وتفصيل ذاك الغدر أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام ذهب إلى منازل بني النضير ليستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما (عمرو بن أمية) مرجعه من بئر معونة، فلما فاوضهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر، أظهروا الرضا بمعونته، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم، ينتظر وفاءهم بما وعدوا، لكنّ يهود خلا بعضهم إلى بعض، ثم قالوا:
إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- خلوّ بال واطمئنان نفس- فمن رجل يعلو ظهر هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، ويريحنا منه!.
وحين أوشك اليهود على إنفاذ مكيدتهم ألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطر المدبّر له، فنهض- عجلا- من جوار البيت الذي جلس إلى جنب جداره، وقفل راجعا إلى المدينة.
وشعر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بمغيبه، فقاموا في طلبه، فإذا رجل مقبل من المدينة، يخبرهم أنّه راه يدخلها، فأسرعوا يلحقون به، فلما انتهوا إليه، أخبرهم بما كادت له يهود، وقد عرف- بعد- أنّ عمرو بن جحّاش هو الذي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء الرحى عليه، ولم ينج الشقيّ من عواقب جرمه، ولا نجا قومه، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لبث أن استدعى محمد بن مسلمة، وقال له: «اذهب إلى بني النّضير فمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يساكنوني بها، وقد أجّلتهم عشرا فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه» «1» .
__________
(1) رواه نحوه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) في غزوة بني النضير بدون إسناد؛ لكن روى البيهقي كما في تفسير ابن كثير: 4/ 313، بسنده عن محمد بن مسلمة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاثة أيام، ورجاله ثقات غير محمود بن محمد بن مسلمة، ترجمه ابن أبي حاتم: 4/ 1/ 290، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. فهو في عداد المجهولين.
ولم يجد يهود مناصا من الخروج، فأخذو يتجهّزون للرحيل، بيد أنّ منافقي المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي أرسلوا إليهم: أن اثبتوا، ونحن ننصركم على محمّد وصحبه! فعادت لليهود ثقتهم، واستقرّ رأيهم على المناوأة، وأرسلوا للنبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: لن نخرج، فافعل ما بدا لك، ثم احتموا بحصونهم، واستعدّوا للقتال، وزادهم إصرارا على المقاومة ما ترامى إليهم من أنّ ابن أبيّ أعدّ ألفي مقاتل لنصرتهم.
ونهض النبي صلى الله عليه وسلم لمناجزة القوم، وتحدّى من ينضمّ إليهم من قبائل اليهود الاخرى، أو من مشركي العرب، وفرض الحصار على مساكن بني النضير، وأمر بتقطيع نخلهم «1» ، ثم جدّ الجدّ، ورأى اليهود الموت، ووقع الرعب في قلوب أعوانهم، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا، أو يدفع عنهم شرا، مع أنّ اشتباك المسلمين بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إنّ يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره؛ إلا أنّ الحال التي جدّت بعد مأساة (بئر معونة) وما قبلها، زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر، التي أخذوا يتعرّضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثمّ قرروا أن يقاتلوا بني النضير بعد همهم باغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما تكن النتائج.
وقد جاءت النتيجة في مصلحتهم بأسرع مما يتصورون، فاندحر اليهود، ونزلوا على حكم المنتصر، الذي أذن لهم بالجلاء عن ديارهم، ولهم ما حملت إبلهم من أموال ما عدا السلاح! «2» .
وفي هذه المعركة نزلت سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود في صدرها بقول الله عز وجلّ:
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
__________
(1) هذا الأمر صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر.
(2) رواه الحاكم: 2/ 483، من حديث عائشة، وفيه نزول الاية الاتية؛ وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي! وإنّما هو صحيح فقط، لأنّ زيد بن المبارك الصنعاني وشيخه محمد بن ثور ليسا من رجالهما.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) [الحشر] .
ثم فضح القران مسلك منافقي المدينة، الذين حاولوا إعانة يهود في غدرها وحربها، وحرّضوها على مقاتلة المسلمين بما وعدوها من أمداد وعتاد فقال:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) [الحشر] .
وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون دون تضحيات، توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفرّغ لقمع الأعراب الذين اذوا المسلمين بعد أحد وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذلة وكفران.