كانت سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض محارب بنجد أميرها أبو قتادة الأنصاري، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان منها في خمسة عشر رجلا إلى غطفان نحو نجد، فساروا ليلا وكمنوا نهارًا، حتى أتوا ناحيتهم، فهجموا على حاضر منهم عظيم، وجردوا سيوفهم، وكبروا، فقتلوا رجالا، واستاقوا النعم، وحملوا النساء حتى قدموا بمائتي بعير، وألف شاة، وسبي كثير، فعزلوا من ذلك الخمس.
وقد غابوا خمس عشرة ليلة، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا، أو عدلها من البعير عشرة من الغنم1.
__________
1 المغازي ج2 ص777.
سابعًا: حركة الدعوة في مرحلة ما بين الحديبية وفتح مكة
بعدما أتم المسلمون صلح الحديبية أخذت الحركة بالدعوة صورًا كثيرة، ونشطت في أماكن متعددة، واستفادت بكل الوقائع المتاحة.
وقد رأينا تتابع الرسائل إلى العالم كله يحملها دعاة مخلصون لدينهم، وكانت الرسالة يحملها صحابي واحد، ويسلمها إلى كبير القوم الذين قصدهم ملكًا كان أو سلطانًا، أو أميرًا، أو شيخًا لقبيلة، وهذا يؤكد اعتماد تبليغ الإسلام على الكلمة الحرة الطليقة، والبرهان الدقيق والتعامل مع الواقع، واستنطاق الآيات منه. وأن لا ما حمل
البلاغ رجل واحد إلى أمة كبيرة بعيدة, ولم يترتب على عدم الاستجابة عداء أو حرب اللهم إلا في حالات الاعتداء على حامل الرسالة، والاستهزاء بشخصه، والاستهانة بإنسانيته، واحتقار دين الله تعالى بأي صورة كانت.
وعاشت الجزيرة العربية كلها حالة من الاستقرار والهدوء، وبدأ الناس يفدون إلى المدينة المنورة باحثين عن الحق ليكونوا معه وراجت تجارة أهل مكة بعدما تحقق الأمان لهم وهم يرحلون, ولم يشذ عن هذا الاستقرار إلا فريقان من الناس.
الفريق الأول وهم اليهود، فلقد تجمعوا في منطقة خيبر بعد إخراجهم من المدينة ونظموا حياتهم ومعاشهم فزرعوا الوادي بالنخيل والأشجار والثمار، وأقاموا على المرتفعات البيوت وحصونها وفق خطة منتظمة حيث جعلوا كل مجموعة من البيوت حصنًا، وكل حصون مرتفع ما حصنًا رئيسًا، وأحاطوا كل حصن رئيس بسور ضخم أعدوه للدفاع والقتال يسمح للمدافعين بالإقامة فوقه في علوهم. وبعد هذا يكون الوادي المزروع, وأسسوا في السور أبوابًا للدخول والخروج أحاطوها بالحرس من جانبيه, وربطوا بين الحصون الرئيسية بطرق بين الشجر والزروع، وتحت الأرض, وتصور اليهود في خيبر إمكانية تعرضهم للحصار فملئوا حصونهم بالأمتعة، والأغذية والسلاح ليتحملوا الحصار مدة طويلة توقع من يهاجمهم في اليأس، وتضطره إلى الإنسحاب وظن اليهود أن حصونهم ستمنعهم من المسلمين فأخذوا في الكيد لهم، وتحريض الأعراب على معاداة المسلمين، وتشجيع الرومان وأتباعهم على ضرورة التصدي للقوة الإسلامية قبل أن يستفحل الأمر، ويستحيل مواجهة المسلمين.
قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم واقع اليهود، وتيقن أن السكوت على عداوتهم وتصرفاتهم سيعيد الكثير إلى معاداة المسلمين، وسيزيدهم غرورًا وهمجية، ولذلك كانت ضرورة التحرك إلى خيبر وما حولها للتخلص من هذا الخطر الذي لا يرضى بالسلام، ولا يريد المسالمة وكان إن قضى النبي صلى الله عليه وسلم على حصونهم وأتباعهم في خيبر، وفدك، وتيماء، وأذرعات، وبذلك تطهر شمال جزيرة العرب، وأصبحت الحركة آمنة للدعوة إلى الله تعالى.
إن الإنسان المعاصر وهو يتصور حصون خيبر، واستعداداتها يتصور ما تفعله إسرائيل اليوم من جدار عازل، وقنوات مائية عميقة تجحظ جيرانها عنها لتعيش آمنة فيما اغتصبت من أرض، وتتمتع بما سرقته من أوطان.
يتصور الإنسان ذلك ويتساءل أين أصحاب محمد للتخلص من هذا العدوان الظالم؟ وأين هي القوة التي تستطيع المحافظة على الحقوق، وإلزام كل إنسان بما وجب عليه؟ ويفهم الإنسان المعاصر وهو يرى الظلم والظلمات الحكمة في أهمية القوة الإسلامية وضرورتها لحماية الحقوق، وصيانة الكرامة، ومنع الظلم والعدوان.
وفي هذه المرحلة التاريخية أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من المسلمين عمرة القضاء في إطار ما عاهد عليه قريش، فالتزم ووفى وزار البيت واعتمر، وأظهر للدنيا كلها طبيعة الإسلام في سلامه وعطائه.
وكما واجه الرسول صلى الله عليه وسلم يهود خيبر أرسل جيش مؤتة إلى أطراف بلاد الروم ليكون رسالة تحذيرية للرومان وأتباعهم ليدركوا أن ما أصاب اليهود قد يصيبهم إذا ألفوا العدوان والظلم, ولقد أدى جيش مؤتة مهمته وعاد إلى المدينة المنورة، وقد اشترك المسلمون في عديد من السرايا ليتعودوا على الحرب، ويعلموا دورهم في حماية الإسلام والدعوة لدين الله تعالى, وكان القرآن معهم يوجههم، ويربيهم بمنهج الله تعالى.