في شهر صفر لسنة ٤ هــ، وكانت عند بئر معونة وهي أرض بين بني عامر وحرة وبني سليم.
غدر حشد من قبائل بني سليم ضد الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، واتخاذهم الحيلة لقتل سبعين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، خرجوا لتعليم أهل نجد القرآن فوجدوا أنهم قد وقعوا بشراك أهل الكفر، وقاتلوا حتى استُشهدوا.
قادها المنذر بن عمرو، وهو أحد النقباء الاثني عشر من بني ساعدة، وكان لقبه [المعنق ليموت]، وفي المقابل ترأَّس طرف المشركين عامر بن الطفيل الكلابي من قبيلة هوازن.
في نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع، والتي قُتِل فيها عشرة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وقعت مأساة أخرى أشد وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
وقد طلب أبو براء عامر بن مالك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، أن يرسل وفدًا من أصحابه إلى أهل نجد [بنو عامر وبنو سليم] يدعونهم إلى دين الإسلام؛ وطمأنه بأنه جار لهم [أي: هم في أمانه]، وسعى لتقديم هدية للنبي صلى الله عليه وسلم فرفض قبول هدية المشركين، وبعث معه النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا، وقيل أربعون، وأَمَّر عليهم المنذر بن عمرو، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرَّائهم، يبيعون الحطب بالنهار ويأتون به للرسول صلى الله عليه وسلم لتحضير طعام أهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، وقد نزلوا عند بئر معونة.
بعث القُرَّاءُ رسولًا منهم وهو حرام بن ملحان أخا أم سليم وخال أنس بن مالك، بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، رأس بني سليم آنذاك، وابن أخي أبو براء عامر، فلم ينظر فيه، وأمر رجلًا فطعن حرام بن ملحان بالحربة من خلفه، ولما رأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة.
وقد ساندت قبائل عصية ورعل وذكوان من بني سليم، بعد أن فشل عامر في استنفار بني عامر لقتال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد بن النجار الذي احتمى بين الجثث فلم يلحظوه. وقيل أن عامر بن فهيرة كان بين من قُتلوا يوم بئر معونة، وأن جثته قد رفعتها الملائكة، وقد كان من أحفظهم لكتاب الله تعالى.
وقد رأى عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة، الطير تحوم على موضع الوقعة، وكانا بمراعي المسلمين، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قُتل مع أصحابه، وأُسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه، فعاد لتوه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخطأ بقتل رجلين من بني كلاب انتقامًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعلم بأنهما في عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عرف الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان لأصحابه ببئر معونة دخل بحزن وقنوت طويل يدعو على الكافرين، واغتم غمًا لم يشاهد عليه من قبل، وجمع دية القتيلين من المسلمين وحلفائهم اليهود وأداها.
وفي الصحيح عن أنس قال : «دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول : «عصية عصت الله ورسوله»، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد (بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه) فترك رسول الله صلى الله عليه وسلمقنوته».
وفي رواية أنه يدعو على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين، أي بئر معونة والرجيع دعاء واحدًا، لأنه جاءه خبرهما في وقت واحد كما تقدم، وقيل أن عامر بن الطفيل مات بالطاعون، وفي حياته طعنه ولد أبوالبراء ويدعى ربيعة طعنة قوية بفخذه تأثر بها، لأنه أزال عن أبيه الخفارة وغدر بمن جاءوا بأمانه للدعوة للإسلام.
استشهاد سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخيرة المسلمين عِلْمًا وعبادة، وكانت تلك مقدمة غزوة بني النضير بعد مقتل رجلين من بني كلاب في عهد مع نبي الله صلى الله عليه وسلم.
كانت رؤوس الشرك عازمة على الإيقاع بالمسلمين عبر سلاح الخداع لا الحروب المباشرة التي أبدى فيها المجاهدون شجاعة زلزلت قلوب أعدائهم وشتتهم، وقد كان نبي الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا شديد الرأفة بأصحابه رغم بأسه كقائد في زمن الحرب، فلم ير صلى الله عليه وسلم أنه اغتم كمثل غمه على أصحابه ببئر معونة وقد ظل يدعو ربه قانتًا صباحًا ومساء، حتى قر بحسن خاتمة أصحابه.
"صحيح البخاري" 2/586، "السيرة النبوية" لابن هشام 2/183، "زاد المعاد" لابن القيم 2/109، "الرحيق المختوم" ص 294، "السيرة الحلبية"