انتقض على الإسلام كثير ممن هادنه أو داهنه.
وبرغم مظهر البأس الذي أبداه المسلمون في مطاردة المشركين حتى (حمراء الأسد) ؛ فإنّ هزيمة (أحد) كانت أبعد غورا مما يظنون.
لقد جرّأت عليهم أعراب البادية، وفتحت لهم أبواب الأمل في الإغارة على المدينة، وانتهاب خيرها.
كما أنّ اليهود عالنوا بسخريتهم، وتركوا وساوس الغش تلحّ عليهم، وتكدّر سيرتهم مع المسلمين.
ومن أصعب الأمور قياد الأمم عقب الهزائم الكبيرة، وقياد الدعوات بعد الانكسارات الخطيرة، وإن كان الرجال يستسهلون الصعب، ويصابرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات.
وقد جاءت السّنة الرابعة للهجرة والمسلمون لمّا يداووا جراحاتهم في (أحد) ؛ إلّا أنّ الأحداث لا تنتظر، فقد أخذ البدو يتحرّكون نحو المدينة، يحسبون أنّ ما فيها أصبح غنيمة باردة، وأول من تهيّأ لغزو المدينة بنو أسد، فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث أبي سلمة على رأس مئة وخمسين رجلا؛ ليبغت القوم في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم «1» .
ولم يلق أبو سلمة عناء في تشتيت أعدائه واستياق نعمهم أمامه، حتى عاد إلى المدينة مظفرا، وأبو سلمة يعدّ من خيرة القادة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقوا إلى الإيمان والجهاد معه، وقد عاد من هذه الغزاة مجهودا؛ إذ نغر عليه جرحه الذي أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات.
وحاول خالد بن سفيان الهذلي أن يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس فقتله «2» وهو يجتهد في تأليب القبائل للهجوم على المدينة.
وثارت هذيل لرجلها بأن أعانت على تسليم أسرى المسلمين إلى أهل مكة في غزوة الرّجيع.
__________
(1) ذكر هذه السرية ابن كثير في (البداية) : 4/ 61- 62، من طريق الواقدي بإسناد له معضل! والواقدي متروك!.
(2) رواه أبو داود: 2/ 196؛ والبيهقي: 3/ 256؛ وأحمد: 3/ 496، من طريق ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه، وقال الحافظ ابن كثير في (تفسيره: 1/ 295) : «إسناده جيد» ، وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح: 2/ 350) : «إسناده حسن» . قلت: وابن عبد الله بن أنيس سماه البيهقي في روايته «عبيد الله» ، وكأنه تحريف من الناسخ أو الطابع، فقد أورده ابن أبي حاتم فيمن اسمه «عبد الله» مكبرا. وقال: «روى عن أبيه، وروى عنه محمد بن إبراهيم التيمي» ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وقد روى عنه محمد بن جعفر بن الزبير أيضا، وهو الذي روى عنه هذا الحديث، والله أعلم.
,
أخذت قريش طريقها إلى مكة وقد استخفّها النّصر الذي أحرزته.
إنها طارت به على عجل، كأنّها غير واثقة مما نالت بعد الهزيمة التي حاقت بها أول القتال!!.
وأقبل المسلمون يتحسّسون مصابهم في الرجال، ويجهّزون القتلى لمضاجعهم التي يبرزون منها للقاء الله يوم ينفخ في الصور.
روى ابن إسحاق «1» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الرّبيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» فقال رجل من الأنصار: أنا.
فنظر، فوجده جريحا في القتلى، وبه رمق، فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي! وقل له: إنّ سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيّا عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إنّ سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف ... !.
قال: ثم لم أبرح حتّى مات، وجئت النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبرته خبره.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء حيث قتلوا، ورفض أن ينقلوا إلى مقابر أسرهم.
قال جابر بن عبد الله: لمّا كان يوم أحد جاءت عمّتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردّوا القتلى إلى مضاجعهم» «2» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم
__________
(1) أخرجه من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني مصرحا بسماعه منه، مرفوعا به، كما في سيرة ابن هشام: 2/ 140- 141، وهذا إسناد معضل، وقد رواه الحاكم: 3/ 201، من طريق محمد بن إسحاق: أنّ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة حدّثه عن أبيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره. وأنا أخشى أن يكون سقط من السند محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن إسحاق، وعبد الله بن عبد الرحمن، فإنّهم لم يذكروا ابن إسحاق في الرواة عن عبد الله بن عبد الرحمن، وعليه يكون الحديث مرسلا، وبه أعلّه الذهبي؛ لأن عبد الله هذا تابعي، وأما أبوه عبد الرحمن ابن أبي صعصعة فصحابي، فلو أنّ سند الحاكم سلم من السقط لكان الحديث متصلا، ولما أعلّه الذهبي بالإرسال، والله أعلم. والحديث رواه مالك في الموطأ: 2/ 21، عن يحيى بن سعيد معضلا، ونقل السيوطي في (تنوير الحوالك) عن ابن عبد البر قال: «هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه إلا عند أهل السير، فهو عندهم مشهور معروف» قلت: قد رواه الحاكم أيضا من حديث زيد بن ثابت، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع ... وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وفي سنده أبو صالح عبد الرحمن بن عبد الله الطويل، ولم أجد الان ترجمته.
(2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 2/ 63؛ والنسائي: 1/ 284؛ وابن ماجه: 1/ 264؛ وأحمد: 3/ 297، 307، 397، 398، بسند صحيح عن جابر.
يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقران؟» فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال:
«أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة!» وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، ولم يغسّلهم.. «1» .
ولما انصرف عنهم قال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنّه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والرّيح ريح مسك» «2» .
إنّ معركة أحد تركت اثارا غائرة في نفس النبيّ عليه الصلاة والسلام ظلت تلازمه إلى اخر عهده بالدنيا.
في هذا الجبل الداكن الجاثم حول يثرب أودع محمد صلى الله عليه وسلم أعزّ الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه، فالصفوة النقية التي حملت أعباء الدعوة، وعادت في سبيل الله الأقربين والأبعدين، واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها، وأنفقت وقاتلت، وصبرت وصابرت، هذه الصفوة اختطّ لها القدر مثواها الأخير في هذا الجبل الأشم، فتوسّدت ثراه راضية مرضية، وكان رسول الله يتذكّر سير أولئك الأبطال ومصائرهم فيقول:
«أحد جبل يحبّنا ونحبّه» «3» .
فلمّا حانت وفاته، جعل اخر عهده بذكريات البطولة أن يزور قتلى أحد وأن يدعو الله لهم، وأن يعظ الناس بهم!!.
عن عقبة بن عامر، قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 3/ 163- 165، 169، 7/ 300؛ والنسائي: 1/ 277؛ والترمذي: 2/ 147، وصححه، وابن ماجه: 1/ 461؛ وأحمد: 5/ 431، من حديث جابر أيضا.
(2) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 5/ 431، 432؛ وابن هشام: 2/ 142، كلاهما من طريق ابن إسحاق. حدّثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري مرفوعا، وهذا سند صحيح، وابن صعير صحابيّ صغير، فهو مرسل صحابي، وهو حجة. وكذلك أخرجه البيهقي: 4/ 11، من طريق ابن عيينة عن الزهري به، وأخرجه أيضا من طريق أخرى عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه به. وإسناده صحيح أيضا.
(3) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 302؛ ومسلم: 4/ 124، وغيرهما من حديث أنس وغيره.
سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: «إنّي بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا. وإنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوها!» .
قال عقبة: فكان اخر نظرة نظرتها إلى رسول الله «1» .
,
لم يهدأ بال قريش مذ غشيها في «بدر» ما غشيها، وكان ما جدّ من الحوادث بعد لا يزيد أحقادها إلا ضراما، فلما استدارت السنة، كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها أحلافها من المشركين، وانضمّ إليهم كلّ ناقم على الإسلام وأهله.
فخرج الجيش الثائر في عدد يربو على ثلاثة الاف.
ورأى أبو سفيان- قائده- أن يستصحب النساء معه، حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم؟ وكانت الترات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشفّ عما سوف يقع من قتال مرير.
وفي أوائل شوال من السنة الثالثة وصل الجيش الزاحف إلى المدينة، فنزل قريبا من جبل «أحد» وأرسل خيله ترعى زروعها الممتدة هناك.
واجتمع المسلمون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدبّرون أمرهم.
أيخرجون لمقاتلة العدو في العراء أم يستدرجونه إلى أزقة المدينة، حتى إذا دخلها قاتله الرجال في الطرق، وقاتلته النساء من فوق أسطح البيوت؟.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى الرأي الأخير، وأيّده فيه رجال من أولي النظر والروية، وقال عبد الله بن أبي: هذا هو الرأي، لكنّ الرجال الذين لم يشهدوا بدرا تحمّسوا للخروج، وقالوا: كنا نتمنّى هذا اليوم، وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير! وظاهرهم الشباب الطامح في الاستشهاد، وبدا أنّ كثرة المسلمين تميل إلى البروز لملاقاة العدو، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيته وخرج منه لابسا عدته متهيئا للقتال.
وشعر القوم أنّهم استكرهوا الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وأظهروا الرغبة في النزول على رأيه. بيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وجد غضاضة من الاضطراب بين شتى الاراء، فقال: «ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها، حتّى يحكم الله بينه
وبين عدوّه» «1» .
وقال: «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس، وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه» «2» .
ثم خرج في ألف رجل حتى نزل ب (أحد) ؛ إلا أنّ عبد الله بن أبي انسحب في الطريق بثلث الناس قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومحتجا بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره.
فتبعهم عبد الله بن عمرو- والد جابر بن عبد الله- ينصحهم بالثبات، ويؤنّبهم على العودة، ويذكّرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الاخر وثّقه بالإسلام ورسوله.
فأبى (ابن أبيّ) الاستماع إليه، وفيه وفيمن انسحب معه نزلت الاية:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ [ال عمران: 167] .
عسكر المسلمون بالشّعب من (أحد) في عدوة الوادي، جاعلين ظهرهم إلى الجبل، ورسم النبيّ صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة، فجاءت محكمة رائعة؛ وزّع الرماة على أماكنهم وأمّر عليهم عبد الله بن جبير- وكانوا خمسين رجلا- وقال:
«انضحوا الخيل عنّا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا!! إن كانت الدائرة لنا أو علينا فالزموا أماكنكم، لا نؤتينّ من قبلكم» «3» !! وفي رواية قال لهم: «احموا ظهورنا، إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا!» .
__________
(1) رواه ابن هشام: 2/ 126- 128، عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره مرسلا؛ وقد وصله أحمد: 3/ 351، من طريق ابن الزبير عن جابر نحوه، وسنده على شرط مسلم، غير أن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه. ولكن له شاهد من حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي كما في (البداية) : 4/ 11 بسند حسن، فالحديث صحيح؛ وقد رواه أحمد أيضا، رقم (2609) ؛ والحاكم: 2/ 128- 129- 296- 297، وصحّحه، ووافقه الذهبي، وهو حديث طويل في غزوة أحد سيأتي بعض فقراته في الكتاب.
(2) ذكره ابن كثير: 4/ 12- 13، من رواية موسى بن عقبة معضلا.
(3) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 129، عن ابن إسحاق بدون إسناد، وله شواهد كثيرة، منها عن البراء بن عازب، أخرجه البخاري: 7/ 280؛ وأبو داود: 1/ 415؛ وأحمد: 4/ 293، 294، ومنها عن ابن عباس وهو الرواية الثانية التي في الكتاب. أخرجه أحمد والحاكم وصحّحه كما تقدم قريبا.
واطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنّ فرقة الرماة قد أمّنت بهذه الأوامر المشددة مؤخرة جيشه، فأقبل يتعهّد مقدمته، وأمر ألا ينشب قتال إلا بإذنه.
وظاهر هو نفسه بين درعين «1» ، وأخذ يتخيّر الرجال أولي النجدة والبأس، ليكونوا طليعة المؤمنين حين يلتحم الجمعان. إن عدد المسلمين على الربع من المشركين، ولن يعوّض هذا التفاوت إلا الأشخاص الذين يوزنون بالألوف وهم احاد.
روى ثابت «2» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك يوم «أحد» بسيف ثم قال: «من يأخذ هذا السّيف بحقّه؟» فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا اخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين. قال ابن إسحاق: كان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم أنّه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعصّب وخرج يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسّفح لدى النّخيل
ألّا أقوم الدّهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
ويعني بعدم قيامه في الكيول: ألا يقاتل في مؤخرة الصفوف، بل يظلّ أبدا في المقدمة.
ثم تدانت الفئتان، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لرجاله أن يجالدوا العدو، وبدأت مراحل القتال الأولى تثير الغرابة. كأن ثلاثة الاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل! وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.
خرج حنظلة بن أبي عامر من بيته حين سمع هواتف الحرب، وكان حديث عهد بعرس، فانخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد!.
إن حادي التضحية كان أملك لنفسه وأملأ لحسه من داعي اللذة، فاستشهد البطل وهو جنب!!.
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه الحاكم: 3/ 25؛ وعنه البيهقي: 9/ 46، من حديث الزبير بن العوام، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن الإسناد عندي؛ وأخرجه الترمذي: 3/ 28، واستغربه. وله شواهد كثيرة، منها: عن السائب بن يزيد عن رجل قد سماه؛ أخرجه أبو داود: 1/ 404؛ والبيهقي. وبقية الشواهد تراجع في (المجمع) : 6/ 108- 109.
(2) كذا وقع في تاريخ ابن كثير: 4/ 15، معزوّا لأحمد، فنقله المؤلف كذلك، وإنما هو عن ثابت عن أنس؛ كذلك أخرجه أحمد: 3/ 123؛ ومسلم أيضا: 7/ 151.
وسادت روح الإيمان المحض صفوف المجاهدين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تقطّعت أمامه السدود.
وقف طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء قريش يتحدّى، داعيا إلى البراز، فوثب إليه الزبير بن العوام حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه!!.
أقبل أبو دجانة معلما بعصابته الحمراء، لا يلقى مشركا إلا قتله، وكان أحد المشركين قد شغل نفسه بالإجهاز على جرحى المسلمين في المعركة. قال كعب بن مالك: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدّر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرّق فرقتين!! ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة ...
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، وصمد لحملة اللواء من بني عبد الدار، فاقتنص أرواحهم فردا فردا!!.
قال (وحشي) غلام جبير بن مطعم: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عمّ محمد فأنت عتيق، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلّما أخطئ بها شيئا، فلمّا التقى الناس، فخرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته كأنّه الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقوم له شيء!! فو الله إنّي لأتهيّأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزّى، فلمّا راه حمزة قال: هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور؟ قال: فضربه ضربة كأنما اختطفت رأسه. فهززت حربتي، حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته- أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم تكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق.
ومع الخسارة الفادحة التي نالت المسلمين بقتل حمزة، فإنّ جيشهم القليل ظلّ مسيطرا على الموقف كلّه، وحمل لواء المسلمين في هذا القتال (مصعب بن عمير) الداعية العظيم، فلما استشهد، حمل اللواء عليّ بن أبي طالب، واستبق
المهاجرون والأنصار في ميدان الشرف، وأخذ اللواء الإسلاميّ يتقدم خطوة خطوة، وشعار المسلمين في هذا الالتحام: «أمت، أمت» .
وكانت نسوة قريش دائبات على استنهاض رجالهم، يضربن بالدّفوف، ويحرّضن على القتال، تقودهنّ هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.
فكانت تقول- حاثّة بني عبد الدار على إبقاء لواء مكة مرفوعا-:
ويها بني عبد الدّار ... ويها حماة الأدبار
ضربا بكلّ بتّار!!
وتؤزّ قومها على القتال منشدة:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
وقد بذلت قريش أقصى جهدها لتحطّم عنفوان المسلمين، لكنها أحست العجز، وانكسرت همّتها أمام ثبات المسلمين وإقدامهم.
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره، وصدق وعده، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شكّ فيها.
روى عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير!!.
قد يجد المرء نفسه في حفل يموج بالأنوار، وتنتشر في أجوائه الأشعة المبصرة، ثم يقع خلل مفاجئ يقطع التيار، فإذا المصابيح تعتم، ثم يسود المكان ظلام موحش سقيم!!.
إن هذا مثل للتحول المستنكر الذي قلب سير الحوادث في معركة أحد.
لحظة يسيرة من لحظات الضعف الإنساني عرضت لفريق من الجند، فأوقعت الارتباك في صفوف الجيش كلّه، فضاعت في ساعة نزق كلّ المكاسب التي أحرزتها الشجاعة النادرة والتضحية البالغة!.
لقد علمت كيف شدّد الرسول عليه الصلاة والسلام على الرماة أن يلزموا أماكنهم صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ألا يبرحوها أبدا، ولو رأوا الجيش تتخطفه الطير؟ غير أنّ أثارة من حبّ الدنيا عصفت بهذه الوصاة في ساعة غفلة؟
فما أن رأى الرماة الهزيمة حلّت بقريش، النساء يهمن في الجبل، والرجال يولّون الأدبار، والغنائم التي خلّفها ثلاثة الاف مشرك تزحم الوادي ... حتى غادروا مواقعهم هابطين إلى الميدان، يبغون انتهاب أنصبتهم من الأسلاب والأموال!.
وكان فرسان المشركين بقيادة خالد بن الوليد محصورين، لا يجدون ثغرة ينفذون منها إلى قلب المسلمين، إلى أن حلّت الهزيمة، فلما رأى خالد أنّ مؤخرة المسلمين انكشفت، فلم يبق عليها حارس، اهتبل الفرصة على عجل، فاستدار بالخيل، وأحدق بخصومه منحدرا عليهم من حيث لا يحتسبون. ورأى الفارّون من قريش بوادر هذا التغير الطارئ، فتراجعوا، حتى إنّ امرأة تدعى عمرة بنت علقمة الحارثية هي التي رفعت لواء قريش من التراب، بعد أن سقط وصرع حملته، وثاب المشركون إلى رايتهم وخيالتهم فأحيط الصحابة من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى..
على أنّ الرجال الأحرار لا يصادون بسهولة، إنهم شدهوا لما حدث.
ولكنّهم أخذوا يقاتلون بحرارة، وإن كان هدفهم هذه المرة أن ينجوا فحسب! أن يبصروا طريقا يخلّصهم من هذا المأزق العضوض!.
واستشهد كثير وهم يحاولون شقّ طريقهم، واستطاع المشركون أن يخلصوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم، فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه، فأثقله، وتفجّر منه الدم «1» . وشاع أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم قتل، فتفرّق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون..
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمؤمنين: «إليّ عباد الله، إليّ عباد الله» ! فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا، غير أنّ المشركين بصروا بهم فهاجموهم! ووقف طلحة بن عبيد الله، وسهل بن حنيف، إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، فأصيب طلحة بسهم في يده فشلّها.
__________
(1) رواه ابن جرير في تاريخه عن السدي مرسلا كما في (البداية) : 4/ 23؛ وكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج رأسه ثابت في مسلم: 5/ 179، من حديث أنس؛ ورواه البخاري: 7/ 292، معلّقا.
وأقبل أبي بن خلف الجمحيّ على النبي عليه الصلاة والسلام- وكان قد حلف أن يقتله- وأيقن أنّ الفرصة سانحة، فجاء يقول: يا كذّاب أين تفر! وحمل على الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أنا قاتله إن شاء الله» ، وطعنه في جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات «1» .
ومضى النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين إليه، واستطاع- بالرجال القلائل الذين معه- أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار.
وفرح النبي عليه الصلاة والسلام أن وجد بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حيا وهم يحسبونه مات.
ويبدو أن إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم سرت على أفواه كثيرة، فقد مرّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم، وانكسرت نفوسهم، فقال: ما تنتظرون؟.
قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: وما تصنعون بالحياة بعده؟.
قوموا فموتوا على ما مات عليه ... ثم استقبل المشركين، فما زال يقاتلهم حتى قتل ...
ولم تتوان قريش من جانبها في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن انحاز إليه من أصحابه بغية الإجهاز عليه وعليهم، ومرّت ساعة عصيبة من أحرج الساعات في تاريخ الدنيا، وفرسان المشركين ورماتهم يحملون- بعناد وإلحاح- لتحقيق أمنيتهم، فقتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وهم ينافحون دونه، جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، ثم سقط بين حي وميت، وترّس عليه أبو دجانة بظهره، فكان النبل يقع فيه وهو لا يتحرك.
روى مسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون قال: «من يردّهم عنّي وله الجنّة؟» فتقدّم رجل
__________
(1) هو من حديث السدي المتقدم، وقال ابن كثير: إنه غريب جدا وفيه نكارة لكن هذا القدر؛ وهو قصة قتله صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف له شاهد من رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير، ومن رواية الزهري عن سعيد بن المسيّب، كما في (البداية) : 4/ 32، وكلاهما مرسل.
من الأنصار، فقاتل حتى قتل! ثم رهقوه، فقال: «من يردّهم عنّي وله الجنّة» فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنصفنا أصحابنا» يعني من فرّوا وتركوه.
وتركت هذه الاستماتة أثرها، ففترت حدّة قريش في محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وثاب إليه أصحابه من كلّ ناحية، وأخذوا يلمّون شملهم، ويزيلون شعثهم.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم صحبه أن ينزلوا قريشا من القمة التي احتلوها في الجبل قائلا: ليس لهم أن يعلونا، فحصبوهم بالحجارة حتى أجلوهم عنها «1» .
إن الإفلات من عواقب هذا الانكسار الشنيع عمل لا يقل- في خطره- عن الانتصار الأول، وقد اتجه عزم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بذل كل جهد ممكن في سبيل مقاومة قريش، حتى لا تظفر بشيء غنيمة باردة، بل حتى تثقل بها مغارمها، فلا تطمع في مزيد من إيذاء المسلمين، فكان ينثل السهام من كنانته، ويعطيها سعد بن أبي وقاص ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» «2» .
وكان أبو طلحة الأنصاري راميا ماهرا في إصابة الهدف، قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره قائلا: هكذا بأبي أنت وأمي، لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك «3» ، ويقول: إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت!! وقد نجح الرماة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّ المشركين الذين حاولوا صعود الجبل، وبذلك أمكن المسلمين الشاردين أن يلحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه.
إلا أنّهم جاؤوا وكأنما خرجوا من عماية حتى إنّ بعضهم- من فرط الغيظ والذهول- قاتل أمامه لا يدري من يقاتل، فقتل اليمان والد الصحابي المعروف حذيفة، وصرخ حذيفة: أبي أبي! دون جدوى.
ولمّا تجمّعت فلول المسلمين بعد هذا الكرّ والفرّ، كان الإعياء قد نال منهم
__________
(1) هو من حديث السدي المتقدم.
(2) رواه البخاري: 7/ 287، من حديث سعد.
(3) رواه البخاري: 7/ 289- 290، من حديث أنس؛ وكذلك أخرجه أحمد: 3/ 105، 265، 286، وعنده في رواية قول أبي طلحة: «إني جلد ... » .
أيّ منال، لولا أنّ الله قذف في قلوبهم السكينة، وأعاد إليهم- بعد هذا الزلزال- الأمل والثقة، فسكنوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقبون ما يجدّ، وداعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف، عاودته اليقظة، فتأهب للعراك من جديد! وهذا من نعمة الله على القوم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ال عمران: 154] .
ولم تكن قريش أقلّ من المسلمين معاناة لأهوال ذلك اليوم العصيب.
فقد تعبت جدّ التعب في الجولة الأولى، فلما أديل لها، وطمعت أن تجعل المعركة حاسمة قاصمة وجدت المسلمين أصلب عودا؛ دون إفنائهم صعاب لا تستطيع احتمالها، فاكتفت مما ظفرت بالإياب.
وظنّ المسلمون- لأول وهلة- أن قريشا تنسحب لتهاجم المدينة نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب: «اخرج في اثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة؛ فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم، ثم لأناجزنّهم فيها» .
قال علي: فخرجت في اثارهم، فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل، واتجهوا إلى مكة «1» .
قال ابن إسحاق: ثم إنّ أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت، إنّ الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل!.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار» .
فقال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «ائته فانظر ما شأنه» ، فجاءه.
فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمّدا؟
فقال عمر: اللهم لا، وإنّه ليسمع كلامك الان، قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة- وهو الذي زعم أنّه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه ابن هشام: 2/ 140، عن ابن إسحاق بدون إسناد.
ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مثلة، والله ما رضيت ولا سخطت، وما نهيت ولا أمرت «1» .
ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل: نعم هو بيننا وبينك موعد» «2» .