ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة. قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذى صنعوا فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له: مليح سرق طيب الكعبة.
فأرادوا أن يشدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤا وأعدوا لذلك نفقة، وعمالا، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذى أرادوا.
قال ابن إسحاق «1» : وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما «2» فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون فى بئر فى جوف الكعبة.
قال: وكان الذى وجد عنده الكنز دويك مولى لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
قال: وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطى نجار، فتهيأ فى أنفسهم بعض ما يصلحها.
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كان يطرح فيها ما يهدى لها، فتتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدخلها أحد إلا احزألت «3» وكشت «4» وفتحت فاها، فكانوا يهابونها. فبينا هى يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا فى بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها معر بغى ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم «5» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 168) .
(2) رضما: الرضم الحجارة يجعل بعضها على بعض.
(3) احزألت: أى رفعت رأسها.
(4) كشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.
(5) ذكره الطبرى فى تاريخه (1/ 525) ، البيهقى فى الدلائل (2/ 61) .
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانى لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى، ولبنى أسد بن عبد العزى بن قصى، ولبنى عدى بن كعب رهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم فى هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، ويقال: لم نزع اللهم إنا لا نريد إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شىء هدمنا، فقد رضى الله ما صنعنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر، كالأسنة آخذ بعضها بعضا.
وقال ابن إسحاق «1» : فحدثنى بعض من يروى الحديث: أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال «2» : وحدثت أن قريشا وجدوا فى الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها فى الماء واللبن.
وحدثت أنهم وجدوا فى المقام كتابا فيه: مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها. وزعم ليث بن أبى سليم أنهم وجدوا حجرا فى الكعبة قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا، مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يرزع شرا يحصد ندامة، تعملون السيئات، وتجزون الحسنات!! أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 170- 171) .
(2) انظر: السيرة (1/ 171) .
قال ابن إسحاق «1» : ثم إن القبائل من قريش، جمعت الحجارة لبنيانها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تجاوزوا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد، فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية، أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم؛ ففعلوا. فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم:
«هلم إلى ثوبا» . فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا» . ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه «2» .
وكانت الكعبة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، ثمانى عشرة ذراعا، كانت تكسى القباطى، ثم كسيت البرود. وأول من كساها الديباج، الحجاج بن يوسف. هذا قول ابن إسحاق «3» . وقال الزبير: أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير.
وذكر جماعة سواهما منهم الدار قطنى: أن نتلة بنت جناب، أم العباس بن عبد المطلب، كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير، فنذرت إن هى وجدته أن تكسو الكعبة الديباج، ففعلت ذلك حين وجدته.
وذكر الزبير أن الذى أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس، ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته، فكسته حين وجدته ثيابا بيضا، فالله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 171) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 425) ، مسند أبى داود الطيالسى (113) ، مستدرك الحاكم (1/ 458) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 56، 57) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 98، 100) ، الهيثمى فى المجمع (3/ 292) .
(3) انظر: السيرة (1/ 173) .
قال ابن إسحاق «1» : وكانت قريش لا أدرى أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس «2» ، رأيا رأوه وأداروه.
فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطن مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم.
فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، وليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها، نحن الحمس، والحمس أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذى لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
ثم ابتدعوا فى ذلك أمورا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغى للحمس أن يأتقطوا الأقط «3» ، ولا يسألوا السمن «4» وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فى بيوت الأدم ما كانوا حرما.
ثم رفعوا فى ذلك فقالوا: لا ينبغى لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاؤا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا فى ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، ولم يجد ثياب أحمس فطاف فى ثيابه التى جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا، فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى.
فحملوا على ذلك العرب فدانت به، فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها، ثم تطوف فيه.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 173- 177) .
(2) الحمس: جمع أحمس، وهو شديد الصلب.
(3) الأقط: شىء يتخذ من المخيض الغنمى، وجمعه أقطان.
(4) يسلئوا السمن: يقال سلأت السمن وأستلأته إذا طبخ.
فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الآية [البقرة: 199] . يعنى قريشا، والناس العرب. فرفعهم فى سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.
وأنزل عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت، حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاؤا به من الحل من الطعام: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية كلها [الأعراف: 31- 32] .
فوضع الله أمر الحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس، بالإسلام حين بعث الله به رسوله «1» . ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس.
قال جبير بن مطعم: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى، وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله له «2» .
وقد تقدم ما أحدثوه فى النسىء، وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] ، فأغنى ذلك عن إعادته.