، صدوق له أوهام، من كبار التاسعة (ت193) ، خ م د س ق. المصدر السابق 2/ 235.
3 عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، من السادسة (ت150) أو بعدها، ع. المصدر السابق1/520.
4 ثاب معه: أي اجتمع.
5 رجل لعاب: أي بطال، وقيل كان يلعب بالحراب كما تصنع الحبشة، وهو جهجاه ابن قيس الغفاري، فتح الباري 6/ 546 وسماه ابن إسحاق: جهجاه بن مسعود. وكان جهجاه من المتألبين على عثمان بن عفان وأنه قام إلى عثمان وهو على المنبر فأخذ عصاه وكسرها فما حال عليه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة فمات منها، هكذا نقل ابن حجر في الإصابة 1/ 253.
فأخبر بكسعة المهاجري، الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها خبيثة"، وقال عبد الله ابن أبي ابن سلول: "أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل"، فقال عمر: "ألا نقتل يا رسول هذا الخبيث" لعبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه"1.
الحديث فيه مخلد بن يزيد، وصف بأن له أوهاما، كما في التقريب2.
وفي هدي الساري قال ابن حجر: "وثقه ابن معين وغيره"، وقال أحمد: "لا بأس به"، وكان يهم، وكذا قال الساجي: "وأنكر له أبو داود حديثا وصله".
ثم عقب ابن حجر بقوله: "قلت: أخرج له البخاري أحاديث قليلة من روايته عن ابن جريج توبع عليها". وروى له مسلم والباقون سوى الترمذي، انتهى كلام ابن حجر3.
قلت: قد ورد الحديث عن جابر بعدة طرق صحاح، وليس فيها مخلد بن يزيد. فزال ما يخشى من أوهامه، وما دام أن الحديث في البخاري فإنه صحيح لاتفاق الأمة على صحة ما فيه، ولعل ما قيل عن مخلد من أوهام لم تكن تضره حين أخرج له البخاري لما نعلم من شدة تحريه ودقة شروطه فيمن يخرج عنهم.
وعند مسلم وأحمد من طريق أبي الزبير4 عن جابر "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا دعوى أهل الجاهلية"، فقالوا: لا، يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، قال: "فلا بأس ولينصر الرجل
__________
1 البخاري 4/ 146-147، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية.
2 / 235.
3 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 443.
4 أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس بفتح المثناة وسكون الدال المهملة، وضم الراء الأسدي، مولاهم، أبو الزبير المكي، صدوق إلا أنه يدلس، من الرابعة، (ت126) : ع. التقريب 2/ 207. وقد صرح بالتحديث هنا عن جابر كما هو عند أحمد 3/ 323- 324.
أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره"1.
قال النووي: "أما تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية، فهو كراهة منه لذلك؛ فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بلأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه، كما تقرر من قواعد الإسلام.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذه القصة "لا بأس" فمعناه لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته، فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم يوجب فتنة وفسادا، وليس هو عائدا إلى رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية2.
قال ابن حجر: "يستفاد من قوله "لا بأس" جواز القول المذكور بالقصد المذكور والتفصيل المبين، لا على ما كانوا عليه في الجاهلية من نصرة من يكون من القبيلة مطلقا"3.
قلت: كانت هذه الكلمة شعار أهل الجاهلية، وهو نصرة الأخ مطلقا ولو كان يعلم أنه على باطل، فما دام من قبيلته أو من أحلافه فتجب نصرته، فجاء الإسلام فهذب هذه الكلمة وجعل معناها غير ما تعارف عليه أهل الجاهلية، فجعل كف الظالم عن ظلمه نصرا له، ونصره حقيقة إن كان مظلوما حتى يتوصل إلى حقه، وقد تضمن الحديث المتقدم، آنفا بيان هذا المبدأ.
وقد ورد عند البخاري ما يزيد هذا المعنى وضوحاً.
وهذا نصه: حدثنا محمد بن عبد الرحيم4 ثنا سعيد5 بن سليمان حدثنا
__________
1 مسلم 8/ 19، وأحمد 3/ 323 –324.
2 شرح النووي على مسلم 5/ 444.
3 فتح الباري 8/ 649.
4 محمد بن عبد الرحيم، ابن أبي زهير البغدادي، أبو يحيى البزاز، المعروف بصاعقة، ثقة حافظ، من الحادية عشرة (ت255) ، خ د ت س. التقريب 2/ 185.
5 سعيد بن سليمان الضبي أبو عثمان الواسطي، نزيل بغداد، البزاز، لقبه سعدويه، ثقة حافظ، من كبار العاشرة، (ت225) : ع، المصدر السابق 1/ 298.
هشيم1 أخبرنا عبيد الله2 بن أبي بكر بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟
قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره"3.
وهكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الفتنة التي كادت تفكك وحدة المسلمين وتمزق شملهم وتجعلهم شيعا وأحزابا، فتقر بذلك أعين المنافقين وأعداء الدين، لكن الإيمان الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، كان أقوى من مكيدة المنافقين، فما أن سمع المسلمون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بأمرهم بترك دعوى الجاهلية، حتى خمدت الفتنة التي أوقد المنافقون نارها، ثم اتخذ الرسول الكريم التدابير التي تقضي على آثارها وتعيد الإخاء والمودة إلى نفوس المسلمين، كما سيأتي في المبحث التالي.
__________
1 هشيم بالتصغير، ابن بشير بوزن عظيم، ابن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية ابن أبي خازم، بمعجمتين، الواسطي، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفاي، من السابعة (ت183) ، ع: المصدر السابق2/ 320.
2 عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك، أبو معاذ، ثقة من الرابعة: ع. المصدر السابق1/531.
3 البخاري 9/ 20، كتاب الإكراه.
,
قال البخاري: "حدثنا الحميدي1 حدثنا سفيان قال: حفظناه من عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث ... "
__________
1 هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي المكي، أبو بكر، ثقة حافظ فقيه، أجل أصحاب ابن عيينة، من العاشرة، (ت219) ، وقيل بعدها. قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عن الحميدي، لا يعدوه إلى غيره / خ مق د ت س فق. التقريب 1/ 415.
وفيه: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" 1.
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"، فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد، خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه"، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى، ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه، إما حمية وإما لطلب دنيا أو عصبية لمن معه من عشائرهم2.
وقال ابن العربي: "قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" هو إخبار عن وجه المصلحة في الإمساك عن قتلهم، لما يرجى من تأليف الكلمة بالعفو عنه، والاستدراك لما فاتهم في المستقبل من أمرهم توقعا لسوء الأحدوثة المنفرة عن القبول للنبي صلى الله عليه وسلم والإقبال عليه"3.
وعند ابن إسحاق من طريق عاصم بم عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكرن ومحمد بن حبان، قال: كل قد حدثني حديث بني المصطلق وساق الحديث بتفاصيل الغزوة وفيه "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
__________
1 البخاري 6/ 128، كتاب التفسير، باب قوله: يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ومسند الحميدي 2/ 519.
2 شرح صحيح مسلم للنووي 5/ 445.
3 عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي 12/ 204 وانظر شرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفارني 2/ 412- 413.
الماء1 وردت واردة الناس، ومع عمر بن لخطاب أجير له، من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر2 الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: "أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب3 قريش إلا كما قال الأول4:سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: "هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموه بلادكم، وقاسمتموه أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم"، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: "مر به عباد بن بشر فليقتله"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا"، ولكن أذن بالرحيل، وذلك ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله5 بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بلغه أن
__________
1 هو ماء المريسيع.
2 معشر: كمسكن: الجماعة وأهل الرجل. القاموس المحيط 2/ 90.
3 جلابيب: لقب لمن أسلم من المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون، وأصل الجلابيب: الأزر الغلاظ، كانوا يلتحفون بها، فلقبوهم بذلك.
4 كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وعند الطبري كما قال القائل، وهو مثل من أمثال عرب، وأول من قاله: حازم بن المنذر الحماني، وذلك أنه مر بمحلة همدان فوجد غلاما ملفوفا في ثوب، فرحمه وحمله معه وقدم به منزله وأمر أمة له أن ترضعه حتى كبر وراهق الحلم، فجعله راعيا لغنمه وسماه جحيشا، وكان لحازم ابنة يقال لها: راعوم فهويت الغلام وهويها وانتبه حازم لهذا فترصد لهم حتى عرف الحقيقة ووجدهم على الفاحشة، فقال: سمن كلبك يأكلك، فأرسلها مثلا وشد على جحيش ليقتله ففر ولحق بقبيلته، انظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 333. ورقم المثل (1787) .
5 قال القسطلاني في إرشاد الساري شرح البخاري 7/ 257، دار الكتاب العربي، بيروت، عبد الله بن أبي ابن سلول برفع ابن لأنه صفة لعبد الله، لا لأبي وسلول غير منصرف للتأنيث والعلمية، لأنها أمه.
زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال: ولا تكلمت به - وكان شريفا عظيما - فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: "يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل"، حدبا1 على ابن أبي ابن سلول، ودفعا عنه، فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: "يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة مبكرة، ما كنت تروح في مثلها"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ " قال: وأي صاحب يا رسول الله؟
قال: "عبد الله بن أبي"، قال: وما قال؟ قال: "زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، قال: فأنت يا رسول الله، والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثم قال: "يا رسول الله ارفق به2، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا". ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذنهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، إلى أن قال: "وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شانهم: "كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت 3 له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته".
قال: قال عمر: "قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري"4.
__________
1 حدبا على ابن أبي: أي عطفا عليه.
2 هذه الكلمة قالها أيضا سعد بن عبادة عندما عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر ص 152 مما تقدم.
3 لأرعدت له آنف: أي انتفخت واضطربت أنوفهم حمية وعصبية.
4 سيرم ابن هشام 2/ 290- 293.
"الحديث رجاله ثقات، ولكنه مرسل". وأورده ابن جرير الطبري من هذه الطريق نفسها1.
وله شاهد عند ابن أبي حاتم من مرسل عروة بن الزبير، وعمر بن ثابت الأنصاري.
وهو مرسل جيد كما قال ابن حجر2. وهو أيضا عند ابن أبي شيبة من مرسل عروة وحده3.
وأصله في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم وجابر بن عبد الله4. وبهذا يكون الحديث حسنا لغيره.
والحكمة ظاهرة من أمره صلى الله عليه وسلم بالرحيل في وقت غير معتاد، وهي أن ترك مثل هذا الخبر ينتشر في الجيش يسبب بلبلة في الأفكار، ويثير القيل والقال مما ويصرف أذهان الجند الإسلامي إلى مهاترات كلامية، لا تحمد عقباها، فكانت مسيرة الجيش المتصلة ليلا ونهارا، مما أجهدهم، حتى وقعوا نياما، فمسح النوم العميق بعد النصب الشديد آثار الفتنة.
وهذا منهج في سياسة الأمور ينبغي أن يسلكه القادة الراشدون في كل زمان ومكان.
__________
1 تاريخ الطبري2/ 605.
2 فتح الباري 8/ 649، وانظر تفسير ابن كثير 4/ 371.
3 الدر المنثور للسيوطي 6/ 225.
4 انظر ص 171- 174 وما بعدها.
,
1- ما رواه ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغنك عنه، فإن كنت لابد فاعلا فمرني به، فأنا
أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا".
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه من شانهم: "كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته".
قال: قال عمر: "قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري"1.
ومن طريقه رواه ابن جرير الطبري وابن كثير2.
2- ما رواه الحميدي: حدثنا سفيان3 قال: ثنا أبو4 هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لأبيه: "والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل"، قال: وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، وإن شئت أن آتيك برأسه، أتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي"5.
3- ورواه الطبراني من طريق عروة بن الزبير ولفظه: أن عبد الله ابن عبد الله بن أبي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل أباه،
__________
1 سيرة ابن هشام 2/ 292- 293.
2 تفسير الطبري 28/ 116، والتاريخ 2/ 608، وتفسير ابن كثير 4/ 372، والبداية والنهاية 4/ 158.
3 هو ابن عيينة وذلك لأن الحميدي كان رئيس أصحاب ابن عيينة، انظر تهذيب التهذيب 5/ 215.
4 هو موسى بن أبي عيسى الحناط، بمهملة ونون ثقيلة آخره مهملة الغفاري، أبو هارون المدني، مشهور بكنيته واسم أبيه ميسرة، ثقة، من السادسة/ خت م د ق. التقريب 2/ 287.
5 مسند الحميدي 2/ 520، وتفسير ابن كثير 4/ 372.
قال: "لا تقتل أباك"1. قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، إلا أن عروة بن الزبير لم يدرك عبد الله بن عبد الله بن أبي.
قلت: وذلك لأن عبد الله بن عبد الله بن أبي، قتل في خلافة أبي بكر الصديق سنة اثنتي عشرة، كما ذكر ذلك ابن سعد وابن الأثير وابن حجر2. وكانت ولادة عروة في خلافة عمر بن الخطاب3.
فتكون ولادته بعد وفاة عبد الله.
4- ورواه البزار من حديث أبي هريرة ولفظه: قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم4، فقال، عبر علينا ابن أبي كبشة5، فقال: ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله، والذي أكرمك، لئن شئت أتيتك برأسه، فقال: "لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته" 6.
قال الهيثمي: "رجاله ثقات".
5- ما أورده ابن كثير بقوله: وذكر عكرمة7 وابن زيد8 وغيرهما أن
__________
1 مجمع الزوائد 9/ 318.
2 انظر طبقات ابن سعد 3/ 542، وأسد الغابة 3/ 298، والإصابة 2/ 336.
3 انظر تهذيب التهذيب 7/ 183- 184. والتقريب 2/ 19.
4 الأطم: بالضم: بناء مرتفع، وجمعه آطام، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير1/54.
5 ابن أبي كبشة: يريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر: "قال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني: هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إليه للاشتراك في مطلق المخالفة"، ثم قال ابن حجر: "وكذا قاله ابن الزبير قال: واسم هذا الرجل: وجز بن عامر بن غالب وقيل غير ذلك".
وقد ورد في حديث أبي سفيان عند هرقل لما سأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان لما خرجوا من عند هرقل وسمع منه تعظيمه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة". انظر صحيح البخاري 1/6- 7 (باب كيف كان بدء الوحي) ، وفتح الباري 1/ 40.
6 مجمع الزوائد 9/ 318.
7 عكرمة بن عبد الله، مولى ابن عباس، أصله بربري، ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة، من الثالثة، (ت107) وقيل بعدها/ ع. التقريب 2/ 30.
8 هو محمد بن يزيد بن المهاجر بن قنفذ، بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة وآخره ذال عجمة، التيمي، المدني، ثقة، من الخامسة/م عم. المصدر السابق2/ 162.
الناس لما قفلوا راجعين على المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبو عبد الله ابن أبي، قال له ابنه وراءك؟ فقال مالك ويلك؟ فقال: "والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل"، قلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه، فقال ابنه عبد الله: "والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له"، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجز الآن"1.
قلت: وهو منقطع أيضا وذلك لما تقدم من أن وفاة عبد الله بن عبد الله بن أبي، كانت سنة اثنتي عشرة، وعكرمة أقل ما قيل في وفاته أنها سنة (104) وكان عمره ثمانين سنة، فتكون ولادته سنة أربع وعشرين بعد وفاة عبد الله باثنتي عشرة سنة2، وبهذا تكون الأحاديث الأربعة منقطعة، ولكن بمجموعها يؤيد بعضها بعضا وترتقي إلى درجة الحسن لغيره.
ويقويها ما رواه الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: "كنا في غزاة قال سفيان يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار". الحديث ...
وفي آخره، وقال غير عمرو فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل. "هذا حديث حسن صحيح"3.
والحديث أخرجه الشيخان دون هذه الزيادة، وقد تقدم4. ومجموع هذه الروايات المختلفة يبرز لنا موقفا صلبا قويا من مواقف العقيدة الإسلامية إذا
__________
1 تفسير ابن كثير 4/ 372، وتاريخه 4/ 158.
2 انظر تهذيب التهذيب 7/ 271.
3 الترمذي 5/ 90، كتاب التفسير.
4 انظر ص 175، وما بعدها.
تمكنت من قلب المسلم ورسخت فيه، ذلك لأن بناء الشخصية الإسلامية على هذه العقيدة يخرج للبشرية نمطا فريدا من الناس يتحدون جميع الروابط والأواصر التي عهدها البشر في أعرافهم وتقاليدهم ومذاهبهم الاجتماعية، وتكون الآصرة الوحيدة في حياة المسلم هي آصرة العقيدة وحدها، ومن هنا نفهم ما ورد في التاريخ الإسلامي من رسوخ المسلم وثباته في وجه أبيه وأخيه الكافرين ولو أدى به ذلك إلى قتلهما، لأن أغلى شيء يملكه المسلم هو عقيدته، فإذا وقف في سبيل الدعوة إليها عرف اجتماعي أو رابطة قبلية أو مذاهب تقليدية، تحداها المسلم بعزم وإصرار.
ومن ذلك هذا الموقف المشرف الذي وقفه عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه عبد الله بن أبي ابن سلول، حتى وصل به الأمر إلى مراودة الرسول صلى الله عليه وسلم واستئذانه في قتله إن كان يحب ذلك.
وليس في الدنيا مذهب يخلق هذا النوع الفريد من التفاني في سبيل المبدأ أو العقيدة وتلك معجزة عقيدة الإسلام التي يفتقر إليها الناس في كل زمان ومكان، وهي وحدها الكفيلة بسعادة البشرية ووحدتها وقوتها فما أحوجها إلى مثل هذا الغرس الطيب لينشأ جيل فريد في تصوره الإسلامي، وسلوكه العملي في واقع الحياة، لانتشال شباب الأمة الإسلامية من وهده الضلال إلى قمة العقيدة الإسلامية واستعلائها. {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 139] .
ويدل لهذا قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، [سورة المجادلة، الآية: 22] .
قال ابن كثير: "قوله {وَلَو كَانُوا آبَاءَهم} نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر. {أَوْ أَبْنَاءَهَم} نزلت في أبي بكر الصديق هم صلى الله عليه وسلم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن،
{أَوْ إِخْوَانَهُم} في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، {أَوْ عَشِيْرَتَهُم} في عمر بن الخطاب قتل قريبا له يومئذ.
وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا: عقبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ وهو من عشيرتهم"1.
__________
1 تفسير ابن كثير 4/ 329.
,
ذكر ابن إسحاق في حديثه الطويل الذي يرويه عن مشايخه: عاصم ابن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق سلك بالناس طريق الحجاز، حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع1 يقال له: نقعاء، فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار"، فلما قدموا المدينة، وجدوا رفاعة بن زيد ابن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين، مات في ذلك اليوم، الحديث2 ...
والحديث عند ابن جرير الطبري من هذه الطريق3. وكذا أورده ابن كثير من هذه الطريق أيضا، وزاد: وهكذا ذكر موسى بن عقبة والواقدي، ثم قال:
__________
1 النقيع من ديار مزينة، وكان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، ونقعاء: موضع فوق النقيع، وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخا، معجم البلدان لياقوت 5/ 299 و301. قلت: وهو يقدر ب 100 كيلومتر لأن الفرسخ يعادل خمس كيلوات. انظر نسب حرب ص 389.
2 سيرة ابن هشام 2/ 292.
3 تفسير الطبري 28/ 115- 116، وتاريخه 2/ 604- 607.
وروى مسلم من طريق الأعمش عن أبي سفيان1 عن جابر، نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم الذي مات من المنافقين، قال: هبت ريح شديدة، والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال: "هذه لموت منافق"، فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين. انتهى2.
قلت: حديث مسلم المشار إليه هو: حدثني أبو كريب3 محمد بن العلاء حدثنا حفص4 (يعني بن غياث) عن الأعمش5، عن أبي سفيان، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت هذه الريح لموت منافق"، فلما قدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات6.
وأورده عبد بن حميد من هذه الطريق وسمى المنافق رافع بن التابوت وهذا نصه: حدثنا إبراهيم7 بن الأشعث، ثنا فضيل8 بن عياض عن سليمان9، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه - "كنا مع النبي صلى الله
__________
1 أبو سفيان: هو طلحة بن نافع، أبو سفيان الإسكاف، نزيل مكة، صدوق من الرابعة /ع. تقريب التذيب 1/ 380.
2 البداية والنهاية 4/ 158.
3 تقدمت ترجمته.
4 حفص بن غياث بمعجمة مكسورة، وياء ومثلثة، ابن طلق بن معاوية النغعي، أبو عمر الكوفي، القاضي، ثقة فقيه، تغير حفظه قليلا في الآخر، من الثامنة، (ت194) / ع. التقريب 1/ 189.
5 سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي، الأعمش، ثقة حافظ، عارف بالقراءة ورع، لكنه يدلس، من الخامسة، (ت147أو148) /ع. المصدر السابق1/ 331.
6 مسلم 8/ 124، كتاب صفة المنافقين.
7 إبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل، وثقه ابن حبان، والحاكم وضعفه أبو حاتم: لسان الميزان 1/ 36.
8 فضيل بن عياض بن مسعود أبو علي الزاهد المشهور، أصله من خراسان وسكن مكة ثقة، عابد إمام ن من الثامنة، (ت187) وقيل قبلها/ خ م د ت س. المصدر السابق 2/ 113.
9 سليمان: هو الأعمش.
عليه وسلم في سفر، فهاجت ريح تكاد تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هبت هذه الريح لموت منافق"، فلما رجعنا إلى المدينة وجدنا مات في ذلك اليوم منافق عظيم النفاق، فسمعت بعد يقولون هو رافع بن التابوت1.
وأورده أحمد من ثلاث طرق:
1- من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر.
2 و 3- ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، وبين في طريق ابن لهيعة جهة السفر الذي عصفت فيه الريح.
وهذا نص الحديث: حدثنا حسن2، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الزبير، عن جابر أنهم غزوا فيما بين مكة والمدينة، فهاجت عليهم ريح شديدة حتى دفعت الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا لموت المنافق"، فرجعنا إلى المدينة فوجدنا منافقا عظيم النفاق قد مات3.
وأورده الواقدي من ثلاث طرق أيضاً:
أ- من طريق جابر بن عبد الله وهذا نصه: حدثني خارجة بن الحارث، عن عباس4 بن سهل، عن جابر بن عبد الله قال: كانت الريح يومئذ أشد ما كانت قط، إلى أن زالت الشمس، ثم سكنت آخر النهار، قال جابر: فسألت حين قدمت قبل أن أدخل بيتي، من مات؟ فقالوا: زيد بن رفاعة بن التابوت.
وذكر أهل المدينة أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح حتى دفن عدو الله فسكنت الريح5.
__________
1 مسند عبد بن حميد 2/ 135 ق. أ.
2 الحسن بن موسى الأشيب بمعجمة، ثم تحتانية أبو علي البغدادي، قاضي الموصل وغيرها، ثقة من التاسعة، (ت209) /ع. التقريب 1/ 171.
3 مسند أحمد 3/ 315 و 341 و 346.
4 عباس بن سهل بن سعد الساعدي، ثقة، من الرابعة، (ت120) ، وقيل قبل ذلك / خ م د ت ق. التقريب 1/ 397.
5 مغازي الواقدي 2/ 423.
ب- من حديث رافع بن خديج: حدثني عبيد الله1 بن الهرير عن أبيه2، عن رافع بن خديج، قال: لما رجعنا من المريسيع قبل الزوال كان الجهد بيننا يومنا وليلتنا الحديث طويل وفيه "ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس مبرداً، فنزل من الغد ماء يقال له نقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهرهم، فأخذتهم ريح شديدة حتى أشفق الناس منها، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخافوا أن يكون عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدث وإنما بالمدينة الذراري والصبيان، وكانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عيينة بن حصن مدة، فكان ذلك حين انقضائها، فدخلهم أشد الخوف، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم، فقال: "ليس عليكم بأس منها، ما بالمدينة من نقب 3 إلا عليه ملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة، فلذلك عصفت الريح، وكان موته للمنافقين غيظا شديدا"، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت، مات ذلك اليوم4.
ج- ومن حديث عبادة بن الصامت: حدثني عبد الحميد5 بن جعفر
__________
1 عبيد الله بن الهرير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج الأنصاري، الحارثي، المدني، مستور، من السابعة، /د. التقريب 1/ 540.وفي تهذيب التهذيب 7/ 54 روى عن أبيه وعمرو بن عبيد الله بن حنظلة، وعنه ابن أبي فديك والواقدي، قال البخاري: حديثه ليس بالمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي ميزان الاعتدال: 3/ 16- 17، ما رأيت من وثقه.
2 هرير مصغرا ابن عبد الرحمن بن رافع بن خديج الأنصاري المدني، مقبول من الخامسة، /د. المصدر السابق 2/ 317، وفي تهذيب التهذيب 11/ 29، وثقه ابن معين وابن حبان، وقال الأزدي يتكلمون في حديثه.
3 النقب: الطريق بين جبلين. غريب الحديث لابن الأثير 5/ 102.
4 مغازي الواقدي 2/ 422.
5 عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم، من السادسة، (ت153) ، /خت م عم. التقريب 1/ 467.
عن أبيه1 قال: قال عبادة بن الصامت2 يومئذ لابن أبي: "أبا حباب3، مات خليلك! ". قال: "أي أخلائي؟ "
قال: "من موته فتح للإسلام وأهله"، قال: "من؟ " قال: "زيد بن رفاعة ابن التابوت".
قال: "يا ويلاه، كان والله وكان! " فجعل يذكر4، فقلت: "اعتصمت بالذنب الأبتر"5، قال: "من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ " قلت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة"، قال: "فأسقط في يديه وانصرف كئيبا حزينا"، قالوا: "وسكنت الريح آخر النهار، فجمع الناس ظهورهم"6.
مناقشة الأحاديث:
حديث ابن إسحاق مرسل ورجاله ثقات.
__________
1 هو جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري والد عبد الحميد، ثقة، من الثالثة/ بخ م عم. التقريب 1/ 131.
2 عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري، الخزرجي أبو الوليد المدني، أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة 34 وله 72 سنة، وقيل عاش إلى خلافة معاوية /ع. المصدر السابق 1/ 395.
3 أبو حباب: كنية عبد الله بن أبي ابن سلول، بابنه عبد الله بن عبد الله، كان اسمه حبابا فكان يكتني به، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكان من خيرة الصحابة، انظر الاستعياب لابن عبد البر 2/ 335، والإصابة لابن حجر 2/ 335- 336.
وأسد الغابة لابن الأثير 3/ 296، وقد ورد النهي عن تسمية حباب، فروى ابن سعد بسند مرسل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان اسمه حبابا، فقال: "أنت عبد الله، فإن حبابا اسم شيطان"، وأورد أيضا من مرسل عروة بن الزبير وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحباب: شيطان"، انظر طبقات ابن سعد 3/ 541، والبداية والنهاية لابن كثير 6/338.
4 أي يعدد محاسنه.
5 الأبتر: المقطوع، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 93.
6 مغازي الواقدي 2/ 423.
وحديث مسلم وعبد بن حميد فيهما الأعمش وأبو سفيان، والأعمش مدلس وقد عنعن1، وقد وضعه ابن حجر في المرتبة الثانية من طبقات المدلسين وهي المرتبة التي احتمل الأئمة تدليسهم.
وهذا نص كلامه: "الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى، كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة"2.
وقال النووي في تقريبه: "وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين بعن محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى"3.
وأما أبو سفيان: "فقال أبو خيثمة4 عن ابن عيينة ووكيع عن شعبة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة"، وقال أبو حاتم5: "عن شعبة أيضان لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث، وكذا قال علي ابن المديني".
قال ابن حجر: "ولم يخرج البخاري له سوى أربعة أحاديث عن جابر وأظنها التي عناها شيخه علي ابن المديني. منها حديثان في الأشربة والثالث في الفضائل حديث اهتز العرش - يعني لموت سعد بن معاذ - مقرونا بأبي صالح6، والرابع في تفسير سورة الجمعة قرنه
__________
1 وقد صرّح الأعمش بالتحديث عند أبي يعلى 2/234. وهذا نصّ الحديث: ثنا ابن نمير - محمّد بن عبد الله - ثنا محاضر - ابن مورع - ثنا الأعمش، ثنا أبو سفيان عن جابر، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح تكاد تدفن الراكب. ثم ساق الحديث كسياق مسلم.
2 طبقات المدلسين لابن حجر ص (23) .
3 تقريب النووي ص 14 (تدريب الراوي) انظر فتح المغيث للسخاوي1/ 176.
4 هو زهير بن حرب بن شداد، أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد، ثقة ثبت من العاشرة، (ت234) / خ م د س ق. التقريب 1/ 264.
5 أبو حاتم: هو محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي أحد الأئمة الأعلام (ت277) ، ومقدمة علل الحديث لابن أبي حاتم 1/ 8.
6 هو ذكوان السمان.
بسالم بن أبي الجعد". انتهى كلام ابن حجر1.
وعلى هذا فرواية أبي سفيان عن جابر بطريق الوجادة، وهي مختلف في الاحتجاج بها لأنها من قبيل المنقطع2.
ولكن قد تابعه أبو الزبير في جابر بن عبد الله وصرح بإخبار جابر له عند أحمد في مسنده3.
وبهذا يكون الحديث قد ورد مرسلا عند ابن إسحاق ورجاله ثقات ووصله مسلم وأحمد وعبد بن حميد والواقدي. فيكون حديث ابن إسحاق عندئذ حسنا لغيره.
__________
1 تهذيب التهذيب 5/ 27، وانظر الأحاديث الأربعة في البخاري 5/ 30، كتاب الفضائل (باب مناقب سعد بن معاذ) و6/ 126 كتاب التفسير و7/ 94، كتاب الأشربة باب شرب اللبن.
2 انظر تقريب النووي 281- 284 (تدريب الراوي) .
3 مسند الإمام أحمد 3/ 346.
الفصل الثالث: اختلاق المنافقين حادثة الإفك
حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة النعرة الجاهلية. وقد تضمن حديث مسلم سياق القصة وبيانها أحسن بيان، وهذا نصه:
حدثنا حبان1 بن موسى أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا يونس2 بن يزيد الأيلي، ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمّد ابن رافع وعبد بن حميد، قال ابن رافع: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر3، والسياق حديث معمر من رواية عبد وابن رافع، قال يونس ومعمر جميعا عن الزهري: أخبرني سعيد4 بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة5 بن وقاص
__________
1 حبان بكسر المهملة بعدها موحدة، ابن موسى بن سوار: بفتح السين المهملة بعدها واو ثقيلة مفتوحة، السلمي، أبو محمد المروزي، ثقة من العاشرة، (ت233) / خ م ت س. التقريب 1/ 147.
2 يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي، بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام، أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة (ت159) على الصحيح/ع. المصدر السابق2/386.
3 تقدمت تراجم بقية رجال الإسناد.
4 سعيد بن المسيب بن حزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها نون، ابن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، من كبار الثانية، (ت بعد التسعين/ع. التقريب1/ 305) .
5 علقمة بن وقاص بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبت من الثانية، أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، (ت في خلافة عبد الملك) / ع. المصدر السابق 20/ 31.
وعبيد الله1 بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا.
وكلهم حدثني2 طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضا، ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه"، قالت عائشة: "فأقرع بيننا في غزوة غزاها3 فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب4، فأنا أحمل في هودجي5، وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل".
سبب تأخر عائشة عن الجيش:
فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت
__________
1 هو أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه، ثبت من الثالثة، (ت94 وقيل 98 وقيل غير ذلك) / ع. المصدر السابق1/ 535.
2 هو من قول الزهري، كما في رواية فليح عن الزهري، قال الزهري: وكلهم حدثني طائفة من حديثها انظر البخاري 3/ 151 كتاب الشهادات (باب تعديل النساء بعضهن بعضا) وتاريخ ابن شبة 1/101 ومسند أبي يعلى 4/ 444.
3 في غزوة غزاها: هي غزوة بني المصطلق كما هو عند ابن إسحاق من رواية عباد ابن عبد الله بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، ومن طريق ابن إسحاق أخرجها ابن جرير الطبري. وعند أبي يعلى من رواية صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة وابن المسيب وعلقمة وعبيد الله ولفظه: "قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم". انظر سيرة ابن هشام 2/ 297 وتاريخ الطبري 2/ 611 وتفسيره 18/ 93 ومسند أبي يعلى 4/ 450 وانظر فتح الباري 8/ 458، وسيأتي بحث القرعة في الأحكام ص 318.
4 تقدم الكلام على وقت نزول الحجاب ص 94.
5 الهودج: مركب النساء. انظر القاموس المحيط1/ 212. وفي فتح الباري8/ 458.
الهودج: بفتح الهاء والدال بينهما واو ساكنة وآخره جيم: محمل له قبة تستر بالثياب ونحوه، يوضع على ظهر البعير يركب فيه النساء ليكون أستر لهن.
من شأني أقبلت إلى الرحيل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع1 ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني اتغاؤه، وأقبل الرهط2 الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يهبلن3 ولم يغشن4
__________
1 جزع ظفار: بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها مهملة، في رواية فليح بن سليمان عن الزهري ((من جزع أظفار)) بزيادة الف انظر البخاري 3/ 152 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا. ومسند أبي يعلى 4/ 444. قال ابن بطال: الرواية (أظفار) بألف وأهل اللغة لا يعرفونه بألف، ويقولون: (ظفار) وقال القرطبي: "وقع في بعض راوايات مسلم (أظفار) وهي خطأ"، قال ابن حجر: معقبا على هذا قلت: لكنها في أكثر روايات أصحاب الزهري، حتى إن في رواية صالح ابن أبي الأخضر، عند الطبراني "جزع الأظافير" إلى أن قال: وإن ثبتت الرواية "أنه جزع أظفار" فلعل عقدها كان من الظفر أحد أنواع القسط وهو طيب الرائحة يتبخر به، فلعله عمل مثل الخرز، فأطلقت عليه جزعا تشبيها به، ونظمته قلادة إما لحسن لونه، أو لطيب رائحته، وقد حكى ابن التين: أن قيمته كانت اثني عشر درهما وهذا يؤيد أنه ليس جزعا ظفاريا، إذا لو كان كذلك لكانت قيمته أكثر من ذلك انظر فتح الباري 8/ 459.
والجزع: هو الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض تشبع الأعين، وظفار "بوزن قطام وهي مبنية على الكسر، اسم مدينة لحمير باليمن". انظر النهاير في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 269 والقاموس المحيط 3/ 12، وشرح مسلم للنووي 5/ 630، وفتح الباري 8/ 459.
2 الرهط من الرجال ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على أرهط وأرهاط وأراهط جمع الجمع. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 283. وقال ابن حجر: "لم أعرف منهم هنا أحدا إلا أن في رواية الواقدي أن أحدهم أبو موهوبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند البلاذري: شهد أبو مويهبة غزوة المريسيع وكان يقود بعير عائشة، وكان من مولدي مزينة، وكأن الأصل أبو موهوبة ويصغر فيقال: أبو مويهبة". فتح الباري 8/ 459. وانظر مغازي الواقدي 2/ 426 وأنساب الأشراف للبلاذري ص 488.
3 يهبلن: بضم التحتانية وتشديد الموحدة أي لم يكثر عليهن اللحم، يقال هبله اللحم إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا. (ابن الأثير: النهاية 5/ 240) .
4 لم يغشهن اللحم: أي لم يغط اللحم بعضه بعضا، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 240 و3/ 369 ومختار الصحاح ص 689 و 475. وفي رواية فليح: "لم يثقلن ولم يغشهن اللحم" البخاري 3/ 152 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا وابن شيبة 1/ 101 وأبي يعلى 4/ 444 وفي رواية الليث عن يونس: "لم يثقلهن اللحم" البخاري 6/ 85 كتاب التفسير وقال ابن أبي جمرة: ليس هذا تكرار لأن كل سمين ثقيل من غير عكس، لأن الهزيل قد يمتلئ بطنه طعاما فيثقل بدنه، فأشارت إلى أن المعنيين لم يكونا في نساء ذلك الزمان. فتح الباري 8/ 459- 460.
اللحم إنما يأكلن العلقة1 من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل2 الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني، فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس3 من وراء الجيش فادلج4، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي، فاستيقظت باسترجاعه5 حين عرفني، فخمرت6 وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني7 كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش
__________
1 العلقة: بضم المهملة وسكون اللام من الطعام: أي البلغة منه، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 289.
2 في رواية الليث عن يونس "فلم يستنكر القوم خفة الهودج"، البخاري 6/ 85 كتاب التفسير قال ابن حجر: وهو أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه، فكأنها تقول: كأنها لخفة جسمها بحيث إن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها، ولهذا أردفت ذلك بقولها: وكنت جارية حديثة السن، أي أنها مع نحافتها صغيرة السن فذلك أبلغ في خفتها. فتح الباري 8/460.
3 عرس: التعريس هو نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 206.
4 فادلج: بالتشديد سار آخر الليل. المصدر السابق 2/ 129. يقال: أدلج بالتخفيف إذا سار أول اليل، وادلج بالتشديد إذا سار من آخره.
5 باسترجاعه: أي قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. كما صرحت بذلك رواية ابن إسحاق انظر سيرة ابن هشام 2/ 298.
6 فخمرت وجهي: أي غطيته. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 77.
7 قال ابن حجر: عبرت بهذه الصيغة إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة لئلا يفهم لو عبرت بصيغة الماضي اختصاص النفي بحال الاستيقاظ، فعبرت بصيغة المضارعة. انظر فتح الباري 8/ 463.
بعد ما نزلوا موغرين1 في نحر الظهيرة2، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول".
انتشار الدعاية في المدينة:
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك3، وهو يريبني4 في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف5 الذي كنت أرى منه
__________
1 موغرين: الوغرة: بسكون الغين المعجمة شدة الحر. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 208. وكذا فسرها عبد الرزاق بقوله: الوغرة شدة الحر، عندما سأله عبد بن حميد بقوله: ما قوله موغرين، انظر صحيح مسلم 8/ 118، كتاب التوبة وفي رواية فليح بن سليمان "معرسين" بدل موغرين، انظر البخاري 3/ 152 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا ومسند أبي يعلى 4/ 444 وفي غريب الحديث لابن الأثير 3/ 206 "أن التعريس هو نزول المسافر آخر الليل" ولكن قال ابن زيد: التعريس النزول في السفر في أي وقت كان فيحمل الحديث على هذا، قال ابن حجر: وروى "موغرين: والتغوير النزول في وقت القائلة". انظر فتح الباري 8/ 461 و 464 وفي صحيح مسلم 8/ 118 كتاب التوبة من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان "موعرين" بعين وراء مهملتين. قال النووي: روايته بالعين ضعيف. شرح مسلم للنووي 5/ 361. لكن قال ابن حجر: بأن رواية يعقوب بن إبراهيم عند مسلم إنما هي "موعزين" بعين مهملة وزاي، قال "ووجهها القرطبي بقوله: كأنه من وعزت إلى فلان بكذا أي تقدمت والأول أولى -يعني موغرين - وصحفه بعضهم بمهملتين وهو غلط". فتح الباري 8/ 263 قلت: الرواية في صحيح مسلم الموجود بأيدينا "موعرين"بعين وراء مهملتين. وقول النووي بأنه ضعيف أولى من قول القرطبي بأنه تصحيف، وذلك أن في القاموس المحيط 2/ 155"وعر صدره لغة في وغر".
2 نحر الظهيرة: أولها وفي القاموس المحيط 2/ 139 نحر النهار والشهر أوله.
3 وفي رواية ابن إسحاق من حديث عباد وعمرة عن عائشة، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي ولا يذكرون لي قليلا ولا كثيرا، انظر: سيرة ابن هشام2/299،ومن طريقه أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ2/613.
4 يريبني: يشككني، يقال: رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 286.
5 في رواية ابن إسحاق "كنت إذا اشتكيت وحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي، في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني، قال: "كيف تيكم" لا يزيد على ذلك". سيرة ابن هشام 2/ 299.
حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم؟ " فذاك يربيني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت1 وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع2، وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف3 قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه4 وكنا نتأذى بالكنف5 أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح6، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن
__________
1 نقه المريض من باب طرب وخضع إذا برأ وأفاق وكان قريب العهد بالمرض، ولم يرجع إليه كمال صحته وقوته. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 111 والقاموس المحيط 4/ 294. ومختار الصحاح ص 678. وعند ابن إسحاق حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. سيرة ابن هشام 2/ 299.
2 المناصع: المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة واحدها منصع كمقعد. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 65 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 89 وفي فتح الباري 1/ 249 "المناصع أماكن معروفة من ناحية البقيع".
3 الكنف: جمع كنيف، المكان الساتر وأرادت به هنا المكان المعد لقضاء الحاجة. القاموس المحيط 3/ 192 ومختار الصحاح ص 580.
4 التّنَزه: البعد لقضاء الحاجة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 43 وعند ابن إسحاق: وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، وإنما كنا نذهب في فسح المدينة. سيرة ابن هشام 2/ 299
5 نتأذى: أي نتقذر.
6 قال ابن عبد البر: اسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم وهي ابنة خالة أبي بكر الصديق. وقيل - أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف - وأمها ريطة بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق. والظاهر أنها سلمى بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، واسم أبي رهم أنيس مكبرا لا سلمى بنت صخر فإن هذا نسب أم أبي بكر الصديق خالة أم مسطح وهي سلمى بنت صخر بن عامر ... الخ
ووالدة أم مسطح اسمها ريطة بنت صخر بن عامر بن سعد بن تيم، وقال ابن حجر: رائطة حكاه أبو نعيم. انظر الاستيعاب على هامش الإصابة 3/ 494 وطبقات ابن سعد 8/ 228 و 3/ 53 و 169 وأسد الغابة لابن الأثير 4/ 308 و5/ 156 و7/ 326 و393. وفتح الباري 8/ 465.
عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح1 بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا2 من شأننا.
فعثرت3 أم مسطح في مرطها4 فقالت: "تعس5 مسطح" فقلت لها: "بئس ما قلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا"6؟!!
قالت: "أي هنتاه7 أولم تسمعي ما قال؟ " قلت: "وماذا قال؟ "
__________
1 مسطح: بمكسور وسكون سين وطاء مهملة- لقب واسمه عوف يكنى أبا عباد وقيل أبا عبد الله، (ت34) في خلافة عثمان، ويقال عاش إلى خلافة علي رضي الله عنه وشهد معه صفين ومات سنة 37، انظر الاستيعاب 3/ 494 وأسد الغابة 4/ 308 و 5/ 156 والإصابة 3/ 408 وفتح الباري 8/ 465.
2 ظاهر هذا الحديث وحديث البخاري من رواية يونس عن الزهري 6/ 85 كتاب التفسير "أن أم مسطح عثرت بعد أن قضت عائشة حاجتها ثم أخبرتها الخبر"، لكن في حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة وفيه: "أن أم مسطح عثرت ثلاث مرات في كل مرة تقول لها عائشة: تسبين ابنك وفي الثالثة انتهرتها عائشة، فقالت: "والله ما أسبه إلا فيك"، فقلت: "في أي شأني"، قالت: "فبقرت لي الحديث" فقلت: "وقد كان هذا؟ " قالت:"نعم والله". "فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرا" وفي رواية ابن إسحاق "فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت" وفي رواية ابن حاطب عن علقمة بن وقاص "فذهب عني الذي خرجت له حتى ما أجد منه شيئا" انظر البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وتفسير الطبري 18/ 93و 95 وسيرة ابن هشام قال ابن حجر: "ويجمع بين الأحاديث بأن معنى قولها: قد فرغنا من شأننا أي المسير، لا من قضاء الحاجة". فتح الباري 8/ 466.
3 فعثرت في مرطها: أي وطئته برجلها فسقطت، والمرط: بكسر الميم واحد المروط وهي أكسية من صوف أو خز، كان يؤتزر بها. مختار الصحاح ص 412و 621.
4 فعثرت في مرطها: أي وطئته برجلها فسقطت، والمرط: بكسر الميم واحد المروط وهي أكسية من صوف أو خز، كان يؤتزر بها. مختار الصحاح ص 412و 621.
5 تعس: يتعس إذا عثر وانكب لوجهه وهو دعاء عليه بالهلاك، غريب الحديث لابن الأثير 1/ 190 وفتح الباري 8/ 466.
6 فيه منقبة عظيمة لمن شهد بدرا، ويزيد ذلك وضوحا قصة حاطب بن أبي بلتعه عندما كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم في عام فتح مكة، وكشف أمره واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما صنع "وفيها فقال عمر: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا، قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". البخاري 5/ 119باب غزوة الفتح.
7 أي هنتاه: وتفتح النون وتسكن وتضم الهاء الآخرة وتسكن ومعناها: يا بلهاء كأنها نسبت إلى قلة المعرفة، بمكايد الناس وشرورهم. صلى الله عليه وسلما النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 279- 280.
قالت: "فأخبرتني بقول1 أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت على بيتي فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "كيف تيكم؟ "
قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت2 أبوي فقلت لأمي: "يا أمتاه ما يتحدث الناس"، فقالت: "يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة3 عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن4 عليها"، قالت: "قلت: سبحان
__________
1 قال ابن حجر: "طرق الحديث الإفك مجتمعة على أن عائشة بلغها الخبر من أم مسطح لكن وقع عند البخاري في لمغازي من حديث أم رومان ما يخالف هذا ولفظه: "بينا أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان وفعل، فقالت أم روما: وما ذاك؟ قالت: ابني فيمن حدث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا"، وفي قصة يوسف "قالت: فعل الله بفلان وفعل، قالت: " فقلت لم؟ " قالت:" إنه نمى ذكر الحديث " فقالت عائشة:" أي حديث؟ "فأخبرتها"، قالت: "فسمعه أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قالت: "نعم"، فخرت مغشيا عليها"، انظر البخاري كتاب الأنبياء 4/ 120 وكتاب المغازي 5/ 100 قال ابن حجر: "وطريق الجمع: أنها سمعت ذلك أولا من أم مسطح، ثم ذهبت لبيت أمها لتستيقن الخبر منها فأخبرتها أمها بالأمر مجملا بقولها هوني عليك وما أشبه لها ثم دخلت الأنصارية فأخبرتها بمثل ذلك بحضرة أمها فقوي عندها القطع بوقوع ذلك فسألت هل سمعه أبوها وزوجها؟ ترجيا منها أن لا يكون سمعا ذلك، ليكون أسهل عليها، فلما قالت لها أنهما سمعاه غشي عليها، ثم قال ابن حجر: ولم أقف على اسم هذه المرأة الأنصارية ولا على اسم ولدها انظر فتح الباري 8/ 467.
2 في رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة "فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق البيت يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها وذكرت لها الحديث، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 93 وهذا لا يعارض رواية بن إسحاق "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على وعندي أمي تمرضني قال: "كيف تيكم" لا يزيد على ذلك" لأن أمها كانت تمرضها فلما نقهت ذهبت إلى بيتها. سيرة ابن هشام 2/ 299.
3 الوضاءة: الحسن والبهجة. النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 195 وفي رواية أبي أسامة عن هشام "لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها" البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 94 وفي رواية ابن حاطب عن علقمة بن وقاص لقل رجل أحب امرأة قط إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك. مسند إسحاق ابن رهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 94/ 95.
4 كثرن عليها: أي القول في عيبها.
الله! وقد تحدث الناس بهذا1؟ "
قالت: "فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ2 لي دمع ولا اكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي".
استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عند تأخر نزول الوحي:
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث3 الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم من نفسه لهم من الود فقال: "يا رسول الله هم أهلك4 ولا نعلم إلا خيرا"،
__________
1 وفي رواية محمد بن ثور عن معمر عند الطبري في التفسير 18/ 89- 92 "قلت: سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم، وفي رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة قلت: وقد علم به أبي؟ قالت نعم. قلت: ورسوله الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم" البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 وفي وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94.
وفي رواية ابن إسحاق "قلت لأمي: يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا". سيرة ابن هشام 2/ 299.
وفي رواية ابن حاطب "ورجعت على أبوي أبي بكر وأم رومان فقلت: أما اتقيتما الله في ووصلتما رحمي، قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: وتحدث الناس بما تحدثوا به"، مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 94- 95. وفي رواية أبي أسامة عن هشامك فاستعبرت فبكيت، فسمع صوتي أبو بكر وهو فوق البيت يقرأ فنزل، فقال لأمي: ما شانها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من أمرها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت. البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه، وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94.
2 لا يرقأ لي دمع: أي لا ينقطع ولا يسكن، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 248.
3 استلبث الوحي: استفعل من اللبث وهو الإبطاء والتأخر النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 4/ 224، وفي فتح الباري 8/ 468،: استلبث الوحي بالرفع: طال لبث نزوله، وبالنصب استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم نزوله.
4 مبتدأ وخبر، وعند البخاري 6/ 86 كتاب التفسير من رواية الليث عن يونس فقال: "يا رسول الله أهلك" بالنصب على تقدير أمسك أهلك.
وأما علي1 بن أبي طالب فقال: "لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير2، وإن تسأل الجارية تصدقك"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: "طأي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " قالت له بريرة: "والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه3 عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن4، فتأكله" قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالمنبر5،فاستعذر6 من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين
__________
1 قال ابن حجر: "وقع بسبب هذا الكلام من علي أن نسبته عائشة إلى الإساءة في شأنها"، فتح الباري 8/ 469 وسيأتي الجواب عن هذا في مواقف بعض الصحابة من حادثة الإفك. انظر ص 261.
2 وعند ابن إسحاق "إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستخلف" سيرة ابن هشام 2/301.
3 أغمصه عليها: أي أعيبها به وأطعن به عليها،. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 386.
وفي رواية أبي أسامة عهن هشام "وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به، فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر" البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94. وبينت هذا المبهم في رواية هشام بن عروة "رواية ابن إسحاق" فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضربا شديدا ويقول: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرة ابن هشام 2/ 301 وفي رواية ابن حاطب "وسأل الجارية الحبشية فقالت: والله لعائشة أطيب من طيب الذهب، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها، ولئن كانت صنعت ما قال الناسن ليخبرنك الله"، قال: فعجب الناس من فقهها، مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 95.
4 الداجن: هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها، النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 2/ 102 قلت: والمراد به هنا الشاة لرواية ابن حاطب التي مر ذكرها، ورواية أبي أسامة عن هشام بن عروة "والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها". البخاري 6/ 98 كتاب التفسير ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة والترمذي5/ 13كتاب التفسير وأحمد6/60وتفسير الطبري18/94.
5 المنبر: المراد به هنا الذي اتخذ في السنة الثانية، وكان من الطين وأما الذي اتخذ من خشب إنما كان في السنة الثامنة، وغزوة بني المصطلق كانت في الخامسة أو السادسة. السيرة الحلبية 2/ 318.
6 فاستعذر: أي قال: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 197.
من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهل بيتي1، فوالله2 ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا3 ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"4، فقام سعد ابن معاذ الأنصاري فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه5، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك".
آثار فتنة الإفك:
قالت: فقام سعد6 بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً7 صالحا، ولكن اجتهلته8 الحمية، فقال لسعد بن معاذ: "كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا
__________
1 في رواية هشام بن عروة "شيروا علي - بلفظ الأمر - في أناس أبنوا أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13فيه، وأحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 93.
والابن: التهمة، كما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير1/ 17 وفي الاعتصام عند البخاري 9/ 92 "ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي" بصيغة الاستفهام. وفي رواية ابن حاطب "كيف ترون فيمن يؤذيني في أهلي، ويجمع في بيته من يؤذيني", انظر مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 95.
2 في رواية فليح بن سليمان عند أبي يعلى 4/ 444 "فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا" ثلاث مرات.
3 هو صفوان بن معطل كما هو مصرح به في أول الحديث انظر ص 208.
4 زاد هشام بن عروة في روايته "ولا غبت في سفر إلا غاب معي". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير ومسلم 8/ 119 كتاب التوبة.
5 في رواية صالح بن كيسان عند البخاري 5/ 98 كتاب المغازي باب حديث الإفك "ضربت عنقه"، بإسناد الضمير إلى نفسه. قال ابن حجر: "إنما قال ذلك لنه سيدهم، فجزم بأن حكمه فيهم نافذ" فتح الباري 8/ 472.
6 في رواية صالح بن كيسان عند البخاري 5/ 98 كتاب المغازي باب حديث الإفك "فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد ابن عبادة وهو سيد الخزرج"، وفي رواية أبي أسامة عن هشام: "وقام رجل من بني الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير.
7 وعند الواقدي في مغازيه12/431 "وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن الغضب بلغ منه وعلى ذلك ما غمص عليه في نفاق ولا غير ذلك، إلا أن الغضب يبلغ من أهله".
8 اجتهلته الحمية: أي حملته الأنفة والغضب على الجهل. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 322 وفي حديث يونس عن الزهري وابن كيسان عن الزهري أيضا: "احتملته الحمية". البخاري 5/ 99 و6/ 86 ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة. وهو كذلك في رواية فليح بن سليمان عن الزهري، البخاري 3/ 153 كتاب الشهادات وابن شبة 1/ 101 وأبي يعلى: 4/ 444 ولذا قال ابن حجر: "احتملته الحمية كذا للأكثر. ومعناه أغضبته". فتح الباري 8/ 472.
تقدر على قتله"، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين"، فثار1 الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت2، قالت وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة3 من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي، قالت: فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول4 الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ ما قيل لي ما قيل.
__________
1 فثار الحيان: أي تناهضوا للنزاع والعصبية، شرح مسلم للنووي 5/ 635.
2 في رواية ابن حاطب "وكثر اللغط في الحيين في المسجد، ورسول,
,
,
...
المبحث الأول: حكم الدعوة إلى الإسلام قبل بدء القتال
إن النصوص تدل بظاهرها على أن المدعوين قبل القتال على قسمين:
القسم الأول: قوم لم تبلغهم الدعوة، فهؤلاء تجب دعوتهم قبل قتالهم حتى تقوم عليهم الحجة، ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط حتى دعوهم"1، وحديثه أيضا في بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه، عبادة الله" الحديث2 ...
القسم الثاني: قوم بلغتهم الدعوة وعلموا بها، فهؤلاء تستحب دعوتهم
__________
1 مسندأحمد1/231، وشرح معاني الآثار للطحاوي3/207 والسنن الكبرى للبيهقي 9/107، ومجمع الزوائد للهيثمي 5/304، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح.
قلت: رجال أحمد والطحاوي والبيهقي في هذا الحديث رجال الصحيح.
2 البخاري2/101، كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم الناس، ومسلم1/37، كتاب الإيمان، وأبو داود1/366، والترمذي2/69، وابن ماجه1/568، الجميع في كتاب الزكاة.
من باب التأكيد وزيادة في إقامة الحجة عليهم، وتجوز الإغارة عليهم، بغتة، بدون تجديد دعوة لهم، اكتفاء بالدعوة السابقة التي قد بلغتهم، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء"، الحديث1 ...
وحديث الصعب بن جثامة الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: لو أن خيلا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين، قال: "هم من آبائهم"، وفي لفظ: "إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين"، قال: "هم منهم"، وفي لفظ: سئل2 النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: "هم منهم" 3 وقد تقدم ذلك مفصلا في محله4.
__________
1 تقدم الحديث، ص 78.
2 السائل هو:الصعب نفسه كما هي رواية الترمذي، انظر سنن الترمذي 3/66، كتاب السير ما جاء في النهي عن قتل النساء والصبيان.
3 البخاري4/48، كتاب الجهاد، باب أهل الديار يبيتون، ومسلم5/144، وأبو داود 2/50، في باب قتل النساء، والنسائي في الكبرى 4/184، تحفة الأشراف للمزي، وابن ماجه2/947 باب الغارة والبيات، الجميع في الجهاد والترمذي 3/66، وأحمد 4/38 و71 و72 و73.
4 انظر ص 76 وما بعدها.
,
ورد في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم سبايا بني المصطلق وأن جويرية بنت الحارث وقعت في سهم ثابت بن شماس أو ابن عم له. الحديث1 ...
وفي حديث أبي سعيد الخدريس رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله
__________
1 تقدم ص 113 وما بعدها.
صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل".الحديث1 ...
وقد بينت الأحاديث الأخرى كيفية القسمة.
فعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما" 2.
وفي لفظ: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما"، قال3: "فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإذا لم يكن له فرس فله سهم"4.
وأورده مسلم بلفظ: "أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل5 للفرس سهمين وللرجل سهما"6.
وعند أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه"7.
والأحاديث صريحة في أن للفرس سهمين ولصاحبه سهما، فيكون للفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل سهم واحد.
وبهذا قال الجمهور من العلماء لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة في
__________
1 سيأتي تخريجه في حكم العزل، ص 331.
2 البخاري 4/25 كتاب الجهاد، باب سهام الفرس، و5/113، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
3 القائل: فسره نافع هو: عبيد الله بن عمر العمري، الراوي عنه. قاله ابن حجر، فتح الباري 7/484.
4 انظر ص 310.
5 النفل بالتحريك: الغنيمة وجمعه أنفال، والنفل بالسكون وقد يحرك الزيادة. النهاية لابن الأثير 5/99، قلت: وهو في الحديث بالتحريك.
6 مسلم 5/156 كتاب الجهاد.
7 سنن أبي داود 2/69 كتاب الجهاد باب في سهمان الخيل، وابن ماجه 2/952، فيه باب قسمة الغنائم.
ذلك. وخالف الأحناف فقالوا: للفارس سهمان فقط سهم له وسهم لفرسه، واحتجوا بما رواه أبو داود من حديث مجمع1 بن جارية الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطى للفارس سهمين وأعطى الراجل سهما" 2.
وقد أجاب ابن حجر عن هذا الحديث بأن في إسناده ضفعا3 ثم قال: "ولو ثبت فيكون معناه: أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين، غير سهمه المختص به".
وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده بهذا الإسناد فقال: (للفرس) .
ثم قال ابن حجر: "وللنسائي4 من حديث الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له أربعة أسهم وسهمين لفرسه وسهما له وسهما لقرابته"5.
والقول الراجح في هذا هو ما ذهب إليه الجمهور لقوة أدلتهم في ذلك.
__________
1 مجمع: بضم أوله وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة ابن جارية بن عامر الأنصاري، الأوسي، المدني، صحابي، (ت في خلافة معاوية أبي سفيان) /د ت ق. التقريب 2/230.
2 انظر الحديث في سنن أبي داود 2/69 كتاب الجهاد وقال عقبه: "حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه". (يعني وفيه أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه) .
3 لأن فيه يعقوب بن مجمع بن يزيد بن جارية الأنصاري، المدني، مقبول من الرابعة/ د. التقريب 2/377.
4 انظر الحديث في سنن النسائي 6/190 كتاب الخيل باب سهمان للخيل، ولفظه: "ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم: سهما للزبير وسهما لذي القربى، لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير، وسهمين للفرس" والحديث حسن.
5 فتح الباري 6/68، وانظر سبل السلام للصنعاني 4/58، ونيل الأوطار للشوكاني 7/299- 300.
,
...
المبحث الثالث: صحة جعل العتق صداقا
تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها أن جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار وقعت في سهم ثابت بن قيس أو ابن عم له، فكاتبته على
نفسها وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك في خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك"، قالت: قد فعلت1.
وعند الطحاوي: حدثنا أحمد2 بن داود قال: حدثنا يعقوب3 بن حميد قال: ثنا سليمان4 بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد عن ابن عون5 قال: كتب إليَّ نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جويرية في غزوة بني المصطلق، فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، أخبرني بذلك عبد الله ابن عمر، وكان في ذلك الجيش.
ثم قال الطحاوي: "فقد روي هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا، ثم قال هو من بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، أنه يجدد لها صداقا.
حدثنا بذلك سليمان6 بن شعيب، قال: ثنا الخصيب7، قال: ثنا
__________
1 تقدم الحديث، ص 113، وما بعدها، وانظر ص 310.
2 أحمد بن داود بن موسى السدوسي، أبو عبد الله، عن مسدد وأبي الربيع وغيرهما، وعنه الطحاوي وثقه ابن يونس. انظر كشف الأستار عن رجال معاني الآثار للسندي، ص 3.
3 يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، نزيل مكة، وقد نسب لجده، صدوق ربما وهم، من العاشرة (ت240 أو241) /عخ ق. التقريب 2/375.
4 سليمان بن حرب الأزدي الواشحي بمعجمة، ثم مهملة، البصري القاضي بمكة، ثقة إمام حافظ، من التاسعة (ت 224) وله ثمانون سنة /ع. المصدر السابق 1/322.
5 ابن عون هو: عبد الله بن عون بن أرطبان. تقدمت ترجمته مع بقية رجال الإسناد.
6 سليمان بن شعيب بن سليمان بن سليم بن كيسان الكلبي، أبو محمد المصري، عن خصيب بن ناصح وأبيه، وعنه الطحاوي، وثقه العقيلي. (ت278) كشف الأستار عن رجال معاني الآثار للسندي، ص 43، ولسان الميزان لابن حجر3/96.
7 الخصيب بفتح المعجمة وكسر المهملة ابن ناصح الحارثي البصري، نزيل مصر، صدوق يخطئ من التاسعة (ت 208) / س. التقريب 1/223، وكشف الأستار عن رجال معاني الآثار للسندي، ص 31.
حماد بن سلمة عن عبيد الله1، عن نافع عن ابن عمر مثل ذلك. فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد ذهب إلى أن الحكم في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيحتمل أن يكون ذلك سماعا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون دله على ذلك المعنى الذي استدللنا به نحن على خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك2 بما وصفنا دون الناس"3.
قلت: هذا الحديث الذي أيد به الطحاوي الخصوصية لا ينهض لفصل النزاع وذلك للاحتمال الموجود فيه. وحديثه الأول4 صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق جويرية وجعل عتقها صداقها. والأصل في ذلك الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى تثبت الخصوصية، وهذا الحديث فيه الاحتمال المذكور يبطل الاستدلال، بخلاف جعل العتق صداقا فإن الأحاديث صريحة في ذلك.
فعند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والطحاوي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها"5.
__________
1 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين / ع. التقريب 1/537.
2 استدل الطحاوي على الخصوصية، بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، [سورة الأحزاب، من الآية: 50] .
قال: فلما أباح الله لنبيه أن يتزوج بغير صداق، كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق، ومن لم يبح الله له أن يتزوج على غير صداق، لم يكن له أن يتزوج على العتاق، الذي ليس صداق.
وهذه الآية التي استدل بها الطحاوي على الخصوصية، استدل بها أيضا ابن القيم على عدم الخصوصية، انظر ص 317.
3 شرح معاني الآثار 3/20- 21.
4 انظر ص 313.
5 البخاري7/7 كتاب النكاح باب من جعل عتق الأمة صداقها، ومسلم4/146 كتاب النكاح وأبو داود 1/474 فيه باب في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها والترمذي 4/257 فيه أيضا. والطحاوي فيه 3/20.
وفي لفظ عند البخاري: "سبي النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها فقال ثابت1 لأنس: ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها فأعتقها"2.
وفي لفظ عند مسلم: "تزوج صفية وأصدقها عتقها"3.
وفي لفظ عند البخاري من حديث أنس أيضا قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". الحديث ...
وفيه: "وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية4 الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز5 بن صهيب لثابت: يا أبا محمد أنت قلت لأنس: ما أصدقها؟ فحرك ثابت رأسه تصديقا له"6.
ولفظ مسلم أن دحية قال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا نبي أله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد قريظة والنضير ما تصلح إلا لك" قال: "ادعوه بها" قال: فجاء بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها"، قال: "وأعتقها وتزوجها" فقال ثابت: "يا أبا حمزة7: ما أصدقها" قال: "نفسها أعتقها وتزوجها"8.
__________
1 ثابت هو ابن أسلم البناني: بضم الموحدة ونونين مخففين. تقدمت ترجمته.
2 البخاري 5/ 109، كتاب المغازي باب غزوة خيبر.
3 مسلم 4/146 كتاب النكاح.
4 دحية بكسر دال وسكون مهملة وبمثناة تحتية، وعند ابن ماكولا بفتح دال دحية ابن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صحابي جليل نزل المزة ومات في خلافة معاوية /د. التقريب 1/235.
5 عبد العزيز بن صهيب بالتصغير البناني بضم الموحدة ونونين مخففين، البصري، ثقة من الرابعة، (ت 130) / ع. المصدر السابق 1/510.
6 5/109 كتاب المغازي باب غزوة خيبر.
7 أبو حمزة: كنية أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8 صحيح مسلم 4/145- 146 كتاب النكاح.
فهذه الألفاظ كلها صريحة في صحة جعل العتق صداقا، ومع هذا كله فقد صرفها بعض العلماء عن ظاهرها وأولها بتأويلات بعيدة فيها تكلف، من تلك التأويلات: دعوى الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في قول الطحاوي1، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما أعتقها وجبت له عليها قيمتها فصح به العقد. ومنها أن هذا شيء قاله أنس بن مالك من قبل نفسه، لما لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق صداقا ... الخ.
والذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة بالذات هو العمل بنا نصت عليه الأحاديث وهي صريحة في هذا، لأن الأصل عدم الخصوصية، ولأن الراوي أعرف بتأويل ما روى، فما كان لأنس أن يقول شيئا من قبل نفسه، لا سيما أنه قد ورد عند الطبراني2 وأبي الشيخ3 عن صفية نفسها قالت: "أعتقني وجعل عتقي صداقي"4.
وهذا يوافق ما قاله أنس رضي الله عنه، وصاحب القصة أدرى بها من غيره.
وقد تعرض لهذه المسألة ابن القيم في زاد المعاد أثناء كلامه على الأحكام الفقهية في غزوة خيبر وأيد القول بصحة جعل العتق صداقا، ورد على القائلين بغيره.
وهذا نص كلامه: "ومنها5 جواز عتق الرجل أمته، وجعل عتقها صداقا لها، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره، ولا لفظ إنكاح ولا
__________
1 انظر ص 314.
2 هو الحافظ الإمام العلامة الحجة، بقية الحفاظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ابن مطير اللخمي الشامي الطبراني، مسند الدنيا، وصاحب المعاجم الثلاثة. ولد عام (260) وتوفي عام (360) تذكرة الحفاظ للذهبي 3/912- 917.
3 هو حافظ أصبهان ومسند زمانه الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري صاحب المصنفات السائرة، المعروف بأبي الشيخ، ولد سنة (274) وتوفي سنة (369) المصدر السابق 3/954- 947.
4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/129.
5 أي من الأحكام الفقهية المأخوذة من غزوة خيبر.
تزويج، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية، ولم يقل هذا قط خاص بي، ولا أشار إلى ذلك مع علمه بإقتداء أمته به، ولم يقل أحد من الصحابة إن هذا لا يصلح لغيره، بل رووا القصة ونقلوها إلى الأمة ولم يمنعوهم، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقتداء به في ذلك، والله سبحانه لما خصه في النكاح بالموهوبة قال: {خَالَصَةً لَّكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينِ} فلو كانت هذه خالصة له دون أمته لكان هذا التخصيص أولى بالذكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم، بخلاف المرأة التي تهب نفسها للرجل لندرته وقلته أو مثله في الحاجة إلى البيان، ولا سيما والأصل مشاركة الأمة له، وإقتداؤها به، فكيف سكت عن منع الإقتداء به في ذلك الموضع الذي لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز؟ هذا شبه المحال، ولم تجتمع الأمة على عدم الإقتداء به في ذلك، فيجب المصير إلى إجماعهم وبالله التوفيق".
ثم أيد بالقياس الصحيح أيضا فقال: والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك، فإنه يملك رقبتها ومنفعة وطئها وخدمتها، فله أن يسقط حقه من ملك الرقبة، ويستبقي ملك المنفعة أو نوعا منها، كما لو أعتق عبده وشرط عليه أن يخدمه ما عاش، فإذا أخرج المالك رقبة ملكه، واستثنى نوعا من منفعته لم يمنع من ذلك في عقد البيع، فكيف يمنع منه في عقد النكاح؟.
ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وكان إعتاقها يزيل ملك اليمين عنها كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة
جعلها زوجة وسيدها كان يلي نكاحها وبيعها ممن شاء بغير رضاها، فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها.
ولما كان من ضرورته1 عقد النكاح ملكه لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا
__________
1 الضمير في (ضرورته) يعود على الوطء وفي (ملكه) وبه يعود على العقد، والقياس الذي ذكره ابن القيم خلاصته: أن السيد أعتق الرقبة واستثنى جزء من المنفعة وهو الزواج بعقد، وهذا يصح في البيع. ففي النكاح من باب أولى. والسيد هو الذي يلي عقد نكاح أمته لغيرهن وقد صار النكاح إليه فهو الذي يعقد لنفسه ضرورة؛ لأن الانتفاع بالوطء لا يمكن إلا بطريق العقد وهو يملكه، فصح منه توليه لنفسه.
به، فهذا محض القياس الصحيح الموافق للسنة الصحيحة، والله أعلم1.
__________
1 زاد المعاد2/160 و1/43 و4/27، وانظر سبل السلام للصنعاني3/148، ونيل الأوطار للشوكاني6/175-176، وشرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفاريني 1/388- 390.
,
إن من عدالة الإسلام وسماحته ومراعاة للحقوق الإنسانية، أن المرء إذا كان لديه أكثر من زوجة فإنه يأمره ويطالبه العدل بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمبيت لأن لكل واحدة منهن حقا، ومن ثم فإنه إذا أراد السفر ببعضهن أرشده الإسلام إلى القرعة بينهن ليكون ذلك أدعى إلى رضى الجميع وعدم وقوع بغضاء وشحناء بينهن لأنه لو اختار واحدة منهن بدون قرعة لكان في ذلك شقاق ونزاع مع بقية الزوجات، لاستوائهن في هذا لحق، فكانت القرعة حاسمة لهذا كله.
ولما كانت غزوة بني المصطلق أقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه كعادته فأصابت القرعة عائشة فخرج بها صلى الله عليه وسلم معه، ودلت الأحاديث الصحيحة أن عائشة رضي الله عنها خرجت وحدها في هذه الغزوة ولم تخرج معه صلى الله عليه وسلم امرأة سواها، وأما ما ورد من خروج أم سلمة في هذه الغزوة أيضا فإنه لا يصح.
فعند ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة عن نفسها، حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها ما سمع، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع
بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
وعند البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق". الحديث ...
قال الهيثمي: "رواه البزار وفيه محمد بن عمرو2 وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات3 ونسبه السيوطي للبزار وابن مردويه وقال بسند حسن"4.
وبوب البخاري بقوله: "باب حمل الرجل امرأته في الغزوة دون بعض نسائه"، ثم ذكر طرفا من حديث عائشة في قصة الإفك وهو "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم. فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب"5.
قال ابن حجر: "قوله باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه "ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في قصة الإفك وهو ظاهر فيما ترجم له، وسيأتي شرح حديث الإفك تاما في التفسير، وفيه التصريح بأن حمل عائشة معه كان بعد القرعة بين نسائه"6. اهـ.
قلت: ومعلوم أن قصة الإفك كانت في غزوة بني المصطلق، وبهذا التقرير يتضح أن عائشة كانت وحدها في غزوة بني المصطلق، ولذا فقد قال ابن حجر
__________
1 سيرة ابن هشام 2/297، وانظر مسند أبي يعلى 4/450 و5/555، وانظر ص 206، من هذه المسألة.
2 هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي. تقدمت ترجمته.
3 مجمع الزوائد 9/230.
4 الدر المنثور 5/27.
5 البخاري 4/27، كتاب الجهاد والسير باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه.
6 فتح الباري 6/78، وقع في فتح الباري الطبعة السلفية "قبل أن ينزل الحجاب" وهو خطأ مطبعي لأن أحاديث الإفك صريحة في وقوع هذه الحادثة بعد نزول الحجاب. وهو كذلك في الفتح، النسخة الحلبية 6/418.
أثناء شرحه لحديث الإفك: "قوله: (فخرج سهمي) ، هذا يشعر بأن عائشة كانت في تلك الغزوة وحدها، لكن عند الواقدي1 من طريق عباد بن عبد الله عن عائشة أنها خرجت معه في تلك الغزوة أيضا أم سلمة، وكذا في حديث ابن عمر، وهو ضعيف"2.
ثم قال: "ولم يقع لأم سلمة في تلك الغزوة ذكر، ورواية ابن إسحاق3 من رواية عباد ظاهرة في تفرد عائشة بذلك، ولفظه "فخرج سهمي عليهن، فخرج بي معه"4.اهـ. وأما حكم العمل بالقرعة فالجمهور من العلماء على القول بذلك.
والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبارها5. والأحاديث ترد عليهم فإنها صريحة في ذلك.
__________
1 انظر الحديث في مغازي الواقدي، 2/426.
2 انظر الحديث في مجمع الزوائد للهيثمي، 9/237، ونسبه للطبراني وقال: فيه إسماعيل ابن يحيى بن عبيد الله التيمي وهو كذاب.
3 انظر حديث ابن إسحاق، ص 318، وانظر سيرة ابن هشام، 2/297.
4 فتح الباري 8/458، وانظر حاشية، ص 206، من هذه الرسالة.
5 انظر شرح صحيح النووي على مسلم 5/629 و641، وزاد المعاد لابن القيم 1/55، وفتح الباري 5/293- 294، وسبل السلام للصنعاني 3/165، ونيل الأوطار للشوكاني 6/245، وعون المعبود شرح سنن أبي داود 6/176.
,
تقدم في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب".الحديث1 ...
__________
1 انظر سياق حديث الإفك ص 205 وما بعدها. وانظر صحيح البخاري 5/96 كتاب المغازي باب حديث الإفك.
وفي حديث الربيع1 بنت معوذ عند البخاري قالت: "كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم نخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة"2.
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم3 ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى"4.
وعند البخاري ومسلم من حديث أنس أيضا قال: "لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث....
وفيه: "ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان5 أرى خدم6 سوقهما تنقلان القرب على متونهما7 ثم تفرغانه في أفواههم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم" الحديث8 ...
__________
1 الربيع: بالتصغير والتثقيل. بنت معوذ باسم الفاعل ابن عفراء بفتح المهملة وسكون الفاء الأنصارية النجارية من صغار الصحابة. /ع. التقريب 2/5298.
2 البخاري 4/27-28 كتاب الجهاد والسير باب مداواة النساء الجرحى في الغزو و7/106 كتاب الطب باب هل يداوي الرجل والمرأة أو المرأة الرجل وأحمد 6/358.
3 أم سليم بالتصغير بنت ملحان بن خالد الأنصارية والدة أنس بن مالك، يقال: اسمها سهلة، أو رميلة، أو رميتة أو مليكة، أو أنيثة، وهي الغميصاء، أو الرميصاء بالتصغير زوج أبي طلحة الأنصاري، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، (ت في خلافة عثمان) / خ م د ت س. التقريب 2/622.
4 مسلم5/196 كتاب الجهاد والسير، وأبو داود2/17 كتاب الجهاد باب في النساء يغزون والترمذي 3/68 كتاب السير باب ما جاء في خروج النساء في الحرب.
5 شمر إزاره رفعه، وشمر في الأمر خف فيه، وجد واجتهد. انظر النهاية لابن الأثير 2/500 ومختار الصحاح ص 346.
6 الخدم: الخلخال. النهاية لابن الأثير2/15.
7 متونهما: متنا الظهر: مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم، يذكر ويؤنث، مختار الصحاح ص 614 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 4/269.
8 البخاري 4/27 كتاب الجهاد والسير باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال و5/31 كتاب المناقب باب مناقب أبي طلحة و5/82 كتاب المغازي - غزوة أحد باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} ومسلم 5/196 كتاب الجهاد والسير.
وفي حديث أم عطية1 الأنصارية رضي الله عنها قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى"2.
وفي هذه النصوص تبرز بوضوح كامل قيمة المرأة في المجتمع المسلم، فإنها فيه عضو فعال، فها هي الأحاديث الصحيحة تصرح بأن المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تشارك في الحرب، كما أنها في السلم سيدة البيت ومربية أجيال، فليس في الإسلام حظر للمرأة أن تشارك الجيش أعباءه في القتال، بل في ذلك حث لها على سقي الماء ومداواة الجرحى وتمريض المرضى، وأكثر من ذلك فقد ورد في حديث أنس بن مالك، أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها فرآها أبو طلحة3 فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"، قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين، بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله اقتل من بعدنا4 من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن 5.
ولكن كل ذلك مقيد بقيود الإسلام وشروطه التي تهدف إلى صيانة المرأة عن الابتذال والسفور، والخروج عن حد الاعتدال، لتكون لقمة سائغة لكل جسد شهواني، كما تدعو إليه حضارة الغرب والشرق اليوم، ويقلدهم في ذلك أذنابهم من أبناء المسلمين، الذين اغتروا بهذه الدعايلت الزائفة، التي يروجها
__________
1 أم عطية: هي نسيبة بالتصغير، ويقال بفتح أولها، بنت كعب، ويقال بنت الحارث، صحابية مشهورة، ثم سكنت البصرة. / ع. التقريب 2/616.
2 مسلم 5/199 كتاب الجهاد وابن ماجه 2/952 فيه باب العبيد والنساء يشهدون مع المسلمين وأحمد 5/84.
3 أبو طلحة هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، (ت 34) وقال أبو زرعة: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، /ع. التقريب 1/275.
4 تريد الذين فروا في غزوة حنين ممن أسلم يوم فتح مكة.
5 صحيح مسلم 5/196 كتاب الجهاد والسير.
دعاة الباطل والإلحاد، بغية الانجراف في تياراتهم المنحرفة الضالة، التي تهدف إلى خلخلة البناء الإسلامي من أساسه الأول وهو الأسرة، وقوام الأسرة في الإسلام، هو المرأة المسلمة، فإذا خرجت وانتهكت الحرمات، وتبرجت تبرج الجاهلية الأولى، فقد وصل دعاة تحرير المرأة إلى مبتغاههم الخبيث.
فنسأل الله أن يرزق المسلمين البصيرة في دينهم، والتنبه لمخاطر أعدائهم، وما يدبرونه لهم من مكايد.
,
إن الأحاديث الواردة في ذلك من الكثرة والشهرة بمكان، وهو أمر معلوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده.
وسأقتصر على إيراد الأحاديث الواردة في غزوة بني المصطلق وهي:
أولاً: حديث عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم وغيرهما وهذا سياق مسلم قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا سليم بن أخضر عن ابن عون
قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ" قال يحيى: أحسبه قال (جويرية) أو قال البتة1 ابنة الحارث. وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش ثم قال مسلم: وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون بهذا الإسناد مثله وقال: "جويرية بنت الحارث ولم يشك"2.
ثانياً: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل". الحديث3 ...
ثالثاً: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها" الحديث ...
وفيه "فلقد أعتق بتزويجه مائة من أهل بيت بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها"4.
وبهذه الأحاديث وغيرها قال جمهور العلماء بجواز استرقاق العرب كغيرهم من سائر الكفار من الأعاجم من يهود ونصارى وغير ذلك.
وقد بوب البخاري بقوله: "باب من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع
__________
1 قال النووي في شرحه على صحيح مسلم 4/330: أما قوله أو البتة فمعناه: أن يحيى بن يحيى قال: "أصاب يومئذ بنت الحارث، وأظن شيخي سليم بن أخضر سماها في روايته: جويرية، أو أعلم ذلك، وأجزم به، وأقول ألبتة، وحاصله أنها جويرية فيما أحفظه إما ظنا وإما علما".
2 تقدم تخريج الحديث في حكم الدعوة قبل القتال ص 78.
3 سيأتي تخريجه في حكم العزل ص 331.
4 أبو داود2/347 كتاب العتق وأحمد6/277 والبيهقي9/74 وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وتقدم الحديث ص 113 وما بعدها.
وجامع وفدى وسبى الذرية"، ثم أورد جملة أحاديث منها حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي سعيد1 قال ابن حجر: "هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف في استرقاق العرب، وهي مسألة مشهورة، والجمهور على أن العربي إذا سبى جاز أن يسترق، وإذا تزوج أمة بشرطه كان ولدها رقيقا".
وذهب الأوزاعي2 والثوري3 وأبو ثور إلى أن على سيد الأمة تقويم الولد ويلزم أبوه بأداء القيمة ولا يسترق الولد أصلا. وقد جنح المصنف إلى الجواز، وأورده الأحاديث الدالة على ذلك. الخ4.
وقال الشافعي: "وإذا قوتل أهل الحرب من العجم جرى السبا على ذراريهم ونسائهم ورجالهم لا اختلاف في ذلك وإذا قوتلوا وهم من العرب، فقد سبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل من العرب، وأجرى عليهم الرق، حتى من عليهم بعد. فاختلف أهل العلم بالمغازي، فزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلق سبي هوازن قال: "لو كان تاما على أحد من العرب سبي لتم على هؤلاء، ولكنه أسار وفداء"، فمن أثبت هذا الحديث زعم أن الرق لا يجري على عربي بحال، وهذا قول الزهري وسعيد5 بن المسيب والشعبي ويروى عن عمر بن الخطاب، وعمر6 بن
__________
1 البخاري 3/129 كتاب العتق. وانظر ص 223.
2 هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقة جليل من السابعة (ت 157) /ع. التقريب. 1/493.
3 هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الفقيه صاحب الشافعي ثقة من العاشرة، (ت 240) / م د ق. المصدر السابق 1/35.
الضمير يعود على جواز تزوج الأمة وذلك أنه لا يجوز للحر تزوج الأمة إلا إذا عجز عن مهر حرة وخشي العنت وهو الوقوع في الزنا. كما صرحت بذلك آية سورة النساء: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، [سورة النساء، من الآية: 25] .
4 فتح الباري 5/170.
5 سعيد بن المسيب بن حزن بفتح الحاء المهملة وسكون لزاي تقدمت ترجمته.
6 عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت ابن عمر بن الخطاب، ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فعد مع الخلفاء الراشدين، من الرابعة (ت 101) وله 40 سنة ومدة خلافته سنتان ونصف. / ع. التقريب 2/59.
عبد العزيز، ثم قال: أخبرنا سفيان1 عن يحيى2 بن يحيى الغساني عن عمر بن عبد العزيز، قال: وأخبرنا سفيان عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: "لا يسترق عربي".
قال الربيع3: "قال الشافعي ولولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا" ... ثم قال: "وأخبرنا ابن أبي ذئب4 عن الزهري عن ابن المسيب أنه قال في المولى ينكح الأمة يسترق ولده، وفي العرب ينكحها لا يسترق ولده، وعليه قيمتهم".
قال الربيع: "رأى الشافعي أن يأخذ منهم الجزية وولدهم رقيق ممن دان دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان" ثم قال الشافعي: "ومن لم يثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أن العرب والعجم سواء، وأنه يجري عليهم الرق حيث جرى على العجم".انتهى كلام الشافعي5.
قلت: الحديث لم يثبت كما بين ذلك البيهقي والشوكاني قال البيهقي: بعد أن أورد كلام الشافعي هذا: "وأما الرواية فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما ذكرها الشافعي - في القديم عن محمد بن عمر الواقدي6، عن موسى بن
__________
1 سفيان: هو ابن عيينة.
2 هو ابن قيس بن حارثة الغساني، أبو عثمان الشامي، ثقة من السادسة، (ت 133) /د. المصدر السابق 2/360.
3 الربيع بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم، أبو محمد المصري المؤذن صاحب الشافعي ورواية كتبه عنه. ثقة من الحادية عشرة (ت 270) . /د س ق. المصدر السابق 1/245.
4 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي، العامري أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل، من السابعة (ت 158) /ع. التقريب 2/184.
5 كتاب الأم 4/186 كتاب الجهاد.
6 قال فيه البخاري: "محمد بن عمر الواقدي، قاضي بغداد، عن مالك ومعمر، متروك الحديث". انظر كتاب الضعفاء الصغير للبخاري ص275. وفي التاريخ الكبير 1/178 قال عنه: "سكتوا عنه، تركه أحمد وابن نمير"، وقال فيه النسائي: "متروك الحديث"، وفي موضع آخر قال: "الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، فذكر منهم الواقدي ببغداد"، انظر كتاب الضعفاء والمتروكين ص 303 و310. وساق ترجمته الذهبي في ميزان الاعتدال3/666 وختمها بقوله: "واستقر الإجماع على وهم الواقدي". وفي تذكرة الحفاظ1/348 قال: "محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، مولاهم، أبو عبد الله المدني، الحافظ البحر، لم أسق ترجمته لاتفاقهم على ترك حديثه، وهو من أوعية العلم، لكنه لا يتقن الحديث، وهو رأس في المغازي والسير، ويروي عم كل ضرب". وقال فيه في ديوان الضعفاء والمتروكين ص 283 قال النسائي: "يضع الحديث"، وقال ابن عدي: "أحاديثه غير محفوظة، والبلاء منه". وقال ابن حجر في التقريب 2/194: "محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، متروك مع سعة علمه، من التاسعة، (ت 207) /ق". وانظر تهذيب التهذيب 9/363- 368.
وقال ناصر الدين الألباني بعد أن نقل قول الذهبي الأخير وقول ابن حجر هذا قلت: "ولذلك فلا ينبغي أن يغتر أحد بما ذهب غليه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه عيون الأثر" من توثيق الواقدي، فإنه خلاف ما عليه المحققون من الأئمة قديما وحديثا، ولمنافاته علم المصطلح الذي ينص على وجوب تقديم الجرح المفسر على التعديل، وأي جرح أقوى من الوضع؟!
وقد اتهمه به أيضا الشافعي وأبو داود وأبو حاتم وقال أحمد: "كذاب".ا?ـ انظر دفاع عن الحديث والسيرة في الرد على البوطي ص 21.
محمد بن غبراهيم بن الحارث عن أبيه عن السلولي1 عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لو كان ثابتا 2 على أحد من العرب سباء بعد اليوم لثبت على هؤلاء، ولكن إنما هو أسار وفداء".
وهذا إسناد ضعيف لا يحتج بمثله.
وأما الرواية فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهي رواية منقطعة3.
ثم قال: وجريان الرق على سبايا بني المصطلق وهوازن صحيح ثابت، والمن عليهم بإطلاق السبايا تفضل.
ثم أورد حديث أبي سعيد الخدري وحديث عائشة4، وأحاديث أخرى تؤيد القول بجواز استرقاق العرب5.
__________
1 السلولي: بفتح المهملة وتخفيف اللام. اثنان في التقريب بهذا النسب أحدهما عبد الله ابن ضمرة وهو من الثالثة، والثاني أبو كبشة السلولي الشامي من الثانية وكلاهما ثقة، ولم أهتد إلى الراوي عن معاذ منهما بعد البحث. انظر المصدر السابق 1/424 و2/465.
2 في الحديث عند الشافعي "لو كان تاما". انظر ص 325.
3 لأنها من رواية عامر بن شراحيل الشعبي عن عمر بن الخطاب، قال ابن حجر: وروايته عنه مرسلة. انظر تهذيب التهذيب 5/66.
4 انظر حديث أبي سعيد وعائشة ص 324.
5 السنن الكبرى للبيهقي 9/73.
قلت: وفي الحديث علة أخرى غير الواقدي، وهو موسى بن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو منكر الحديث1.
وأورد الشوكاني حديث معاذ الآنف الذكر ثم قال: فيه الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد2 بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي. ومثل هذا لا تقوم به حجة3.ا?ـ.
قلت: وأورد مجد الدين ابن تيمية4 حديث ابن عمر في الإغارة على بني المصطلق وسبي ذراريهم، ثم قال عقبه: وهو دليل على استرقاق العرب5. وبوب في موضع آخر من المنتقى بقوله: "باب جواز استرقاق العرب".
ثم أورد أحاديث تؤيد ما بوب عنه، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها في وقوع جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس أو ابن عم له.
وقال عقبه: "رواه أحمد6 واحتج به في رواية محمد بن الحكم"7، وقال: "لا أذهب إلى قول عمر: ليس على عربي ملك، قد سبى النبي صلى الله عليه وسلم العرب في غير حديث وأبو بكر وعلي حين سبى بني ناجية"8.
قال الشوكاني: "استدل المصنف بأحاديث الباب على جواز استرقاق
__________
1 انظر التقريب2/287وتهذيب التهذيب10/368-369،وميزان الاعتدال4/220.
2 هو يزيد بن عياض بن جعدية بضم الجيم والمهملة بينهما ساكنة. الليثي أبو الحكم المدني، نزيل البصرة، وقد ينسب لجده، كذبه مالك وغيره، من السادسة. /ت ق. التقريب 2/369 وانظر ميزان الاعتدال 4/436- 437.
3 نيل الأوطار 8/7- 8.
4 هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق أبو البركات شيخ الحنابلة، مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني، المعروف بابن تيمية (ت 652) مقدمة نيل الأوطار للشوكاني 1/13- 14.
5 منتقى الأخبار 7/245 و8/4 مع نيل الأوطار.
6 انظر مسند أحمد 6/277 وانظر ص 113 وما بعدها من هذه الرسالة مما تقدم.
7 هو محمد بن الحكم المروزي، الأحول، ابن عم أبي طالب، صاحب أحمد. ثقة فاضل، من الحادية عشرة (ت 223) /خ. التقريب 2/155.
8 منتقى الاخبار 7/245 و8/4 مع نيل الأوطار.
العرب، وإلى ذلك ذهب الجمهور، كما حكاه الحافظ في كتاب العتق من فتح الباري. ثم قال الشوكاني: وبنو ناجية من قريش"1.
وخلاصة القول في هذا هو جواز استرقاق العرب لا فرق بين ذكورهم وإناثهم وهو قول جمهور العلماء2.
__________
1 نيل الأوطار 8/7- 8.
2 انظر شرح النووي على مسلم 3/614 و4/331 وفتح الباري 5/170- 173 وسبل السلام للصنعاني 4/45 ونيل الأوطار 7/246 و8/7- 8.
,
ورد في حديث أبي سعيد الخدري من طريق ابن محيريز1 أنه قال: "دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه، فسألته عن العزل2، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟! فسألناه عن ذلك فقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" هذا لفظ البخاري في المغازي وفي كتاب العتق نحو هذا3.
وفي كتاب النكاح: عن ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أو إنكم لتفعلون؟ " - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة"4.
وفي كتاب القدر عن عبد الله بن محيريز الجمحي أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل5 من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيا ونحب المال، كيف ترى في العزل؟
__________
1 ابن محيريز بالتصغير هو عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب الجمحي المكي، كان يتيما في حجر أبي محذورة بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقة عابد، من الثالثة، (ت 999 وقيل بعدها /ع. التقريب 1/449.
2 العزل: هو نزع الذكر بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج، خشية أن تحمل المرأة.
3 كتاب العتق باب من ملك من العرب رقيقا 3/129 وكتاب المغازي 5/96 باب غزوة بني المصطلق من خزاعة.
4 باب العزل 7/29.
5 قوله: جاء رجل من الأنصار: قال ابن حجر: "تقدم في غزوة المريسيع وفي كتاب النكاح من صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه النسائي من طريق ابن محيريز أن أبا سعيد وأبا صرمة أخبراه أنهم أصابوا سبايا قال: فتراجعنا في العزل فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل أبا سعيد باشر السؤال وإن كان الذين تراجعوا في ذلك جماعة" الخ. فتح الباري 11/495.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو إنكم تفعلون ذلك؟ لا عليكم إلا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة" 1.
وحديث أبي سعيد هذا أورده مسلم بألفاظ متعددة2.
وهو أيضا عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وأحمد3.
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينْزل"، لفظ البخاري وابن ماجة4،وزاد مسلم: "لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"5.
وفي لفظ عند مسلم من حديث جابر أيضا "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا"6.
وفي لفظ قال جابر: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية لي وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لن يمنع شيئا أراده الله"، قال فجاء الرجل فقال: يا رسول الله إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله" 7.
وهذه الأحاديث التي ظاهرها جواز العزل، ورد ما يعارضها فعند مسلم وأحمد من حديث جدامة8 بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه
__________
1 البخاري 8/104 باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} .
2 صحيح مسلم 4/157- 160 كتاب النكاح.
3 انظر سنن أبي داود 1/500- 501 والنسائي 6/89 وابن ماجة 1/620 الجميع في كتاب النكاح باب العزل وأحمد 3/63 و68 و72.
4 البخاري 7/29 كتاب النكاح باب العزل وابن ماجة فيه 1/620.
5 صحيح مسلم 4/160 كتاب النكاح.
6 المصدر السابق 4/160.
7 المصدر السابق 4/160.
8 جدامة بمضمومة ودال مهملة. بنت وهب ويقال جندل، الأسدية، أخت عكاشة ابن محصن لأمه صحابية لها سابقة وهجرة، قال الدارقطني: من قالها بالذال المعجمة صحف /م عم. التقريب 2/593.
وسلم في أناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة1، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا"،ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" زاد عبيد الله في حديثه عن المقرئ2: وهي {وَإِذَا المُوْؤُودَةُ3 سُئِلَت} 4.
وبسبب هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض اختلف العلماء في حكم العزل. فذهب ابن حبان وابن حزم إلى تحريمه أخذا بحديث جدامة هذا وما في معناه.
وعلل ابن حزم ذلك بأن الأحاديث الدالة على الإباحة، متمشية مع أصل الإباحة، وحديث حدامة دال على التحريم، فصح أن حديثها ناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك في أنها قبل البعث وبعد البعث، وهذا أمر متيقن، لأنه إذا أخبر عليه الصلاة والسلام أنه الوأد الخفي، والوأد محرم، فقد نسخ الإباحة المتقدمة بيقين، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت، وأن النسخ المتيقن قد بطل فقد ادعى الباطل، وقفى ما لا علم له به، وأتى بما لا دليل عليه.
وأيد ذلك بما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم5
__________
1 الغيلة: بالكسر الاسم من الغيل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع. النهاية لابن الأثير 3/402.
2 المقرئ هو عبد الله بن يزيد المكي، أبو عبد الرحمن القصير أصله من البصرة أو الأهواز، ثقة فاضل، أقرأ القرآن نيفا وسبعين سنة، من التاسعة (ت 213) وقد قارب المائة وهو من كبار شيوخ البخاري /ع. التقريب 1/462.
3 سورة التكوير آية:8 والموؤودة هي البنت كان في الجاهلية إذا ولد لأحدهم بنت دفنها في التراب وهي حية. يقال وأدها يئدها وأدا فهي موؤودة. النهاية لابن الأثير 5/143 ومختار الصحاح ص 705 والقاموس المحيط 1/432- 343.
4 صحيح مسلم 4/161 كتاب النكاح وأحمد 6/361 و434.
5 انظر الحديث في صحيح مسلم 4/159.
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: "لا عليكم ألا تفعلوا ذلك فإنما القدر"، قال ابن سيرين1 - قوله: "لا عليكم أقرب إلى النهي"2.
وذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها وعن السرية بدون إذن والخلاف في الزوجة المملوكة هذا أقرب الأقوال في هذه المسألة والخلاف طويل بين العلماء، واستدل الجمهور على الجواز بالأحاديث المتقدمة التي ظاهرها الجواز. وأجابوا عن حديث جدامة وما في معناه بأن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه - وأجيب عن قوله في حديث جدامة "ذلك الوأد الخفي" أنه ليس صريحا في التحريم، لأن التحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل.
وهناك أجوبة أخرى فيها أخذ ورد فلا نطيل الكلام فيها ونكتفي بالإشارة إلى أماكنها لمن أراد الوقوف عليها3.
وخلاصة القول في هذا الباب هو جواز العزل وأحاديث جابر بن عبد الله على اختلاف ألفاظها صريحة في جواز ذلك وأصرح منها حديثه عند مسلم وأبي داود ولفظه: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها"، فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها"4.
__________
1 هو محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة، البصري، ثقة ثبت عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة (ت 110) /ع. التقريب 2/169.
2 كتاب المحلى لابن حزم 11/290- 292.
3 انظر معاني الآثار للطحاوي3/30-35 وشرح مسلم للنووي3/612 وزاد المعاد لابن القيم4/20-23 وتهذيب السنن له6/214 (عون المعبود) ، وفتح الباري 9/305-310 وسبل السلام للصنعاني3/145-146 ونيل الأوطار للشوكاني 6/222-224 وشرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفاريني 1/297-302.
4 صحيح مسلم 4/160 وسنن أبي داود 1/501 كتاب النكاح باب العزل.
ففيه التصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا السائل بالإذن بفعل العزل إن أحب ذلك، ثم بين له أن فعله هذا لا يرد شيئا قدره الله عز وجل وأنه إذا أراد شيئا كان ولا محالة.
,
,
إن معالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك السموم التي نفثها المنافقون في ساحة الجيش الإسلامي، ابتغاء تمزيق وحدته وتفريق كلمته، لتدل دلالة واضحة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم محاط بالعناية من الله عز وجل وعلى أنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، [سورة النجم الآيتان: 3-4] .
لقد كان ما تفوه به ابن أبي من الكلام البذيء مسوغا كافيا لقتله، وإراحة الناس من شره، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لبعد نظره وتوفيق الله له، رأى أن المصلحة تقتضي التسامح والصفح عنه، فقابل تلك الأذية والقول اللاذع بصدر رحب وقلب واسع، فقد ضاقت نفس عمر بن الخطاب ذرعا بهذا المنافق ووسعه حلم الرسول صلى الله عليه وسلم وصفحه الجميل عمن أساء إليه، يوضح ذلك ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم عندما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال: "كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"1.
ولكن أذن بالسير فسار بالناس في ساعة لم يعهد له أن يسير في مثلها، وأمر بالسير المتواصل حتى لا يتمكن المنافقون من التجمع والخوض في حديث ابن أبي وترويجه بين الناس.
__________
1 انظر ص 186 مما تقدم.
ولقد توقع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعاقب المنافقين على سوء صنيعهم وعلى الأقل بقتل رأس الفتنة ابن أبي ولكن لم يقع شيء من هذا كله، ولقد جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه فقال: "يا رسول الله إن كنت أمرت بقتل والدي فأنا الذي آتيك برأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار"، فكان الجواب النبوي "بل نترفق ونحسن صحبته ما بقي معنا"1.
لقد كان من آثار هذه المعاملة الحسنة أن قوم عبد الله بن أبي ابن سلول هم الذين أخذوا يعنفونه ويفضحون أمره ويأخذون على يديه، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من فعلهم مع ابن أبي أرسل إلى عمر بن الخطاب فقال له: "كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته"، قال عمر بن الخطاب: "قد علمت والله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري"2.
__________
1 سيرة ابن هشام 2/292- 293.
2 المصدر السابق 2/293.
,
لقد كانت قصة الإفك فريدة في نوعها وضخامتها عن جميع المحن والمصائب التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة وفي غيرها. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد وطن نفسه لمواجهة كل بلية أو أذى يقوم به المنافقون لأنه على علم وبصيرة نافذة بمكايدهم وخستهم، إلا أنه لم يكن يتوقع منهم النيل من عرضه ورميه في أحب الناس إليه، لذا كانت حادثة الإفك لها أثرها ووقعها الثقيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد جاءت هذه القصة تحمل في طياتها إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يتأثر
كغيره من بني الإنسان، وأنه لا يعلم الغيب وإنما الغيب لله وحده، إذ لو كان يعلم الغيب لجزم ببراءة ساحة أهله وكذب المفترين لأول وهلة، وأراح نفسه، وأراح غيره.
ولكنه مكث أكثر من شهر في قلق دائم والناس يموجون ويخوضون في ذلك، وهو لا يزيد على أن يشاور أصحابه وأتباعه في شأن أهله، ويطلب من ينجده بإيقاف هذا الحادث الأليم، ثم في آخر المطاف يذهب إلى زوجه يقول لها: "يا عائشة لقد سمعت ما يقول الناس، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده".
لقد كان هذا كله حاسما لما يخشى أن يقع فيه بعض المسلمين فيرفعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق منزلته التي أنزله الله إياها ويدعون له ما لم يدعه لنفسه، فكانت هذه الواقعة واضحة الدلالة على مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم غيره في البشرية، وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه. وقد أوضح ذلك في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، [سورة الجن، الآيتان: 27] .
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، [سورة الكهف، من الآية: 110] .
وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، [سورة الأعراف الآية: 188] .
,
إن قصة الإفك كان من نتائجها البيان القاطع بأن الوحي ليس خاضعا لأمنية الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادته، إذ لو كان لأمر كذلك، لكان من
السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة منذ نشأتها وطفولتها، ويريح نفسه من ويلايتها ونتائجها. وذلك بأن يأتي بقرآن يبرئ به أهله ويطمئن به أصحابه، ويسكت به أهل القيل والقال، لأنه كان يعلم من أهله الاستقامة والبعد عن هذه الجريمة الشنعاء ولكنه لم يفعل ذلك لأنه لا يملكه وإنما الوحي بيد الله وحده. وقد نفى الله عنه ذلك في أحد مواقفه مع المشركين.
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 2.
وظل شهرا كاملا يحمل بين جنبيه الألم الشديد، من جراء هذه الكارثة الفادحة ويصبر نفسه على ذلك ويطلب الفرج من الله عز وجل.
وكان من تمام الحكمة الإلهية أن تأخر عنه الوحي هذه المدة كلها ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
وقد عالج ابن القيم هذه القضية معالجة طيبة. وفيما يأتي بعض مما أورده في هذا المقام.
قال: "واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، لا يوحى إليه في ذلك شيء، وذلك لتتم حكمته التي قدرها وقضاها وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق، وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته، والصديقين من عباده.
__________
1 سورة يونس، الآية: 15.
2 سورة الحاقة، الآيات: 44-47.
وفي هذه الآيات رد على الملحدين في كل زمان ومكان الذين يقولون بأن القرآن من كلام ((محمد)) وبأنه قصص وأساطير الأولين، وقد قص الله ذلك بقوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء الله لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} سورة الأنفال: آية 31.
ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا، ويظهر لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين سرائرهم إلى أن قال: فكان من حكمة حبس الوحي شهرا، أن القضية نضجت، وتمحضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه المؤمنون، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض، أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع، وألطفه، وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء، فلو أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقة
الحال من أول وهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك، لفاتت هذه الحكم1 وأضعافها بل أضعاف أضعافها"2.
__________
1 من الحكم التي ذكرها أيضا في حكمة تأخر لوحي قال: لتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها والافتقار إلى الله، والذل له وحسن الظن به والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ... الخ.
2 زاد المعاد 2/127.
,
...
المبحث الخامس: الحكمة في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره1 من الصحابة
أورد هذا ابن القيم وأجاب عنه بقوله: "كان هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواما، ويضع آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ... " إلى أن قال: "وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بها سوءا قط، وحاشاه وحاشاها، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك، قال: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله
__________
1 مثل ما قال أبو أيوب وزوجه ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.
ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفىَّ1 مقام الصبر والثبات وحسن اعتناؤه بشأنه.
وأيضا: فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية، ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه، والرد على أعدائه، وذمهم وعيبهم، بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك2.
__________
1 وفىَّ: فعل ماضي.
2 زاد المعاد 2/127.
الخاتمة:
تناول هذا البحث (مرويات غزوة بني المصطلق) جمعا وتحقيقا ودراسة ويقع في مقدمة وأربعة أبواب.
أما المقدمة: فقد اشتملت على أسباب اختياري لموضوع رسالتي في السيرة النبوية، ثم سبب تخصيصي غزوة بني المصطلق بالذات بهذه الدراسة، وقد أشرت في هذه المقدمة إلى أهمية علم التاريخ، وضرورة العناية بالسيرة النبوية خاصة، كما حللت أهم المصادر التي استقيت منها في هذا الموضوع.
وأما الباب الأول: فقد تناول نسب بني المصطلق وصلتهم النسبية بقبائل المدينة المنورة، محققا الخلاف الوارد في نسبهم، ومشيرا إلى أرجح الأقوال في نظري، مدعما ذلك بما أورده أهل هذا الفن من حجج وتعليلات، مع الإشارة إلى حجج المخالفين، ومناقشتها بإيجاز غير مخل، كما بحثت في تحقيق مواقعهم وديارهم التي كانوا يسكنونها وقد عانيت في ذلك عناء كبيرا، ولكنني بحمد الله وصلت إلى تحديد أماكنهم، وضبطها، مستعينا بالمراجع العلمية في هذا الباب قديما وحديثا، وانتهيت إلى نتيجة مرضية في ذلك حيث تم لي تحديدها بالأميال والكيلومترات، وانحصرت ديارهم فيما بين مر الظهران والأبواء.
وهذا التحديد والتفصيل لم أر من قام به قبلي.
وبعد ذلك تحدثت عن موقفهم من الدعوة الإسلامية، وتأخر إسلامهم بسبب تأثرهم بموقف قريش، فقد كانوا من الأحابيش الموالين لقريش، وقد تكتلوا معهم في موقعة أحد ضد المسلمين.
فكانوا ينتظرون ما تصنعه قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت لهم تحركات ضد المسلمين بينتها بجلاء في هذا الباب، كما تحدثت عن موقف المسلمين من هذه التحركات وبينت أيضا وجوب إنذار الكافرين أو عدم إنذارهم ناقلا في ذلك أقوال العلماء ومرجحا ما ظهر لي أنه الراجح بالدليل، كما رجحت أن بني المصطلق كانت قد بلغتهم الدعوة الإسلامية وأن عندهم الإنذار المسبق وبهذا يسقط الاعتراض الوارد على كون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم على غرة.
وأشرت في هذا الباب إلى سبب هذه الغزوة محددا تاريخها مع وصف ما دار فيها من أحداث خطيرة، وما انتهت إليه من نتائج عظيمة ونصر للإسلام والمسلمين. مبينا موقف بني المصطلق بعد الغزوة كما رجحت وجود سعد بن معاذ في هذه الغزوة ورددت على القائلين بخلاف ذلك.
أما الباب الثاني: فقد تركز الحديث فيه عن دور المنافقين في بدء الدعوة الإسلامية بوجه عام وعن دورهم في هذه الغزوة بصفة خاصة. وقد حاولت أن أضع صورة وافية للدسائس والمكايد التي كان يقوم بها حزب النفاق من أجل عرقلة انتشار الدعوة الإسلامية، مبينا ظهور نشأة النفاق وأسبابه، ومواقف المنافقين في الغزوات التي سبقت هذه الغزوة مع الإشارة إلى خطورة النفاق وأضراره الجسيمة على الإسلام والمسلمين.
وقد حظي موقفهم في غزوة المريسيع بحديث واسع بينت فيه كل ما قاموا به من أعمال عدوانية وتخذيل في صفوف المسلمين. واستغلالهم الفرص التي يبثون فيها شبههم وأفكارهم السيئة ومن ذلك إثارتهم للعصبية الجاهلية في هذه الغزوة، ورفعهم للشعارات القبلية وما صاحب ذلك من فتن كادت تعصف ريحها بكثير من المسلمين، وأشرت إلى حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذه السموم التي ينفثها المنافقون مع حلمه في عدم مؤخذة القائمين بذلك. وأسوأ عمل قام به المنافقون على الإطلاق في هذه الغزوة هو اختلاقهم لحادثة الإفك التي كان لها أثرها السيئ في نفوس المسلمين ووقعها الأليم في ساحة النبوة الطاهرة، وقد استغرق الحديث عن هذه الحادثة وقت طويلا، لتشعب رواياتها وكثرة أحداثها، وقد تكلمت على جميع الجوانب المتصلة بها من
تخريج الروايات وتحقيقها مع الكلام على الأحكام الفقهية المستنبطة منها، وهو أمر لم أر أحدا من المؤرخين قام به في مكان واحد بهذه الصورة التي انتهيت إليها.
أما الباب الثالث: فقد كان بحثي فيه عن تخريج حديث الإفك، وعن الانتقاد الوارد على الزهري، في تلفيقه الحديث عن مشايخه الأربعة دون أن يفرد حديث كل واحد منهم على حدة، وبينت أن هذا جائز لا مانع منه لأن الكل ثقات وقد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم الآخر ثم حققت القول في الذي تولى كبر الإفك وأنه عبد الله بن أبي ابن سلول، كما بينت ما حصل للصحابة من مواقف متباينة في هذه الحادثة.
فكان منهم من نفاها من أصلها وصرح بأن هذا بهتان وكذب، وذلك مثل أسامة بن زيد وبريرة وأبي أيوب الأنصاري وزوجه. ومنهم من نفاها كذلك ولكنه أشار تلويحا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراق أهله لما رأى انزعاج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر مشكوك فيه فأراد راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لحقه من هم وغم، وذلك هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم من أثرت فيه دعايات المنافقين فانخرط في سلكهم قولا لا اعتقادا فصار يردد قول أهل النفاق دون وعي وإدراك لما يقصده المنافقون وذلك مثل حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة رضي الله عنهم، وقد بينت ذلك في محله بينا شافيا، كما بينت في هذا الباب النزاع الحاصل بين الأوس والخزرج، في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي هو أساس هذه الفتنة ورأسها، وبينت أيضا الانتقاد الوارد على البخاري في سماع مسروق من أم رومان ورجحت القول بسماعه منها مع ذكر وجهة المخالفين والرد عليها بأدلة مبسوطة في محلها.
وآخر أبواب الرسالة هو الباب لرابع: وقد أفردته للحديث عن الأحكام الفقهية الواردة في هذه الغزوة - هذا هو الفصل الأول منه - وعن العبر والحكم المستنبطة من هذه الغزوة وهذا هو الفصل الثاني من هذا الباب - فأما الأحكام الفقهية فقد بلغت عشرة أحكام تحدثت عن كل حكم منها بإيجاز واختصار غير مخل، مشيرا إلى الخلاف مستدلا لأقوال مرجحا الراجح بالدليل،
ولم أطل في ذلك لأن البحث ليس فقهيا بالمعنى الدقيق، وإنما عرضت لذلك حسب ما اقتضته نصوص الروايات الدالة على بعض الأحكام الفقهية. وأما العبر فإنها كثيرة وقد تكلمت على خمس عبر منها مأخوذة من هذه الغزوة.
وأما الجديد في هذا الموضوع فيمكن إيجازه فيما يلي:
1- إن هذه الغزوة لم يفردها أحد بالتأليف قديما ولا حديثا وإنما تذكر ضمنا مع غيرها شأن المؤلفين في التاريخ عامة أو في السيرة النبوية خاصة وأحسن من تكلم فيها من المعاصرين محمد أحمد باشميل ضمن الأحداث الواقعة قبل غزوة الأحزاب، لكنه غير متقيد بتحقيق أو تدقيق ولم يستوعب الموضوع من جميع جوانبه.
2- تحديد مساكن هذه القبيلة وضبطها بالأميال والكيلومترات.
3- ذكر نبذة في نسبهم وصلتهم بقبائل المدينة المنورة.
4- عقد مبحث في وجوب إنذار العدو أو عدم إنذاره بينت فيه مذاهب العلماء وأيدت القول الراجح بالدليل.
5- تفصيل الكلام على حديث الإفك بكل جوانبه المتعلقة به، وهذا يعتبر جديدا وأحسن من تكلم على حديث الإفك ابن القيم في الزاد، ولكن ليس بهذا الاستقصاء الذي قمت به.
6- عقد مبحث حول جواز استرقاق العرب أو عدمه - لأن له صلة بموضوعي - بينت فيه أقوال العلماء ونصصت على القول الراحج بدليله. وهذا جديد بالنسبة لهذه الغزوة.
7- عقدت فصلا للأحكام المستنبطة من هذه الغزوة وخاصة حديث الإفك، وهذا وإن لم يكن جديدا بالمعنى الحقيقي، إلا أنه يوجد فيه بعض الأحكام أشار إليها بعض المؤرخين إشارة خاطفة وذلك مثل متى شرع التيمم، وصحة جعل العتق صداقا وغير ذلك.
8- منهجي في هذا البحث: هو أنني أورد الحديث ثم أترجم لرجاله، وإن كان هناك حديث آخر يؤيده أو يعارضه أورده أيضا، ثم أحكم بعد ذلك على الحديث بما تقتضيه تلك الدراسة صحة أو ضعفا بعد المناقشة والفحص.
وإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فقد أترجم لرجاله من باب التعريف بهم لا للنقد فيهم، وأحيانا أقتصر على المتن أو جزء منه مجردا عن الإسناد، وذلك لاتفاق العلماء على توثيق رجالهما، وعلى أن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
وهذا المنهج لم يسبقني أحد إليه في دراسة هذه الغزوة، وهو محاولة لتطبيق مناهج المحدثين في دراسة السيرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.