وقد لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله واحده، والاستمساك بفضائل الأعمال، والبعد عن مناكرها.
عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى: «أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف» .
قال: «فإن وفّيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم «1» من ذلك شيئا، فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذّب، وإن شاء غفر» «2» .
هذا ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه.
أيكره هذه العهود إلا مجرم يحبّ للناس الريبة، ويودّ للأرض الفساد؟!.
أتمّ وفد الأنصار هذه البيعة، ثم قفل عائدا إلى (يثرب) ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنّ يبعث معهم أحد الثقات من رجاله، ليتعهّد نماء الإسلام في المدينة، ويقرأ على أهلها القران، ويفقههم في الدين، ووقع اختياره على (مصعب بن عمير) رضي الله عنه «3» ليكون هذا المعلّم الأمين.
ونجح مصعب رضي الله عنه أيّما نجاح في نشر الإسلام، وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطّى الصعاب التي توجد- دائما- في طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من مورثات ألفوها إلى نظام جديد، يشمل الحاضر والمستقبل، ويعم الإيمان والعمل، والخلق والسلوك ...
__________
(1) ارتكبتم.
(2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 54- 58؛ ومسلم: 5/ 137.
(3) انظر حياته بالتفصيل في كتاب (مصعب بن عمير، الداعية المجاهد) للأستاذ محمد حسن بريغش، وهو من سلسلة أعلام المسلمين التي تصدرها دار القلم- دمشق. (ن) .
ولا تحسبنّ مصعبا رضي الله عنه كأولئك المرتزقة من المبشرين، الذي دسّهم الاستعمار الغربي بين يدي زحفه على الشرق، فترى الواحد منهم يقبع تحت سرير مريض ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء! وهذا الرغيف يهديه إليك المسيح!.
وربّما فتح مدرسة ظاهرها الثقافة المجرّدة، أو ملجأ ظاهره البرّ الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومال بهم حيث يريد..!!.
هذا ضرب من التلصّص الروحي يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين، والذين يمثّلون هذه المساخر يجدون الجرأة على عملهم من الدول التي تبعث بهم، فإذا رأيت إصرارهم ومغامراتهم فلا تنس القوى التي تساند ظهورهم في البر والبحر والجو.
أما مصعب رضي الله عنه فكان من ورائه نبيّ مضطهد، ورسالة معتبرة ضد القانون السائد، وما كان يملك من وسائل الإغراء ما يطمع طلاب الدنيا ونهّازي الفرص، كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة، قبسها من محمد صلى الله عليه وسلم، وإخلاص لله، جعله يضحّي بمال أسرته وجاهها في سبيل عقيدته.. ثم هذا القران الذي يتأنّق في تلاوته، ويتخيّر من روائعه ما يغزو به الألباب، فإذا الأفئدة ترقّ له، وتنفتح للدين الجديد.
وعاد مصعب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبيل الموسم الحافل، يخبره بما لقي الإسلام من قبول حسن في يثرب، ويبشّره بأنّ جموعا غفيرة دخلت فيه عن اقتناع مسّ شغافهم، وبصر أنار أفكارهم، وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقر به العين.