ثم نقف بعد ذلك عند العام الخامس والعشرين2 من عمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يتغير به مجرى الحياة وتهيئ له الأقدار الزوجة المباركة التي تشاركه في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء، وهي السيدة خديجة -رضي الله عنها- فما هي الظروف التي هيأت لذلك الحادث العظيم؟
يقول ابن هشام في سيرته: فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. ثم يقول: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجل في مالها وتضاربهم3 إياه بشيء تجعله لهم، فلما بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغها عن صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة4، وقد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج مع غلامها ميسرة حتى نزل
__________
1 انظر خبر زواجه -صلى الله عليه وسلم- هذا في "طبقات ابن سعد" 1/ 13، و"سيرة ابن هشام" 1/ 198، و"الروض الأنف" 1/ 211، و"المواهب اللدنية" 1/ 190، و"دلائل النبوة" 2/ 65، و"السيرة الحلبية" 1/ 222، و"البداية والنهاية" 2/ 293 وغير ذلك.
2 هذا في أكثر الروايات، وبه جزم ابن هشام 1/ 198، وذكر أنه حدثه بذلك غير واحد من أهل العلم.
وأسند ذلك البيهقي في "الدلائل" 2/ 72 عن عمر بن أبي بكر.
ونقل ابن كثير في "البداية" 2/ 295 هذا السن عن البيهقي والحاكم.
وذكره القسطلاني ثم قال 1/ 190.
وقيل: كان سنة إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين. انتهى.
قلت: والأول أشهر وأكثر، ولم أقف على سند صحيح في ذلك.
3 أي تعملهم في مالها وتقسم لهم مقابل ذلك شيئًا من الربح، وقيل: تقارضهم.
4 "سيرة ابن هشام" 1/ 199.
الشام وربحت التجارة ربحًا عظيمًا..
وظهرت له بركات قصها ميسرة على سيدته بعد عودتهما، فأحبت السيدة خديجة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حبًّا جمًّا من أجل ما رأت منه وما سمعت عنه.
ذلك بأنه كان وهو في طور الشباب ناضج العقل راشد الرجولة، وكان مع ذلك صادق الحديث أمينًا إلى أعلى ما تدل عليه هذه الكلمة من سمو وجلال. أجل كان أمينًا على نفسه فلم يستسلم إلى شر أو رذلة. وكان أمينًا على الناس، فلم ينتهك عرضًا ولم يظلم أحدًا ولم يفش سرًّا، ولم يخن في أمانة.
ودارت مراسلات بدأت من جانب السيدة خديجة في جو من الأدب والحياء والطهر انتهت بالموافقة من الطرفين1 وتم عقد الزواج بإيجاب وقبول وصداق، فكان زواجها شرعيًّا متمشيًا مع ما بقي حينئذٍ من دين إبراهيم -عليه السلام- وخطب أبو طالب في هذا الزواج فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية
__________
1 ولعل أصلح ما روي في ذلك -مع ضعف الإسناد- ما ذكره عمار بن ياسر قال:
أجزنا ذات يوم أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني، فانصرفت إليها ووقف لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فقالت: أما لصاحبك من حاجة في تزويج خديجة.
قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: بلى لعمري.
فذكرت لها قوله، فقالت: أغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم.. فذكر الحديث في الموافقة.
وسنده واهٍ، وقد أخرجه البيهقي في "الدلائل" 2/ 71، وعزاه الهيثمي في "المجمع" 9/ 220 للطبراني والبزار وضعفه بعمر بن أبي بكر المؤملي.
ثم أورد حديثًا آخر عن جابر أو غيره من الصحابة، وأنه كان يتردد لأخت خديجة من أجل دين كان له عليها، وكان يأتيها ومعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يدخل معه، ويبقى مستحييًا فلما علمت به أخت خديجة ذكرته لخديجة ووصفت حياءه وعفافه، فوقع في نفسها ثم عزاه للطبراني والبزار ووثق رجاله.
قلت: وقد روي في ذلك غير هذا.
إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بيتًا محجوجًا وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس.
ثم إن محمدًا ابن أخي لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح عليه شرفًا ونبلًا، وفضلًا وعقلًا، وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وعارية مسترجعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك1.
وكانت خديجة حينئذٍ في سن الأربعين2. وقد ظلت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن بلغت سن الخامسة والستين ثم ماتت في العام العاشر من البعثة النبوية3.
__________
1 "المواهب اللدنية" 1/ 192، و"الروض الأنف" 1/ 213، وما مضى من المراجع.
2 وقيل غير ذلك، وهذا هو الأشهر والأقوى.. وبه جزم ابن هشام، وقدمه مغلطاي والبرهان، ورواه ابن سعد.
3 وانظر ترجمتها في:
"طبقات ابن سعد" 8/ 52 1/ 131، "تاريخ الفسوي" 3/ 253، "المستدرك" 3/ 182، "الاستيعاب" 1817، "أسد الغابة" 2/ 78، "الإصابة" 2/ 213، وما قدمنا من المراجع.
بعض البشائر بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- من التوراة والإنجيل:
وحسبنا أن نذكر في ذلك ما روي عن ثعلبة بن هلال، وكان من أحبار اليهود، حينما سأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال له: أخبرني بصفات النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوراة.
فقال: إن صفته في توراة بني هارون التي لم تغير ولم تبدل هي: أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء. وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
يولد بمكة، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب.
وهو الحماد يحمد الله في الشدة والرخاء. صاحبه من الملائكة: جبريل، يلقى من قومه أذًى شديدًا، ثم تكون له الدولة عليهم، فيحصدهم حصيدًا، تكون الواقعات بيثرب منها عليه ومنه عليها، ثم له العاقبة، معه قوم هم أسرع إلى الموت من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، وقربانهم دماؤهم. ليوث النهار، رهبان الليل. وهو يعرب العدو مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه، ثم يخرج ويحكم، لا حرس ولا حجاب، الله يحرسه، وجاء في إنجيل برنابا في الفصل التاسع والثلاثين:
"إن آدم لما انتصب على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس نصها لا إله إلا الله محمد رسول الله".
فلما سأل عن محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله له: إنه ابنك الذي سيأتي إلى العالم بعد آلاف السنين، والذي متى جاء سيعطي للعالم الهدى والنور1.
__________
1 راجع كتاب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" لعبد العزيز آل معمر، وكتاب "محمد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن" للطهطاوي، تجد فيهما من هذا أشياء.
وكان أولى من هذا لو أورد المؤلف بعضًا من الكثير الطيب الذي أخرجه الإمامان أبو يعلى، والبيهقي في "دلائل النبوة" 59-91 لأبي نعيم، و2/ 74 وما بعدها للبيهقي.