وأرضعته أمه سبعة أيام، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية بلبن ابنها مسروح، وكانت أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وكان أسنّ من النبى صلّى الله عليه وسلّم بأربع سنين علي الصحيح، وقيل بسنتين، فهو عمه من النسب، وأخوه من الرضاع، وأمه بنت عم أمه؛ لأن حمزة أمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وامنة هى بنت وهب بن عبد مناف، وكان عبد المطلب تزوج هالة أم حمزة بعد نحر الإبل فداء لعبد الله قبل عام الفيل بخمس سنين، فلم يكن حمزة داخلا في القرعة، فلا يبعد كون حمزة أسن من النبى صلّى الله عليه وسلّم بأربع سنين وأنه أرضعته ثويبة قبله لجواز أن تكون أرضعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في اخر رضاع ابنها، وأرضعت حمزة فى أوله، وأما على القول بأن حمزة رضى الله تعالى عنه أسن من النبى صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، فلا إشكال في الرضاع. وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يبعث إلى ثويبة من المدينة بصلة وكسوة. واختلف في إسلامها، وأثبته ابن منده.
وكذلك أرضعته ثويبة مع أبى سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى القرشى المخزومى زوج أم سلمة، أسلم بعد عشرة أنفس، وهاجر مع امرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، وهو أوّل من هاجر إليها وشهد بدرا واستخلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة فى غزوة العشيرة، وتوفى سنة ثلاث من الهجرة، وقال لما احتضر: «اللهم اخلفنى في أهلى بخير» ، فخلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على زوجه أم سلمة رضى الله
عنها، وله من الولد: سلمة، وعمرو، ودرة، وزينب أمهم أم سلمة. وكانت ثويبة جارية أبى لهب، فأعتقها حين بشرته بولادته صلّى الله عليه وسلّم عتقا منجزا، ثم جعلها ترضعه بعد ولادته أياما.
وذكر عروة بن الزبير أن أبا لهب رؤى في النوم بشرّ حيبة «1» فقيل له: ماذا لقيت فقال له: لم ألق بعدكم رخاء، غير أنّى سقيت في هذه منى بعتاقتى ثويبة، (وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتى تليها من الأصابع) . (وفي رواية أن الرائى كان من أهله، وأنه أخوه العباس بن عبد المطلب، قال: مكثت حولا بعد موت أبى لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شر حال، فقال: «ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفّف عنى كل يوم اثنين» وذلك أن رسول صلّى الله عليه وسلّم ولد يوم الاثنين «2» ، وكانت ثويبة مولاته قد بشرته بمولده، وقوله: (بعتاقتي) ، بفتح العين أحد مصادر عتق العبد الذى هو فعل لازم) فالحكمة في التعبير به دون التعبير بالإعتاق، وإن كان هو الأنسب؛ لأن العتاقة أثر الإعتاق، فلذلك أضافها لنفسه. قال ابن بطال: ومعنى قوله (سقيت في هذه الخ) : أن الله سقاه ماء في مقدار نقرة إبهامه، لأجل عتقه ثويبة. قال ابن حجر: واستدل به على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، وهو مردود بظاهر قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «3» [الفرقان: 23] لا سيما والخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصلا فلا يحتجّ به؛ إذ هو رؤيا منام لا يثبت به حكم شرعي. لكن يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبى صلّى الله عليه وسلّم مخصوصا بذلك، بدليل التخفيف عن أبى طالب «4» المرويّ في الصحيح. وعلى هذا جرى جمع؛ قال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار
__________
(1) الحيبة: الحالة. اهـ (من هامش الأصل) .
(2) هذا خبر مشهور جدا، وقد كان يصومه صلّى الله عليه وسلّم.
(3) وبقوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20] .
(4) حديث عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه، صحيح مسلم 1/ 196 كتاب الإيمان.
معناه أنهم لا يكون لهم التخلّص من النار، ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذى يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم ثمّ سوى الكفر، بما عملوه من الخيرات. والذى قاله القاضى عياض: [انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض. قال الحافظ: وهذا لا يردّ الاحتمال الذى ذكره البيهقي؛ فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأمّا ذنب غير الكفر، فما المانع من تخفيفه؟] وقال القرطبي: [هذا التخفيف خاصّ بهذا، وبمن ورد النص فيه] ، وقال ابن المنيّر: [هما فضيلتان إحداهما محال، وهى اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر، وإثبات ثواب على بعض الأعمال: تفضل من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبى لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبى طالب، والمتبّع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا قال الحافظ: فوقوع التفضيل المذكور إنما هو إكرام لمن وقع البرّ من الكافر لأجله، وهو النبى صلّى الله عليه وسلّم] انتهي.
قال ابن الجوزي: فإذا كان هذا حال أبى لهب الذى مات على دين قومه، ونزل القران بذمه: جوزي بعد موته جزاء بفرحه بمولد محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فما حال المسلم المواحد من أمته يفرح ويسرّ بمولده صلّى الله عليه وسلّم، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلّى الله عليه وسلّم من الصدقات لعمرى إنما يكون جزاؤه من المولى الكريم أن يدخله بفضله وكرمه جنات النعيم.
ولله درّ حافظ الشام: شمس الدين محمد بن ناصر الدمشقي، حيث قال:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمّه ... وتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
أتي أنه في يوم الاثنين دائما ... يخفّف عنه للسرور بأحمدا
فما الظنّ بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسرورا؛ ومات موحّدا
مات أبو لهب بداء «العدسة» فى مكة على دين قومه بعد بدر بسبعة أيام، وكان قد بلغه خبر بدر ولم يشهدها.
والعدسة: بثر كانت تخرج على الناس، تزعم العرب أنها تعدي، شبيهة بالطاعون.
* وعلى ذكر الطاعون؛ فقد ورد النهى عن دخول بلد فيها الطاعون؛ لأن الدخول إلى موضع النّقم تعرّض للهلكة، فالمقام بالموضع الذى لا طاعون فيه أسكن للقلب، فليتأدب الشخص بأدب الحكمة، وهى الفرار من الهلاك ولا يعارضها بالقدر الذى تضمنته اية: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا (51) [التوبة: 51] .
ولهذا قال عمر لأبى عبيدة رضى الله عنهما حين قال: أتفرّ من قدر الله!؟:
يا أبا عبيدة، لو غيرك قالها!؟ جواب الشرط محذوف يدل عليه السياق «1» : ...
نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.
ولما رمى أبو لهب بالعدسة تباعد عنه بنوه، فبقى ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يدفن، فلما خافوا السبّة دفعوه بعود في حفرته، ثم قذفوه بالحجارة من بعد حتّى واروه. وذكر أن عائشة كانت إذا مرت بموضعه غطت وجهها.
وله من الولد ثلاثة: عتبة، وعتيبة، ومعتب، ومن الإناث: درة، وسبيعة، أسلم منهم اثنان يوم فتح مكة ولم يهاجرا من مكة حتّى ماتا ولهما بها عقب. ودرة وسبيعة أسلمتا، وكان عتبة ومعتب قد هربا من الإسلام، فأرسل إليهما عمهما العباس، فقدما وأسلما، فسرّ بذلك عليه السلام، وشهدا معه حنينا والطائف. وأما عتيبة فإنه لما أسلمت أم كلثوم ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فارقها، وقال: يا محمد فارقت ابنتك وتركت دينك، فلا تحب لى خيرا أبدا. فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسلط الله عليه كلبا من كلابه، فخرج إلى الشام تاجرا، فلما كان في بعض الطريق جاءه الأسد ففزع وقال: أترى ابن أبي كبشه «2» قاتلى وهو بمكة وأنا بالشام! فأدخله أصحابه بينهم وتوسّطوا به جميعهم، فلما كان في بعض الليل أتاهم الأسد فتعدّاهم رجلا رجلا، حتى أتى إليه فشدخه من بينهم، وفيه قال حسان:
من يرجع العام إلي أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
وأما أبوهما أبو لهب، وأمهما أم جميل، حمّالة الحطب، فيكفيهما ما أنزل الله
__________
(1) السياق يقتضى «لقبلته منه» أو «لعاقبته» .
(2) اسم كان يطلقه مشركو مكة علي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أصله أن أبا كبشه رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان وعبد كوكبا يدعى الشعري. فسمى المشركون النبى صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم تشبيها به. انظر اللسان (5: 1812) .
فيهما من قوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ السورة، وقال بعض العلماء في أولاد أبى لهب:
كرهت عتيبة إذ أجرما ... وأحببت عتبة إذ أسلما
كذلك معتب اسلم فاح ... ترز أن تسبّ فتى مسلما
ومثل عتبة وعتيبة في الصلاة والفحش: عبد الله وعبيد الله ابنا جحش؛ فإنّ عبد الله تبيّن وتبصّر فأسلم، وعبيد الله افتتن وتنصّر فأجرم، وإن الأكبر هو الأفضل والأصغر هو الأرذل.
* ثم أرضعت النبى صلّى الله عليه وسلّم حليمة السعدية بنت أبى ذؤيب (تصغير ذئب) واسمه عبد الله بن الحارث، ومن سعادتها توفيقها للإسلام «1» هى وزوجها الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة السعدى وبنوها: عبد الله، والشيماء، وأنيسة، وقد ألّف الحافظ أبو سعيد علاء الدين بن مغلطاى في إسلامها جزا وسماه (التحفة الجسيمة في إسلام السيدة حليمة) وقال في سيرته: «وبقيت حليمة حتّى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، وقد تزوج خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلّم لها خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرا، وانصرفت إلى أهلها.
وقدمت عليه أيضا في يوم حنين، فقام لها وبسط لها رداءه، فجلست عليه وقضى حاجتها، فلما توفى صلّى الله عليه وسلّم قدمت على أبى بكر الصديق فصنع لها مثل ذلك، ثم عمر، ففعل ذلك. وأنشد في اخر الجزء المذكور:
أضحت حليمة تزدهي بمفاخر ... ما نالها في عصرها ذو شان
منها الكفالة والرضاع وصحبة ... والغاية القصوي: رضي المنّان
ومضمون قصتها مع اختصار: أنها قدمت مكة من البادية في سنة قحط شديدة لم تبق لهم شيئا صحبة عشر نسوة من قومها يلتمسن الرضعاء، ومعها ابن لها رضيع مجهود، وزوجها أبو أولادها الحارث، وكلاهما من بنى سعد بن
__________
(1) حديث إرضاع السيدة حليمة رضى الله عنها للنبى صلّى الله عليه وسلّم رواه عنها عبد الله بن جعفر، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصرّح فيه بالتحديث بين عبد الله بن جعفر وحليمة.
بكر بن هوازن، فلم يبق منهن امرأة إلا وقد عرض المبارك عليها فتأباه إذا قيل لها: إنه يتيم، ثم أخذته هي «1» إذ لم تجد غيره، فرأته مدرجا في ثوب صوف أبيض يفوح منه المسك، وكان راقدا على قفاه، فهابت أن توقظه، فوضعت يدها على صدره فتبسّم ضاحكا، وفتح عينيه فقبّلته وأعطته ثديها الأيمن فقبله، وحوّلته إلى الأيسر فأبي؛ لأن الله ألهمه العدل وأعلمه أن له شريكا هو ابنها فترك له ثديها الأيسر، وكانت هى وناقتها في أشد الجوع والهزال وعدم اللبن، فبمجرد أن وضعته في حجرها أقبل (أى درّ عليه) ثديها فروى وروى أخوه، ودرت ناقتهم فأشبعتهم تلك الليلة لبنا، فلمّا أصبحت ودّعت أمه امنة وركبت أتانها، فلما خرجت مع قومها سبقت أتانها الكلّ بعد أن كانت لا تنهض بها، فأنكر صويحباتها أنها هي، فلمّا علمنها قلن: إن لها شأنا عظيما. ولما وصلوا منازلهم كانت أجدب أرض الله، فكانت غنم حليمة ترجع ملاى، بخلاف غنمهم، مع أنها كلها بمحلّ واحد، فلله درّها من بركة كثرت بها مواشي حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت، ولم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة، وتفوز منه بالحسنى وزيادة، وقيل:
لقد بلغت بالهاشميّ حليمة ... مقاما علا في ذروة العز والمجد
وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عمّ هذا السعد كلّ بني سعد
ولا يخفى أن قدوم نساء بنى سعد للرضعاء إنما كان لطلب الأجر على الرضاع.
قال السهيلى رحمه الله تعالى: والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر العرب، حتى جرى المثل «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» «2» أى ولا
__________
(1) حديث الرضاعة حديث مشهور، روته أغلب كتب السنة، منها أبو يعلي، وابن حبان في صحيحه.
(2) قال الميدانى في مجمع الأمثال بعد كلام وقصة طويلة: « ... ثم ارتحل بها (أى بالزباء بنت علقمة بن خصفة الطائي) ، وهى من أجمل بنات العرب انذاك- إلى قومه؛ فبينما هو ذات يوم جالس- أى زوجها الحارث بن سليل؛ وكانوا قد زوّجوها له وهى كارهة؛ لأنه رجل مسنّ- وهى إلى جانبه، إذ أقبل إليه شباب يعتلجون؛ فتنفست صعداء، ثم أرخت عينيها بالبكاء، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما لى وللشيوخ الناهضين كالفروخ! فقال لها: ثكلتك أمك «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» . فذهبت مثلا اهـ. ملخصا من مجمع الأمثال.
تهتك نفسها وتبدى منها ما لا ينبغى أن تبدي. وتعقبه في «الزهر» أن المثل غير مسوق لذلك، وكان «1» عند بعضهم لا بأس به. فقد كانت وسيطة في بنى سعد، كريمة من كرائم قومها، بدليل اجتباء الله تعالى إياها برضاع نبيه صلّى الله عليه وسلّم، كما اختار له أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب، ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضاع اضطرارا للأزمة التى أصابتهم، والسنة الشهباء التى أقحمتهم؛ فلما تم له صلّى الله عليه وسلّم عند حليمة سنتان عادت به إلى أمه، ثم فطمته.
قال بعضهم: وتجوز الزيادة على الحولين والنقص عنهما. لكن قال الحناطى فى فتاويه: يستحب قطع الرضاعة عند الحولين إلا لحاجة، وقال ابن كثير في تفسيره: ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرّت الولد في بدنه وعقله.
ومما ينسب إلى حليمة مما كانت ترقّص به النبى صلّى الله عليه وسلّم:
يا ربّ إذ أعطيته فأبقه ... واعله إلى العلى ورقه
وادحض أباطيل العدا بحقه
ويظهر أنه مفتعل، وإن كان معناه جيدا.
* وروى أنه أرضع النبى صلّى الله عليه وسلّم ثمان نسوة غير امنة: ثويبة، وحليمة، وخولة بنت المنذر، وأم أيمن، (والمعروف أنها من الحواضن) ، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة اسم كل واحدة منهن عاتكة، فى قوله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين. «أنا ابن العواتك من سليم «2» » والعواتك ثلاث نسوة كنّ أمهات النبى صلّى الله عليه وسلّم «3» :
إحداهن: عاتكة بنت هلال، وهى أم عبد مناف بن قصي.
والثانية: عاتكة بنت مرّة بن هلال، وهى أم هاشم بن عبد مناف.
والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وهى أم وهب أبى امنة أم النبى صلّى الله عليه وسلّم.
فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة، وبنو سليم تفتخر بهذه الولادة، ولم يرد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أنا ابن العواتك» الفخر، وإنما أراد به تعريف منازل
__________
(1) أى الإرضاع.
(2) رواه الطبراني، وسعيد بن منصور عن شبابة بن عاصم.
(3) هنا بمعنى جدّاته.
المذكورات ومراتبهن، كرجل يقول: كان أبى فقيها، ولا يريد الفخر، وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه، وقد يكون أراد به التحدث بنعمة الله تعالى في نفسه وابائه وأمهاته على وجه الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. ولبنى سليم مفاخر أخرى منها: أنها ألّفت معه يوم فتح مكة، أى شهده منهم ألف، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدّم لواءهم يومئذ على الألوية، وكان أحمر، ومنها أن عمر كتب إلى أهل الكوفة والبصرة ومصر والشام أن ابعثوا إليّ من كل بلد أفضله رجلا. فبعث أهل الكوفة عتبة بن فرقد السلمي، وبعث أهل البصرة مجاشع بن مسعود السلّمي، وبعث أهل مصر معن بن يزيد السلمي، وبعث أهل الشام الأعور السلمى.
وسبب دفع أمه إياه لمن ترضعه أن هذا كان عادة قريش وأشراف العرب في أولادهم، ولو كانت الأم حيّة ولها لبن؛ لأن نساءهم كنّ يرين إرضاع أولادهن عارا «1» عليهن، وأيضا إذا نشأ الرضيع غريبا كان أنجب له، مع ما يضاف إلى ذلك من تفرّغ النساء للأزواج، وإن كان هذا منتفيا هنا؛ لأن أباه صلّى الله عليه وسلّم توفى وهو حمل على الصحيح. والأولى في التعليل أن ينشأ غريبا، على أن هذه العادة عادة أشراف الدنيا قديما وحديثا، لا سيما بالأقطار الحجازية بالنسبة للحواضر؛ فإنهم يبعثون بأبنائهم إلى البوادى للتربية بها مع ما ينضم إلى ذلك من خاصية فصاحة العربية العريقة بالبادية القليلة المخالطة بما يفسد اللغات، فهذه هى حالته صلّى الله عليه وسلّم حيث منّ الله على حليمة السعدية فأرضعته مع ابنها الذى شرب النبى صلّى الله عليه وسلّم من لبنه، وهو عبد الله بن الحرث.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم أختان: أنيسة والشيماء بنتا الحرث، الشيماء واسمها حذاقة، وإنما غلب لقبها فلا تعرف في قومها إلا به، وسبيت يوم حنين، فقالت «يا قوم اعلموا أنى أخت نبيكم» فلما أتوا بها النبى صلّى الله عليه وسلّم قالت له: «إنى أختك، وكنت عضضتنى وأنا أحضنك مع أمي» . فعرف ذلك وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت
__________
(1) بل لأن أهل مكة بالذات كانوا حريصين على إرضاع أولادهم في البادية حفاظا على اللغة الفصحى من أن تختلط في لسان الولد، وذلك لأن مكة مركز تجارى يأتى إليها العربى وغير العربي.
عيناه، وقال لها: «إن أحببت فأقيمى عندى مكرمة محبّبة، وإن أحببت أن ترجعى إلى قومك وصلتك» . قالت: بل أرجع إلى قومي. فأسلمت «1» ، وأعطاها النبى صلّى الله عليه وسلّم جارية وغلاما اسمه مكحول، فزوجت الجارية من الغلام، وكانت تحضنه صلّى الله عليه وسلّم وترقصه وتقول:
هذا أخ لى لم تلده أمى ... فديته من مخول معم
فأنمه اللهمّ فيما تنمي
ولعل هذا الرجز مصطنع بعد، أو كان مما يرقّص به الأطفال في ذلك الزمن. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرض على كثير من النساء فلم يرضين رضاعه ليتمه وفقره؛ ويقلن: ماذا عسى أن يكون من أمه وجدّه إلينا لله إنما يكون الإحسان من الأب. فأخذته حليمة السعدية، وقالت: لعل الله أن يجعل لنا فيه البركة. فحقق الله رجاءها. واليتم والفقر نقص في حق الخلق؛ فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام مع هذين الوصفين أكرم الخلق، كان ذلك قلبا للعادة، فكان من جنس المعجزات، وقد قيل لجعفر الصادق: لم يتم صلّى الله عليه وسلّم من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق، وأيضا لينظر صلّى الله عليه وسلّم) إذا وصل إلى مدارع «2» عزه لأوائل أمره، ليعلم أن العزيز من أعزّه الله تعالى: وأنّ قوّته ليست من الاباء والأمهات، ولا من المال، بل قوتّه من الله تعالى، وأيضا ليرحم الفقراء والأيتام، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ارحموا اليتامي، وأكرموا الغرباء؛ فإني كنت في الصغر يتيما وفي الكبر غريبا» «3» .
__________
(1) انظر ترجمتها في «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر؛ قال: وذكر محمد بن المعلى الأزدى في كتاب الترقيص قال: وقالت الشيماء ترقّص النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو صغير:
يا ربنا أبق لنا محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيدا مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسّدا
وأعطه عزا يدوم أبّدا
قال: فكان أبو عروة الأزدى إذا أنشد هذا البيت يقول: «ما أحسن ما أجاب الله دعاءها» اهـ. من الإصابة.
(2) مدارع عزه: منتهاه.
(3) قال ابن حجر الهيتمى المكى المتوفى سنة 974 هـ بعد ذكر جملة من الأحاديث منها هذا الحديث: «ارحموا اليتامى ... » الخ قال: «هذه الأحاديث كلها كذب موضوعة، لا يحل رواية شيء منها إلا لبيان أنها كذب مفترى على النبى صلّى الله عليه وسلّم، كما أفاد ذلك الحافظ السيوطى شكر الله سعيه» انتهي. من الفتاوى الحديثية ص 174 طبع الحلبى.
* وبعد ذلك مضت حليمة «1» به إلى بلادها عند سعد بن بكر، فأتاه الملكان هناك وشقّا صدره الشريف وأخرجا قلبه فغسلاه بماء الثلج في طست من ذهب، وملاه حكمة وإيمانا، واستخرجا حظ الشيطان منه (وهى مضغة سوداء) وفي رواية علقة، فلما علمت حليمة بذلك رجعت به إلى مكة لأهله بعد أن أقام نحو أربعة أعوام، فردّته إلى أمه. وشقّ صدره الشريف أيضا وهو ابن عشر سنين، ثم عند مبعثه، ثم عند الإسراء، والشق الأوّل الذى عند حليمة كان في السنة الثالثة من مولده صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: كان في الرابعة. ولكلّ من الثلاث حكمة، فالأولى التى كانت في زمن الطفولية؛ لتطهيره عن حالات الصبا حتّى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ عليه السلام على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. والتى عند المبعث زيادة في الكرامة؛ ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى في أكمل الأحوال من التطهير. والتى عند إرادة العروج إلى السماء؛ ليتأهب للمناجاة. وسكت عن حكمة شق صدره وهو ابن عشر سنين، فيحتمل أن يقال: لمّا كان العشر قريبا من سن التكليف شق صدره عليه السلام وقدس حتّى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، وقد نظم بعضهم المواطن التى شق صدره فيها صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
أيا طالبا نظم الفرائد في عقد ... مواطن فيها شقّ صدر لذي رشد
لقد شقّ صدر للنبي محمد ... مرارا لتشريف، وذا غاية المجد
فأولي له التشريف فيها مؤثّل ... لتطهيره من مضغة في بني سعد
وثانية كانت له وهو يافع ... وثالثة للمبعث الطيب النّد
ورابعة عند العروج لرّبّه ... وذا باتفاق، فاستمع يا أخا الرشد
وخامسة فيها خلاف تركتها ... لفقدان تصحيح لما عند ذي النقد
والحكمة في غسله بماء الثلج والبرد هى مع ما فيهما من الصفاء وعدم التكدر
__________
(1) وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يكرمها، فقد روى أبو داود، وأبو يعلى «أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان بالجعرانة يقسم لحما فأقبلت امرأة بدوية؛ فلما دنت من النبى صلّى الله عليه وسلّم بسط لها رداءه فجلست عليه، قال الطفيل راوى الحديث: فقلت: من هذه؟ قالوا: هذه أمه التى أرضعته» يعنى حليمة.
بالأجزاء الترابية التي هى محل الأرجاس وعنصر الأكدار: الإيماء إلى أن الوقت يصفو له ولأمته، ويروق لشريعته الغرّاء وسنته، والإشارة إلى ثلوج صدره، أى انشراحه بالنصر على أعدائه والظفر بهم، والإيذان ببرودة قلبه (أى طمأنينته على أمته بالمغفرة لهم والتجاوز عن سيئاتهم) . وقال ابن دحية: «إنما غسل قلبه بالثلج؛ لما يشعر به الثلج من ثلج اليقين إلى قلبه» . وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقول بين التكبير والقراءة: «اللهم اغسلنى من خطاياى بالثلج والبرد» «1» خصّهما بالذكر تأكيدا للطهارة ومبالغة فيها، لأنهما ما ان مفطوران على خلقتهما لم يستعملا ولم تنلهما الأيدي، ولم تخضهما الأرجل كسائر المياه التي خالطت التراب وجرت في الأنهار وجمعت في الحياض، فكانا أحقّ بكمال الطهارة. وأراد تعالى أن يغسل قلبه بماء حمل من الجنة، وطست مليء حكمة وإيمانا؛ ليعرف قلبه طيب الجنة ويجد حلاوتها؛ فيكون في الدنيا أزهد، وعلى دعوة الخلق إلى الجنة أحرص، ولأنه كان له أعداء يتقوّلون عليه، فأراد الله تعالى أن ينفى عنه طبع البشرية من ضيق الصدر وسوء مقالات الأعداء، فغسل قلبه ليورث ذلك صدره سعة ويفارقه الضيق كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر: 97] ؛ فغسل قلبه غير مرة، فصار بحيث إذا ضرب أو شجّ رأسه وشظيت رباعيته كما في يوم أحد يقول: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «2» .
ولما أكمل ست سنين توجّهت أمه مع أم أيمن حاضنته عليه الصلاة والسلام لزيارة أخوال أبيه بنى النجار، وأقاموا شهرا ورجعوا ذاهبين إلى مكة، فلما نزلوا بالأبواء (محل بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب) ماتت أمه، فدخلت به أم أيمن مكة، وكان يقول لها: «أنت أمّى بعد أمي» أى في الاحترام؛ لأنها قامت مقام أمه في تربيته.
فضمّه جده عبد المطلب، وكان يرقّ عليه ويعلى منزلته ويقول: إن لولدى هذا شأنا عظيما. وكان أبوه عبد الله مات وله سنتان، وقيل وهو حمل، لأن عبد المطلب كان يبعثه إلى غزة من الشام يمتار لهم طعاما مع تجار من قريش، فلما رجعوا مرض عبد الله؛ فلما دخلوا إلى المدينة تخلّف بها عند أخواله بنى النجار،
__________
(1) جزء من حديث طويل رواه الترمذي، والنسائي وابن ماجه.
(2) رواه الطبراني في الكبير عن سهيل بن سعد.
ثم مات بها، وله ثلاثون سنة. ولما بلغت وفاته عبد المطلب وجد عليه وجدا شديدا، والصحيح أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كانت وفاة أبيه بعد شهرين من حمل أمه به، وخلّف عبد الله جاريته أم أيمن وخمسة أجمال، وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبويه، وكفله جده عبد المطلب حتّى مات والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم ابن ثمانى سنين، ولا خلاف أن جده المذكور وأبويه ماتوا في الجاهلية؛ فإنه ما جاء الإسلام ونبيء حتّى بلغ الأربعين، وكان الناس قبل بعثته كما قال تعالى: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» [ال عمران: 164] وقد أشار إلى ذلك العراقى صاحب السيرة بقوله:
مات أبوه وله عامان ... وثلث، وقيل بالنقصان
عن قدر ذا، بل صحّ كان حملا ... وأرضعته حين كان طفلا
مع عمّه حمزة ليث القوم ... ومع أبى سلمة المخزومي
ثويبة، وهى إلى أبى لهب ... أعتقها وأنه حين انقلب
هلكا: رئي يوما بشرّ حيبه ... لكن سقي بعتقه ثويبه
وبعدها حليمة السعديه ... فظفرت بالدرّة السنيه
نالت به خيرا وأيّ خير ... من سعة ورغد ومير
أقام في سعد بن بكر عندها ... أربعة الأعوام تجنى سعدها
وحين شقّ صدره جبريل ... خافت عليه حدثا يئول
ردّته سالما إلى امنه ... وخرجت به إلى المدينة
تزور أخوالا له فمرضت ... راجعة فقبضت وتوفيت
هناك بالأبواء وهو عمره ... ستّ سنين مع شئ يقدره
ضابطه بمائة أياما ... وقيل: بل أربعة أعواما
وحين ماتت حملته بركه ... لجدّه بمكة المباركه
كفله إلى تمام عمره ... ثمانيا ثم مضى لقبره
__________
(1) ( ... وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين) . [ال عمران: 164] .
الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع
فى الأخبار المشهورة أن الليلة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتجّ إيوان «1» كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرّافة إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستبدين بالملك إلا أربعة عشر ملكا؛ فهلك عشرة في أربع سنين، وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضى الله عنه، وزال ملكهم بالكلية. ورأى في تلك الليلة أنوشروان رؤيا أفزعته، فجمع الكهنة والسحرة والمنجمين فقصها عليهم، فدلّوه على (سطيح) الكاهن ليعبرها له، وكان مشهورا بالكهانة، فأرسل كسرى إليه وزيره، وكان سطيح يخرجه قومه على رأس كل سنة مستلقيا، فيتكلم بأحكام السنة الاتية، فلمّا خرج بدأ الكلام بالرؤيا قبل القصّ عليه، فقال: «إن كسرى رأى رؤيا هالته، رأى خيولا عربية ملأت مدينته، تسوق إبل العراق وتخرجها من البلاد؛ فالخيول العربية أصحاب النبى القرشى الهاشمى المكيّ المدنيّ الخاتم، الذى يختم الله به الأنبياء، ويأتيه الوحى من الملك الواحد الأحد الفرد الصمد، وسيفتح له البلاد والمدائن بالعراقين وغيرهما، على عدد شرّافات بقين من الإيوان حين سقوطه ليلة ميلاده، الحذر الحذر من مخالفته، من كل من وصل إلى زمن دعوته!» ثم بكى سطيح وقال: «ما بقي من عمرى إلا قليل، لا أدرك بعثة النبى الجليل» قال: فرجع وزير كسرى القهقري، فأخبر الملك بما أخبر به سطيح، فوقع ما قال مما قدّره القادر المتعال.