فلما بلغ فتح مكة هوازن، جمعهم مالك بن عوف النصرى، واجتمح إليه ثقيف، وقومه بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، ويسير من بنى هلال بن عامر، ولم يشهدها من قيس عيلان غير هؤلاء، وغاب عن ذلك عقيل وبشر ابنا كعب بن ربيعة بن عامر، وبنو كلاب ابن ربيعة بن عامر، وسائر إخوتهم، فلم يحضرها من كعب وكلاب أحد يذكر، وساق بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم وسيدهم فيما خلا:
دريد بن الصمة، وهو شيخ كبير لا ينتفع به، لكن يتيمن بمحضره ورأيه، وهو فى هودج لضعف جسمه. وكان فى ثقيف سيدان لهم، فى الأحلاف:
قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفى بنى مالك: ذو الخمار سبيع ابن الحارث بن مالك، وأخوه: أحمر بن الحارث والرياسة فى الجميع إلى
مالك النصرى، فحشد من ذكرنا، وساق مع الكفار أموالهم وماشينهم ونساءهم وأولادهم، ليحموا بذلك فى القتال، فنزلوا بأوطاس.
فقال لهم دريد: مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ فقالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وعيالهم. فقال:
أين مالك؟ فقيل له: هو ذا. فسأله دريد: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك:
ليكون مع الناس أهلهم وأموالهم فيقاتلوا عنهم. فقال له دريد: راعى ضأن والله، وهل يرد المنهزم شىء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك.
ثم قال: ما فعل كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال:
غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب. فمن شهدها من بنى عامر؟
قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان: عمرو ابن عامر وعوف بن عامر، لا ينفعان ولا يضران! يا مالك! إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن «1» إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع ديارهم، وعلياء قومهم، ثم الق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. فأبى مالك ذلك، وخالفت هوازن دريدا واتبعوا مالك بن عوف، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يغب عنى:
يا ليتنى فيها جذع ... أخب فيها وأضع
«2»
__________
(1) بيضة هوازن: أصلهم وموضع سلطانهم ومكان دعوتهم.
(2) فى هذا البيت يتمنى أن يكون شابا خلال هذه الحرب لم تحطمه الأيام أخب فيها أى أجرى وأضرب يمينا وشمالا.
وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشاء، عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى، فأتى بعد أن عرف مذاهبهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصدهم. واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية بن خلف دروعا، قيل: مائة درع، وقيل: أربعمائة درع.
وخرج فى اثنى عشر ألف مسلم، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس، ومضى عليه السلام. وفى جملة من اتبعه: عباس بن مرداس فى بنى سليم، والضحاك بن سفيان الكلابى، وجموع من بنى عبس وذبيان.
وفى مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم فى الجاهلية شجرة معروفة فى مكان معروف تسمى: ذات أنواط، يخرج إليه الكفار يوما معروفا فى العام يعظمونها، فتصايح جهال الأعراب:
يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: قلتم، والذى نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «1» ، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.
ثم نهض، فلما أتى وادى حنين، وهو واد حدور من أودية تهامة، وهوازن قد كمنت فى جنبتى الوادى، وذلك فى عماية الصبح «2» ؛ فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المنهزمون لا يلوى أحد على أحد، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر:
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 138.
(2) عماية الصبح: أى قبل انتشار الصوء.
وعمر، وعلى، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، والفضل ابن العباس، وقثم بن العباس، وجماعة من غيرهم؛ والنبى صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، واسمها: دلدل، والعباس آخذ بحكمتها «1» ، فأمره النبى صلى الله عليه وسلم أن ينادى: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! يا معشر أصحاب الشجرة وكان العباس جهير الصوت جدا، وروينا أنه أمره أن ينادى: يا معشر المهاجرين، بعد ذلك.
فلما نادى العباس بمن ذكرنا، وسمعوا الصوت، ذهبوا ليرجعوا، وكان الرجل منهم لا يستطيع أن يثنى بعيره لكثرة المنهزمين، فيأخذ درعه فيلبسها، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويكر راجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا اجتمع حواليه منهم نحو المائة، استقبلوا هوازن، واشتدت الحرب بينهم، وقذف الله تعالى فى قلوب هوازن- حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعب، ولم يملكوا أنفسهم، ورماهم بقبضة حصى بيده، فما منهم أحد إلا أصابته، وفى ذلك يقول جل ثناؤه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» .
وقد ذكر عن بعض هوازن. ممن أسلم منهم بعد ذاك، أنه قال: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم واتبعناهم، حتى أتينا إلى رجل راكب بغلة شهباء، فلما رآنا زبرنا وانتهرنا، فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا، وما تراجع سائر من كان مع النبى صلى الله عليه وسلم إلا وأسرى هوازن بين يديه.
وثبتت أم سليم فى جملة من ثبت فى أول الأمر، محتزمة ممسكة خطام جمل لأبى طلحة وفى يدها خنجر.
__________
(1) حكمة الدابة: ولجامها والشكيمة التى تكون على أنف الحصان.
(2) سورة الأنفال الآية 17.
وانهزمت هوازن، وملك الأموال والعيال، واستحر القتل فى بنى مالك من ثقيف. فقتل منهم خاصة يومئذ سبعون رجلا، فى جملتهم رئيساهم: ذو الخمار، وأخوه عثمان، ابنا عبد الله بن ربيعة بن الحارث، ولم يقتل من الأحلاف إلا رجلان، لأن سيدهم قارب بن الأسود لما رأى أول الهزيمة أسند رايته إلى شجرة وفر بقومه. وهرب مالك بن عوف النصرى مع جماعة منهم، فدخل الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف من هوازن إلى أوطاس. وتوجه بنو غيرة من الأحلاف من ثقيف إلى نخلة، فاتبعت طائفة من خيل المسلمين من توجه نحو نخلة، وأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن امرئ القيس من بنى سليم:
دريد بن الصمة فقتله، وقيل: إن قاتل دريد هو عبد الله بن قنيع بن أهبان ابن ثعلبة بن ربيعة.
وفى هذه الغزوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضائها: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع من هوازن بأوطاس، أبا عامر الأشعرى، واسمه عبيد، وهو عم أبى موسى الأشعرى، فقتل أبو عامر بسهم، رماه سلمة بن دريد، وأخذ أبو موسى الراية وشد على قاتل عمه فقتله. واستحر القتل فى بنى نصر بن معاوية؛ وقيل: رمى أبا عامر أخوان، وهما: العلاء وأو فى ابنا الحارث، أصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته، ثم قتلهما أبو موسى. وقيل: بل قتل تسعة إخوة من المشركين يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام، ثم يحمل عليه فيقتله، ثم حمل عليه عاشرهم، فقتل عاشرهم أبا عامر، ثم أسلم ذلك العاشر بعد ذلك:
واستشهد يوم حنين من المسلمين:
أيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن، أخو أسامة بن زيد لأمه.
ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، جمح به فرسه، ويقال له «الجناح» فقتل.
وسراقة بن الحارث بن عدى بن العجلان، من الأنصار.
وأبو عامر الأشعرى.
وكانت وقعة هوازن، وهو يوم حنين، فى أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة.
وأما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن نساءهم وأبناءهم، وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم من أعطى من أموالهم من سادات قريش، وأهل نجد، وغيرهم من رؤساء العرب-: فهو مذكور بعد غزوة الطائف.
وكان منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين إلى الطائف، ولم يعرج صلى الله عليه وسلم على مكة.