في هذا الحين وفد رهط من قبيلة تجاورهم إلى محمد يقولون له: إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يعلموننا شرائعه ويقرئوننا القرآن. وكان محمد يبعث من أصحابه كلما دعي إلى ذلك ليؤدّوا هذه المهنة الدينية السامية، وليدعوا الناس إلى الهدى ودين الحق، وليكونوا لمحمد وأصحابه عونا على خصومهم وأعدائهم، على نحو ما رأيت من ذلك كله فيمن بعثهم إلى المدينة على أثر العقبة الكبرى. لذلك بعث ستة من كبار أصحابه خرجوا مع الرهط وساروا معهم. فلمّا كانوا جميعا على ماء لهذيل بالحجاز بناحية تدعى الرّجيع، غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا. ولم يرع المسلمين الستة وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم؛ فأخذ المسلمون أسيافهم ليقاتلوا. لكن هذيلا قالت لهم: إنّا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب لكم مكة، ولكم عهد الله وميثاقهن ألّا نقتلكم. ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد أدركوا أن الذهاب بهم إلى مكة فرادى إنما هو المذلّة والهوان وما هو شرّ من القتل، فأبوا ما وعدت هذيل، وانبروا لقتالها، وهم يعلمون أنهم في قلة عددهم لا يطيقونه. وقتلت هذيل ثلاثة منهم ولان الثلاثة الباقون، فأمسكت بتلابيبهم وأخذتهم أسرى، وخرجت بهم إلى مكة تبيعهم فيها. فلمّا كانوا في بعض الطريق انتزع عبد الله بن طارق أحد المسلمين الثلاثة يده من غلّ الأسر ثم أخذ سيفه؛ فاستأخر عنه القوم وطفقوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه أمّا الأسيران الآخران فقدمت بهما هذيل مكة وباعتهما من أهلها. باعت زيد بن الدثنّة لصفوان بن أميّة الذي اشتراه ليقتله بأبيه أميّة بن خلف؛ فدفع به إلى مولاه نسطاس ليقتله. فلما قدّم سأله أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحبّ أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال زيد.
والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي! فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت من الناس أحدا يحبّه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدا. وقتل نسطاس زيدا، فذهب شهيد أمانته لدينه ولنبيه، أمّا خبيب فحبس حتى خرجوا به ليصلبوه؛ فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا؛ فأجازوه فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم وقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ورفعوه إلى خشبة؛ فلمّا أوثقوه إليها نظر إليهم بعين
__________
(1) نغر الجرح: سال منه الدم.
مغضبة وصاح: «اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا» ، فأخذت القوم الرجفة من صيحته، واستلقوا إلى جنوبهم حذر أن تصيبهم لعنته، ثم قتلوه. وكذلك استشهد خبيب كما استشهد زيد في سبيل بارئه وسبيل دينه ونبيه. وكذلك ارتفع إلى السماء هذان الروحان الطاهران وكان في استطاعة صاحبيهما أن يستنقذهما من القتل إن رضيا الردة عن دينهما لكنهما في يقينهما بالله وبالروح وبيوم البعث، يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت ولا تزر وازرة وزر أخرى، رأيا الموت، وهو غاية كل حيّ، خير ما يكون غاية للحياة في سبيل العقيدة وفي سبيل الإيمان بالحق؛ ولكنهما آمنا بأن دمهما الزكيّ الطهور الذي أريق على أرض مكة سيدعو إليها إخوانهم المسلمين يدخلونها فاتحين يحطمون أصنامها، ويطهرونها من رجس الوثنيّة والشرك، ويردون فيها إلى الكعبة بيت الله ما يجب لبيت الله من تقديس وتنزّه عن أن يذكر فيه اسم غير اسم الله.
لا يقف المستشرقون من هذا الحادث وقوفهم عند أسيري بدر اللذين قتلهما المسلمون، ولا يحاولون أن يستنكروا هذا الغدر برجلين بريئين لم يؤخذا في حرب وإنما أخذا خداعا، وسار بأمر الرسول ليعلّما من غدروا بهما ومن أسلموهما إلى قريش بعد أن قتلوا زملاءهم غيلة وبغيا. وهم لا يستنكرون ما صنعت قريش بالرجلين الأعزلين، مع أن ما صنعته بهما شرّ مثل للجبن وللعدوان الدنيء. ولقد كانت أول مبادئ الإنصاف تقتضي المستشرقين، الذين أنكروا ما فعل المسلمون بأسيري بدر، أن يكونوا أشدّ استنكارا لغدر قريش وغدر الذين أسلموا إليها الرجلين لقتلهما، بعد أن قتلوا الأربعة الرجال الذين جاؤا وإياهم إجابة لطلبهم ليدلوهم على الحق ويفقهوهم في الدين.
حزن المسلمون وحزن محمد لما أصاب أصحابهم الستة الذين استشهدوا في سبيل الله بغدر هذيل بهم، وأرسل حسّان بن ثابت أشعاره يرثي فيها خبيبا وزيدا أحرّ الرثاء. وازداد محمد تفكيرا في أمر المسلمين وخشي إن تكرّرت مثل هذه الأمور أن تستخف العرب بشأنهم. ولا شيء أقتل لهيبتك من استخفاف غيرك بشأنك.
وإنه لفي تفكيره إذ قدم عليه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة؛ فعرض محمد عليه أن يسلم فلم يقبل، ولكنه لم يظهر للإسلام عداوة، بل قال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فخاف محمد على أصحابه من أهل نجد وخشي أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل بخبيب وأصحابه. ولم يقتنع ولم يجب طلب أبي براء، حتى قال: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا إلى أمرك. وكان أبو براء رجلا مسموع الكلمة في قومه لا يخاف من أجاره عادية أحد عليه. وبعث محمد المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في أربعين رجلا من خيار المسلمين. فساروا ونزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، ومن هناك بعثوا حرام بن ملجان إلى عامر بن الطفيل بكتاب محمد فلم ينظر عامر الكتاب بل قتل الرجل واستصرخ بني عامر كي يقتلوا المسلمين. فلما أبوا أن يخفروا ذمة أبي براء وجواره استصرخ عامر قبائل أخرى أجابته وخرجت معه حتى أحاطوا بالمسلمين في رحالهم فلما رآهم المسلمون أخذوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم. لم ينج منهم إلا كعب بن زيد؛ إذ تركه ابن الطفيل وبه رمق، فعاش ولحق بالمدينة، وإلا عمرو بن أميّة الذي أعتقه عامر بن الطفيل عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه. ولقي عمرو رجلين في الطريق حين عودته بعد انطلاقه، فحسبهما من القوم الذين عدوا على أصحابه، فأمهلما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وتابع مسيره حتى بلغ المدينة، فأخبر الرسول عليه السلام بما صنع فإذا الرجلان عامريّان من قوم أبي براء، وإذا معهما عقد جوار من رسول الله اقتضاه أن يؤدّي ديتهما.