أخذت سنّ محمد صلى الله عليه وسلم تصعد نحو الأربعين، وكانت تأمّلاته الماضية قد وسّعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، فأمست نظرته إليهم نظرة عالم الفلك- في عصرنا- إلى جماعة يؤمنون بأن الأرض محمولة على قرن ثور، أو نظرة عالم الذرة إلى جماعة يتراشقون بالحجارة إذا تحاربوا، ويتنقلون بالمطايا إذا سافروا ...
ذلك من الناحية الفكرية، أمّا من الناحية النفسية؛ فإنّ الإلحاد الذي شاع في الجاهلية، وجعل أهلها يقسمون بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، هذا الإلحاد المغرق الطامس غزا نفوس الأخيار بالقلق البالغ؛ إلى أين تصير هذه القلة الحائرة؟ لئن كان الوجود- أولا واخرا- هذه الأعمار المستنفدة على ظهر الأرض ... إنّ الفناء خير وأجدى!!.
أما من بصيص نور خلال هذا الظلام المخيّم؟
وكان محمّد صلى الله عليه وسلم يهجر مكة كلّ عام ليقضي شهر رمضان في غار حراء، وهو غار على مسافة بضعة أميال من القرية الصّاخبة، في رأس جبل من هذه الجبال المشرفة على مكة، والتي ينقطع عندها لغو الناس وحديثهم الباطل، ويبدأ السكون الشامل المستغرق ... في هذه القمة السامقة المنزوية كان محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ زاد الليالي الطوال، ثم ينقطع عن العالمين متّجها بفؤاده المشوق إلى ربّ العالمين!.
... وفي هذا الغار المهيب المحجّب، كانت نفس كبيرة تطلّ من عليائها على ما تموج به الدنيا من فتن ومغارم، واعتداء وانكسار، ثم تتلوّى حسرة وحيرة؛ لأنها لا تدري من ذلك مخرجا، ولا تعرف له علاجا!!.
في هذا الغار النائي كانت عين نفّاذة محصية تستعرض تراث الهداة الأولين من رسل الله، فتجده كالمنجم المعتم؛ لا يستخلص منه المعدن النفيس إلا بعد
جهد جهيد، وقد يختلط التراب بالتبر فما يستطيع بشر فصله عنه.
في غار حراء كان محمد عليه الصلاة والسلام يتعبّد، ويصقل قلبه، وينقي روحه، ويقترب من الحق جهده، ويبتعد عن الباطل وسعه، حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية؛ انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوّة، فأمسى لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح.
في هذا الغار اتصل محمد صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى.
ومن قبله شهد بطن الصحراء أخا لمحمد عليه الصلاة والسلام، يخرج من مصر فارّا مستوحشا، ويجتاز القفار متلمّسا الأمن والسكينة والهدى، لنفسه وقومه، فبرقت له من شاطئ الوادي الأيمن نار مؤنسة، فلمّا تيمّمها، إذا بالنّداء الأقدس يغمر مسامعه ويتخلل مشاعره:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) [طه] .
إن شعلة من هذه النار اجتازت القرون؛ لتتّقد مرة أخرى في جوانب الغار الذي حوى رجلا يتحنّث ويتطهّر، نائيا بجسمه وروحه عن أرجاس الجاهلية ومساوئها، لكنّ الشعلة لم تكن نارا تستدرج الناظر، بل كانت نورا ينبسط بين يدي وحي مبارك، يسطع على القلب العاني بالإلهام والهداية، والتثبيت والعناية، وإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يصغي في دهشة وانبهار إلى صوت الملك، يقول له:
«اقرأ ... » فيجيب مستفسرا: «ما أنا بقارئ» ، ويتكرر الطلب والرد لتنساب بعده الايات الأولى من القران العزيز:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] «1» .
__________
(1) حديث صحيح، سيأتي تخريجه قريبا.