وقعت في شهر شوال لعام ثمانية (8) هـ، عند بلدة يقال لها "الغميصاء" وقد سميت السرية باسمها، وهي بأسفل مكة ناحية يلملم.
قادها الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه، في 350 من المجاهدين أصحابه من قبائل متعددة من المهاجرين والأنصار ومنهم بنو سلمة، ضد قبيلة بني جذيمة وهي إحدى بطون قبيلة بني كنانة .
(كان ابن الوليد هو من وصفه النبي بسيف سله الله على المشركين، لانتصاراته العظيمة عليهم، وبراعته في القتال، وأمره النبي على عديد من السرايا رغم حداثة إسلامه قبل فتح مكة، وكانت له فتوحات كبرى ضد الفرس والروم لاحقا بعد الخلفاء).
ضمن السرايا النبوية لدعوة القبائل للإسلام بعد فتح مكة.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابي خالد بن الوليد وبضع مائة من أصحابه، لدعوة بني جذيمة للإسلام بغير قتال.
وجاء أن ابن الوليد لما وصل إليهم سألهم عن دينهم، فقالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد فِي ساحاتنا وأذنا فيها
قَالَ : فما بال السلاح عليكم ؟ (وكانوا مدججين بالأسلحة) فقالوا : إن بيننا وبين قوم مِن العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هُم فأخذنا السلاح .
قَالَ خالد : فضعوا السلاح، فوضعوه، وقاتلهم وقتل منهم ثم أمر بأسر من تبقى وتكتيفهم وفرقهم في أصحابه.
وجاء أن رجلا منهم يدعى "جحدم" كان قد نادى يحذرهم من وضع أسلحتهم، قائلا أنه ما يكون بعدها إلا ضرب الأعناق، فلم يجيبوه ورغبوا في مهادنة المسلمين.
وقد دعاهم ابن الوليد للإسلام، ما بين الظهر والعشاء، فلم يحسنوا قول "أسلمنا" بل قالوا قولة كانت عند العرب في مكة تعني التهكم على الإسلام، فقالوا: "صبأنا صبأنا" أي خرجنا من دين لدين!
تذكر كتب السيرة أن أمير السرية ابن الوليد أمر مع قدوم وقت السحر بقتل الأسرى، قائلا: "من كان معه أسير فليدافه" والمدافاة : الإجهاز بالسيف على الرجل.
امتثل الصحابة من بني سليم لأمر قائد السرية وقتلوا أسراهم بالفعل، (طاعة لقائد السرية، وقيل بأنه تأثرا كذلك بعداوة بين القبيلتين جذيمة وسليم في الجاهلية).
امتنع المهاجرون والأنصار عن الامتثال للأمر، ولم يقتلوا أسراهم، وكان من أبرز من امتنع عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالرحمن بن عوف، وكان الأخير قد قال لخالد في نقاش محتدم أثير بينهما: "عملت بأمر الجاهلية في الإسلام"!، (أي غلبت عداوتك القديمة لهم) فرد خالد: إنما ثأرت لأبيك، وكان بنو جذيمة قد قتلوا أبا عبدالرحمن بن عوف أيضا، فرد عبدالرحمن قائلا: قد قتلتُ قاتل أبي، ولكن إنما ثأرت بعمك الفاكه بن مغيرة وهو أحد من قتلته جذيمة .[ابن هشام، 2/431].
غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين علم بمقتل أسرى بني جذيمة، ودعا ابن عمه علي بن أبي طالب ليقدم فدية من قُتلوا بالسرية خطأ ، وقال له: «يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم. واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك».
وبالفعل فدى علي بن أبي طالب كل من كان له حق دماء، حتى ميلغة الكلب عوضهم عنها (إناء سقائه) وأعطاهم ما بقي من مال معه احتياطا لما لا يعلمه، ثم رجع إلى رسول الله فأخبره بما صنع فقال له: «أصبت، أحسنت» . [تاريخ الطبري 2/164]
وهنا توجه النبي صوب القبلة ورفع يديه للسماء قائلا: « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد »، رددها ثلاثا. [رواه البخاري: 7189]
وجاء أن ابن الوليد قد اعتذر للنبي عن فعلته قائلا: "ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبدالله بن حذافة السهمي وقال: إن رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام"[ البداية النهاية، ابن كثير، 4/313] وقد ظن امتناعهم عن الإسلام ورغبتهم في القتال بعدما قالوا صبأنا وحملوا السلاح.
وسأل النبي عمن أنكر فعلة خالد من الصحابة، فانفلت رجل من الحضور واصفا رجلين، فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة. [ابن هشام، سابق]
ولما علم النبي بالخلاف بين عبدالرحمن بن عوف، وابن الوليد، والمشادة بينهما، قال النبي: «مهلا يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته».[ابن هشام، سابق]
ويروي الصحابي ابن أبي حدرد الأسلمي، أنه كان مؤتمنا في خيل خالد، على أسير، ولم يكن من بني جذيمة بل يحب إحدى بناتها، وقد جمعت يداه إلى عنقه بعد الأسر، وقبل ضرب عنقه أنشد حبيبته يقول: أسلمي حبيش على نفد من العيش
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى & وينأى الأمير بالحبيب المفارق
قالت: وأنت فحييت عشرا وتسعا وترا وثمانية تترى.
ولما شاهدت ضرب عنقه، أكبت حبيبته عليه، فما زالت حتى ماتت عنده.
فلما قدموا على رسول الله ﷺ أخبروه الخبر، فقال: «أما كان فيكم رجل رحيم».[حسنه الألباني في الجامع: 6/184]
مقتل عدد من رجال القبيلة (نحو 30 رجلا) باستثناء واحد من خارج القبيلة أودى به عشقه لامرأة جذيمية ليلقى نفس مصير رجالها. [مغازي الواقدي 3/880] وقد فدى النبي القتلى لأنهم وقعوا بالخطأ وكانوا مسلمين.
-حرمة الدماء في الإسلام (تبرؤ النبي من دمائهم وفدي دمائهم مواساة لهم).
-عدم عصمة الصحابة: فقد وقع كثير من الصحابة الأجلاء في خطايا لأنهم ليسوا معصومين من الخطأ والذلل والدماء الخطأ في الحروب التي خاضوها لأجل دين الله، ولهذا قال عمر بن الخطاب أن سيف خالد فيه رهق، وهو ليس انتقاصا من قدره فهو سيف الله المسلول على المشركين، ولكن وقعت منه أوامر أولها بغير تدبر، وكان حديث عهد بالإسلام، ومن ذلك قتل رجل في سرية سابقة شهد الشهادتين فلم يصدقه خالد فقال له النبي: هلا شققت عن قلبه! أي أن ما يهمنا هو ظاهر كلامه وليس ما في قلبه.
-تعظيم النبي لقدر الصحابة ووفائه لجهادهم في سبيل الله ويبدو ذلك في خطابه لخالد بعد مشادة مع عبدالرحمن بن عوف على قتل الأسرى.
-سبر النبي لنوايا قادته وعلمه بحقيقة أفعالهم، ولو علم صلى الله عليه وسلم أن خالدا قتل أحدا من بني جذيمة لغير وجه الله، لاقتص منه، ولكنه أولاه سرايا لاحقة، وعامله بمن اجتهد فأخطأ وتبرأ من فعلته ليتعلم الجميع حرمة الدماء عند الله.
-تفقه صحابة رسول الله، وقد فهموا أن أفراد القبيلة اختلط عليهم ولم يحسنوا القول ولكنهم أسلموا، رغم قولهم صبأنا، بخلاف خالد بن الوليد الذي أوّل موقفهم بأنه إصرار على الكفر وحرب للمسلمين .
- جهاد الصحابة المتواصل وزودهم بأرواحهم عن حياض هذا الدين؛ فقد شهد العام الثامن الهجري سلسلة كبيرة من السرايا لدعوة القبائل للإسلام وهدم الأصنام وكانت تخرج بلا هوادة لاغتنام فرصة فتح مكة ومنع تحالف المشركين.