,
الجهاد في اللغة مشتق من الجهد وهو بذل الوسع، والطاقة، قولا وعملا، ويعرفه العلماء بأنه بذل الوسع والطاقة مع أعداء الله بالكلمة، والمال، والقتال، لتحقيق غايات عليا.
والجهاد شامل لكل جهد يبذل لترقية الروح وتهذيب النفس ونشر الإسلام ومقاتلة الأعداء إلا أنه عند الإطلاق ينصرف إلى مقاتلة الأعداء ودعوتهم، وهو مرادنا في هذه الدراسة.
وبعد تعريف صاحب الفتاوى الهندية للجهاد أو في تعريف الفقهاء وفيه يقول: إن الجهاد هو الدعاء إلى الدين الحق، والقتال مع من امتنع، وتمرد عن القبول إما بالنفس، أو بالمال، أو بالكلمة، أو بغير ذلك1.
وهذا التعريف الفقهي للجهاد يشتمل على الحقائق التالية:
1- اشتمل هذا التعريف على سائر العناصر التي تضمنتها أقوال الفقهاء، وهم يتحدثون عن حقيقة الجهاد، إذ فيه الدعوة إلى الدين الحق، والقتال الموجه ضد الممتنعين، والمتمردين، والطغاة الذين يصدون عن دين الله تعالى، ويقفون سدًا بين الحق والناس.
2- قدم هذا التعريف الدعوة بالحسنى قبل القتال، وهو الترتيب الطبيعي لشريعة الإسلام في الجهاد، كما أن هذا الترتيب هو واقع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث مكث ثلاثة عشر عامًا في مكة يدعو بالحجة، والبرهان، مع الصبر على ما وقع عليهم من الكفار وتحمل الأذى، ولم يلجأ النبي وأصحابه إلى القتال إلا بعد استنفاد كافة الوسائل السلمية التي ينشرون بها دعوة الله، ويصونون حياتهم معها.
3- قيد التعريف القتال بأنه ضد من امتنع عن القبول، وتمرد على الأدلة، صادًا عن سبيل الله ليخرج من الجهاد قتال المستأمن، والمعاهد، والذمي، لأن قتالهم لا يسمى جهادًا، ولا تقره شريعة الإسلام.
4- ذكر التعريف وسائل الجهاد وأشار إلى أنها تكون بالمال، وبالنفس، دعوة أو قتالا، وبذلك فحصر الجهاد في القتال أمر غير مستساغ في دين الله تعالى.
5- وصف التعريف الدعوة في الجهاد بأنها الدعوة إلى الدين الحق، فأغلق بذلك
__________
1 الفتاوى الهندية ج2 ص174.
الأبواب في وجه دعاة الهوى، الذين يلتصقون بالدين زورًا للكيد له، أو التكسب به، ومنع التعريف بهذا القيد وصف دعاة الوثنية، ودعاة الأديان المحرفة بالمجاهدين؛ لأن دعوة هؤلاء وأمثالهم، ليست إلى الدين الحق؛ لأن الدين الحق هو الإسلام يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1.
ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.
6- يتفق هذا التعريف مع القرآن الكريم في تقييد الجهاد بأنه في سبيل الله، وسبيل الله هو دينه جاء في الفتوحات الإلهية "أن المراد بالسبيل دين الله؛ لأن السبيل في الأصل الطريق فتجوز به عن الدين لما كان طريقًا إلى الله بعلاقة المجاورة3.
يقول الرازي: سبيل الله أي طاعته وطلب رضوانه، وهذا لا يكون إلا باتباع دين الله وتطبيق تعاليمه4.
ومن الملاحظ أن لفظ "سبيل الله" الذي هو اتباع الدين، كما جاء في القرآن الكريم قيدًا للقتال لإعلاء دين الله، جاء أيضًا قيدًا للإنفاق لتقوية دين الله تعالى كقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5.
وجاء قيدًا لأي عمل يؤدي إلى الهدف المذكور كقوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} 6 حيث جعلت الآية الهجرة من أجل الدين في سبيل الله.
__________
1 سورة آل عمران: 19.
2 سورة آل عمران: 85.
3 الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين ج1 ص153.
4 تفسير الرازي ج2 ص255 ط دار الفكر.
5 سورة التوبة: 41.
6 سورة النساء: 100.
وبهذا ندرك شمول الجهاد للدعوة، وللقتال بالنفس، والمال، واللسان، وتكثير السواد، وعمل الخير، وإعداد الناس بالعلم، وتقويتهم بالعمل والسلوك القويم، ما دام ذلك لإعزاز الدين، ولإعلاء كلمة الله، وهذا ما عناه جمهور الفقهاء عند تعريفهم للجهاد بمعناه الشامل.
والحق مع هؤلاء الفقهاء لأن الجهاد الإسلامي يعني بذل الجهد لتبليغ الدعوة بالوسائل السليمة، وبلوغ الغاية المرجوة في ذلك، ولا يلجأ إلى القتال إلا عند حدوث مقتضاه كاعتداء على الدعوة، أو على الدعاة، أو على الوطن.
إنه باختصار لنشر العقيدة الإسلامية، ولحمايتها من الفتنة، ولحماية دعاتها في ديارهم وبين سائر الناس.
وإذا تبين الجهاد بهذا المعنى الشامل فإن من الخطأ فهم الجهاد على أنه اعتداء، أو إيذاء، أو قهر، أو جبر على الدخول في الإسلام.
إن الجهاد في سبيل الله كما اتضح من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لا يصادر الحرية، بل هو صيانة لها.
وليس الجهاد وسيلة لاندلاع نيران الحروب؛ لأنه في الواقع يضع النهايات السليمة للصراع ويريح البشرية من شرور الحروب.
وليس الجهاد نهبًا للأموال، بل هو الوسيلة لحماية الإيمان، والإيمان هو العاصم الحافظ للمقدسات، والأعراض، والأموال.
ليس الجهاد لقهر الناس وإخضاعهم مهما كانت الغاية؛ لأنه إفساح الطرق للدخول في دين الله، وهو الدين الذي ينشر لواء العزة، ويحمي الذمار، ويصون الكرامات، ويعتمد على الاختيار الحر، والاقتناع السليم والله تعالى يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.
__________
1 البقرة: 256.
إن الجهاد يتقرر في الإسلام حماية للحرية، وصيانة للفكر، ليحول بين الناس وبين من يصدهم عن اختيارهم للدين القويم.
إن الأمر في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1 يحدد الوسائل المشروعة وهي تعني أن تكون الدعوة في الإسلام بالحجة والبرهان لا بالسيف والمعارك، وأن التاريخ ليسجل دائمًا أن العقائد لا تتحقق بالطغيان، إذ هي اعتقاد بحل في القلب وتتبوأ في الضمير، وتسكن في الباطن الأمين.
ولم يدع الله أمر القلوب للكشف، والبروز، والظهور، حتى لا تكون هدفًا يدركه الطغاة، ويحركونه تبعًا لأهوائهم بضربات الأيدي، أو برشقات السيوف، أو بما شاكلها من أدوات الحديد والنار.
إن القلب غيب عن الناس لا تدرك مشاعره إلا بالإحساس الروحي، أو المعنوي, ولا سبيل للسلاح إلى هذه المعاني حتى تفتح بالضرب، وتغلف بالضراب.
وما دام شأن القلب هكذا، فإنه من الحال أن يوجه السيف إليه، أو يغير بقوة وإرهاب وذلك يؤكد سمو غايات الجهاد، وبعده عن أي عنت أو ظلم، أو عدوان.
لقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا وهو يتلقى مع أصحابه كل يوم منذ أن جهر بالدعوة صنوفًا من العذاب تحملوها صابرين، وصمدوا لكل مكروه، فلم يفتنهم عن دينهم عذاب مهما طال، ولا إيذاء مهما عظم، بل اعتزوا بالله ورسوله، وكفوا حتى عن مقابلة الإساءه بمثلها.
وعلى كل حال فإن الجهاد في سبيل الله لم يمتهن كرامة، ولم يبدأ بعدوان، ولم يلجأ المجاهدون في سبيل الله إلى أموال الوادعين لنهبها، وإن كانت ظروف القتال قد ألقت إليهم أموال العدو، ووضعت في أكفهم الغنائم فأحلها الله لهم.
وهكذا كان الجهاد، وعلى هدي ذلك يجب أن يستمر2.
__________
1 سورة النحل: 125.
2 الجهاد في الشريعة ص14 رسالة ماجستير مخطوطة بكلية الدراسات الإسلامية للبنات القاهرة تأليف الدكتورة نعمات محمد علي الهاشي.
,
,
...
,
شرع الله الجهاد لتعيش الدعوة إلى الله في إطار خلقي كريم، يقدر الإنسان، ويبرز مزايا الدين، ويشجع الناس على الدخول في دين الله تعالى.
وحينما نتأمل في تشريع الإسلام للجهاد، وننظر في مساره التطبيقي من خلال الغزوات والسرايا، ومدى مساهمته في خدمة الدعوة، وتجلية صدق الإسلام وخيريته تظهر الحقائق التالية:
1- الجهاد ضرورة عامة:
قد يتساءل سائل ما، بحسن نية أو بسوء نية، ويقول:
ما سبب كل هذه التضحيات التي يحتاجها الجهاد الإسلامي؟
وهل يستحق كل هذا؟
وما الغاية منه؟ وما الحكمة في تشريعه؟
وهل استنفد المسلمون كافة الوسائل السلمية حتى يلجئوا إلى الجهاد والحرب؟ مع ما في الحرب من قتل، ودم، وإزهاق للأموال والأرواح.
وهل تتساوى غايات الجهاد مع مسئولياته؟
وهذه تساؤلات تحتاج لإجابات واضحة منعًا للبس، وردًا لشبهات يثيرها أعداء الإسلام حول مشروعية الجهاد الإسلامي.
إن الإسلام دين الله تعالى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعدما أوحى الله إليه به لإنقاذ الناس من ظلمات الجهل، وعبودية المادة، وطغيان الأقوياء حتى يعيشوا حياة آمنة مستقرة بالعدل والحق، وانتشار الخير والسلام.
ولم يبدأ الإسلام بتشريع الجهاد والقتال. وإنما بدأ بالكلمة الصادقة والدعوة الآمنة والحوار الجاد، يناقش العقول، ويحرك العواطف، ويثبت للناس صدق الإسلام، وأحقيته، بلا عدوان على أحد، أو سب لمخلوق، أو مصادرة لرأي واتجاه.
أعلن الإسلام غايته بوضوح وهي تنحصر في تحقيق السعادة للناس، ونشر السلام
في العالم كله بواسطة منهج رباني خالص حدد الإسلام معالمه، وبين غاياته ومراميه.
ومع هذا أبى جبابرة الأرض أن يواجهوا الدعوة بالدعوة، والحجة بالحجة، والرأي بالرأي, وإنما بدءوا باضطهاد من يدعونهم، وقتل من يكلمهم، ووضعوا سياجًا يمنع الدعوة من الحركة والانطلاق. ولم يكن موقفهم هادئًا, ولم يكتفوا بالحديث مهما كان توجهه ومستواه. وإنما اعتمدوا على القتل والأذى، ولم يفرقوا في عدوانهم بين كبير وصغير، ولا بين رجل وامرأة، واستمروا في مباشرة العدوان وتصعيده حتى أجبروا المسلمين على الهجرة وترك الديار إلى أماكن لا عهد لهم بها كالحبشة والمدينة، ولم يترك الأعداء المسلمين أحرارًا حتى في مواطن هجرتهم، وإنما تتبعوهم بالعدوان، ولاحقوهم بالأذى ودبروا المؤامرات لاغتيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقهر المسلمين وجيشوا الجيوش لقتل المسلمين في دارهم, وكان أملهم هو القضاء التام على المسلمين، وإطفاء نور الله في الأرض.
وبتحقق هذه الأمور في عالم الواقع يظهر أن مشروعية الجهاد جاءت بعد استنفاد كافة الوسائل التي يتصورها العقل لصيانة الحقوق، وضمان الخير للناس.
وقد شرع الله الجهاد لرد العدوان، ومنع الأذى، وتحقيق وضع يحقق الاستقرار للدعوة وللناس، ويصون الكرامة، ويحمي الحقوق، وذلك أمر تدعو إليه المواثيق الدولية القديمة والمعاصرة وتعمل له.
ولذلك كان تشريع الجهاد ضرورة عامة، ووحيدة بعد ما استنفد المسلمون كافة الطرق للتعامل مع أعدائهم الذين بدءوهم بالأذى، ولاحقوهم بالعدوان، ولم يسمعوا لهم كلمة، ولم يناقشوهم بحجة.
لو لم يشرع الله الجهاد وتركه المسلمون لتمكن المشركون من كل مسلم، ولقضوا على المسلمين ودينهم.
ولو لم يشرع الجهاد لاستمرت البشرية في ظلمات الجهل، وسوءات القهر والاستعباد.
ومن هنا ندرك ضرورة تشريع الجهاد، وسبب تكليف المسلمين به، وأهمية
التضحية والبذل إنقاذًا لأنفسهم، وحماية لدينهم، وتحقيقًا لخير الإنسانية وسعادتها.
إن الأمم المعاصرة تحتفل بما بذلته في حروبها العالمية، وتتباهى بتضحياتها من أجل الحرية والديموقراطية، وتجعل قتلاها خلال هذه الحروب أبطالا تصنع لهم التماثيل، وتشيد بهم في كل مجال, فإذا نظرنا إلى الجهاد الإسلامي من زاوية هؤلاء الناس مع ربطه بوسائله وأهدافه، وتطبيقاته فإن ذلك يعد برهانًا على ضرورته، وحتمية استمراره لخير الناس مع وضوح الفرق بين الجهاد الإسلامي وهذه الحروب من ناحية أخلاقيات الجهاد ونتائجه.
إن الجهاد الإسلامي في إطار مشروعيته يحتاج إلى كل ما بذل له من تضحية وعطاء، ولو تضاعف الجهد لكان خيرًا وبركة.
ويبقى الجهاد في مشروعيته محافظًا على حقيقته، وغايته على الزمن كله.
ومن حكمة الله أن آيات الجهاد تورده مرتبطًا بسببه وعلته، يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1.
ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2.
ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 3.
ويقول سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 4.
ويقول سبحانه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
__________
1 سورة الحج: 39.
2 سورة البقرة: 190.
3 سورة التوبة: 36.
4 سورة البقرة: 251.
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1.
إنه تشريع رباني بسبب أنهم ظلموا!
ولرد عدوان المعتدي ومقاتلة من يقاتل!
ولمعاملة الأعداء بمثل ما يعملون!
ولإنقاذ البشرية من ظلم الطغاة واستبداد المتجبرين وحتى لا تنهدم الحضارات على رءوس أصحابها!
وقد سبق عند الحديث عن مراحل تشريع الجهاد في بيان واضح لهذه القضية.
__________
1 سورة الحج: 40.
2- الجهاد يحمي حرية الإنسان:
أظهر الجهاد الإسلامي قيام الإسلام على المبادئ النبيلة، التي تحمي الحقوق، وتصون الكرامة، وتعمل على ضمان حرية الإنسان بصورة مطلقة، وذلك يتضح من خلال بعض الملاحظات في حركة الإسلام بين الناس، وأهمها:
أ- إن الإسلام فكرة قائمة على بعض المعاني التي لا بد من فهمها، قبل الإيمان بها والعمل بمقتضاها، ومن المعلوم أن حركة الأفكار تحتاج إلى الحرية، لتظهر الفكرة قولا يسمع ومعنى يتدبر، واتجاهًا يتحول إلى عمل وسلوك، وبدون الحرية لا تجد الأفكار مجالا تعيش فيه وتتحرك خلاله، وإذا فقد الإنسان الاختيار الحر فإنه يتصرف ويعمل بلا اقتناع أو رضى وهذا شأن يأباه الإسلام ويمنعه.
ب- ومن الحقائق المؤكدة تشريعيًا، وعمليًا، أنه لا إكراه في اعتناق الإسلام.
فكل النصوص الدينية تؤكد أن الإسلام يعتمد على الدليل والبرهان، ويقوم على الرضى والاقتناع، يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1, ويقول تعالى: {هُوَ
__________
1 سورة البقرة: 256.
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 1 ويقول تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} 2 والآيات واضحة الدلالة على أن دين الله تعالى يقوم على الإرادة الحرة والمشيئة الطليقة، ولا حرج فيه أبدًا.
هذا من الناحية التشريعية، أما الناحية العملية التطبيقية فهي تؤكد أن ذلك هو ما حدث في عالم الواقع، ولم يتحدث المؤرخون أو بعضهم أن جماعة من الناس، أو واحدًا من الأفراد دخل في الإسلام قهرًا وجبرًا، وكل ما قام به المجاهدون بعد انتصارهم هو إزالة الطغاة الجاثمين، وصيانة الأموال والأعراض، وتيسير أمر الحياة، وإعلان سيادة الله في الأرض هذا وفقط. مما أدى بالناس إلى التفكير والتدبير، والمقارنة فدخلوا في الإسلام طواعية واختيارًا بعد فهم واقتناع.
إن الناس دخلوا في الإسلام راضين سعداء، ولذلك نراهم يسارعون إلى معرفة لغة الإسلام، وحفظ القرآن الكريم والمحافظة على سنة نبيه الكريم.
ومما يؤكد الحرية في الاقتناع ما رأيناه من إيمان القوة الغالبة المنتصرة على المسلمين المنهزمين كما حدث في إسلام التتار، فلقد دخلوا في الإسلام بعد هزيمة المسلمين بعد معرفتهم بحقيقة الإسلام، وإيمانهم بصدق وصواب ما جاء به.
يقول أرنولد توينبي: إن الإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين الاشتقاقية والتاريخية، وهو يعتمد الأسلوب العقلي طريقًا لإقامة العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، والحق أن محمدًا كان متحمسًا لدينه وكان يمتلك غيرة الإيمان، ونار الاقتناع، عرض دعوته على أنها وحي وإلهام وأن لدينه كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد قامت على أساس المنطق والعقل3.
لقد بقي الإسلام صامدًا في وجه الهجمات الاستعمارية التي استولت على العالم
__________
1 سورة الحج: 78.
2 سورة الكهف: 29.
3 الدعوة إلى الإسلام ص455.
كله، لما فيه من خير وصلاح، يؤكد هذا الأمر ما نراه دائمًا من إسلام عديد من الناس وهم بين أقوام غير مسلمين وفي ثنايا قوة تحارب الإسلام، وما ذلك إلا لاقتناعهم التام الذي جعلهم يتركون دين آبائهم، ويهاجرون بعد إسلامهم إلى المسلمين وديار الإسلام ليقوموا بواجب الأمانة التي تحملوها بإسلامهم.
ولا يمكن القول بأن الجزية تمثل إكراهًا ماديًا، يدفع الفقراء إلى الإسلام ليبتعدوا عنها. لا يقال ذلك لأن المسلم يدفع أضعاف هذه الجزية حين يؤدي ما عليه من واجبات دينية مثل دفع الزكاة، وأداء صدقة الفطر، وتحمل مغارم الكفارات العديدة، في الوقت الذي يعفى فيه دافع الجزية من الاشتراك في الجهاد، وعمليات تأمين الأمة، بينما المسلم يقوم بذلك على وجه الوجوب والفرضية.
ج- الجانب الباطني في الإنسان لا يعلمه إلا الله تعالى، وارتباط الإيمان في الإسلام بهذا الجانب تأكيد واضح على ضرورة الحرية للاقتناع والإيمان.
إن النفاق لا يغني من الحق شيئًا، والمنافق خطر على الإسلام أكثر من خطورة الكافر، لأن المنافق عدو خفي، والكافر عدو ظاهر، والعدو الخفي ضرره أكثر، وإيذاؤه أشد.
ويوم أن ظهر المنافقون في المدينة حذر الله منهم وبين للرسول صلى الله عليه وسلم مظاهرهم، ومواطن الخطر من قبلهم فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.
والآيات واضحة الدلالة على سلوك المنافقين السيئ، فلقد كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحدثونه بألسنتهم حديثًا مخالفًا لما في قلوبهم، وينطقون بكلمة الحق مع أنهم لا يقرون بها،
__________
1 سورة المنافقون الآيات: 1-4.
فهم كاذبون في إقرارهم، حيث لا ارتباط له بما في قلوبهم, ونراهم يسارعون إلى الأيمان الكاذبة لإبعاد التهمة عنهم، مع أنهم بهذه الأيمان يبالغون في الكذب. ويتصورون أنهم خدعوا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. إن هؤلاء المنافقين يبدون في صورة حسنة، وقلوبهم مملوءة بالسوء. لهم كلام منمق، لكنه السم الزعاف, وهم مدركون لفعلهم ولذلك يعيشون خائفين، يتوقعون انكشاف أمرهم في كل لمحة ولفتة.
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.
هذا هو موقف الإسلام من النفاق والمنافقين قديمًا وحديثًا, ولذلك فلا قيمة للإيمان إذا لم ينبع من الباطن القلبي. وذلك شأن لا يتحقق إلا في إطار الحرية, والاختيار الكريم.
د- يتكون الإسلام من أساسيات أخلاقية تعتمد على التسامح والعفو، وحب الخير لسائر الناس مع الالتزام بالصدق والأمانة وضرورة مراعاة حقوق الآخرين، والمحافظة على القيام بالواجب بكل دقة. ودين هذا شأنه لا يتصور منه إهانة الإنسان في عقله، وفي إرادته أو في حياته أو في أي جانب إنساني.
في إطار هذه الملاحظات يعمل الجهاد ويتحرك المجاهدون؛ ولذلك نرى الجهاد يحمي حرية الناس، ويحفظ عقلهم، ودينهم, وأموالهم.
__________
1 سورة المنافقون: 4.
2 سورة محمد: 29.
3- ,
كرم الله الإنسان منذ خلقه، وسخر كل ما في الوجود لخدمته وسعادته، وأرسل إليه رسله وأنبياءه ليستقيموا به على المنهج الرباني السديد, لكن الإنسان ظلم نفسه، وبعد عن ربه فلعب به الهوى، واستحوذ عليه الشيطان، فصار عبدًا لشهواته وغرائزه.
وانتهز أنصار الشر خيبة الناس فتمكنوا منهم وحولوهم إلى قطعان من العبيد، وتحكموا في رقابهم تحكم المالك في غنمه ومواشيه, ولذلك انقسم العالم إلى جزئيات متناثرة تحت سيطرة أفراد مستبدين, وفقد الإنسان إرادته، وضاعت كرامته.
فلما جاء الإسلام وجد هذه الفوضى فكون من المسلمين أمة مجاهدة تنشر العدل، وتصون الأمن، وتحقق كرامة الإنسان.
لقد شرع الله الجهاد، وحدد وسائله وغاياته، وطبقه المسلمون بكل دقة وشدة حتى تحققت في عالم الواقع كرامة إنسانية عاشها كثيرون، كرامة لم يتصورها أحد من الناس.
لقد جاهد المسلمون بعد الهجرة أقل من عشر سنوات قاموا خلالها بأكثر من مائة غزوة وسرية، تحملوا خلالها كثيرًا من الألم والتعب، والشهادة لكنهم حققوا في عالم الحياة أمة عادلة منصفة, وأزاحوا من حياة الناس مظالم الفرس والروم، واستبداد العرب وجاهلية الفوضى والعصبية, وأوجدوا بدل ذلك الإنسان الكريم الذي يعيش لله، ويعمل لله، ويموت لله, وفي ذلك الدلالة على تكريم الجهاد للناس.
إن مقارنة أمينة بين وضعية العالم قبل الإسلام وبين وضعيته تحت سيادة الإسلام تؤكد مدى الخير الذي قدمه الإسلام للناس من كافة النواحي.
لقد نظم الإسلام حياة الناس.
- حدد حق الحاكم ومسئولياته، وواجباته.
- وضح حقوق الناس وصان لهم النفس، والعقل، والعرض، والمال، والاعتقاد.
- أرسى أسس السلوك القويم، وأعلى مكارم الأخلاق.
- بين العقوبات الملائمة للجرائم لصيانة المجتمعات البشرية من الهمجية والعدوان.
- أعلى مقام العلم وجعله حقًا ضروريًا لكل رجل وامرأة.
- دعا إلى السعي والعمل وبذل أقصى الوسع للنجاح ويسر لذلك الطريق.
- أعطى لكل فرد ما يستحقه من جزاء وثواب تبعًا لطاقاته العقلية وإمكاناته العملية.
- حدد حقوق كل من الرجل والمرأة بما يضمن لكليهما الحياة السعيدة المستقرة.
- حقق بين أفراد المجتمع تكافلا كاملا يحقق العدل والمساواة.
ولم يحقق الإسلام هذا في عالم الواقع إلا بجهاد المسلمين وتضحياتهم وتلك هي مسئولياتهم إلى يوم القيامة.
4- ,
أبرز تشريع الجهاد حقيقة الإنسان المسلم، في باطنه، وظاهره، وخلقه.
فهو في باطنه يسلم أمره لله ورسوله، ويؤمن بكل ما يبلغه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليست الحياة الدنيا في مفهوم المسلم مغنمًا يحرص عليه، وإنما هي مجال يطيع الله فيه، ليغنم رضوان الله وجنته بعد هذه الحياة الدنيا.
إن الجهاد يبرز أعلى درجات الاستسلام والطاعة لله تعالى؛ لأن المجاهد يدفع روحه لله، ويقبل الموت راضيًا به، ليفوز برضوان الله تعالى.
إن سائر العبادات رقي في حياة المسلم، واستمرارية لطهارة الدنيا، وعظمتها والهجرة من مكة إلى المدينة كانت خلاصًا من الضعف، والقلة، والأذى، وانتقالا إلى القوة، والكثرة، والغلبة، والتخلص من عدوان الكفر، وأذى المشركين، فهي رقي دنيوي في طاعة الله تعالى.
إن الجهاد هو بذل للمال، وللنفس، وترك الدنيا، من أجل إعلاء كلمة الله وذلك كان ذروة سنام الإسلام، وقد جعل الله المجاهدين صفوة الخلق، وأكرمهم عنده وجدد الله حياتهم بعد استشهادهم، وضاعف رزقهم، وأحاطهم بالبشر، والسرور، يقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1.
إن التضحية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل شهامة وبطولة يقدم عليها العظماء من الناس, وهي مناط إظهار إيجابية المجاهدين في سبيل الله تعالى.
لقد قام المجاهدون بما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبدءوا بعدوان، وإنما كانوا يبدءون بعرض الإسلام وشرح أعماله ومراميه، ودفع ما يثار حوله من شبه وافتراء, وكانوا يعرضون الجزية يدفعها من يأبى الإسلام ليكون له العهد والذمة.
ولم يتعد المجاهدون على شيخ كبير أو امرأة أو صغير أو راهب في صومعة أو بيعة. إن الجهاد في الإسلام معلومة غايته، مبينة وسيلته، من خلال تشريعه الصريح، وتطبيقاته في الأمم، التي تمتعت به, وهو في مجمله قوة تؤمن بالله، وتستمد طاقتها من شريعة الله، وتبرز غايتها المعلنة منذ أن جاء الإسلام للناس.
إن تكوين القوى الدولية التابعة للأمم المتحدة تنطلق من هذا المفهوم الذي نرجو له أن يتطابق وسمه مع رسمه وتلتقي فكرته مع واقعه ليكون عونًا للضعفاء، ومساعدة للمحتاجين.
إن المجاهد لا يطلب مجدًا شخصيًا، ولا سلطانًا قوميًا، ولا استعلاء أمميًا, وإنما كل غايته تحقيق العبودية للمعبود، وإعلاء سلطان الله في الأمم كلها.
وبذلك فالمسلم المجاهد إنسان إيجابي يفيد الإنسانية كلها.
__________
1 سورة آل عمران: 169-174.
5- ,
لم يغب تشريع الجهاد مطلقًا عن مصلحة الناس، ومراعاة واقعهم العملي، حيث رأيناه في مكة لم يكلف المسلمين بجهاد، وإنما أمرهم بالصبر، والعفو لقلة عددهم وضعف أحوالهم، وغلظة أعدائهم، وفي نفس الوقت لم يوجه لومًا لمسلم ينتصر لنفسه ضد بغي وقع عليه، إذا رأى الانتصار ممكنًا، ولا يؤدي إلى ضرر أكبر.
وقد تحدث الوحي عن الجهاد بالإذن فيه، أو بالأمر به، ليعلم أهل مكة ومن يشايعهم أن قضية الإسلام لم تنته بالهجرة إلى المدينة، ولكن الحقيقة أن الهجرة تؤكد أن مرحلة جديدة قد بدأت، وأنها ستكون أقوى من سابقتها، وأن الاستقامة على الحق ضرورة واجبة، والدعوة إلى الله أمر لن يتوقف، وأن قوة المسلمين ستكون في خدمة الدعوة دائمًا، وستبقى في حماية الحركة بالإسلام.
وقد تحقق في عالم الواقع أن أهل مكة وقبائل العرب وغيرهم أدركوا هذا الأمر وتيقنوا أن الإسلام تحميه قوة المسلمين، ويبلغه للعالم رجال يبذلون له كل ما يمكنهم من نفس ومال، وعمل.
حين شرع الله للمسلمين أن يتصدوا للظلم والعدوان عرفهم أن ذلك هو الجهاد. الذي كلفوا به، في إطار نظام متكامل يتضمن الدعوة أولا، ويتمسك بالخلق الحسن في كافة مراحله، ويملأ المجاهد بحب الجهاد، وحب الموت في سبيل الله.
وبإعلان الإسلام للجهاد نظامًا له منهجه، وهدفه، علم العرب جميعًا مدى حب المسلم لدينه، ومدى ربطه سعادة الآخرة بعمل الدنيا، ومدى تمنيه الموت مجاهدًا في سبيل الله تعالى, وهذا أمر يدفع الناس إلى التفكير الجاد في شأن الإسلام، ورجاله، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أظهر تشريع الجهاد إيجابية الإسلام في معالجة مشاكل الناس، فالمسلم لا يجاهد لكسب مادي، وإنما يجاهد لضمان حرية الإنسان في التفكير، وصيانة عقله من الغوغائية والتسلط، وإزاحة الظلم والاستبداد من عالم الناس، وهذا شأن يجب أن يذكر به الجهاد الإسلامي.
إن العالم الحديث يلزم الأقوياء، والأغنياء بمعاونة الضعفاء، والمحتاجين في إطار مجموعة من النظم، والمواثيق، والمؤسسات الدولية، وذلك شاهد يؤكد عظمة تشريع الجهاد، وسبق الإسلام في تكليف المسلمين بقهر الظلم ودفع البغي، وإزاحة الطواغيت لقد تصدى الإسلام لأناس تألهوا على الناس، واستعبدوا البشر، وحولوا الأحرار إلى قطعان
من الأنعام، وأقاموا سدًا يمنع نور الحق من الوصول للأفهام, فلما جاء الإسلام، وظهرت قوة المسلمين، انزاحت القوى المتسلطة، وتبين الرشد من الغي، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. إن هذه الإيجابية الإسلامية معروفة مقررة، بشهادة التاريخ، وبشهادة الواقع يقر بها كل منصف آمين.
وقد تعرضت الدعوة الإسلامية في العصر الحديث بادعاء أن جهادها كان ظالمًا قائمًا على الاعتداء والغدر, وهذا افتراء واضح لأن الجهاد الإسلامي لم يكن إلا ردًا لظلم ودفعًا لعدوان، وحماية للدعاة في حياتهم وعملهم.
لقد أدت النتائج الأولى للجهاد إلى تحقيق حرية التفكير لسائر الناس، وصيانة حقوقهم الضرورية المرتبطة بإنسانيتهم، وحمايتهم، وحماية أموالهم في إطار تحديد ما لهم وما عليهم في دولة الإسلام.
6- ,
أدى تشريع الجهاد في الإسلام إلى ظهور الأحكام التفصيلية لأعمال الجهاد بمختلف مراحله، وأصبح المسلمون مسئولين عن رعاية هذه الأحكام، وتطبيقها في عالم الواقع، ومن هذه الأحكام:
أ- إعداد القوة لحماية البلاد والعباد، والدين، وذلك بتنفيذ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} 1.
ومن الواضح في الآية أن إعداد القوة، وتجهيز الجيش سبب لتحقيق السلام، وضمان الحقوق؛ لأن أعداء الحق إذا رأوا يقظة صاحب الحق يخافون منه، ويبتعدون عن مصادمته, ومن مسلمات الحضارة الحديثة أن الأمم الجادة تجهز جيشها، وتعده لحماية أمنها وسلامتها، ولذا لم يكن عجبًا وجود وزارات ومؤسسات في كل دولة
__________
1 سورة الأنفال: 60.
لإعداد العدة، وتجهيز القوة حماية للمصالح، وصيانة لحقوق المواطنين من أي عدوان يلحق بها، ونشر الأمن لكل خاضع لنظام الدولة وسيادتها.
ولذا كان توجيه المسلمين لإعداد القوة من بدهيات العقل، ومسلمات العمران والتقدم ومن أساسيات ضمان الأمن وتحقيق السلام.
ب- ضرورة التهيئة النفسية، وتقوية الجانب الروحي في الإنسان، لينشأ المسلم شجاعًا قويًا، لا يخاف إلا من الله تعالى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 1.
إن الخور والضعف أمام العدو يولد الهزيمة، ويورث الوطن والأمة الذل والهوان، ولذلك كان واجبًا تربية الأمة على التحمل والصبر، والقيام ببعض ما يكرهون في إطار متطلبات الأمة، ونظامها.
ج- تعلم المجاهدون من تطبيقات الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم النظم العسكرية التي بها يتحقق النصر، من حسن التخطيط، وسعة المشاورة، ومعرفة أسرار العدو، ومقابلة الخصم بما يكافئه, مع التوكل على الله، والاستعانة به سبحانه وتعالى.
د- بينت الشريعة الإسلامية أحكام الإسلام قبل القتال عن طريق تنشيط العلاقات الدولية، ومناقشة الخصم في القضايا المثارة، وعرض الإسلام عليه، عسى أن يتحقق السلام وينتشر الأمن في إطار حكيم حسن، بالكلمة الحرة، والقول الأمين ولذلك كان عرض الإسلام على الآخرين أمرًا واجبًا على من يتصدى لهم ويقابلهم.
هـ- تعلم المسلمون من الجهاد، أهمية القيادة، وضرورة طاعة القائد فيما يأمر به لأنه يوجه الجماعة وفق مرئيات لا يدركها جميع المجاهدين ولأن المواقف الصعبة والمصيرية تحتاج إلى الحسم والتنفيذ، ويضيعها التردد؛ ولذلك كانت طاعة الحاكم قضية واجبة في ميدان الحرب، منعًا للهزيمة والفشل.
__________
1 سورة الأنفال: 65.
و تعلم المسلمون من الجهاد شروط مهادنة الأعداء، وطرق التعامل معهم قبل القتال، وأثناءه، وبعده وأساسها العزة، والتزام الحق، والقيام بالواجب.
ز- استفاد المسلمون طرق التعامل مع الغنائم، والفيء، والأسرى كما هو مفصل في كتب الفقه على ضوء التعاليم التي نزل الوحي بها.
ح- وأبواب الفقه مليئة بتفصيلات توضح مكانة الشهيد، ومنزلته عند الله، وكيفية دفنه، والصلاة عليه.
ط- تعلم المسلمون أن النصر لا يعني الغرور والاستعلاء وإنما هو عطاء إلهي، وتقدير رباني يحتاج إلى الشكر، ومداومة الطاعة، واستمرارية العمل لدين الله تعالى.
وهكذا ظهر فقه الجهاد من خلال تطبيقاته في المدينة المنورة.