سميت بذلك للخندق الذي حفر حول المدينة في شاميّها، من طرف الحرّة الشرقية، إلى طرف الحرّة الغربية، وتسمى:
(غزوة الأحزاب) لتحزّب طوائف من الكفار على حرب المسلمين، وهم: قريش، وغطفان، واليهود، ومن تبعهم.
وكانت سنة أربع على ما قاله موسى بن عقبة، وجنح له الإمام البخاريّ، واستدلّ له بحديث ابن عمر في «صحيحه» أو في شوال، سنة خمسة على ما قاله ابن إسحاق، قال في «شرح المواهب» : قال ابن القيّم: وهو الأصحّ، والذهبي:
هو المقطوع به، والحافظ: هو المعتمد.
وذكر الناظم سببها فقال:
(ثمّت) لغة في ثم (لمّا أجليت يهود) «1» من المدينة أي: أخرجهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وألحقهم بخيبر، والشام، وأخذ أموالهم، وقتل منهم من قتل، وغاظهم ذلك، كما قال: (وأوغرت) أي: أوقدت (صدورها) أي: في صدور اليهود (الحقود) جمع حقد بكسر الحاء: هو الضغن، وهو إمساك العداوة في القلب.
__________
(1) جواب لمّا.. قوله فيما يأتي: (خندق خير مرسل) .
وحزّبت عساكرا عناجها ... إلى ابن حرب وقريش تاجها
تحريض اليهود لقريش وغطفان على حرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
(وحزّبت) بالتشديد؛ أي: جمعت اليهود (عساكرا) جمع عسكر: هو الجمع، فخرج من خيبر سلّام بن مشكم، وابن أبي الحقيق النّضري، وحييّ بن أخطب النّضريّ، وكنانة بن الرّبيع، زوج أمنا صفية قبل، وهوذة بن قيس الوائليّ، وأبو عمار الوائليّ، في نفر من بني النّضير، ونفر من بني وائل، حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود؛ إنّكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
الآيات.
فلمّا قالوا ذلك لقريش.. سرّهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك، واتّعدوا له.
ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود، حتى جاؤوا غطفان، فدعوهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه.
وجعلوا كي يتروا خير الورى ... لغطفان نصف تمر خيبرا
,
فخرجت قريش في أربعة آلاف، ولواؤهم بيد عثمان بن أبي طلحة قبل إسلامه، وخيلهم ثلاث مئة فرس، وإبلهم ألف وخمس مئة بعير، وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان في ألف، وقائدهم عيينة بن حصن الفزاري، وقد أسلم بعد، وخرجت أشجع في أربع مئة، يقودهم مسعود بن رخيلة، وأسلم بعد ذلك، وسليم في سبع مئة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، وبنو أسد، يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، وأسلم واستشهد بنهاوند، وخرجت بنو مرّة في أربع مئة، يقودهم الحارث بن عوف، وأسلم بعد ذلك، والجميع عشرة آلاف.
وكانوا ثلاثة عساكر، يقود الكل أبو سفيان، كما قال الناظم.
(عناجها) بكسر العين- مبتدأ-: وهو ملاك الشيء؛ أي: ملاك العساكر (إلى) أبي سفيان (بن حرب) وهو خبر المبتدأ، (وقريش تاجها) أي: العساكر؛ أي: قريش في مقدمتها.
(وجعلوا) أي: اليهود (كي يتروا خير الورى) أي:
لأجل ذلك، وهو مأخوذ من وتر الرجل: أفزعه، وأدركه بمكروه، كما في «القاموس» ويتعلق قوله: (لغطفان) بقوله: (جعلوا) ومفعوله (نصف تمر خيبرا) وهي مدينة لليهود سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في غزوتها.
خندق خير مرسل بأمر ... سلمان والحروب ذات مكر
,
فلمّا كان ما ذكر، وبلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خروجهم، وندب الناس، وأخبرهم خبر عدوّهم (خندق) أي: حفر الحفرة حول المدينة (خير مرسل) صلى الله عليه وسلم، وعمل فيه بيده، تنشيطا للناس، وكان صلى الله عليه وسلم يضرب مرة بالمعول، ومرة بالمسحاة يغرف بها التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل.
قال في «روض النّهاة» : وكمل في ستة أيام، وقيل:
في خمسة عشر، وقيل: في عشرين يوما، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف على الصحيح المشهور، وغلط من قال:
إنّهم سبع مئة، وكان معهم ستة وثلاثون فرسا، وكان الخندق (بأمر) أي: بإشارة (سلمان) الفارسي رضي الله عنه؛ فإنّه قال: يا رسول الله؛ إنّا كنا إذا حوصرنا خندقنا علينا، فكانت هذه مكيدة لم تعرفها العرب (والحروب ذات مكر) أي:
احتيال وخديعة.
قلت: ولو أنّ الناظم قال:
خندق خير مرسل وقد أشار ... سلمان بالخندق نعم المستشار
.. لكان أليق بالأدب في حق الجناب النبوي.
كم آية في حفره كالشّبع ... من حفنة وسخلة للمجمع
,
قال ابن إسحاق: (وعمل المسلمون فيه حتّى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين، يقال له: جعيل، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، فقالوا فيما يقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا
وكانوا إذا قالوا: عمرا، قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمرا» وإذا قالوا: ظهرا، قال لهم:
«ظهرا» ) .
معجزات باهرة وأعلام للنبوّة ظاهرة:
واعلم: أنّه قد كانت في حفر الخندق آيات، فيها أعظم عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك على مرأى من المسلمين، أشار إلى بعضها بقوله:
(كم آية) من الآيات على تحقيق نبوّته صلى الله عليه وسلم، وعظيم عناية ربّه به ظهرت (في حفره) صلى الله عليه وسلم للخندق، وذلك (كالشّبع) لأهل الخندق (من حفنة) تمر، وهي ملء الكفّ، جاءت بها ابنة بشير بن سعد لأبيها وخالها عبد الله بن رواحة، ليتغدّيا به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بنية؛ ما هذا الذي معك؟» قالت: قلت: يا رسول الله؛ هذا تمر بعثتني به أمي إلى
أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديان به فقال: «هاتيه» قالت: فصببته في كفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأهما، ثمّ أمر بثوب فبسط له، دحا بالتمر عليه، فتبدّد فوق الثوب، ثمّ قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق: أن هلمّوا إلى الغداء» فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنّه ليسقط من أطراف الثوب.
(و) كالشّبع لهم من (سخلة) : هي ولد الغنم من الضأن والمعز ساعة وضعه، ذكرا كان، أو أنثى السخلة (للمجمع) بفتح الميمين: موضع اجتماع القوم، وكانت السّخلة لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه.
وكان من حديثها ما رواه الإمام البخاريّ بسنده إلى جابر قال: (لما حفر الخندق.. رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟
فإنّي رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتها، فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها.
ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:
لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته، فساررته، فقلت: يا رسول الله؛ ذبحت بهيمة لنا،
وكم بشارة لخير مرسل ... من الفتوح تحت ضرب المعول
وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أهل الخندق؛ إنّ جابرا قد صنع سؤرا، فحيّهلا بكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينكم حتى أجيء» .
فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك! فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت لنا عجينا، فبسق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا، فبسق وبارك، ثمّ قال: ادعي خبّازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإن عجيننا كما هو) .
ويرحم الله الإمام العارف، إذ يشير إلى هذه الآية مع آية تكثير الماء بقوله:
فتغذّى بالصاع ألف جياع ... وتروّى بالصّاع ألف ظماء
(وكم بشارة) أي: كثير منها، فكم للتكثير كالسابقة (لخير مرسل) صلى الله عليه وسلم، وقوله: (من الفتوح) بيان للبشارة، والمراد: فتوح البلدان، كائنة تلك البشارة المخبر عنها (تحت ضرب المعول) بوزن منبر: وهي الحديدة ينقر بها الجبال.
وأشار بهذا إلى ما رواه الإمام أحمد والنّسائي من حديث البراء، قال: (لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق.. عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول؛ يعني: من سلمان، فقال:
«باسم الله» ثمّ ضربه، فنشر ثلثها، وقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنّي لأبصر قصورها الحمر الساعة» ثمّ ضرب الثّانية، فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إنّي لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن» ثمّ ضرب الثّالثة، وقال: «باسم الله» فقطع بقيّة الحجر، فقال:
«الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة «1» » .
قال ابن إسحاق: (وحدّثني من لا أتهم عن أبي هريرة:
أنّه كان يقول: حين فتحت هذه الأمصار في زمن عمر، وزمن عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلّا وقد أعطى الله محمّدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك) .
__________
(1) قال في «شرح المواهب» : (هذا الحديث الحسن لا يعارض رواية ابن إسحاق بلفظ حديث عن سلمان، فذكره وفيه: «أمّا الأولى.. فإنّ الله فتح بها علي اليمن» ، «والثّانية: الشام والمغرب» ، «والثّالثة: المشرق وفارس» ؛ لأنّه منقطع فلا يعارض المسند المرفوع الحسن، ومن ثمّ لم يلتفت الحافظ لرواية ابن إسحاق، وإن تبعه عليها اليعمري وغيره، بل اقتصر على هذا الحديث وأيده بتعدد طرقه) اهـ
ومن الآيات التي لم يذكرها الناظم، وذكرها أصله:
حديث كدية «1» جابر، فإنّه حدّث: أنّه اشتدّ عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول وضرب، فعاد كثيبا أهيل «2» وروي في هذا الخبر: (أنّه عليه الصّلاة والسّلام دعا بماء فتفل فيه، ثمّ دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثمّ نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها: فو الّذي بعثه بالحق: لانهالت حتى عادت كالكثيب، وما ترد فأسا ولا مسحاة) .
,
ولمّا فرغ صلى الله عليه وسلم من الخندق.. أقبلت قريش حتى نزلوا بمجتمع الأسيال، وغطفان بذنب نقمى «3» ، إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين حتى جعلوا ظهورهم إلى جبل سلع، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراريّ أن يجعلوا في الآطام «4» .
__________
(1) هي بضم الكاف: الأرض الغليظة.
(2) يعني: صار رملا يسيل ولا يتماسك، وأهيل: بفتح الهمزة والتحتية، بينهما هاء ساكنة، وآخره لام، وفي رواية بالميم بدل اللام والمعنى واحد.
(3) بفتح النون والقاف والميم مقصورا: موضع من أعراض المدينة، نقله في «شرح المواهب» عن البرهان.
(4) الأبنية العالية المرتفعة.
وكعب بن أسد إذ فتنه ... عن عهده حييّ أعطى رسنه
وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة، وكان عبّاد بن بشر على حرس النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنصار، يحرسونه كل ليلة، وقيل: إنّ الذي حرسه يوم الخندق الزّبير بن العوّام رضي الله عنه.
وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو يوما أبو سفيان في أصحابه، ويوما خالد بن الوليد، ويوما عمرو بن العاص، ويوما هبيرة بن أبي وهب، ويوما عكرمة بن أبي جهل، ويوما ضرار بن الخطاب.
قال في «روض النّهاة» : (وأسلم هؤلاء إلّا هبيرة، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويفترقون مرة، ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدّمون رماتهم فيرمون) .
نقض كعب عهده للرسول صلّى الله عليه وسلّم:
(وكعب بن أسد) القرظي صاحب عقد بني قريظة (إذ فتنه) أي: أوقعه في الفتنة وأضلّه (عن عهده) الذي كان عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاقده من ترك قتالهم له مع أحد، والكف عنه، وفاعل فتنه قوله: (حييّ) بترك التنوين للوزن، وخبر المبتدأ الذي هو كعب، جملة قوله: (أعطى) أي: كعب المذكور لحيي (رسنه) أي:
أعطاه قياده، وهو بفتح الراء والسين: ما يقاد به من زمام ونحوه.
فغدرت قريظة لغدره ... يومئذ إذ هو أسّ نجره
وحاصل ما أشار له الناظم كما ذكره ابن إسحاق وغيره: (أنّه خرج عدوّ الله حييّ بن أخطب النّضريّ حتى أتى كعب بن أسد القرظي، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأغلق دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال: ويحك يا حييّ إنّك امرؤ مشؤوم، وإنّي قد عاهدت محمّدا، فلست بناقض ما بيني وبينه؛ فإنّي لم أر منه إلّا وفاء، وصدقا.
فقال: ويحك! افتح لي، ولم يزل به حتى فتح له، فقال: ويلك يا كعب! جئتك بعز الدهر جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان، وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمّدا، ومن معه.
فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وبجهام «1» قد أهريق ماؤه يرعد ويبرق، وليس فيه شيء، ويحك يا حييّ! دعني وما أنا عليه؛ فإنّي لم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء، ولم يزل به يفتله في الذّروة والغارب «2» .. حتّى نقض عهده، وبرىء ممّا كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فغدرت قريظة) العهد، ونقضته مع كعب (ل) أجل (غدره يومئذ إذ هو) أي: كعب (أسّ) بتثليث الهمزة، أصل البناء، وهو مضاف إلى (نجره) بفتح النون وسكون الجيم:
__________
(1) بجيم مفتوحة، فهاء مخففة: السحاب الذي لا ماء فيه، وأهريق: بضم الهمزة وسكون الهاء وكسر الراء: صب، اهـ «شامية» .
(2) مثل: أصله البعير يستصعب عليك، فتأخذ القراد من ذروته وغارب سنامه، فيجد لذة، فيأنس بعد ذلك، فضرب مثلا في المراوضة، قاله في «الروض الأنف» اهـ
وهو الأصل.
تحرّي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن نقض كعب للعهد:
ولمّا انتهى هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين.. بعث جماعة من أصحابه فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقا.. فألحنوا لي لحنا «1» حتى أعرفه، ولا تفتّوا «2» في أعضاد الناس،
__________
(1) اللحن: العدول بالكلام عن الوجه المعروف إلى وجه لا يعرفه إلّا صاحبه، كما أنّ اللحن الذي هو الخطأ عدول عن الصواب الذي هو معروف، وقال الجاحظ في قول مالك بن أسماء:
منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا
أراد اللحن الذي هو الخطأ، قد يستملح ويستطاب من الجارية الحديثة السن، وخطئ الجاحظ في هذا التأويل، وأخبر بما قاله الحجاج بن يوسف لامرأته هند بنت أسماء بن خارجة حين لحنت فأنكر عليها اللحن، فاحتجّت بقول أخيها مالك بن أسماء: (وخير الحديث ما كان لحنا) فقال لها الحجاج: لم يرد أخوك هذا، إنّما أراد الذي هو التورية والإلغاز، فسكتت، فلمّا حدث الجاحظ بهذا الحديث قال: لو كان بلغني هذا قبل أن أؤلف كتاب البيان.. ما قلت في ذلك ما قلت، فقيل: أفلا تغيره، فقال: وكيف وقد سارت به البغال الشهب، وأنجد في البلاد وغار، اهـ حكاه السهيلي. قال في «العيون» : (وتأويل الجاحظ أولى؛ لما فيه من مقابلة الصواب بالخطأ، ولعل الشاعر لو أراد المعنى الآخر.. لقال: «منطق ظاهر» ليقابل بذلك ما تقتضيه التورية واللغز من الخفاء. فكما قال الجاحظ في تأويل: «وتلحن أحيانا» ) اهـ قلت: وما قاله في «العيون» ظاهر.
(2) بضم الفاء وشد الفوقية، قال في «الروض» : (أي: تكسروا من قوتهم وتوهنوهم، ضرب العضد مثلا، وقال: في أعضاد، ولم يقل: في أعضاء؛ لأنّه كناية عن الرعب الداخل في القلب، ولم يرد كسرا حقيقيا، ولا العضو الذي هو العضو، إنّما هو عبارة عمّا يدخل في القلب من الوهن، وهو من أفصح الكلام) اهـ
وأرسل السّعدين خير مرسل ... وابن رواحة لهم لينجلي
ما هم عليه، فإذا هم عضل ... وسرّ خير الخلق ذاك الخذل
وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا بذلك للناس، وإلى هذا الإشارة بقوله:
(وأرسل السّعدين) سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ.
وفاعل أرسل (خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (و) أرسل عبد الله (ابن رواحة) معهم، وكذا خوّات بن جبير، ويتعلق بأرسل الجار والمجرور في قوله: (لهم) أي: لبني قريظة، فقال صلى الله عليه وسلم لهم ما ذكر، وإنّما أرسل لهم (لينجلي) أي: ليتضح (ما) أي: الأمر، والموقف الذي (هم) أي: بنو قريظة (عليه) من العهد، أو نقضه.
فخرجوا حتى أتوا بني قريظة، فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمّد، ولا عقد، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، فقال له سعد بن عبادة: (دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة) .
ثمّ أقبل السّعدان ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، ثمّ قالوا: عضل والقارة؛ أي: هم غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.
وإلى هذا الإشارة بقوله:
(فإذا هم عضل) بفتح المهملة ثمّ المعجمة: هي قبيلة
من بني الهون بن خزيمة، غدروا بأصحاب الرجيع.
وعلم من التقرير: أنّ ما بعد الفاء مرتب على مقدر.
(وسرّ) بالبناء للفاعل، ومفعوله (خير الخلق) صلى الله عليه وسلم (ذاك الخذل) من بني قريظة؛ لأنّه علم صلى الله عليه وسلم: أن قد قرب الفرج، فقال عند ذلك: «الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين» .
,
قال في «العيون» : (وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً.
,
(قالت جنوب) بفتح الجيم؛ أي: ريح الجنوب، ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريّا (للشمال) بفتح الشين، ومهبها ناحية القطب (انطلق) بكسر القاف للرويّ (ننصر خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (في الخندق) .
(فقالت الشمال) مجيبة لها بلسان المقال، أو بلسان الحال: (إن الحرة لم تسر بالليل، فذاك) أي: سيرها بالليل (عرّة) بضم العين؛ أي: قبيح.
فأرسل الله الصّبا والملكه ... فنصرا نبيّه في المعركه
وغطفان رام أن يخوّلوا ... ثلث تمر طيبة ليعدلوا
(فأرسل الله الصّبا) بفتح الصاد المهملة، وخفة الموحدة، وهي الشرقية، ويقال لها: القبول؛ لأنّها تقابل الشمال: وهي الريح العقيم، التي لا خير فيها، قال تعالى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها (والملكة) : جمع ملك، بفتح اللام فيهما (فنصرا نبيه) صلى الله عليه وسلم (في المعركة) بفتح الميم والراء، موضع الحرب كالمعترك.
وأشار بهذا إلى ما رواه ابن مردويه، والبزّار وغيرهما برجال الصحيح عن ابن عباس قال: لما كانت ليلة الأحزاب..
قالت الصّبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنّ الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها فجعلها عقيما، وأرسل الصّبا فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» .
وروى الشيخان، والنسائي عنه مرفوعا: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» بفتح الدال: الريح الغربية.
ومن لطيف المناسبة: كون القبول نصرت أهل القبول، والدبور أهلكت أهل الإدبار.
,
(وغطفان رام) أي: أراد صلى الله عليه وسلم، وقد
وأنف السّعدان من صلح النّبي ... وحكّما حدّ شفار القضب
بعث إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المرّي، وهما قائدا غطفان (أن يخوّلوا) بالبناء للمفعول، أي: يعطوا (ثلث تمر طيبة ليعدلوا) أي: ليميلوا ويرجعوا بمن معهم عنه، وعن أصحابه، فجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة، ولا عزيمة الصلح، فلمّا أراد صلى الله عليه وسلم أن يفعل.. بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس؛ وسعد بن عبادة سيد الخزرج يستشيرهما في الأمر.
(وأنف) عند ذلك؛ أي: استنكف (السّعدان من صلح النبيّ) صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله؛ أأمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلّا أنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم «1» من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» .
فقال له سعد بن معاذ سيد الأوس: يا رسول الله؛ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلّا قرى، أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
__________
(1) يقال كلب الدهر على أهله إذا ألحّ واشتدّ، وكذا العدو. انظر «النهاية» ، مادة (كلب) .
معتّب نجل قشير قالا ... وعدنا النّبيّ أن ننالا
(وحكّما حدّ شفار) بكسر أوله، جمع شفرة بالفتح؛ أي: حدّ السيوف (القضب) أي: القواطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «فأنت وذاك» فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثمّ قال: ليجهدوا علينا.
,
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوّهم محاصرهم، ولم يكن بينهم قتال، إلّا أنّ فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب تلبّسوا للقتال، ثمّ خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب؛ فستعلمون من الفرسان اليوم، ثمّ اقبلوا تعنق «1» بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلمّا رأوه.. قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمموا مكانا من الخندق ضيقا، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السّبخة بين الخندق وسلع.
,
و (معتّب نجل قشير) بالتصغير، الأوسيّ، قال الحافظ: (ذكروه فيمن شهد العقبة، وقيل: إنّه كان منافقا، وقيل: إنّه تاب، وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا) ،
__________
(1) أي: تسرع.
كنوز قيصر وكسرى ونرى ... أحدنا اليوم يخاف المخترى
والألف في قوله: (قالا) للإطلاق؛ يعني: لما غدرت بنو قريظة، واشتدّ البلاء والخوف على المسلمين، وأتاهم عدوّهم غطفان من فوقهم من قبل المشرق، وقريش من أسفل منهم من قبل المغرب، وظنّ المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين.. قال معتّب:
(وعدنا النّبيّ أن ننالا) بألف الإطلاق أيضا، ومفعوله:
(كنوز قيصر) وهو علم لكل من ملك الروم، وأصله من القصر، وهو البقر بالعجمية؛ لأنّه بقر عنه بطن أمّه، وكان يفخر بذلك، يقول: لم تلدني النساء (وكسرى) : هو لقب لكل من ملك الفرس، ومعناه: واسع الملك (ونرى) الواو للحال؛ أي: يقول معتب: وعدنا النبيّ أن نأخذ أموال قيصر وكسرى، والحال أنّنا نرى ونبصر (أحدنا اليوم يخاف المخترى) بضم الميم، مكان الغائط؛ أي: لا يأمن أن يذهب إلى الغائط.
قال في «شرح المواهب» : (أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً في معتّب بن قشير الأنصاريّ: هو صاحب هذه المقالة، وقيل: عبد الله بن أبيّ وأصحابه) .
قال ابن هشام: (وأخبرني من أثق به من أهل العلم: أنّ معتّبا لم يكن من المنافقين، واحتجّ بأنّه كان من أهل بدر) وفي بعض النسخ بدل البيت:
ونوفل من طيشه ونزقه ... أوثب طرفه حفير خندقه
فوقعا فيه وأعطى فديته ... إخوانه فاستوهبوه جثّته
وابن قشير معتب قال أما ... وعدنا محمّد أن نغنما
والخطب سهل، والمعنى واحد.
,
(ونوفل) هو ابن عبد الله بن المغيرة المخزوميّ (من طيشه) : خفته (ونزقه) عطف تفسير (أوثب طرفه) بكسر الطاء، الكريم من الخيل؛ أي: حمله على أن يثب (حفير) أي: على المحفور من (خندقه) صلى الله عليه وسلم يريد قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم (فوقعا) أي: نوفل وفرسه (فيه) أي: في الخندق، فاندقت عنقه، وقتله الله، وعظم ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا نعطيكم الديّة، على أن تدفعوه إلينا فندفنه، وإليه الإشارة بقوله: (وأعطى) بالبناء للفاعل (فديته) بالنصب مفعول مقدم على فاعل أعطى الذي هو (إخوانه) والفدية:
ما يعطى لإنقاذ الشيء.
قال ابن هشام: (بلغني عن الزّهري: أنّهم أعطوا في جسدة عشرة آلاف درهم) .
(فاستوهبوه) أي: طلبوا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
أن يهب لهم (جثّته) أي شخصه.
فقال فيه أكرم البريّة ... خبيث جيفة خبيث ديّة
عمرو بن عبد ودّ اذ قام له ... حيدرة بسيفه خردله
(فقال فيه أكرم البريّة) عليه من ربه أزكى صلاة عطرية ردا عليهم، وجوابا لقولهم: هو (خبيث جيفة) لموته كافرا محاربا لله ولرسوله (خبيث ديّة) بالتشديد للياء للوزن؛ لعدم حلّها؛ إذ لا دية في مثل هذه الصورة، زاد في المواهب:
«فلعنه الله، ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته» .
مقتل عمرو بن عبد ودّ بسيف علي:
(عمرو بن عبد ودّ) العامريّ (إذ قام له) مبارزا (حيدرة) لقب لسيدنا عليّ بن أبي طالب القائل:
أنا الذي سمّتني أمّي حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السّندره «1»
(بسيفه) يتعلق بقوله: (خردله) أي: قطع أعضاءه.
قال اليعمريّ في «العيون» : (كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر، حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلمّا كان يوم الخندق.. خرج معلما، ليرى مكانه، فلمّا وقف هو وخيله.. قال: من يبارز؟ فبرز له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر ابن سعد في هذا الخبر: أنّ عمرا كان ابن
__________
(1) أي: أقتلكم قتلا واسعا ذريعا، والسندرة: مكيال واسع، قيل: يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي.
تسعين سنة، فقال عليّ: أنا أبارزه، فأعطاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سيفه وعمّمه، وقال: «اللهمّ؛ أعنه عليه» ) .
وعن ابن إسحاق من غير رواية البكّائي: (أنّ عمرا لما نادى يطلب من يبارزه.. قام عليّ رضي الله عنه وهو مقنّع في الحديد، فقال: أنا له يا نبيّ الله، فقال له: «اجلس إنّه عمرو» ثمّ كرر عمرو النداء، وجعل يؤنّبهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أنّه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون لي رجلا؟ فقام عليّ فقال: أنا يا رسول الله، فقال له:
«اجلس، إنّه عمرو» ثمّ نادى الثّالثة، وقال:
ولقد بححت من الندا ... ء لجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجّع ... وقفة الرجل المناجز
وكذاك أنّي لم أزل ... متسرّعا قبل الهزاهز
إنّ الشجاعة في الفتى ... والجود من خير الغرائز
فقال عليّ رضي الله عنه: أنا له يا رسول الله، فقال:
«إنّه عمرو» فقال: وإن كان عمرا، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه علي وهو يقول:
لا تعجلنّ فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة ... والصدق ينجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن أقيم ... عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى ... ذكرها عند الهزاهز
فقال عمرو: من أنت؟ فقال: أنا عليّ، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: غيرك يا ابن أخي، من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهريق دمك، فقال علي: لكنّي والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل، وسل سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو عليّ مغضبا، ويقال: إنّه كان على فرسه، فقال له علي: كيف أقاتلك وأنت على فرسك؟ ولكن انزل معي، فنزل عن فرسه، ثمّ أقبل نحوه، فاستقبله عليّ بدرقته، فضربه عمرو فيها، فقدّها، وأثبت فيها السيف. وأصاب رأسه، فشجّه، فضربه علي على حبل العاتق، فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف أنّ عليّا قد قتله) .
قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ويوم بني قريظة: (حم لا ينصرون) .
وفضّ جمعهم نعيم الأشجعي ... إذ نمّ بينهم بكلّ مجمع
تخذيل نعيم بن مسعود للأحزاب عن المسلمين:
(وفضّ) بتشديد الضاد المعجمة (جمعهم) أي: فرّق جمع العرب وبني قريظة، وهو مفعول ل (فض) مقدم على فاعله، الذي هو (نعيم) بالتصغير، ابن مسعود بن عامر (الأشجعيّ إذ نمّ) أي: لأنّه سعى بالنميمة المطلوبة في مثل هذا الموطن (بينهم بكل مجمع) من مجامع الكفار:
بني قريظة، وقريش، وغطفان؛ فإنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله؛ إنّي أسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإنّ الحرب خدعة «1» » فخرج حتّى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة؛ قد عرفتم ودّي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان ليسوا كما أنتم: البلد بلدكم، وبه أموالكم وأبناؤكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإنّهم جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه، وقد ظاهر تموهم
__________
(1) قال الحافظ: (بفتح المعجمة، وبضمها مع سكون الدال المهملة فيهما، وبضم أوله، وفتح ثانيه، صيغة مبالغة، كهمزة ولمزة، قال النووي: اتفقوا على أنّ الأولى أفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا: أنّها لغة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذرّ الهروي والقزاز) اهـ
عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة..
أصابوها، وإن كان غير ذلك.. لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّي لكم، وفراقي محمّدا، وإنه قد بلغني أمر، رأيت حقا عليّ أن أبلّغكموه، نصحا لكم، فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال:
إنّ معشر يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمّد: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ لك من أشراف قريش وغطفان رجالا فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم، حتّى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم، قال نعيم:
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.
ثمّ أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي، وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكانت ليلة السبت من شوال، سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله: أنّ أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فأعدّوا للقتال حتى نناجز محمّدا، ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
وعند ما إلى التّشتّت الزّمر ... أجمع أمرهم دعا خير البشر
فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم يوم السبت، لا نعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بمقاتلين معكم.. حتّى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتّى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال.. أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا به.
فقالت قريش وغطفان: والله إنّ الذي حدّثكم به نعيم لحق، فأرسلوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل معكم.. حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، ويئس كل منهم من الآخر، واختلف أمرهم، وكان عليه الصّلاة والسّلام دعا على الأحزاب فقال: «اللهمّ؛ منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهمّ؛ اهزمهم» وكان دعاؤه عليهم يوم الإثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء فعرف السرور في وجهه الشريف:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... لمعت كلمع البارق المتهلل
فلمّا كان ليلة السبت.. بعث الله الريح على الأحزاب، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رجله، ولا يقر لهم قدر ولا بناء.
,
(وعند ما) هي مصدرية، وقوله: (إلى التشتت) أي:
من يأت بالخبر عنهم يكن ... غدا رفيقنا ومنهم يأمن
فلم يقم إليه غير ابن اليمان ... من شدّة الذّعر ومن برد الزّمان
التفرق، يتعلق بأجمع، وقوله: (الزّمر) جمع زمرة:
الجماعة، مبتدأ، خبره جملة (أجمع) أي: اتفق (أمرهم) وفي نسخة (أزمع) أي: وعند إجماع الزمر من الأحزاب أمرهم إلى التفرّق، وخافت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح، واشتدّ البرد تلك الليلة (دعا) الله عزّ وجلّ (خير البشر) صلى الله عليه وسلم ما أصغت أذن لخبر، وجليت عين لنظر، قائلا: « (من يأت بالخبر عنهم) أي:
عن الأحزاب (يكن) جزاؤه (غدا) يوم القيامة (رفيقنا) في الجنة» (ومنهم) أي: من القوم (يأمن) من مكروه يصيبه.
(فلم يقم إليه) صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة (غير) حذيفة (ابن اليمان) ففي رواية البيهقي: قال صلى الله عليه وسلم: «من يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيقي» فلم يقم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، وفي رواية ابن إسحاق: فدعاني، فلم يكن بدّ من القيام، وإنّما لم يقم أحد من الصحابة (من) أجل (شدة الذّعر) بضم المشددة أي: الخوف (ومن برد الزمان) أي: من شدته.
قال ابن إسحاق: (حدّثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله؛ أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم
تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه.. ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: فقال حذيفة: والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثمّ يرجع؟» يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة، «أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلمّا لم يقم أحد.. دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال:
«يا حذيفة؛ اذهب فادخل في القوم، فانظر ما يصنعون، ولا تحدثنّ شيئا حتى تأتينا» .
قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح، وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا، ولا نارا، ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش؛ لينظر امرؤ من جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان) .
,
ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش؛ إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك
الكراع «1» والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا؛ فإنّي مرتحل، ثمّ قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ: «أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني» لقتلته بسهم.
,
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلّي في مرط لبعض نسائه مرجّل، قال ابن هشام:
(المراجل: ضرب من وشي اليمن) فلمّا رآني.. أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثمّ ركع وسجد وإنّي لفيه، فلمّا سلم.. أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
,
(وشغل النبيّ) صلى الله عليه وسلم، وهو مفعول مقدم على فاعله الذي هو (زحف) الزحف: الجيش يزحف، وهو مضاف إلى (الخندق) أي: شغل النبيّ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فكان علما من أعلام نبوته، ففي السنة المقبلة اعتمر فصدته قريش، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، فكان فتح مكة لذلك.
وأصحابه جيش العدوّ الذي يريد أن يقتحم الخندق (عن) صلاة (ظهره وعصره ل) مغيب (الشفق) كما رواه الإمام مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب: أنّه قال:
ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم الخندق.. حتى غابت الشمس.
وكما رواه الإمام أحمد، والنسائي عن أبي سعيد: أنّهم شغلوه صلى الله عليه وسلم عن الظهر، والعصر، والمغرب، وصلّوا بعد هويّ من الليل، وقيل: شغله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقط، وهو مقتضى رواية الشيخين عن جابر وعليّ، وقيل: شغله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء، وهو مقتضى رواية النسائي والترمذيّ.
وقال الترمذيّ «1» : ليس بإسناده بأس، إلّا أنّ أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله.
قال في «المواهب» إثر تلك الروايات: (فمال ابن العربي إلى الترجيح، فقال: الصحيح: أنّ التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة، وهي العصر، وقال النوويّ:
طريق الجمع: أنّ وقعة الخندق بقيت أياما، فكان هذا أي شغلهم عن العصر، أو عنها وعن الظهر في بعض الأيام.
وهذا؛ أي: تأخير أربع صلوات في بعضها) .
__________
(1) حيث رواه في الباب عن عبد الله بن مسعود برواية أبي عبيدة عنه.
وعلم من كلام الناظم: أنّ سبب تأخير الصلاة في ذلك اليوم هو شغلهم، فلم يتمكّنوا من فعلها، قال في «شرح المواهب» : وهو أقرب لا سيّما ولأحمد والنسائي عن أبي سعيد: أنّ ذلك كان قبل أن ينزل الله تعالى في صلاة الخوف فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً وقيل: النسيان، واستبعد وقوعه من الجميع، أمّا اليوم.. فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب القتال، بل تصلّى صلاة الخوف على حسب الحال.
,
ذكر ابن إسحاق وغيره: (أنّه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير، سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهل الأوسيون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد، الخزرجيّون.
قال العبد الضعيف كان الله له: سيدنا سعد بن معاذ استشهد بعد رجوعه من غزوة بني قريظة، حيث انفجر الجرح الذي كان أصابه يوم الخندق برمية ابن العرقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فالمراد: أنّه استشهد بسبب تلك الرّمية يوم الخندق.
وهلك من المشركين: منبّه بن عبيد، ونوفل بن عبد الله المخزوميّ، وعمرو بن عبدودّ العامري.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، إذا رجع من غزوة أو حج أو عمرة.. أن يبدأ فيكبّر ثلاث مرات، ثمّ
ثمّ قريظة إليها جبرئيل ... ولم يضع سلاحه استدعى رعيل
يقول: «لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
والله سبحانه وتعالى أعلم