قال ابن إسحاق «4» : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد،
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 383) ، المطالب العالية لابن حجر (4034) ، كنز العمال للمتقى الهندى (37366، 37368) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (1/ 140) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 59) .
(2) انظر: السيرة (1/ 265) .
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 171) . وقال: وفى مثل هذا أنزل الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الآية، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
(4) انظر: السيرة (1/ 266- 268) .
وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» «1» .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله. فكانت أول هجرة كانت فى الإسلام.
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى معه امرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة، وسهل بن بيضاء من بنى الحارث بن فهر، وأبو سبرة بن أبى رهم، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو. ويقال: هو كان أول من قدمها.
وكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين، ثم خرج جعفر بن أبى طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
وكان مما قيل من الشعر فى الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشى، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال:
يا راكبا بلغن عنى مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين «2»
كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجى من الذى والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ى فى الممات وغيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا ... قول النبى وعالوا فى الموازين
فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا ... وعائذا بك أن يعلوا فيطغونى
وقال عبد الله بن الحارث أيضا، يذكر نفى قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 66) .
(2) مغلغلة: بفتح العين هى الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد.
قومه فى ذلك:
أبت كبدى لا أكذبنك قتالهم ... على وتأباه على أناملى
وكيف قتالى معشرا أدبوكم ... على الحق ألا تأشبوه بباطل
نفتهم عباد الجن من حر أرضهم ... فأضحوا على أمر شديد البلابل «1»
فإن تك كانت فى عدى أمانة ... عدى بن سعد عن تقى أو تواصل
فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم ... بحمد الذى لا يطبى بالجعائل
وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة ... بذى فجر مأوى الضعاف الأرامل «2»
وقال عبد الله بن الحارث أيضا:
وتلك قريش تجحد الله حقه ... كما جحدت عاد ومدين والحجر «3»
فإن أنا لم أبرق فلا يسعنى ... من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر
بأرض بها عبد الإلة محمد ... أبين ما فى النفس إذ بلغ النفر
فسمى عبد الله يرحمه الله، المبرق ببيته الذى قال.
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه، وكان يؤذيه فى إسلامه، وكان أمية شريف قومه فى زمانه ذلك:
أتيم بن عمرو للذى جاء بغضه ... ومن دونه الشرمان والبرك أكتع «4»
أأخرجتنى من بطن مكة آمنا ... وأسكنتنى فى صرح بيضاء تقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها ... وتبرى نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة ... وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة ... وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
وتيم بن عمرو، الذى يدعو عثمان، هو جمح بن عمرو، كان اسمه تيما.
قال ابن إسحاق «5» : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا
__________
(1) حر أرضهم: هى الأرض الكريمة. البلابل: شدة الهم والوساوس فى الصدور وحديث النفس.
(2) لا يطبى: أى لا يستمال ولا يستدعى. الجعائل: جمع جعالة وهى الرشوة.
(3) الحجر: هو اسم ديار ثمود بوادى القرى من المددينة والشام، وقيل: هو من وادى القرى على يوم بين جبال وبها قامت منازل ثمود. انظر: معجم البلدان (2/ 221) .
(4) الشرم: لجة البحر، وقيل: موضع فيه: وقيل: هو أبعد قعره والشروم غمرات البحر واحدها شرم. انظر: اللسان (مادة شرم) . البرك: هو جماعة الإبل الباركة، وقيل: اسم موضع.
(5) انظر: السيرة (1/ 275- 279) .
بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشى، فيردهم عليهم، ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التى اطمأنوا بها وأمنوا فيها.
فبعثوا عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشى ولبطارقته ثم بعثوهما.
فقال أبو طالب، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه، أبياتا يحض النجاشى على حسن جوارهم والدفع عنهم:
ألا ليت شعرى كيف فى النأى جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت أفعال النجاشى جعفرا ... وأصحابه أو عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن أنك ماجد ... كريم فلا يشقى لديك المجانب «1»
تعلّم فإن الله زادك بسطة ... وأسباب خير كلها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة ... ينال الأعادى نفعها والأقارب
وذكر ابن إسحاق: من حديث «2» أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، تعنى مع زوجها الأول أبى سلمة، جاورنا بها خير جار النجاشى، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشى فينا رجلين منهم جليدين، وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا لهم، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشى فيهم، ثم قدما إلى النجاشى هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجا حتى قدما إلى النجاشى، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه، وقالا لكل بطريق: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاؤا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم
__________
(1) أبيت اللعن: هذه تحية العرب فى الجاهلية للملوك. المجانب: أراد به الداخل فى حماه.
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 202) ، مجمع الزوائد (6/ 24، 27) .
إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا «1» ، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم.
ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشى فقبلها، ثم قالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشى. فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشى، ثم قال: لاها الله، إذا لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا كائنا فى ذلك ما هو كائن.
فلما جاؤا، وقد دعا النجاشى أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذى قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى ولا فى دين أحد من هذه الملل؟.
قالت: فكان الذى كلمه جعفر بن أبى طالب، قال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.
__________
(1) أعلى بهم عينا: أى أبصر بهم، وقيل: أى عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم.
فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء؟ فقال له جعفر: نعم.
قال: فاقرأه علىّ. فقرأ عليه صدرا من: كهيعص، فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما يتلى عليهم.
ثم قال لهم النجاشى: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة «1» واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يكادون.
فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم «2» . قالت: فقال له عبد الله بن أبى ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى ابن مريم قولا عظيما، فسلهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه، ولم ينزل مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا فى ذلك ما هو كائن.
قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر ابن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول: عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشى بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت «3» بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضى أى آمنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، فما أحب أن لى دبرا من ذهب وأنى
__________
(1) مشكاة: أى الثقب الذى يوضع فيه الفتيل والمصباح، وهى الكوة غير النافذ.
(2) استأصل به خضراءهم: أى جماعتهم وقوتهم ومعظمهم، وقيل: شجرتهم التى تفرعوا منها.
(3) تناخرت: أى تكلمت وكأنه كلام من غضب ونفور.
آذيت رجلا منكم. ويقال دبرا، وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام.
ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاآ به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه فى ملكه فو الله ما علمتنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرف منه.
وسار إليه النجاشى وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا قالوا: فأنت.
وكان من أحدث القوم سنا، فنفخوا له قربة فجعلنها فى صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التى بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.
قالت: ودعونا الله للنجاشى بالظهور على عدوه والتمكين له فى بلاده. فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى، فلمع بثوبه يقول: ألا أبشروا فقد ظهر النجاشى وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها.
ورجع النجاشى، وقد أهلك الله عدوه ومكن له فى بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده فى خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزهرى «1» : فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث، فقال: هل تدرى ما قوله: «ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فى فأطيع الناس فيه» قلت: لا والله.
قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتنى أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشى، وكان للنجاشى عم له من صلبه إثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشى وملكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه إثنى عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا.
فعدوا على أبى النجاشى فقتلوه وملكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا ونشأ
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 279- 281) .
النجاشى مع عمه، وكان لبيبا حازما من الرجال، فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتلننا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه.
فمشوا إلى عمه، فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا. قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينة فانطلق به حتى إذا كان العشى من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته.
ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض: تعلموا والله أن ملككم الذى لا يقيم أمركم غيره الذى بعتموه غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه.
قالت: فخرجوا فى طلبه وطلب الرجل الذى باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه، ثم جاؤا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك، فجاءهم التاجر الذى كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى وإما أن أكلمه فى ذلك. فقالوا: لا نعطيك شيئا.
قال: إذا والله أكلمه. قالوا: فدونك.
فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم، فأسلموا إلى غلامى وأخذوا دراهمى، حيث إذا سرت أدركونى فأخذوا غلامى ومنعونى دراهمى.
فقال لهم النجاشى: لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده فليذهبن به حيث شاء! قالوا: بل نعطيه دراهمه «1» .
وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه وعدله فى حكمه رحمه الله تعالى، وعن عائشة قالت: لما مات النجاشى كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
وذكر ابن إسحاق «2» أيضا، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن الحبشة اجتمعت، فقالوا للنجاشى، يعنى عندما وافق جعفر بن أبى طالب على قوله فى عيسى ابن مريم:
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 123- 124) .
(2) انظر: السيرة (1/ 281) .
إنك فارقت ديننا. وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شيئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.
ثم جعله فى قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا:
خير سيرة. قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. قال النجاشى، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعنى على ما كتب. فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشى صلى عليه واستغفر له «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ولما قدم عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردهما النجاشى بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازوا قريشا.
فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه «3» .
وقال ابن مسعود فى رواية البكائى عن غير ابن إسحاق: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلى عند الكعبة، حث أسلم عمر، وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره.
__________
(1) وردت من الأحاديث الكثير فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم على النجاشى، ومنها ما أخرجه الإمام أحمد فى المسند (4/ 360، 363) عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخاكم النجاشى قد مات فاستغفروا له» .
(2) انظر: السيرة (1/ 281- 282) .
(3) ذكره الهيثمى فى المجمع (9/ 62) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 270) . الحاكم فى المستدرك (3/ 83، 84) .