وأقام المسلمون آمنين بالمدينة، مستمتعين بالعيش، ناعمين بفضل من الله ورضوان، لا يفكرون من أمر الغزو في أكثر من إرسال بعض السّرايا لمعاقبة من يفكر في الاعتداء على حقهم أو سلب شيء من مالهم ومتاعهم. فلما استدار العام، وكانوا في ذي القعدة خرج النبيّ في ألفين من رجاله لعمرة القضاء نفاذا لعهد الحديبية، وإطفاء لظمأ هذه النفوس الشديدة الظمأ لأداء فرائض البيت العتيق.
,
ركب المسلمين إلى مكة- جلاء قريش عن مكة- نزول المسلمين بها- طواف محمد وهرولته- زواج محمد بن ميمونة- رغبته إلى قريش أن يعرس بمكة ورفضهم ذلك- إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة.
,
استدار العام بعد الحديبية، وأصبح محمد وأصحابه في حلّ بعهدهم مع قريش من الدخول إلى مكة ومن زيارة الكعبة. لذلك نادى الرسول في الناس كي يتجهزوا للخروج إلى عمرة القضاء بعد أن منعوا من قبل منها. ومن اليسير عليك أن تقدّر كيف أقبل المسلمون يلبّون هذا النداء، ومنهم المهاجرون الذين تركوا مكة منذ سبع سنوات، ومنهم الأنصار الذين كانت لهم مع مكة تجارة وبهم إلى زيارة البيت الحرام هوى، لذلك زاد الركب إلى ألفين بعد أن كان ألفا وأربعمائة في العام الذي سبقه، وتنفيذا لعهد الحديبية لم يحمل أحد من هؤلاء الرجال سلاحا إلا سيفا في قرابه. ولكن محمدا كان يخشى الغدر دائما. فجهّز مائة فارس جعل على رأسهم محمد بن مسلمة، وبعثهم طليعة له على ألّا يتخطّوا حرم مكة، وأن ينحدروا إذا هم بلغوا مرّ الظّهران إلى واد قريب منها. وساق المسلمون الهدي أمامهم ستين ناقة وقد تقدّمهم محمد على ناقته القصواء، وساروا من المدينة يحدوهم شغف أيّ شغف بالدخول إلى أمّ القرى والطواف ببيت الله، ويرقب كل واحد من المهاجرين أن يرى البقعة التي ولد فيها، والبيت الذي شبّ عن الطوق بين جدرانه، والأصحاب الذين غادروا، وأن يتنسم عرف هذا الوطن المقدّس وأن يلمس في إجلال وإعزاز ثرى القرية المباركة الميمونة التي أنجبت الرسول والتي نزل فيها أوّل ما نزل من الوحي. وتستطيع أن تتصوّر هذا الجيش من المسلمين وعدتهم ألفان يغذّون سيرهم تطفر «1» أمامهم قلوبهم وترقص جذلا أفئدتهم؛ فإذا أناخوا جعل كلّ منهم يقصّ على أصحابه آخر عهده بمكة أو أيّام طفولته بها، أو يحدّث عن أصدقائه فيها، أو عن المال الذي ضحى به في سبيل الله عند هجرته منها.
تستطيع أن تتصور هذه المظاهرة الفذة من نوعها، يزجي سيرها الإيمان، ويجذب أصحابها إليه بيت جعله الله مثابة للناس وأمنا. إنك إذا لترى بعين بصيرتك أيّ طرب كان يستخفّ هؤلاء الذين حيل بينهم وبين هذا الفرض المقدّس إذ يسيرون إليه ليدخلوا مكة آمنين، ومحلّقين رؤسهم ومقصّرين، لا يخافون.
__________
(1) الطفر: الوثوب.
,
وعرفت قريش بمقدم محمد وأصحابه، فجلت عن مكة، نزولا على صلح الحديبية، وصعدت في التلال المجاورة لها حيث ضربت الخيام، وحيث أوى منهم من أوى إلى فيء الشجر. ومن فوق أبي قبيس وحراء، ومن فوق كل مرتفع مطل على مكة، أطلّ هؤلاء المكّيون ينظرون بعيون كلها تطلع إلى الطريد وأصحابه داخلين بلد البيت الحرام لا يصدّهم عنه صادّ، ولا يحول بينهم وبينه حائل.
,
وانحدر المسلمون من شمال مكة وقد أخذ عبد الله بن رواحة بخطام القصواء، وأحاط كبار الصحابة بالنبيّ عليه السلام. وسارت الصفوف من خلفهم ما بين راجل ومقتعد غارب بعيره. فلما انكشف البيت الحرام أمامهم، انفرجت شفاه المسلمين جميعا عن صوت واحد منادين: لبّيك لبّيك! متوجهين بالقلوب والأرواح إلى وجه الله ذي الجلال، محيطين في هالة من رجاء وإكبار بهذا الرسول الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. والحق أنه كان مشهدا فذّا من مشاهد التاريخ التي اهتزت لها أرجاؤه، والتي جذبت إلى الإسلام قلوب أشد المشركين صلابة في وثنيته وفي عناده. وعلى هذا المشهد الفذّ كانت تقع عيون أهل مكة. وهذا الصوت المنبعث من القلوب يدوّي: لبّيك! لبّيك، كان يخترق آذانهم فيهزّ قلوبهم هزّا. ولما بلغ الرسول المسجد إضطجع «1» بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: اللهم ارحم امرآ أراهم اليوم من نفسه قوّة. ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول وهرول أصحابه معه، فلمّا استلم الركن اليمانيّ مشى حتى استلم الحجر الأسود مهرولا من جديد ثلاثة أطواف ومشى سائرها. والألفان من المسلمين يهرولون كلما هرول، ويمشون كلما مشى. وقريش تنظر من فوق أبي قبيس، فيأخذها لهذا المنظر البهر «2» من كل مكان، وتشهد أنها، وكانت تحدّث عن محمد وأصحابه أنهم في عسر وشدّة وجهد، قد رأت ما يمحو من أفئدتها كل وهم بوهن محمد وأصحابه. وفي حماسة هذه الساعة أراد عبد الله بن رواحة أن يقذف في وجه قريش بصيحة حرب؛ فصدّه عمر، وقال له الرسول: «مهلا يابن رواحة وقل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأعزّ جنده. وخذل الأحزاب وحده» أو كما قال؛ فنادى بها ابن رواحة بأعلى صوته، وردّدها المسلمون من بعده، فتجاوبت بأصدائها جوانب الوادي، وارتفعت رهبتها إلى قلوب الذين تسنّموا الجبال حوله.
ولما أتمّ المسلمون الطواف بالكعبة انتقل محمد على رأسهم إلى الصفا والمروة فركب بينهما سبعا، كما كان يفعل العرب من قبل، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه وأتمّ بذلك فرائض العمرة. ولما كان الغد دخل محمد إلى الكعبة وبقي بها حتى صلاة الظهر. ولقد كانت الأصنام ما تزال تعمرها. مع ذلك علا بلال سقفها وأذّن في الناس لصلاة الظهر عندها. وصلى النبي يومئذ بألفين من المسلمين صلاة الإسلام عند البيت الذي كان يصدّ من سبع سنين عن الصلاة عنده. وأقام المسلمون بمكة ثلاثة الأيام المفروضة في عهد الحديبية، وقد خلت أمّ القرى من أهلها. فجلس المسلمون خلالها لا يصيبهم فيها أذى ولا يعترضهم أحد بسوء.
والمهاجرون منهم يزورون دورهم ويزيرون أصحابهم من الأنصار إيّاها، وكأنما هم جميعا أصحاب هذا البلد الأمين؛ وكلهم يسير سيرة الإسلام يؤدّي إلى الله كل يوم صلواته فيقتل في نفسه غرورها، ويعين قويهم
__________
(1) الإضطجاع: أن يأخذ الإنسان الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه اليسر من جهتي صدره وظهره.
(2) البهر: العجب.
ضعيفهم، ويبرّ غنيهم فقيرهم؛ والنبي ينتقل بينهم أبا محبّا محبوبا يبتسم لهذا، ويمزح مع ذاك، ثم لا يقول إلّا حقّا. وقريش وسائر أهل مكة يطلون من منازلهم فوق السفوح على هذا المشهد الفذّ في التاريخ، يرون رجالا هذه أخلاقهم، لا يشربون خمرا، ولا يأتون معصية، ولا يغريهم الطعام ولا الشراب، ولا تفتنهم في الحياة فتنة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. أيّ أثر يترك هذا المنظر الذي سما بالإنسان إلى ما فوق أسمى مراتب الإنسان؟! من اليسير عليك أن تقدّره حين تعلم أن محمدا عاد بعد ذلك بشهور ففتح مكة على رأس عشرة آلاف من المسلمين.