على أنّ قريشا كانت تحسب لهجرة النبي إلى يثرب ألف حساب. لقد كثر المسلمون فيها كثرة جعلتهم يكادون يكون أصحاب اليد العليا. وهاهم أولاء المهاجرون من مكة ينضمون إليهم فيزيدونهم قوّة. فإذا لحق محمد بهم، وهو على ما يعرفون من ثبات وحسن رأي وبعد نظر، خشوا على أنفسهم أن يدهم اليثربيون مكة أو يقطعوا عليها طريق تجارتها إلى الشام، وأن يجيعوها كما حاولوا هم أن يجيعوا محمدا وأصحابه حين وضعوا الصحيفة بمقاطعتهم وأكرهوهم على أن يلزموا الشعب وأن يقضوا فيه ثلاثين شهرا.
وإذا بقي محمد بمكة وحاول الخروج منها، فهم معرضون لمثل هذا الأذى من جانب اليثربيين دفاعا عن نبيهم ورسولهم. فلم يبق إلا أن يقتلوه ليستريحوا من كل هذا الهم الواصب «1» . لكنهم إن قتلوه طالب بنو هاشم وبنو المطلب بدمه وأوشكت الحرب الأهلية أن تفشو في مكة فتكون شرّا عليها مما يخشونه من ناحية يثرب. واجتمع القوم بدار الندوة يفكرون في هذا كله وفي وسيلة اتقائه. قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم. لكن هذا الرأي لم يلق سميعا. وقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ثم لا نبالي بعد ذلك من أمره شيئا. لكنهم خافوا أن يلحق بالمدينة وأن يصيبهم ما يفرقون منه. وانتهوا إلى أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابّا جليدا، وأن يعطوا كل فتى سيفا صارما بتارا فيضربوه جميعا ضربة رجل واحد، فينفرق دمه بين القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم جميعا، فيرضوا فيه بالدّية، وتستريح قريش من هذا الذي بدد شملها وفرق قبائلها شيعا. وأعجبهم هذا الرأي فأطمأنوا إليه، واختاروا فتيانهم وباتوا يحسبون أن أمر محمد قد فرغ منه، وأنه بعد أيام سيوارى وتواري دعوته في التراب، وسيعود الذين هاجروا إلى يثرب إلى قومهم وإلى دينهم وآلهتهم، وتعود بذلك لقريش ولبلاد العرب وحدتها التي تمزّقت، ومكانتها التي تضعضعت أو كادت.
__________
(1) الواصب: الدائم الثابت أو الموجع.
,
الأمر بالهجرة- عليّ في فراش النبي- في غار ثور- الخروج إلى يثرب- قصة سراقة بن جعشم- مسلمو يثرب في انتظار الرسول- الإسلام بيثرب- دخول محمد المدينة.
,
نسيج العنكبوت والحمامتان والشجرة، تلك هي المعجزة التي تقصّ كتب السيرة في أمر الاختفاء بغار ثور. ووجه المعجزة فيها أن هذه الأشياء لم تكن موجودة، حتى إذا لجأ النبيّ وصاحبه إلى الغار أسرعت العنكبوت إلى نسيج بيتها تستر به من في الغار عن الأعين، وجاءت الحمامتان فباضتا عند بابه، ونمت الشجرة ولم تكن نامية. وفي هذه المعجزة يقول المستشرق درمنجم:
«هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقصّ التاريخ الإسلامي الجدّ: نسيج عنكبوت، وهويّ حمامة، ونماء شجيرة؛ وهي أعاجيب ثلاث لها كل يوم في أرض الله نظائر» .
,
على أن هذه المعجزة لم ترد في سيرة ابن هشام، بل كل ما أورد هذا المؤرخ في سياق قصة الغار ما يأتي:
«عمدا إلى غار بثور- جبل أسفل مكة- فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما ... فأقام
رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار ثلاثا. وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم. وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره ومعهم، يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا. فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفّي عليه. حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس. أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما وبعير له. إلخ ... » . هذا ما ذكر ابن هشام عن قصة الغار نقلناه إلى حين خروج محمد وصاحبه منه.
وفي مطاردة قريش محمدا لقتله وفي قصة الغار هذه نزل قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) «1» وقوله عز وجلّ: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «2» .
,
وفي اليوم الثالث حين عرفا أن قد سكن الناس عنهما أتاهما صاحبهما ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما. فلما ارتحلا لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في رحالهما، فشقّت نطاقها وعلّقت الطعام بنصفه وانتطقت بالنصف الآخر؛ فسميت لذلك «ذات النطاقين» . وامتطى كل رجل بعيره، ومعهما طعامهما ومع أبي بكر خمسة آلاف درهم هي كل ماله. وزادهما اختفاؤهما بالغار وعلمهما بإمعان قريش في تتبعهما حرصا وحذرا فتخذا إلى يثرب طريقا غير الطريق الذي ألف الناس. سلك بهما دليلهما عبد الله بن أريقط (أحد بني الدّئل) ممعنا إلى الجنوب بأسفل مكة ثم متّجها إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر. فلما كانا في غير الطريق الذي ألف الناس اتجه بهما شمالا محاذيا الشاطئ مع الابتعاد عنه، متّخذا من السبل ما قلّ أن يطرقه أحد، وأمضى الرجلان ودليلهما طيلة الليل وصدر النهار على رواحلهم، لا يعبان بمشقة ولا يضنيهما تعب.
وأيّة مشقة أخوف مما يخافان من قريش لصدّهما عن الغاية التي يبتغيان بلوغها في سبيل الله والحق!. صحيح أن محمدا لا تساوره ريبة في أن الله ناصره ولكن لا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة. والله في عون العبد ما دام العبد في عون نفسه، وفي عون أخيه.. لقد تخطيّا في أمان أيام الغار، ولكن ما جعلته قريش لمن يردّهما أو يدلّ عليهما جدير بأن يستهوي نفوسا يغريها الكسب المادي ولو جاء عن طريق الجريمة. فما بالك وهؤلاء العرب من قريش يعتبرون محمدا عدوّا لهم! وفي نفوسهم من خلق الغيلة ما لا يأنف من الفتك بالأعزل والاعتداء على من لا يستطيع عن نفسه دفاعا. فليكونا إذا على أشدّ الحذر، وليكونا أعينا ترى، وآذانا تسمع، وقلوبا تشعر وتعي.
,
ولم يخنهما حدسهما؛ فقد أقبل على قريش رجل أخبرها أنه رأى ركبة ثلاثة مروا عليه يعتقدهم محمدا وبعض أصحابه، وكان سراقة بن مالك بن جعشم حاضرا فقال. إنما هم بنو فلان؛ ليضلل الرجل وليفوز بمغنم النوق المائة. ومكث مع القوم قليلا ثم عاد إلى بيته فتدجج بسلاحه، وأمر بفرسه فأرسل إلى بطن الوادي حتى لا يراه أحد ساعة خروجه، وامتطاه ودفعه إلى الناحية التي ذكر ذلك الرجل، وكان محمد وصاحباه قد
__________
(1) سورة الأنفال آية 3.
(2) سورة التوبة آية 40.
أناخوا في ظل صخرة ليقيلوا وليرفهوا عن أنفسهم بعض ما أرهقها من وصب، ولينالوا من الطعام والشراب ما لعلهم يستعيدون به قوّتهم وصبرهم.
وبدأت الشمس تنحدر، وبدأ محمد وأبو بكر يفكران في امتطاء جمالهما إذ كانا من سراقة قيد البصر.
وكان جواد سراقة قد كبا به قبل ذلك مرّتين لشدة ما جهده. فلما رأى الفارس أنه وشيك النجاح وأنه مدرك الرجلين فرادّهما إلى مكة أو قاتلهما إن حاولا عن نفسيهما دفاعا، نسي كبوتي جواده ولزه ليمسك بيده ساعة الظفر. ولكن الجواد في قومته كبا كبوة عنيفة ألقى بها الفارس من فوق ظهره يتدحرج في سلاحه. وتطير سرادقه وألقى في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالته، وأنه معرّض نفسه لخطر داهم إذا همّ مرة رابعة لإنفاذ محاولته. هنالك وقف ونادى القوم: أنا سراقة بن جعشم. انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فلما وقفا ينظرانه طلب إلى محمد أن يكتب له كتابا يكون آية بينه وبينه. وكتب أبو بكر بأمر النبي كتابا على عظم أو خزف ألقاه إلى سراقة، فأخذه وعاد أدراجه، وأخذ نفسه بتضليل من يطاردون المهاجر العظيم بعد أن كان هو يطارده.
وانطلق محمد وصاحبه يقطعان بطون تهامة في قيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء، ويجتازان إكاما ووهادا، ولا يجدان أكثر الأمر ما يتقيان به شواظ الهاجرة، ولا يجدان ملجأ من قسوة ما يحيط بهما، وأمنا مما يتخوفان أن يفجأهما، إلا في صبرهما وحسن ثقتهما بالله وعظيم إيمانهما بالحق الذي أنزل على رسوله. وظلا كذلك سبعة أيام متتالية ينيخان في حمّارة القيظ ويسريان على سفينة الصحراء الليل كله يجدان في سكينته وفي ضوء النجوم اللامعة في ظلمته ما يطمئن له قلباهما وتستريح له نفساهما. فلما بلغا مقام قبيلة بني سهم وجاء إليهما شيخها بريدة يحييهما زالت مخاوفهما واطمأنت لنصر الله قلوبهما وقد صارا من يثرب قاب قوسين أو أدنى.
,
وفي فترة رحلتهما هذه المضنية كانت الأخبار قد ترامت إلى يثرب بهجرة النبي وصاحبه ليلحقا أصحابهما فيها. وكانت قد عرفت ما لقيا من عنت قريش ومن تتبعها إياهما. لذلك ظل المسلمون جميعا بها وهم ينتظرون مقدم صاحب الرسالة بنفوس ممتلئة شوقا لرؤيته والاستماع له. وكان الكثيرون منهم لمّا يروه وإن كانوا قد سمعوا من أمره ومن سحر بيانه ومن قوة عزمه ما جعلهم للقياه أشد إشتياقا، وإلى رؤيته أشد تطلعا. وإنك لتقدر مبلغ ما كانت تجيش به هذه النفوس حين تعلم أن من سادة يثرب من لم يروا محمدا من قبل، وإنما اتبعوه بعد أن سمعوا أصحابه الذين كانوا أشد المسلمين لدين الله دعوة ولرسول الله حبّا. جلس سعد بن زرارة ومصعب بن عمير في حائط من حوائط بني ظفر واجتمع إليهما رجال ممّن أسلموا؛ فبلغ نبؤهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكانا يومئذ سيدي قومهما؛ فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما، فإن سعد بن زرارة ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما. فذهب أسيد إليهما يزجرهما. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟ قال أسيد: أنصفت وركز حربته وجلس إليهما، وسمع إلى مصعب فقام مسلما، وعاد إلى سعد بوجه غير الوجه الذي تركه به. فغاظ ذلك سعدا، وقام هو إلى الرجلين، فكان أمره كأمر صاحبه وكان من أثر ذلك أن ذهب سعد إلى قومه فقال::
يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيّا وأيماننا نقيبة.
قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
فأسلم بنو عبد الأشهل جميعا رجالا ونساء.
وبلغ من انتشار الإسلام بيثرب ومن بأس المسلمين فيها من قبل هجرة النبي إليها ما لم يحلم به مسلمو مكة، وما طوّع لبعض الشبان من المسلمين أن يعبثوا بأصنام المشركين من أهلهم. كان لعمرو بن الجموح صنمّ من خشب يدعوه مناة، قد اتخذه في داره كما كان الأشراف يصنعون. وكان عمرو سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم. فلما أسلم فتيان قومه كانوا يريحون بالليل على صنمه فيحملونه فيكبونه على رأسه في إحدى الحفر التي يخرج أهل يثرب لقضاء حاجاتهم بها. فإذا أصبح عمرو فلم يجدن الصنم التمسه حتى يعثر به، ثم غسله وطهره وردّه مكانه وهو يبرق ويرعد ويتهدّد ويتوعد. وكرّر فتيان بني سلمة عبثهم بمناة ابن الجموح، وهو كل يوم يغسله ويطهره. فلما ضاق بهم ذرعا علّق على الصنم سيفه وقال له: إن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك. وأصبح فالتمسه فوجده في بئر مقرونا إلى كلب ميت وليس معه السيف، فلما كلمه رجال قومه أسلم بعد أن رأى بعينه ما في الشرك والوثنية من ضلال يهوي بنفس صاحبه إلى درك لا يجمل بإنسان.
يسير عليك أن تقدر، مع ما بلغ الإسلام من علوّ الشأن بيثرب، تحرّق أهلها شوقا إلى مقدم محمد عليهم بعد إذ علموا بهجرته من مكة. كانوا يخرجون كل يوم بعد صلاتهم الصبح إلى ظاهر المدينة يتلمّسونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال في هذه الأيام الحارة من شهر يوليه. وبلغ هو قباء- على فرسخين من المدينة- فأقام أربعة أيام بها ومعه أبو بكر. وفي هذه الأيام الأربعة أسّس مسجدها. وبينما هم بها وصل إليها عليّ بن أبي طالب الذي ردّ الودائع التي كانت عند محمد لأصحابها من أهل مكة ثم غادرها يقطع الطريق إلى يثرب على قدميه، يسير الليل ويستخفي بالنهار، ويحتمل هذا الجهد المضني أسبوعين كاملين ليلحق بإخوانه في الدين.
,
وإن مسلمي يثرب لينتظرون يوما كعادتهم إذ صاح بهم يهوديّ كان قد رأى ما يصنعون. «يا بنى قيلة، هذا صاحبكم قد جاء» . وكان هذا اليوم يوم جمعة، فصلاها محمد بالمدينة. وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانونا أقبل عليه مسلمو يثرب وكلّ يحاول أن يراه وأن يقترب منه، وأن يملأ عينيه من هذا الرجل الذي لم يره من قبل، والذي امتلأت مع ذلك نفسه بحبه وبالإيمان برسالته، والذي يذكره كل يوم أثناء صلاته مرات. وعرض عليه رجال من سادة المدينة أن يقيم عندهم في العدد والعدّة والمنعة؛ فاعتذر لهم وامتطى ناقته وألقى لها خطامها، فانطلقت في طرق يثرب والمسلمون من حولها في حفل حافل يخلون لها طريقها، وسائر أهل يثرب من اليهود والمشركين ينظرون إلى هذه الحياة الجديدة التي دبت إلى مدينتهم، وإلى هذا القادم العظيم الذي اجتمع عليه من الأوس والخزرج من كانوا من قبل أعداء متقاتلين، ولا يجول بخاطر أحدهم في هذه البرهة التي اعتدل فيها ميزان التاريخ إلى وجهته الجديدة، ما أعد القدر لمدينتهم من جلال وعظمة يبقيان على الزمن وجعلت الناقة تسير حتى كانت عند مربد لغلامين يتيمين من بني النّجار، هنالك بركت، ونزل الرسول عنها، وسأل: لمن المربد؟ فأجابه معاذ بن عفراء؛ إنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا محمدا أن يتخذه مسجدا. وقبل محمد وأمر أن يا بنى في هذا المكان مسجده وأن تبنى داره.
,
استقبال يثرب للمهاجر العظيم- بناء المسجد ومنزل النبي- تفكير محمد في حرية العقيدة لأهل يثرب جميعا- يهود المدينة- مؤاخاة محمد بين المهاجرين والأنصار- معاهدته مع اليهود لتقرير حرية الاعتقاد- زواج محمد بعائشة الأذان للصلاة- مثل محمد وتعاليمه- قوة الدين الجديد وخوف اليهود منها- تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام- وفد نصارى نجران إلى المدينة- التقاء الأديان الثلاثة بيثرب- تفكير المسلمين في موقفهم من قريش.
,
خرج أهل يثرب لاستقبال محمد زرافات ووحدانا، رجالا ونساء، بعد الذي ترامى إليهم من أخبار هجرته ومن ائتمار قريش به، ومن احتماله أشدّ القيظ في هذه الرحلة المضنية بين كثبان تهامة وصخورها التي تردّ ضوء الشمس لظى وسعيرا. وخرجوا يثيرهم تطلعهم، لما انتشر من خبر دعوته في أنحاء شبه الجزيرة وما تقضي عليه هذه الدعوة من عقائد ورثها أهلها عن آبائهم، وكانت عندهم موضع التقديس. لكن خروجهم لم يكن راجعا إلى هذين السببين وكفى، بل كان راجعا أكثر من ذلك إلى أنه هاجر من مكة إلى يثرب ليقيم بها.
فكل طائفة وكل قبيلة من أهل يثرب كانت ترتب على هذا المقام، من الناحية السياسية والاجتماعية، آثارا شتى، هي التي استخفتهم أكثر مما استخفهم التطلع ليخرجوا فينظروا إلى هذا الرجل، وليروا هل تؤيد سماه حدسهم، أو هي تدعوهم إلى تعديله. لذلك لم يكن المشركون ولا كان اليهود أقلّ إقبالا من المسلمين، مهاجريهم والأنصار، على استقبال النبي. ولذلك أحاطوا به جميعا وكلّ يخفق قلبه خفقانا مختلفا عن غيره باختلاف ما يجول بنفسه إزاء القادم العظيم. وقد اتبعوه إذ ألقى بخطام ناقته على غاربها في شيء من عدم النظام أدى إليه حرص كلّ على أن يجتلي محيّاه، وأن يحيط نواحيه جميعا بنظرة ترسم في نفسه صورة من هذا الذي عقد بيعة العقبة الكبرى مع من بايعه من أهل هذه المدينة على حرب الأسود والأحمر من الناس، والذي هجر وطنه وفارق أهله واحتمل عداوتهم وأذاهم ثلاث عشرة سنة متتابعة، في سبيل توحيد الله توحيدا أساسه النظر في الكون، واجتلاء الحقيقة من طريق هذا النظر.