ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث تقطن ثقيف، وهي تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلا، سارها محمد صلى الله عليه وسلم على قدميه جيئة وذهابا، فلمّا انتهى إليها قصد إلى نفر من رجالاتها، الذين ينتهي إليهم أمرها، ثم كلّمهم في الإسلام، ودعاهم إلى الله، فردوه- جميعا- ردّا منكرا، وأغلظوا له الجواب، ومكث عشرة أيام، يتردّد على منازلهم دون جدوى.
فلمّا يئس الرسول عليه الصلاة والسلام من خيرهم، قال لهم: «إذا أبيتم، فاكتموا عليّ ذلك» - كراهية أن يبلغ أهل مكة، فتزداد عداوتهم وشماتتهم- لكنّ القوم كانوا أخسّ مما ينتظر، قالوا له: اخرج من بلدنا، وحرّشوا عليه الصبيان والرعاع، فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة، وزيد بن حارثة يحاول- عبثا- الدفاع عنه، حتى شجّ في ذلك رأسه.
وأصيب الرسول عليه الصلاة والسلام في أقدامه، فسالت منها الدماء، واضطره المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن.
وكان أصحاب البستان فيه، فصرفوا الأوباش عنه، واستوحش الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا الحاضر المرير، وثابت إلى نفسه ذكريات الأيّام التي عاناها مع أهل مكة، إنه يجرّ وراءه سلسلة ثقيلة من الماسي المتلاحقة، فهتف يقول:
«اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. أنت أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي..
إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي..!!.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا
والاخرة، أن يحلّ عليّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك ... » .
وتحرّكت عاطفة القرابة في قلوب ابني ربيعة، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يدعى (عدّاسا) وقالا له: خذ قطفا من العنب، واذهب به إلى الرجل.
فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلا: «باسم الله» ثم أكل.
فقال عدّاس: إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«من أيّ البلاد أنت؟» قال: أنا نصراني من نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمن قرية الرّجل الصّالح يونس بن متّى؟» قال له: وما يدريك ما يونس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك أخي، كان نبيّا وأنا نبيّ» . فأكبّ عدّاس على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه يقبلهما.
فقال ابنا ربيعة أحدهما للاخر: أمّا غلامك فقد أفسده عليك! فلمّا جاء عدّاس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: ما في الأرض خير من هذا الرجل «1» .
فحاول الرجلان توهين أمر محمد، وتمسيك الرجل بدينه القديم، كأنّما عزّ عليهما أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم من الطائف بأيّ كسب.