,
تخلف عن رسول الله ثلاثة من المسلمين هم: كعب بن مالك الأنصاري ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جاءوا وندموا
على تخلفهم، وبينوا أنه لا عذر لهم في التخلف، ولم يكذبوا كغيرهم.
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى ركعتين بالمسجد, جاءه المخلفون يعتذرون ويحلفون, ورسول الله يكل حقيقتهم إلى الله تعالى.
فلما جاء كعب بن مالك تبسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم المغضب وقال له: "ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك"؟.
قال كعب: بلى يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثًا كاذبا لترضى عني، ليوشكن الله أن يسخط عليّ، ولئن حدثتك اليوم حديثًا صادقًا تجد عليّ فيه، إني لأرجو عقبى الله فيه، ولا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك!
فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد صدقت! فقم حتى يقضي الله فيك".
وبمثل ذلك ذكر صاحباه، فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة فاجتنبهم الناس وتغيروا لهم حتى تنكرت لهم أنفسهم، فلبثوا على ذلك خمسين ليلة، وقد قعد مرارة وهلال في بيوتهما، وكان كعب يخرج فيشهد الصلوات مع المسلمين ويطوف بالأسواق، فلا يكلمه أحد، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلسه بعد الصلوات، فيسلم عليه ويصلي قريبًا منه يسارقه النظر، وهو معرض عنه، وتسور يومًا جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمه، وأحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقال: يا أبا قتادة! أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، وكرر ذلك فقال في الثالثة: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناه وانصرف.
يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، وإذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على "كعب بن مالك"؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع لي كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها.
فلما مضت أربعون ليلة بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى هلال بن أمية ومرارة بن ربيع مع خزيمة بن ثابت يأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، فقال كعب لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض!
وبكى هلال بن أمية وامتنع عن الطعام، وواصل اليومين والثلاثة ما يذوق طعامًا، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو الضيح من اللبن، ويصلي الليل ولم يخرج من بيته لأن أحدًا لا يكلمه، حتى إن الوالدين يهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاءت امرأته فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له، وأنا أرق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أخدمه فعلت.
قال: "نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك! ".
فقالت: يا رسول الله! ما به من حركة إليّ! والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعًا الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره.
فلما كملت خمسون ليلة، وهم كما قال الله تعالى قد {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} 1 أنزل الله توبتهم بقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2 وقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 3 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 4.
فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك عند الصبح، فخرج أبو بكر رضي الله عنه فأوفى على
__________
1 سورة التوبة: 118.
2 سورة التوبة: 117.
3 سورة التوبة: 118.
4 سورة التوبة: 119.
سلع فصاح: قد تاب الله على كعب بن مالك! يبشره، فأتاه حمزة بن عمرو فبشره فنزع ثوبيه وكساهما إياه ولا يملك غيرهما، واستعار ثوبين من أبي قتادة فلبسهما، ثم انطلق إلى رسول الله والناس يهنئونه، وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره، فلما أخبره سجد ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي، لما ناله من الضعف والحزن والبكاء حتى ركب حمارًا، وبشر مرارة بن ربيع سلكان بن سلامة بن وقش، فأقبل حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام طلحة بن عبيد الله يتلقى كعب بن مالك، فلما سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك".
فقال: أمن عندك يا رسول الله أو من عند الله؟
قال: "من عند الله".
فقال كعب: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة.
فقال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك".
قال: فالثلثان!
قال: "لا".
قال: فالنصف.
قال: "لا".
قال: فالثلث.
قال: "نعم" 1.
__________
1 إمتاع الأسماع من ص486 إلى 488.
المبحث الرابع عشر: السرايا والجهاد في الميزان