شده العرب قاطبة للنصر الحاسم الذي ناله المسلمون في بدر، بل إنّ أهل مكة استنكروا الخبر أوّل ما جاءهم، وحسبوه هذيان مجنون، فلمّا استبان صدقه صعق نفر منهم، فهلك لتوّه، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب، لا يدري ما يفعل.
وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع اذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع من نصرهم محض اختلاق، وظلّوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرّنين في الأصفاد، فسقط في أيديهم.
وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذي مكن للإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيبا في المدينة وما حولها، ومدّ نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، فأصبح لا يمرّ بها أحد إلا بإذنهم.
فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم، ويستعدّون لنيل ثأرهم، ويعلنون أنّ يوم الانتقام قريب، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرها للإسلام، ونقمة على محمّد صلى الله عليه وسلم وصحبه، واضطهادا لمن يدخل في دينه، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفي به أو يعيش ذليلا مستضعفا.
ذلك في مكة حيث كانت الدولة للكفر.
أما في المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريقة الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهرا، وقلوبهم تغلي حقدا وكفرا، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبيّ.
روى أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب- كما أمرهم الله تعالى- ويصبرون على الأذى:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] .
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأوّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن فيهم بالقتل «1» .
__________
(1) حديث صحيح، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن كثير في (التفسير) : 1/ 153.
فلما غزا بدرا، وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم، قال عبد الله بن أبيّ ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه (أي: استمر، فلا مطمع في إزالته) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا..
على أنّ هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار في الوقت الذي عالن فيه فريق اخر من اليهود بسخطهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وألمهم للهزيمة التي أصابت قريشا في (بدر) ؛ بل إن كعب بن الأشرف- من رجالات اليهود- أرسل القصائد في رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم!.
ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابي.
ثم حاول اليهود أن يحقّروا من شأن النصر الذي حظي به الإسلام، مما مهّد للأحداث العنيفة التي وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم أفرادا وجماعات.
أما البدو الضاربون حول المدينة، وعلى طرق القوافل فهم قوم همل، لا يهمّهم شيء من قضايا الكفر والإيمان، إنّما يهمّهم اكتساب القوت من أي وجه، والحصول عليه ولو عن طريق السلب والنهب، وتاريخهم الحديث مع قوافل الحجاج شاهد صدق على أنهم لا يرعون حرمة، ولا يخشون إلا القوة، ولولا بطش السعوديين بهم ما أمن طريق الحجّ قط! وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، وما ورثوه من جاهلية طامسة، جعل قلوبهم مع مشركي الجزيرة، وقد ذعروا لانتصار المسلمين في بدر، وأخذت جموعهم تحتشد تبغي انتهاز فرصة للإغارة على المدينة، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهض إلى جموعهم، فشتتها، ولم يلق في إرهابهم متاعب ذات بال.
,
ترامت الأنباء إلى (يثرب) أنّ قافلة ضخمة لقريش تهبط من مشارف الشام عائدة إلى مكة، تحمل لأهلها الثروة الطائلة؛ ألف بعير موقرة بالأموال يقودها أبو سفيان بن حرب مع رجال لا يزيدون عن الثلاثين أو الأربعين!.
إن الضربة التي تنزل بأهل مكة- لو فقدوا هذه الثروة- موجعة حقا، وفيها عوض كامل لما لحق المسلمين من خسائر في أثناء هجرتهم الأخيرة، لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله ينفلكموها» «1» .
لم يعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد بالخروج، ولم يستحثّ متخلّفا، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ثم سار- بعد- بمن أمكنه الخروج.
وكان الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة يحسبون أن مضيّهم في هذا الوجه لن يعدوا ما ألفوا في السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيّام الإسلام! ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولما سمح لمسلم أن يبقى في المدينة لحظة؛ لذلك فترت الهمم عند ما وردت أخبار أخرى بأنّ القافلة المطلوبة غيّرت طريقها، واستطاع قائدها (أبو سفيان) أن ينجو من الخطر المحدق به، بعد أن أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لحماية أموالهم، ويستثير حميتهم للخروج في تعبئة ترد كل هجوم.
وغالب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الفتور العارض، وحذّر صحابته من عقبى العود السريع إلى المدينة إن فاتهم مال مكة وخرج إليهم رجالها!.
وأصرّ على ضرورة تعقّب المشركين كيف كانوا.
وذلك قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) حديث صحيح، رواه ابن هشام: 2/ 61، عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عن ابن عباس.
لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) [الأنفال] .
والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنّهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خيرا من الإحجام، ومن ثمّ قرر أن يمضي، فإنّ الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو.
وقد اختفت- على عجل- مشاعر التردّد، وانطلق الجميع خفافا إلى غايتهم.
والمسير بإزاء طريق القوافل إلى (بدر) ليس سفرا قاصدا، أو نزهة لطيفة، فالمسافة بين (المدينة) و (بدر) تربو على (160) كيلو مترا، ولم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه غير سبعين بعيرا يعتقبونها.
روى أحمد «1» عن عبد الله بن مسعود، قال: «كنّا يوم بدر، كلّ ثلاثة على بعير- أيّ يتعاقبون-. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: نحن نمشي عنك- ليظلّ راكبا- فقال: «ما أنتما بأقوى منّي على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» !!.
وبثّ المسلمون عيونهم يتعرّفون أخبار قريش: أين القافلة، وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها؟.