وكانت فى شوال من سنة خمس فى قول ابن إسحاق.
وكان من الحديث عن الخندق أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير خرج نفر من اليهود- سلام بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب وكنانة بن الربيع النضريون، وهوذة بن
__________
(1) مناسم: جمع منسم، وهو طرف خف البعير. والرواتك: أى المسرعة.
(2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 402) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 44) ، تاريخ الطبرى (2/ 564) ، البداية والنهاية (4/ 92) ، دلائل النبوة (3/ 389) .
(3) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (2/ 440) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 47) ، تاريخ الطبرى (2/ 564) ، الكامل (2/ 70) ، البداية والنهاية (4/ 92) ، دلائل النبوة (13/ 392) .
قيس وأبو عمارة الوائليان- فى نفر من بنى النضير وبنى وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدموا مكة على قريش فاستفزوهم واستنفروهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى حربه، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين الله عز وجل فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء: 51- 52] .
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك.
وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام.
فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بنى مرة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ولقومه من غطفان: يا قوم أطيعونى، دعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوة من العرب، فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لأمر عيينة على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتبوا إلى حلفائهم من بنى أسد، فأقبل طليحة الأسدى، فيمن اتبعه من بنى أسد، وهما الحليفان أسد وغطفان.
وكتبت قريش إلى رجال من بنى سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم، فأقبل أبو الأعور بمن اتبعه من سليم مددا لقريش.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى بنى فزارة والحارث بن عوف فى بنى مرة ومسعر بن رخلية الأشجعى فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتكامل لهم ولمن استمدوه فأمدهم جمع عظيم، هم الذين سماهم الله «الأحزاب» .
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجهم وبما أجمعوا له من الأمر أخذ فى حفر الخندق وضربه على المدينة، فعمل فيه صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين فى العمل والأجر وعمل معه المسلمون، فدأب فيه ودأبوا حتى أحكموه.
وأبطأ عنهم فى عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فى اللحوق بحاجته فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة فى الخبر واحتسابا له، فأنزل الله فى أولئك من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 62] . فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة فى الحرب والطاعة لله ولرسوله.
ثم قال تبارك وتعالى، يعنى المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبى صلى الله عليه وسلم: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
وكانت فى حفر الخندق أحاديث فيها من الله عبرة فى تصديق رسوله وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون. فمنها: أنه اشتد عليهم فى بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها: فو الذى بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة.
ودعت عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ابنة لها من بشير فأعطتها حفنة من تمر فى ثوبها ثم قالت: أى بنية، اذهبى إلى ابيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.
قالت: فأخذتها فانطلقت فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالى، فقال:
تعالى يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى، بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغديانه. قال: هاتيه. قالت: فصببته فى كفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ فى أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء. فاجتمع اهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب!
وقال جابر بن عبد الله: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخندق وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فكانت معى شويهة غير جد سمينة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق قلت: يا رسول الله، إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلى. وإنما أريد أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم معى وحده.
فلما قلت له ذلك قال: «نعم» . ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى الله ثم أكل وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
وحدث سلمان الفارسى قال: ضربت فى ناحية من الخندق فغلظت على ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منى، فلما رآنى أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدى فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان» : قلت: نعم.
قال: «أما الأولى فإن الله فتح على بها اليمن، وأما الثانبة فإن الله فتح على بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها على المشرق» «1» . فكان أبو هريرة يقول حين فتحت الأمصار فى زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الذى نفس أبى هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع- فى ثلاثة آلاف
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 99) .
من المسلمين- فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذرارى والنساء فجعلوا فى الآطام.
وخرج عدو الله حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب عقد بنى قريظة، وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيى: ويحك يا كعب افتح لى. فقال: ويحك يا حيى إنك امرؤ مشؤوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، قال: ويحك افتح لى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال والله: إن أغلقت دونى إلا على جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جنب أحد، قد عاهدونى وعاقدونى على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال له كعب: جئتنى والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شىء، ويحك يا حيى فدعنى وما أنا عليه فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيى بكعب يفتله فى الذروة والغارب حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك فى حصنك حتى يصيا بنى ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وهو- يومئذ- سيد الأوس وسعد بن عبادة، وهو- يومئذ- سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقا فالحنوا إلى لحنا أعرفه ولا تفتوا فى أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فأجهروا به الناس» .
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد؛ فشاتمهم سعد ابن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا أربى من المشاتمة.
ثم أقبلا ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة. أى كعذر عضل والقارة بأصحاب الرجيع- خبيب وأصحابه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين» «1» .
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين، وحتى قال قائل منهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!.
وأقام عليه المشركون قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمياء. بالنبل والحصار.
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما المراوضة فى الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله، أمرا تحبه فتصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا انى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» «2» .
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذلك» «3» . فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتب ثم قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 104) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 430) .
(2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (3/ 57) . البداية والنهاية لابن كثير (4/ 105) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 430، 431) .
وضرار بن الخطاب تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خليهم حتى مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا: تهيأوا يا بنى كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها! ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربووا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم فى السبخة بين الخندق وسلع، وخرج على بن أبى طالب فى نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التى أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟ فبرز على بن أبى طالب فقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، فقال له: أجل؛ فقال له على: فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك. قال: فإنى أدعوك إلى النزال. قال له:
ولم يا ابن أخى! فو الله ما أحب أن أقتلك. قال على: لكنى والله أحب أن أقتلك! فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على على فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ.
وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وذكر ابن إسحاق فى غير رواية البكائى أن عمرا لما نادى يطلب من يبارزه قام على- رضى الله عنه- وهو مقنع فى الحديد فقال: أنا له يا نبى الله فقال له: «اجلس إنه عمرو» ثم ذكر عمرو النداء وجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التى تزعمون أنه من قتل منكم دخلها! أفلا تبرزون إلى رجلا؟! فقام على فقال: أنا له يا رسول الله. قال:
«اجلس إنه عمرو» . ثم نادى الثالثة وقال:
ولقد بححت من الندا ... أبجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع ... وقفة الرجل المناجز
وكذاك أنى لم أزل ... متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة فى الفتى ... والجود من خير الغرائز
فقال علىّ- رضى الله عنه- فقال: أنا له يا رسول الله. فقال: «إنه عمرو» فقال:
وإن كان عمرا. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه علىّ وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة ... والصدق منجى كل فائز
إنى لأرجو أن أقي ... م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يب ... قى ذكرها عند الهزاهز
فقال عمرو: من أنت؟ قال: أنا على، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا على بن أبى طالب. فقال: غيرك يا ابن أخى من أعمامك من هو أسن منك، فإنى أكره أن أهريق دمك. فقال على: لكنى والله ما أكره أن أهريق دمك. فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو على مغضبا. ويقال: إنه كان على فرسه فقال له على: كيف أقاتلك وأنت على فرسك؟ ولكن تنزل معى. فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علىّ بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علىّ على حبل العاتق فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن عليا قد قتله، فثم يقول على رضى الله عنه:
أعلى تقتحم الفوارس هكذا ... عنى وعنه أخبروا أصحابى
فاليوم يمنعنى الفرار حفيظتى ... ومصمم فى الرأس ليس بنابى
أدى عمير حين أخلص صقله ... صافى الحديدة يستفيض ثوابى
فغدوت ألتمس القراع بمرهف ... عضب مع النتراء فى إقراب
قال ابن عبد حين شد ألية ... وحلفت فاستمعوا من الكذاب
أن لا يفر ولا يهلل فالتقى ... أسدان يضطربان كل ضراب
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابى
وعففت عن أثوابه ولو أننى ... كنت المجدل بزنى أثوابى
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة: «حم لا ينصرون» .
وكانت عائشة- رضى الله عنها- يوم الخندق فى حصن بنى حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أم سعد بن معاذ معها فى الحصن، قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فمر سعد وعليه درع له مقصلة وقد خرجت منها ذراعه كلها وفى يده حربته يرقد بها- أى يسرع بها- فى نشاط، وهو يقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت أمه: الحق أى بنى فقد والله أخرت. قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد،
والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى. قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمى سعد بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بنى عامر لؤى، فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عرق الله وجهك فى النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقى لها فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لى شهادة ولا تمتنى حتى تقرعينى من بنى قريظة.
وكان عبد الله بن كعب بن مالك يقول: ما أصاب سعدا- يومئذ- إلا أبو أسامة الجشمى حليف بنى مخزوم، وقال فى ذلك شعرا يخاطب به عكرمة بن أبى جهل:
أعكرم هلا لمتنى إذ تقول لى ... فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذى ألزمت سعدا مرشة ... لها بين أثناء المرافق عاند
قضى نحبه منها سعيد فأعولت ... عليه مع الشمط والعذارى النواهد «1»
فى أبيات ذكرها ابن إسحاق.
ويقال: إن الذى رمى سعدا خفافة بن عاصم بن حبان. فالله أعلم أى ذلك كان.
وكانت صفية بنت عبد المطلب فى فارع، أطم حسان بن ثابت، قالت: وحسان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فى نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، قالت: قلت يا حسان، إن هذا اليهودى كما ترى يطيف بالحصن، وإنى والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فقتله. قال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب! والله لقد علمت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لى ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت لحسان: انزل فاسلبه فإنى لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل. قال: مالى بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
__________
(1) النحب: الأصل. والشمط: جمع شمطاء، وهى المرأة التى خالط شعرها الشيب. والنواهد: جمع ناهد، أى التى ظهر نهدها.
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى قد أسلمت وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» «1» .
فخرج نعيم حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية فقال: يا بنى قريظة، قد عرفتم ودى إياكم وخاصة ما بينى وبينكم. قالوا: صدقت فلست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وابناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم تأخذوا حتى منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأى.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبى سفيان ومن معه من رجالهم، قد عرفتم ودى لكم وفراقى محمدا، وإنه قد بلغنى أمر رأيت على حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عنى قالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلى وعشيرتى وأحب الناس إلىّ، ولا أراكم تتهموننى. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى. قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 445) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 111) .
ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل فى بلادنا ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله، إن الذى حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فى بلدكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم.
وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح فى ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم، فحدث حذيفة- رحمه الله- وقد قال له رجل من أهل الكوفة: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال نعم يا ابن أخى. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال الرجل: والله لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال حذيفة: يا بن أخى، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال:
«من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسال الله أن يكون رفيقى فى الجنة؟» «1» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعانى فلم يكن لى بد من القيام حين دعانى فقال:
«يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 392) ، تفسير الطبرى (21/ 80) ، تفسير ابن كثير (6/ 386) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 113) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 392) ، تفسير ابن كثير (6/ 386) ، تفسير الطبرى (21/ 80) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 113) .
فذهبت فدخلت فى القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى إلى جنبى فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.
وذكر ابن عقبة أنه فعل ذلك بمن يلى جانبيه يمينا ويسارا، قال: وبدرهم بالمسألة خشية أن يظنوا له.
قال حذيفة: ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى: «أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى» ثم شئت لقتلته بسهم.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى فى مرط «1» لبعض نسائه، فلما رآنى أدخلنى إلى رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد وإنى لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون معه وقد عضهم الحصار، فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح.
فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج.
ويقولون فيما ذكر ابن عقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى المغتسل عندما جاءه جبريل وهو يرجل رأسه قد رجّل أحد شقيه. فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، وإن على وجه جبريل لأثر الغبار، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: غفر الله لك! أقد وضعتم السلاح؟ قال: «نعم» . قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.
__________
(1) المرط: أى الكساء.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب برايته إلى بنى قريظة وابتدرها الناس، فسار علىّ- رضى الله عنه- حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابيث. قال: «لم؟ أظنك سمعت منهم لى أذى» قال: نعم. قال: «لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا «1» » . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: «يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» «2» قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه فى طريقة قبل أن يصل إلى بنى قريظة، فقال:
«هل مرّ بكم أحد؟» قالوا: يا رسول الله، مر بنا دحية بن خليفة الكلبى على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك جبريل بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب فى قلوبهم» «3» .
وتلاحق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة لم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا ببنى قريظة» «4» فصلوا العصر بها من بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسوله.
وذكر ابن عقبة أن الناس لما حانت العصر وهم فى الطريق ذكروا الصلاة فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر فى بنى قريظة. وقال آخرون: هى الصلاة. فصلى منهم طائفة وأخرت الصلاة طائفة حتى صلوها فى بنى قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل الصلاة ومن أخرها، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدة من الطائفتين.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 95، 96) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 96) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (8/ 117) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 403) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 19، 5/ 143) ، صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (23) ، رقم (69) ، شرح السنة للبغوى (14/ 11) ، تغليق التعليق لابن حجر العسقلانى (377) ، فتح البارى لابن حجر (2/ 436، 7/ 408، 409، 13/ 240) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 110، 117) .
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله فى قلوبهم الرعب.
وكان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. فقالوا: وما هى؟
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبى مرسل وأنه للذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم على هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد واصحابه رجالا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وإن نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء. قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم! قال: فإذا أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة واحدة من الدهر!
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بنى عمرو ابن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، نستشيره فى أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقة: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فو الله مازالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم أنطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده. وقال: لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت، وعاهد الله: أن لا أطأ بنى قريظة أبدا ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال: «أما إنه لو كان جاءنى لا ستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله
عليه» «1» . فنزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك؛ قلت: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال:
«تيب على أبى لبابة» «2» . قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله. قال: «بلى إن شئت» «3» . قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى يطلقنى بيده. فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وذكر ابن هشام «4» أن أبا لبابة أقام مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته فى كل وقت صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع.
والآية التى نزلت فى توبته: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102] ، وأنزل الله فى أبى لبابة، فيما روى عن عبد الله بن قتادة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عمير وهم نفر من بنى هدل ليسوا من بنى قريظة ولا بنى النضير، نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التى نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرزوا دماءهم وأموالهم، وكان إسلامهم فيما زعموا عما كان ألقاه إليهم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن الهيبان القادم عليهم قبل الإسلام متوكفا لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحققا لنبوته، فنفع الله هؤلاء الثلاثة بذلك واستنقذهم به من النار.
وقد تقدم ذكر خبره فيما مضى من هذا الكتاب.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 17) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (1412، 2151) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (313) ، صحيح البخارى (4/ 26، 125) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 109، 8/ 275) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 312، 5/ 67) ، كنز العمال للمتقى الهندى (17905، 29993، 30154، 37155) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 8) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 1/ 20) .
(4) انظر السيرة (3/ 207) .
وخرج فى تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظى. فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: «من هذا؟» قال: أنا عمرو بن سعدى. وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بمحمد أبدا.
فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام! ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا. فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذلك رجل نجاه الله برفائه» «1» . وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بنى قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاة ولا يدرى أين ذهب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة. فالله أعلم أى ذلك كان.
ولما نزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت- يريدون بنى قينقاع- وما كان من حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ونزولهم على حكمه، وكيف سأله إياهم عبد الله بن أبىّ بن سلول فوهبهم له. فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم» قالوا: بلى. قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ» » .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها:
رفيدة فى مسجده، كانت تداوى الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم فى الخندق:
«اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» «3» . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه فى الله لومة لائم!
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بنى عبد الأشهل فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التى سمع منه.
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 121) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .
(3) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» «1» فاما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الأنصار. وأما الأنصار فيقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد بن معاذ: عليكم عهد الله وميثاقه: أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- فى الناحية التى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» . قال سعد: فإنى أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «2» .
ثم استنزلوا فحسبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فى دار امرأة من بنى النجار، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق، يخرج بهم إليها أرسالا. وفيهم عدو الله حيى بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمان المائة والتسع المائة.
وقالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون! ألا ترون أن الداعى لا ينزع وأن من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل.
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى بعدو الله حيى بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها عليه من كل ناحيه قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل! ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل! ثم جلس فضربت عنقه. فقال فى ذلك
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 81، 5/ 44، 6/ 72، 134) ، صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (22) رقم (64) ، سنن أبى داود (5215، 5216) ، سنن الترمذى (856) ، مسند الإمام أحمد (3/ 22، 71) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 58، 9/ 63، 97) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 6) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 138) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 425) ، دلائل النبوة (4/ 18) ، كنز العمال للمتقى الهندى (25483) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (4695، 39635) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 320، 5/ 51، 177، 78، 7/ 411، 11/ 49) ، زاد المسير لابن الجوزى (8/ 193) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 2/ 4، 5) ، شرح السنة للبغوى (11/ 92) ، السلسلة الصعيفة للألبانى (346) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 108) .
جبل ابن جوال الثعلبى:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يبغى العز كل مقلقل «1»
بل ابتغى عدو الله ذل الأبد فوجده، وجاهد الله فجهده، فأصبح برأيه القائل وسعيه الخاسر من الذين لهم خزى فى الدينا ولهم فى الآخرة عذاب النار.
وقتل من نساء بنى قريظة امرأة واحدة لم يقتل من نسائهم