,
...
الفصل الأول: سبب الغزوة
يبدو أن أصحاب المغازي ومن جاء بعدهم من العلماء متفقون على أن سبب هذه الغزوة هو إجلاء يهود بني النضير من المدينة حيث إن الحسد والحقد قد تمكنا من قلوبهم مما جعلهم يضمرون العداء ويتحينون الفرص للتشفي ممن طردهم - وما طردهم إلا بسبب ما ارتكبوه ضد المسلمين - أو التحريش ضده وكانوا لا يستطيعون تنفيذ الأول وهو التشفي وحده، وهذا طبعهم الذي أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم في أكثر من آية منها على سبيل المثال قولهم لنبيهم موسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 1.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل بجلاء على جبنهم، وخبث نفوسهم، وعلى عدم طاعتهم لنبيهم بعكس أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان حسناً ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال كفار قريش حيث كان آخر ما قالوه "فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا
____________________
1 سورة المائدة الآية (24) .
رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصُبُر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله"1. كما رواه البخاري2 في كتاب التفسير.
وعندما لم يستطع يهود خيبر - وخاصة بني النضير3 - مجابهة المسلمين لجأوا إلى الأسلوب الثاني وهو أسلوب المكر والتحريش فقد روى ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن رومان4 عن عروة ومن لا أتهم عن عبيد الله5بن
____________________
1 تفسير القرآن العظيم 2/38-39، والسيرة النبوية 2/615.
2 صحيح البخاري مع الفتح 7/287 كتاب المغازي.
3 ذلك لأنهم خسروا الكثير من مناطق نفوذهم وسلطانهم فهم موتورون، وأكثر حقداً وتحمساً من غيرهم.
4 يزيد بن رومان الأسدي أبو روح المدني مولى آل الزبير - ثقة - من الخامسة مات سنة ثلاثين وروايته عن أبي هريرة مرسلة روى له الجماعة، التقريب 382، وتهذيب التهذيب 11/35.
5 عبيد الله بن كعب بن مالك الأنصاري - ثقة - من الثالثة روى له (خ م د س) التقريب 227.
كعب بن مالك، ومحمد بن كعب1 القرظي2، والزهري، وعاصم3 بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر4، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث مالا يحدث بعض قالوا: "أنه كان من حديث الخندق5 أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي
____________________
1 محمد بن كعب بن سليم بن أسد أبو حمزة القرظي المدني، وكان قد نزل الكوفة مدة وكان ابوه من سبي قريظة - ثقة - عالم من الثالثة ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهم من قال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال البخاري أن أباه كان ممن لم ينبت من سبي قريظة مات محمد سنة 120، وقيل قبل ذلك روى له الجماعة، تهذيب التهذيب 9/420، التقريب 316.
2 القرظي: بضم القاف وفتح الراء، وفي آخرها ظاء معجمة هذه النسبة إلى قريظة وهم اسم رجل نزل أولاده حصناً بقرب المدينة وقريظة والنضير إخوان من أولاد هارون عليه السلام، والمنتسب إلى قريظة جماعة منهم كعب بن سليم القرظي المدني يروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - روى عنه ابنه محمد بن كعب وابنه محمد بن كعب القرظي أبو حمزة يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن عمر - رضي الله عنهما - وغيرهما وكان من فضلاء المدينة. انظر في ذلك اللباب في تهذيب الأنساب 3/26
3 عاصم بن عمر بن قتادة ابن النعمان الأوسي الأنصاري أبو عمرو المدني - ثقة - عالم بالمغازي من الرابعة مات بعد العشرين ومائة روي له الجماعة، تهذيب التهذيب 5/53، والتقريب 159.
4 عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي - ثقة - من الخامسة مات سنة (135) ، وهو ابن سبعين سنة روى له الجماعة، التقريب 169، وتهذيب التهذيب 5/164.
5 الخندق: حفير حول أسوار المدن معرب (كندة) وهي الحفرة، وخندق حفرة. ترتيب القاموس 2/116.
الحقيق النضري1، وحيي بن أخطب النضري2، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق3، وهوذة بن قيس الوائلي4، وأبو عمار5 الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: "إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله" فقالت لهم قريش: "يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن
____________________
1 سلام بن أبي الحقيق أبو رافع قتله الصحابة من الخزرج، وذلك بقيادة عبد الله بن عتيك الخزرجي الأنصاري، وكان أبو رافع عدواً لله ولرسوله، وكان قتله في خيبر بعد وقعة بني قريظة ذلك لأن الأوس قتلوا كعب بن الأشراف وكانت الطائفتان الأوس والخزرج تتسابقان في الخيرات. السيرة النبوية لابن حزم 2/274.
2 حيي بن أخطب النضري ستأتي ترجمته في الحقد اليهودي قريباً.
3 كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق هو أحد اليهود من بني النضير، وكان قد خلف على صفية بعد سلام بن مسلمة القرظي، وقد جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيام خيبر وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه فجحده فأتى رجل من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فأنكر وحفرت تلك الخربة فوجد بعض كنزهم، وأخيراً دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. السيرة النبوية 4/336، والمعارف لابن قتيبة 138.
4 هوذة بن قيس الوائلي لم أجد له ترجمة في غير هذا المكان. السيرة النبوية 3/14، وتفسير القرآن العظيم، وهو هناك هودة 1/513.
5 أبو عمار الوائلي لم أجد له ترجمة.
ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ " قالوا بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.
قال ابن إسحاق: "فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤا غطفان2 فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على
____________________
1 سورة النساء الآية 50، وانظر ذلك في السيرة النبوية 2/214-215، والبداية والنهاية 4/94، وتاريخ الطبري 2/565، والطبقات الكبرى 2/65، وعيون الأثر 2/55.
2 غطفان بن سعد بطن عظيم متسع كثير الشعوب والأفخاذ من قيس عيلان من العدنانية، وهم بنو غطفان بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان كانت منازلهم بنجد مما يلي وادي القرى وجبل طيء ثم تفرقوا في الفتوحات الإسلامية، واستولت عليها قبائل طيء، وتنقسم إلى ثلاثة أفخاذ عظيمة هي:
أ - أشجع بن ريث بن غطفان.
ب - عبس. ج - ذبيان.
(=) وقد حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، وجاءوا من بلادهم لذلك وكانوا أكثر الجموع في الأحزاب ثم ارتدوا بعد موته صلى الله عليه وسلم فحاربهم أبو بكرا لصديق - رضي الله عنه- وبعث إليهم خالد بن الوليد - رضي الله عنه - فقتل منهم كثيراً وتشتت شملهم.
معجم قبائل العرب 3/888، والمعارف لابن قتيبة 82.
ذلك، واجتمعوا معهم فيه1. وقد أورد الطبري2 هذا الأثر في تفسيره عن محمد بن حميد عن سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق بهذا الإسناد".
كما أورده ابن كثير3 عن ابن إسحاق أيضاً. وكذا ذكره جميع أصحاب المغازي والسير والتفاسير4. وقد نقل الحافظ5 هذا القول من مغازي موسى بن عقبة مما يؤيد ويقوي حديث الباب.
وبالنظر إلى سند هذا الأثر:
نجد أن رجاله كلهم ثقات، وأن الذي قال فيه ابن إسحاق (ومن لا أتهم) في قوله (عن عروة ومن لا أتهم) .
لا يؤثر عدم تسميته لأنه مع عروة وعروة ثقة.
____________________
1 السيرة النبوية لابن هشام 3/214، وسائر كتب المغازي.
2 جامع البيان 21/129.
3 تفسير ابن كثير 3/470، والبداية والنهاية 4/94.
4 مثل ابن إسحاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن حزم، والسهيلي، وابن سيد الناس، وابن كثير.
5 فتح الباري 7/393.
وهذا الإسناد ينتهي إلى هؤلاء التابعين وحكايتهم لشيء حصل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حذف للواسطة الذي شاهد ذلك وهو الصحابي ويحتمل أن يكون سقط قبل الصحابي تابعي فهو يعتبر منقطعاً1.
ويظهر أن للقصة أصلاً، ولذلك أوردها المفسرون عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 2.
فقد قال ابن كثير - رحمه الله -: "وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي عدي3، عن داود4، عن
____________________
1 المنقطع: قال السيوطي: الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء والخطيب، وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين أن المنقطع هو ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعي عن الصحابي.
وقيل: هو ما اختل منه رجل قبل التابعي محذوفاً أو مبهماً. تدريب الراوي 1/207، أما الصنعاني فقد قال: المشهور أن المنقطع ما سقط من رواته راو واحد غير الصحابي إذا لو كان الساقط الصحابي لكان مرسلاً. ثم قال:
وحكى الحاكم وغيره من أهل الحديث أنه ما سقط منه قبل الوصول إلى التابعي شخص واحد. انظر توضيح الأفكار 1/324.
2 سورة النساء الآية 50.
3 محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وقد ينسب لجده وقيل هو إبراهيم أبو عمرو البصري - ثقة - من التاسعة مات سنة أربع وتسعين ومائة على الصحيح روى له (ع) ، التقريب 288.
4 داود بن أبي هند القشيري مولاهم أبو بكر أو أبو محمد البصري - ثقة متقن - كان يهم بأخرة من الخامسة مات سنة أربعين ومائة وقيل قبلها روى له (خت م) ، التقريب 97.
عكرمة1 أو عن سعيد2 بن جبير عن ابن عباس3، قال: "كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان، وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن أبي الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس. فأما وحوح وأبو عامر وهوذة فمن بني وائل4، وكان سائرهم من بني النضير5، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه، وممن اتبعه فأنزل الله - عز وجل - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ…} "6.
____________________
1 عكرمة بن عبد الله مولى ابن عباس أصله بربري - ثقة ثبت - عالم بالتفسير ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة من الثالثة مات سنة سبع ومائة وقيل قبل ذلك روى له (ع) التقريب 242-243.
2 سعيد بن جبير الأسدي مولاهم الكوفي - ثقة ثبت فقيه - من الثالثة وروايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين روى له (ع) التقريب 120.
3 عبد الله بن عباس الصحابي الجليل - مشهور -.
4 الوائلي نسبة إلى عدة قبائل، ولم يذكرهم ابن الأثير هنا. انظر اللباب في تهذيب الأنساب 3/351.
5 النضري بفتح النون والضاد وبعدها راء هذه النسبة إلى بني النضير وهم جماعة من اليهود. اللباب 3/314.
6 تفسير القرآن العظيم 1/513.
والحديث بهذا السند يعتبر حسنا لذاته والشك في قوله عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير لا يضر فكلاهما ثقتان.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه كذلك الطبري1.
قال عبد الرزاق2 عن الزهري في حديثه عن ابن المسيب مطولاً فيه: "وكان حيي بن أخطب استجاش المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم … الخ الحديث"3. ودرجة حديث عبد الرزاق:
إسناده ضعيف لأن عبد الرزاق أخرجه عن ابن المسيب مرسلاً وبين عبد الرزاق والزهري راوٍ لم يذكر، ويحتمل أن يكون الذي بينهما (معمراً) ، لأن عبد الرزاق غالباً ما يأخذ عن معمر عن الزهري، علماً بأن مراسيل ابن المسيب أصح المراسيل، قد اتفق النقاد من المحدثين على ذلك.
____________________
1 جامع البيان 5/135.
2 عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري - بكسر الحاء المهملة وسكون الميم وفتح المثناة التحتية - مولاهم أبو بكر الصنعاني - ثقة حافظ - مصنف شهير عمي في آخر عمره فتغير وكان يتشيع من التاسعة مات سنة إحدى عشرة ومائتين وله خمس وثمانون روى له (ع) التقريب 213.
3 مصنف عبد الرزاق 5/371.
والذي يظهر أن القصة مشهورة وممن ذكرها: ابن سعد، وابن القيم، وابن حجر
قال ابن سعد: "مشيراً إلى جم غفير من العلماء الذي نقل عنهم شيخه الواقدي، قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة، فألبوا قريشاً، ودعوهم إلى الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم وجامعوهم على قتاله ووعدوهم لذلك موعداً ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسُليماً ففارقوهم على مثل ذلك"1.
وما ذكره ابن سعد يعتبر ضعيفاً لأنه من طريق الواقدي2 وهو متروك.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكان سبب غزوة الخندق أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أُحد وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل فقد خرج أشراف اليهود إلى قريش بمكة يحرضونهم على
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/65.
2 محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني القاضي نزيل بغداد متروك مع سعة علمه من التاسعة مات سنة سبع وثمانين ومائة وله ثمان وستون روى له ابن ماجه. التقريب 212-213.
غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحربه1. وكان القرشيون قد جربوها واكتووا بنارها فصاروا يتهيبونها ويزهدون فيها. فزينها الوفد اليهودي وهون أمرها وقالوا: إنا سنكون معكم حتى نستأصله".
أما الحافظ فقال: "وذكر موسى بن عقبة2 في المغازي قال خرج حيي بن أخطب بعد قتل3 بني النضير إلى مكة يحرض قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان، ويحثهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم نصف ثمر خيبر فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طليحة بن خويلد بمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش فنزلوا بمر الظهران فجاءهم من أجابهم من بني سليم مدداً لهم فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله - تعالى - الأحزاب"4.
____________________
1 زاد المعاد 3/270.
2 موسى بن عقبة أبي عياش بتحتانية ومعجمة الأسدي مولى آل الزبير - ثقة فقيه - إمام من المغازي، من الخامسة لم يصح أن ابن معين لينه مات سنة إحدى وأربعين ومائة، وقيل قبل ذلك روى له (ع) التقريب 352.
3 لم يقتل بنو النضير، ولكنهم أُجلوا وقد صرح القرآن الكريم بذلك كما في سورة الحشر، والذين قتلوا هم بنو قريظة.
4 فتح الباري 7/393.
وما ذكره الحافظ نقلاً عن موسى بن عقبة لا نستطيع الجزم بضعفه أو صحته لعدم اطلاعنا على مغازي موسى بن عقبة.
ويتبين مما أوردناه من الآثار السابقة أن يهود بني النضير الذين أجلوا إلى خبير كانوا هم السبب المباشر في وقوع هذه الغزوة وقد ثبت ذلك بطرق تكون بمجموعها صالحة للاحتجاج بها.
وهكذا نرى اتفاق علماء المغازي والسير، وغيرهم من المفسرين على أن سبب هذه الغزوة المباشر هو حقد اليهود، وأملهم في القضاء على الإسلام والمسلمين ليشفوا الغيظ الذي أحرق قلوبهم نتيجة طردهم (من حوالي المدينة1) رغم أن إجلاءهم كان نتيجة نقضهم للعهود وتلاعبهم بالمواثيق. لذلك قال أبو الحسن الندوي:
وتمت الاتفاقية العسكرية والتي كان قريش وغطفان واليهود من أهم أعضائها واتفقوا على شروط من أهمها:
1- أن تشارك غطفان في جيش الاتحاد بأكبر عدد ممكن.
2- أن يدفع اليهود لقبائل غطفان كل تمر خيبر لسنة كاملة.
____________________
1 تاريخ الخميس 1/480، ولا يفهم من هذا أنهم خارج المدينة بل كانوا فيها.
وأسندت قيادة الجيش لأبي سفيان بن حرب1. وقد شذ صاحب العقد الثمين2 فقال: وكان المشركون عشرة آلاف عليهم الحارث بن عوف النضري3.
__________
1 السيرة النبوية للندوي 198.
2 وهو الإمام محمد بن أحمد الحسني المكي ت 832هـ.
3 لعله يريد الحارث بن عوف المري زعيم بن مرة ولكنه مخالف لما ذكره أهل المغازي.
,
أما بالنسبة لتحديد زمن هذه الغزوة فقد اختلف العلماء في ذلك وانحصرت أقوالهم فيها فيما بين السنة الرابعة والخامسة للهجرة النبوية الشريفة، وقد شذ اليعقوبي1 فقال: إنها كانت في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة وخمسين شهراً2.
وهذا التحديد يبدو أنه خطأ بدليل التفصيل بعده بالأشهر ولأن الخمسة والخمسين شهراً تأتي أقل من خمس سنوات فلينظر.
وسأذكر فيما يلي رأي كل فريق مع أدلته وترجيح ما يظهر بالدليل بعد المناقشة والتحليل حسب الإمكان:
أ- القائلون بأنها كانت سنة أربع:
____________________
1 هو أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر ابن وهب بن واضح العباسي، ويعرف بابن واضح وباليعقوبي واليعقوبي - مؤرخ - من مؤلفاته التاريخ - توفي سنة 284، معجم المؤلفين 1/161.
2 تاريخ اليعقوبي 2/50.
الزهري ثم تابعه موسى بن عقبة صاحب المغازي قال ابن كثير1: "وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع، وكذلك قال الإمام مالك بن أنس فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى2 بن داود عنه"3.
وقد ذكر البخاري رأي موسى بن عقبة في صحيحه فقال: "قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع" هكذا رواه تعليقاً وبه قال4 أثبت ذلك الحافظ حيث قال: "ومال المصنف إلى قول موسى بن عقبة5
____________________
1 هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصروي ثم الدمشقي المعروف بابن كثير - عماد الدين أبو الفداء - محدث مؤرخ مفسر فقيه ولد عام 700 وتوفي 774. انظر معجم المؤلفين 2/283.
2 موسى بن داود هو الضبي، أبو عبد الله الطرسوسي نزيل بغداد، ولي قضاء طرسوس الخلقاني بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف - صدوق فقيه - له أوهام من صغار التاسعة مات سنة (217) روى له (م د س ق) التقريب 350.
3 البداية والنهاية 4/93.
4 صحيح البخاري 5/44.
5 فتح الباري 5/278 و 7/393.
وقد تابع هؤلاء في ذلك ابن قتيبة1 والفسوي2 وابن حزم3 والنووي4 وابن خلدون"5.
____________________
1 المعارف 70، وابن قتيبة هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبو محمد عالم مشارك في أنواع العلوم كاللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه وغريب الحديث والشعر والفقه والأخبار وأيام الناس وغير ذلك. سكن بغداد وحدث بها ولي قضاء الدينورت 276هـ. تاريخ بغداد 10/170، انظر السير 13/296.
2 المعرفة والتاريخ 3/258 تحقيق أكرم العمري والفسوي هو: يعقوب بن سفيان الفارسي أبو سفيان - ثقة حافظ - من الحادية عشرة مات سنة سبع ومائتين، روى له (س ق) التقريب 386.
3 جوامع السيرة 185 وابن حزم هو: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن سفيان بن يزيد الفارسي الأندلسي القرطبي اليزيدي - أبو محمد - فقيه أديب أصولي محدث حافظ متكلم مشارك في التاريخ والأنساب واللغة والشعر ولد بقرطبه وتوفي عام (456) تذكرة الحفاظ 3/1146، السير 18/184.
4 في تهذيب الأسماء واللغاب 1/20، والروضة 10/207، والنووي هو: محي الدين أبو زكريا يحى بن شرف بن مرى الحزامي الحوراني صاحب التصانيف النافعة ولد سنة (631) وتوفي (676هـ) انظر في ذلك تذكرة الحفاظ 4/1470-1474.
5 تاريخ ابن خلدون 2/29، وابن خلدون هو: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد الحضرمي الأشبيلي التونسي ثم القاهري المالكي المعروف بابن خلدون ولي الدين أبو زيد عالم أديب مؤرخ توفي (808) ، انظر الضوء اللامع للسخاوي 4/145، ومعجم المؤلفين 5/188.
كما قال به النسفي1. أمّا خليفة2 بن خياط فلم توجد الغزوة في تاريخه3 ويبدو أنها سقطت منه4.
وذكر ابن العربي5 أن ابن وهب6 وابن القاسم7 قالا بذلك8 ولذلك قال ابن حزم:
____________________
1 مدارك التنزيل وحقائق التأويل 4/156 والنسفي هو: عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي حافظ الدين أبو البركات فقيه أصولي مفسر متكلم توفي في ايزخ قرب أصبهان ت (710هـ) معجم المؤلفين 6/32.
2 خليفة بن خياط بن خليفة العصفري التميمي البصري الملقب - شباب - بفتح المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة صدوق ربما أخطأ وكان اخبارياً علامة من العاشرة مات سنة أربعين ومائتين وقد روى له البخاري. انظر التقريب 94.
3 تاريخ خليفة بن خياط ص 77.
4 قاله محقق الكتاب الدكتور أكرم العمري.
5 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي الأشبيلي المالكي المعروف بابن العربي أبو بكر عالم مشارك في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتاريخ وغير ذلك توفي (543) . تذكرة الحفاظ 4/1294.
6 عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الفقيه ثقة حافظ عابد من التاسعة مات سنة سبع وتسعين ومائة، وله اثنتان وسبعون سنة، روى له (ع) التقريب 193.
7 عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف، أبو عبد الله البصري الفقيه صاحب مالك (ثقة) من كبار العاشرة مات سنة إحدى وتسعين ومائة روى له (خ مد س) التقريب 208.
8 أحكام القرآن 3/151.
"والثابت أنها في الرابعة بلا شك مستدلاً بحديث ابن عمر الآتي. ثم عقب قائلاً فصح أنه لم يكن بينهما - أي بين أحد والخندق - إلا سنة واحدة فقط"1.
والقائلون بأنها كانت سنة أربع جميعهم يستدلون بحديث ابن عمر وهذا سياقه. قال البخاري رحمه الله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم2 حدثنا يحيى بن سعيد3 عن عبيد الله4 قال أخبرني نافع5 عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم
____________________
1 جوامع السيرة 185.
2 هو الدروقي - حافظ فقيه - من العاشرة روى له (ع) ت (252) التقريب 386، وتهذيب التهذيب 11/381.
3 يحى بن سعيد القطان ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار التاسعة روى له (ع) ت (198) التقريب 375.
4 هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني - أبو عثمان ثقة ثبت - وهو أحد الفقهاء السبعة من الخامسة روى له (ع) ت (147) تهذيب التهذيب 7/38.
5 نافع هو أبو عبد الله الفقيه مولى عبد الله بن عمر أصابه ابن عمر في بعض مغازيه ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة روى له (ع) مات سنة (117) أو بعد ذلك، تهذيب التهذيب 10/412.
أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه"1.
الحديث رواه أيضا مسلم2 وأبو داود3 والترمذي4 والنسائي5 وابن ماجه6 وأحمد7 وأبو عوانه8 والبيهقي9.
هذا الحديث مخرج في الصحيحين كما هو مبين وفي غيرهما من كتب السنة وقد أورده القائلون بأن هذه الغزوة كانت سنة أربع دليلاً لهم.
____________________
1 صحيح البخاري 5/89 كتاب المغازي باب غزوة الخندق.
2 صحيح مسلم كتاب الإمارة باب سن البلوغ. حديث رقم (1868)
3 سنن أبي داود 2/124 كتاب الخراج والفي باب متى يفرض للرجل في المقاتلة، 2/453كتاب الحدود باب في الغلام يصيب الحد.
4 سنن الترمذي 2/407 باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة، 3/127 باب ما جاء في حد بلوغ الرجل ومتى يفرض له.
5 سنن النسائي 6/127 كتاب الطلاق باب متى يقع طلاق الصبي.
6 سنن ابن ماجه 2/850 كتاب الحدود باب من لا يجب عليه الحد.
7 مسند أحمد 3/17.
8 مسند أبي عوانة 4/53-54.
9 دلائل النبوة 3/395.
والزهري من القائلين بهذا القول وقد مر أن موسى بن عقبة روى عنه أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع1.
ومع ذلك فقد صرح في موضع آخر بأن الخندق بعد أحد بسنتين2 وأحد كانت في السنة الثالثة3 وهو قول الجمهور.
ب - القائلون بأن هذه الغزوة كانت في شوال سنة خمس:
أما الذين قالوا بأنها كانت سنة خمس فهم كثيرون وهم الجمهور كما قال ابن كثير4. ويتقدمهم أمام أهل المغازي ابن إسحاق وعروة ابن الزبير وقتادة5 والبيهقي6 وغير واحد من العلماء سلفاً وخلفاً7.
____________________
1 البداية والنهاية 4/93، أحكام القرآن 3/1510.
2 البداية والنهاية 4/93، أحكام القرآن 3/1510.
3 وهو قول جل أهل المغازي والسير.
4 البداية والنهاية 4/94.
5 قتادة بن دعامة السدوسي (أبو الخطاب) البصري (ثقة) ثبت يقال ولد أكمه وهو رأس الطبقة الرابعة ت (117) أو (118) روى له (ع) . التقريب 381، وتهذيب التهذيب 8/351.
6 هو أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي البيهقي الخراساني أبو بكر محدث فقيه ولد عام 384هـ، وتوفي عام 458، وعمل كتباً كثيرة لم يسبق إلى تحريرها. تذكرة الحفاظ 3/132.
7 البداية والنهاية 4/93.
وممن قال به أيضا الواقدي وكاتبه ابن سعد1 لكنهما قالا: "إنها كانت في ذي القعدة وتابعهما في ذلك المقريزي"2. حيث قال: "وكان من خبرها أن رسول صلى الله عليه وسلم عسكر يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة سنة خمس"3.
أما ابن هشام4 فقد قال: "بأنها كانت في شوال وفي سنة خمس متابعاً في ذلك ابن إسحاق"5.
____________________
1 محمد بن سعد بن منيع الهاشمي مولاهم البصري نزيل بغداد كاتب الواقدي صدوق فاضل من العاشرة توفي سنة (30) وهو ابن اثنتين وستين، روى له أبو داود فقط. التقريب 298، وانظر مغازي الواقدي 2/440، والطبقات الكبرى 2/65.
2 أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد المحيوي الحسيني ت (845) انظر الضوء اللامع 2/21.
3 الامتاع 1/216.
4 عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري الذهلي السدوسي المعافري البصري (أبو محمد) أخباري نسابة أديب لغوي نحوي قدم مصر وحدث بها وتوفي فيها سنة (263) . انظر سير أعلام النبلاء 10/428.
5 السيرة النبوية 2/214.
وقال به أيضاً البلاذري1 والطبري2 والمسعودي3 وابن عبد البر4 والخطيب5.
____________________
1 أحمد بن يحى بن جابر بن داود البغدادي البلاذري أديب شاعر مؤرخ من أهل بغداد سمع بدمشق وبإنطاكية وهو صاحب التصانيف وسمع من ابن سعد والدولابي قال ابن عساكر بلغني أنه كان أديباً راوية وأنه مدح المأمون وجالس المتوكل وتوفي في أيام المعتمد وشوش في آخر أيامه وكانت وفاته (279) لسان الميزان 1/322، وتذكرة الحفاظ (293) .
2 محمد بن جرير الطبري أحد الأعلام وصاحب التصانيف من أهل آمل طبرستان، أكثر التطواف وسمع محمداً بن عبد الملك بن أبي الشوارب وأبا همام السكوني وغيرهما ت 310هـ، انظر تذكرة الحفاظ 2/710، وقال ذلك في كتابه تاريخ الأمم والملوك 2/43.
3 قاله في التنبيه والإشراف ص 216، والمسعودي هو: علي بن الحسين بن علي المسعودي أبو الحسن أخباري صاحب تصانيف ذكر بعضها ابن حجر في اللسان 4/224، وذكره ابن دحية في كتاب صفين فقال مجهول لا يعرف ونكره لا يتعرف كذل قال ولم يصب. قال الحافظ وكتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً توفي (345) لسان الميزان 4/224-225، ومعجم المؤلفين 7/80.
4 ابن عبد البر قال الذهبي: "هو الإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي ولد سنة (368) " قال أبو الوليد الباجي: "لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر في الحديث، وقال ابن حزم التمهيد لصاحبنا أبي عمر لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً فكيف أحسن منه ت (463) ". تذكرة الحفاظ 3/1128.
5 قال الذهبي هو: "الحافظ الكبير الإمام محدث الشام والعراق أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدى البغدادي صاحب التصانيف ولد سنة (392هـ) كان والده خطيب قرية درزيجان من سواد العراق. سمع وقرأ القرآن على الكتاني فحرص على ولده هذا وأسمعه في الصغر سنة ثلاث وأربع مائة ثم أُلهم طلب هذا الشأن ورحل فيه إلى الأقاليم وبرع وصنف وجمع وسارت بتصانيفه الركبان" قال ابن ماكولا: "كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظاً واتقاناً وضبطاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال ذلك في تاريخه 1/170. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 3/1135-1146.
وممن قال بهذا القول أيضا السهيلي1 وابن الأثير2 والنويري3 حيث حكاه عن ابن إسحاق وممن قال به من المشاهير ابن كثير4 والسمهودي5.
____________________
1 انظر: الروض الأنف 3/258، والسهيلي هو: الحافظ العلامة البارع أبو القاسم أبو زيد أبو الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن أصبع بن حسين بن سعدون ولد الخطيب أبي محمد بن الأمام الخطيب أبي عمر الخثعمي الأندلسي المالقي الضرير صاحب التصانيف المؤنقة. ولد عام 508هـ. وتوفي عام 581هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 4/1348.
2 قال ذلك في الكامل 2/122، وابن الأثير هو: أبو الحسن علي ابن الأثير أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري المحدث اللغوي، صاحب التاريخ ومعرفة الصحابة والأنساب وغير ذلك. ولد عام 555هـ، وتوفي 630هـ. تذكرة الحفاظ 4/1399 قال ذلك في الكامل 2/122.
3 هو: أحمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن عبادة البكري النويري (شهاب الدين) أبو العباس. مؤرخ أديب مشارك في علوم كثيرة من تصانيفه نهاية الأدب. ولد عام 677هـ، توفي عام 733هـ. انظر قوله في كتابه نهاية الأرب 17/166.
4 البداية والنهاية 4/94.
5 هو علي بن عبد الله بن أحمد بن علي بن عيسى بن محمد بن عيسى الحسني نور الدين أبو الحسن. مؤرخ فقيه. ولد بسمهود ونشأ بها وتوفي بالمدينة. من تصانيفه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى. ولد عام 844هـ، توفي عام 911هـ. انظر قوله في وفاء الوفاء 10/112، وانظر ترجمته في الضوء اللامع 5/245.
وممن قال به من المعاصرين محمد محمد أبو شهبه1، وعماد الدين خليل2، ومصطفى السباعي3.
وهكذا يتبين أن الكثرة الكاثرة هم القائلون بأنها كانت سنة خمس. قال الذهبي4: "وهو المقطوع به"، وقال ابن القيم5: "وهو الأصح"، وقال الحافظ6: "وهو المعتمد حكى ذلك كله القسطلاني7. وقد أجابوا عن
____________________
1 السيرة النبوية على ضوء الكتاب والسنة 2/228.
2 دراسة في السيرة 216.
3 السيرة النبوية دروس وعبر 88.
4 الذهبي هو: محمد بن أحمد بن عثمان قايماز. انظر: معجم المؤلفين 8/280.
5 هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حرير الزرعي. نسبة إلى بلدة أزرع ثم الدمشقي. أبو عبد الله شمس الدين. كان رضي الله عنه من أجلة العلماء، وكذلك كان أبوه فقد كان قيماً على الجوزية (مدرسة في دمشق ولذلك عرف بابن القيم الجوزية) . ولد عام 69هـ في شهر صفر، وتوفي عام 751هـ. وله مصنفات قيمة مثل زاد المعاد، وأعلام الموقعين، وغيرهما، شذرات الذهب 6/168، والدبر الطالع 1/143.
6 هو: أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد الكناني العسقلاني المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة. ويعرف بابن حجر، شهاب الدين ابو الفضل، محدث مؤرخ أديب شاعر. ولد عام 773هـ، وتوفي عام 852هـ. زادت تصانيفه على مائة وخمسين مصنفاً منها: فتح الباري، الإصابة في تمييز الصحابة، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، وغير ذلك. انظر: الضوء اللامع 2/36 ترجمة 104.
7 المواهب اللدنية 2/103، والقسطلاني هو: أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن محمد بن حسين بن علي القسطلاني الأصل المصري. شهاب الدين. أبو العباس، محدث مؤرخ فقيه ومقرئ. ولد بمصر عام 851هـ. وتوفي عام 923. من تصانيفه إرشاد الساري علي صحيح البخاري، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، فتح الداني في شرح الأماني، منهاج الابتهاج وغيرها.
حديث عرض ابن عمر المتقدم مؤلين له وقالوا: "يحتمل أنه عرض في أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة، وهذا هو جواب البيهقي"1.
وعقب ابن كثير2 على قول ابن حزم المتقدم، والثابت أنها في الرابعة بلا شك بقوله: "هذا الحديث مخرج في الصحيحين، وليس يدل على ما ادعاه ابن حزم، لأن مناط إجازة الحرب كان عنده صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، فكان لا يجيز من لم يبلغها، ومن بلغها أجازه. فلما كان ابن عمر يوم أحد ممن لم يبلغها لم يجزه. ولما كان قد بلغها يوم الخندق أجازه.
وليس ينفي هذا أن يكون قد زاد عليها بسنة أو سنتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك فكأنه قال: وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا بالغ أو من أبناء الحرب.
____________________
1 دلائل النبوة 3/395.
2 الفصول في سيرة الرسول ص 56، البداية والنهاية 4/94.
وقال البيهقي: "ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس"1.
وقد أورد ابن حجر هذا الجواب عن البيهقي ومفاده:"بأن قول ابن عمر "عرضت يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة" أي دخلت فيها، وأن قوله عرضت يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة، أي تجاوزتها فألغى الكسر في الأولى، وجبره في الثانية، وهو شائع مسموع في كلامهم. وبه يرتفع الإشكال المذكور، وهو أولى من الترجيح"2.
وقد روى الطبراني3 بسنده عن ابن إسحاق أثراً يعتبر شاهداً لأصحاب هذا الرأي حيث قال:
____________________
1 دلائل النبوة 3/395.
2 فتح الباري 5/278، التلخيص 4/89- 90.
3 المعجم الكبير 6/16، والطبراني هو: كما قال الذهبي فيه.
الحافظ الإمام العلامة الحجة (بقية الحفاظ) أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي بمفتوحة وسكون الخاء المعجمة نسبة إلى لخم وهو مالك بن عدي - المغني 67. الشامي الطبراني مسند الدنيا. ولد سنة 260هـ، وتوفي 360هـ. وقال الحافظ: "لا ينكر له التفرد في سعة ما روى. لينه الحافظ أبو بكر بن مردويه لكونه غلط أو نسى فمن ذلك أنه وهم وحدث بالمغازي عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، وإنما أراد عبد الرحيم أخاه فتوهم أن شيخه عبد الرحيم اسمه أحمد واستمر على هذا يروي عنه ويسميه أحمد. وقد مات أحمد قبل دخول الطبراني مصر بعشر سنين أو أكثر وإلى الطبراني المنتهى في كثرة الحديث وعلوه. ومن تصانيفه المعاجم الثلاثة الكبير والأوسط والصغير، الدعاء في مجلد كبير، دلائل النبوة، كتاب الأوائل، وتفسير كبير". تذكرة الحفاظ 3/912، لسان الميزان 3/73، معجم المؤلفين 4/253.
حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي1 ثنا محمد بن محمد بن عبد الله ابن نمير2 ثنا يونس بن بكير3 عن محمد بن إسحاق قال: "لما كانت4
1 محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي الحافظ مطّين بفتح المثناة التحتية. قال صاحب المغني هو لقب أبي جعفر محمد بن عبد الله قال وبكسرها (المثناة) لقب عبد الله بن محمد. قال الحافظ: "هو محدث الكوفة، وقد وثقه الناس". قال الذهبي سئل عنه الدارقطني فقال: "ثقة جبل". قال: "وبكل حال فمطين ثقة مطلقاً. ولد 202هـ، وتوفي عام 297هـ". انظر: لسان الميزان 5/233- 234، تذكرة الحفاظ 2/662، المغني في أسماء الرجال 72.
2 محمد بن عبد الله بن نمير الهمذاني بسكون الميم الكوفي أبو عبد الرحمن، ثقة حافظ، فاضل من العاشرة. مات سنة أربع وثلاثين أي 234هـ. وروى له (ع) . التقريب 306.
3 يونس بن بكير بن واصل الشيباني أبو بكر الحمال الكوفي، صدوق يخطئ من التاسعة. مات سنة 199. روى له (خت م ت ق) . قال الذهبي هو حسن الحديث. التقريب 390، ميزان الاعتدال 4/478.
____________________
4 كذا في المطبوعة ولما هنا زائدة.
الخندق في شوال سنة خمس وفيها مات سعد بن معاذ -رضي الله عنه-. وهذا الأثر يعتبر على ضوء هذا السند حسناً إلى ابن إسحاق منقطعاً بعده والله أعلم.
وكذا أورد هذا الأثر البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ1 حدثنا أبو العباس2 محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار3 العطاردي حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق به 4.
____________________
1 أبو عبد الله الحافظ الكبير إمام المحدثين محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع. صاحب التصانيف قال الحافظ: "إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك فما أدري هل خفيت عليه فما هو ممن يجهل ذلك، وإن علم فهو خيانة عظيمة ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين. مات 405هـ". لسان الميزان 5/232، تذكرة الحفاظ 3/1039، والمترجم له هو: الحاكم.
2 هو الإمام المفيد الثقة محدث المشرق (أبو العباس) محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي مولاهم المعقلي النيسابوري، وكان يكره أن يقال له الأصم. قال الحاكم: وإنما ظهر به الصمم بعد مجيئه من الرحلة ت 284هـ. تذكرة الحفاظ 3/860.
3 أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زراره التميمي العطاردي أبو عمر الكوفي. قال مطين: "كان يكذب"، وقال أبو أحمد "الحاكم ليس بالقوى عندهم تركه ابن عقدة"، وقال الحافظ: "ضعيف وسماعه للسيرة صحيح من العاشرة ولم يثبت أن أبا داود أخرج له. مات سنة 272هـ". تهذيب التهذيب 1/51
4 دلائل النبوة 3/395.
كما أورده الهيثمي1 عن ابن إسحاق، وقال رواه الطبراني ورجاله ثقات.
وقال الحافظ: "ويؤيد قول ابن إسحاق أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ، وقال لقومه إنما يصلح الغزو في سنة الخصب فرجعوا بعد أن وصلوا عسفان أو دونها".
ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي.
وعقب2 على ذلك بقوله: "وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلقون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أحد كانت في السنة الثانية، وأن الخندق كانت في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، ثم قال: ولكنه بناء واهٍ مخالف
____________________
1 مجمع الزوائد 6/142. قلت: "حكم الهيثمي على هذا السند جيد لأن يونس بن بكير أكثرهم على توثيقه ومن هؤلاء ابن معين خلافاً لما توصل إليه الحافظان الذهبي وابن حجر فيما تقدم".
2 أي الحافظ ابن حجر.
لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، والخندق في الخامسة وهو المعتمد"1.
أما ابن العربي فقد قال: "إن الخندق بعد مضي أربع سنين وعشرة أشهر وخمسة أيام من الهجرة"2، وهذا موافق لأصحاب الرأي القائل بأنها كانت في الخامسة، وموافق لابن سعد حيث قال بأنها كانت في الخامسة، وفي شهر ذي القعدة، وذلك بناءً على التاريخ من بداية المحرم. وأخيراً نعرج على كلام البيهقي لنراه يقول: قلت: "لا اختلاف بينهم في الحقيقة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل يوم بدر لسنة ونصف من مقدمه المدينة في شهر رمضان ثم قاتل يوم أحد من السنة القابلة لسنتين ونصف من مقدمه المدينة في شوال، ثم قاتل يوم الخندق بعد أحد بسنتين على رأس أربع سنين ونصف من مقدمه المدينة
____________________
1 فتح الباري 7/303.
2 عارضة الأحوذي 7/173.
فمن قال سنة أربع أراد أربع سنين، وقبل بلوغ الخمس، ومن قال سنة خمس أراد بعد الدخول في السنة الخامسة، وقبل انقضائها"1 والله أعلم.
هذا نص كلام البيهقي وهو توجيه حسن أخذ به كثير من العلماء لفك الإشكال، أما ابن سيد الناس2 فقد نقل كلا القولين، ولم يرجح أحدهما على الآخر3.
الخلاصة:
استعرضنا أدلة الفريقين، وتبين من ذلك أن الحق مع القائلين بوقوع هذه الغزوة في سنة خمس لما يأتي:
1- احتمال حديث ابن عمر لتأويلهم.
2- اطباق أهل المغازي والسير والمؤرخين والعلماء من بعدهم على هذا الرأي.
____________________
1 دلائل النبوة 3/395.
2 هو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى اليعمري الأندلسي الأشبيلي المصري المعروف بابن سيد الناس، فتح الدين أبو الفتح، محدث حافظ مؤرخ فقيه ناظم ناشد نحوي أديب، وهو من شيوخ الذهبي. ولد عام 671هـ، وتوفي عام 734هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 4/1503.
3 عيون الأثر 2/55.
3- ما ذكر من مواعدة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد -بدر الموعد- يجعل ذلك واضحاً ومواعدة قريش لملاقاته صلى الله عليه وسلم ساقها ابن حجر كاملة1، وقد بين -رحمه الله- في المقدمة2 أن ما يورده في كتابه منتزعاً من أمهات المسانيد، والجوامع والمستخرجات، والأجزاء، والفوائد بشرط الصحة أو الحسن.
__________
1 فتح الباري 7/393.
2 هدي الساري 4.
,
,
,
...
المبحث الأول: الحقد اليهودي على البشرية منذ القدم.
إن الحقد الذي تمكن في قلوب اليهود على البشرية عامة وعلى المؤمنين خاصة قديم يرافق هذا الحقد عناد وصلف وكبرياء. وذلك لأنهم يعتقدون أنهم أهل السيادة في الأرض حيث قالوا إنهم أبناء الله وأحباؤه وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 1 الآية.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قالوا: أي: نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا. ونقلوا عن كتابهم ما يوافق هدفهم وحرفوه2. ونجد أكبر شاهد على حقدهم وكراهيتهم للمؤمنين قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} " 3 الآية.
____________________
1 سورة المائدة الآية رقم 18.
2 تفسير ابن كثير 2/34.
3 سورة المائدة الآية 82.
أما كراهتهم للعرب خاصة فهو واضح بالقرآن والسنة ذلك أن القرآن حكى لنا أنهم يستبيحون أكل أموال العرب وليس عليهم سبيل في ذلك بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} 1 الآية. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية أي: "إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب فإن الله قد أحلها لنا. أقول: ولكن الله سبحانه وتعالى كفانا شرهم والمجادلة معهم عند ادعائهم هذا وذلك بتمام الآية السابقة حيث قال {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون َ} " 2.
قال ابن كثير: "أي: وقد اختلقوا هذه المقالة وائتفكوها بهذه الضلالة. فإن الله قد حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بهت3. ومع هذا فإننا إذا أردنا أن نتعرض لحقدهم وغرورهم الذي وضحه القرآن لطال بنا البحث ولكن أردنا التنويه بخبثهم ودسهم وعدم انصياعهم مع أنه واضح للعيان".
____________________
1 سورة آل عمران الآية 75.
2 سورة آل عمران الآية 75.
3 تفسير ابن كثير 1/374.
فهذه أم المؤمنين صفية1 بنت حيي بن أخطب تقول عن أبيها وعمها عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يحمل النور معه. وكان أهل الكتاب يعرفون علامات مبعثه وصفاته ولكن العمى عمى القلب فهذا حيي بن أخطب وهو القطب الدوار والخصم الألد الذي حرك أعداء هذا الدين لهذه الغزوة وأثار كوامن2 قريش وألبهم ضد المسلمين وضد حامل هذه الرسالة الصافية صلوات الله وسلام عليه. تحدث أم المؤمنين فتقول فيما رواه ابن إسحاق:
قال حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال حُدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: " كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه".
____________________
1 صفية بيت حيى بن أخطب أم المؤمنين سبيت في غزوة خيبر واصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وأعتقها وتزوجها وجعل عتقها مهرها. توفيت رضي الله عنها سنة 52هـ وذلك في خلافة معاوية رضي الله عنه، وأوردها الذهبي فيمن مات سنة خمسين. الطبقات الكبرى 8/120، ودول الإسلام 1/37، سمط النجوم العوالي 3/159.
2 كوامن: هو كل ما اختفى من الأحاسيس والمشاعر والأحقاد. مختار الصحاح 579.
قالت: "فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء1 في بني عمرو بن عوف قالت غدا2 عليه أبي حيي بن أخطب3 وعمي أبو ياسر4 مغلسين5
____________________
1 قباء: بالضم وأصله اسم بئر هناك عرفت القرية بها وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وأول ما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند مقدمه من مكة فيه وأقام به الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وركب يوم الجمعة يريد المدينة فجمع في مسجد بني سالم بن عوف فكانت أول جمعة جمعت في الإسلام. معجم البلدان 4/301.
2 غدا: أي ذهب أول النهار نقيض الرواح وقد غدا يغدوا والغدوة بالضم ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس والجمع غدوات. النهاية في غريب الحديث 3/46، مختار الصحاح 469.
3 حيي بن أخطب بن سعية، وقيل سعنة بن عامر بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ينحوم من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام وهو من سبط لاوي بن يعقوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم. الطبقات الكبرى 8/120، أسد الغابة 5/490، الإصابة 4/346، كلهم ذكر ترجمته عند ذكر صفية أم المؤمنين - رضي الله عنها وأرضاها -.
4 أبو ياسر بن أخطب لم يرد ذكره منفرداً بل مقترناً بأخيه وبكونهما عدوين لدودين للنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: السيرة النبوية 1/514، 519، 546، 547، 548، 560.
5 مغلسين: الغَلَس بفتحتين ظلمة آخر الليل والتغليس السير بغلس. مختار الصحاح 478.
قالت فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس". قالت: "فأتيا كالين1 كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت2 إليهما كما كنت أصنع فوالله ما ألتفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب أهو هو قال: نعم والله قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم قال: فما في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت"3.
والحديث بهذا الإسناد - منقطع - لأن عبد الله بن أبي بكر بن حزم روى عن مجهول - الواسطة بينه وبين صفية -.
والحديث وإن كان منقطعاً فالآيات والواقع الملموس من هذه الطائفة تؤيده وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث في أكثر من آية منها علي سبيل المثال قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا
____________________
1 كالين: كلّ الرجل والبعير من المشي يكل كلالاً وكلالة أي أعيا مختار الصحاح 576.
2 هششت: الهشاشة بالفتح الارتياح والخفة للمعروف. المصدر السابق 695.
3 السيرة النبوية 1/518- 519، 2/241، الاكتفاء 1/473، وفاء الوفاء 269.
يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1.
قال ابن كثير: "هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا - بتشديد الواو التي بعد العين - عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون2 الطفيف والخط الدنيوي السخيف فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم"3.
وقال الطبري عند تفسير هذه الآية: "واذكر أيضا من هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم يامحمد إذ أخذ الله ميثاقهم ليبين للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم وهو التوراة والإنجيل وأنك لله رسول مرسل بالحق ولا يكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم. يقول: فتركوا أمر الله وضيعوه
____________________
1 سورة آل عمران الآيتان 187- 188.
2 دون: بالضم نقيض فوق وهو الخسيس. القاموس المحيط 4/223- 224.
3 تفسير ابن كثير 1/436.
ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك فكتموا أمرك وكذبوا بك واشتروا به ثمناً قليلاً".
يقول: "وابتاعوا بكتابهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك عوضاً منه خسيساً قليلاً من عوض الدنيا ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك فقال: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} "1.
ثم أورد الطبري - رحمه الله - حديثاً يؤيد ما سبق. حيث قال: حدثنا بشر2 قال حدثنا يزيد3 قال حدثنا سعيد4 عن قتادة5 ذكر لنا أن أعداء الله اليهود يهود خيبر6 أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فزعموا أنهم راضون
____________________
1 جامع البيان 4/202.
2 هو: بشر بن معاذ العقدي بفتح المهملة والقاف أبو سهل البصري الضرير، صدوق من العاشرة مات سنة بضع وأربعين ومائتين. روى له (ت س ق) . تهذيب التهذيب 1/458.
3 يزيد بن زريع بتقديم الزامي مصغراً - البصري - أبو معاوية (ثقة ثبت) من الثامنة مات اثنتين وثمانين ومائة. روى له (ع) . التقريب 382.
4 سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري (ثقة حافظ) . له تصانيف لكنه كثير التدليس واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة من السادسة مات سنة 157، وقيل 156. روى له (ع) . التقريب 124.
5 قتادة بن دعامة ثقة. وقد تقدم ص 67.
6 خيبر الموضع المذكور في غزاة النبي صلى الله عليه وسلم وهي ناحية على ثمانية برد شمال المدينة يطلق هذا الاسم على الولاية وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون وبها نخل ومزارع. انظر: معجم البلدان 2/409، وهي تبعد عن المدينة شمالاً بـ 170 كيلو متر.
بالذي جاء به وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم وأرادوا أن يحمدهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 الآية.
والحديث بهذا السند إلى قتادة حسن ولم يسم قتادة من ذكر له ذلك. ومن الجدير بالإشارة أن اليهود يحقدون أشد الحقد على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعرفوه حتى أنهم عندما ما سمعوا أوصافه قال بعضهم لبعض: اقتلوه ويشهد لذلك ما رواه ابن سعد من سند منقطع من أعلاه حيث قال: أخبرنا عمرو بن عاصم2 الكلابي أخبرنا همام3 بن يحي عن إسحاق4 بن عبد الله أن أم5 النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعته إلى
____________________
1 سورة آل عمران الآيتان 187- 188. وانظر: تفسير الطبري 4/208.
2 عمرو بن عاصم بن عبيد الله الكلابي القيسي أبو عثمان البصري (صدوق) في حفظه شيء من صغار التاسعة ت 213. روى له (ع) . التقريب 260.
3 همام بن يحيى بن دينار العوذي بفتح المهملة وسكون الواو وكسر المعجمة أبو عبد الله أو أبو بكر البصري - ثقة - ربما وهم من السابعة مات سنة 164هـ. روى له (ع) . التقريب 365.
4 إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري المدني أبو يحيى (ثقة حجة) من الرابعة ت (132) (134) وقيل بعدها. روى له (ع) . التقريب 29.
5 أم النبي صلى الله عليه وسلم هي:
آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة وقد توفيت بالابواء وهي كما قال ياقوت في معجم البلدان 1/79. قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً قال أنها سميت بالابواء لتبوء السيول بها وقد ماتت بها آمنة وهي راجعة من المدينة وقد ذهبت لزيارة أخواله عليه الصلاة والسلام. الطبقات الكبرى 1/59، السيرة النبوية 1/196، الروض الأنف 1/194.
السعدية1 التي أرضعته قالت لها احفظي ابني وأخبرتها بما رأت فمر بها اليهود فقالت إلا تحدثوني عن ابني هذا؟ فإني حملته كذا ووضعته كذا ورأيت كذا وصفت أمه قالت فقال بعضهم لبعض: "اقتلوه فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا هذا أبوه وأنا أمه فقالوا: لو كان يتيماً لقتلناه"2 أ. هـ وليس ذلك بمستبعد عن قوم وصفهم الله في كتابه بأنهم يقتلون أنبياءهم.
مما سبق من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة يتضح بعض الأدلة التي جاءت مبينة لما يعرف به اليهود على مدى الأزمان من حقد دفين وعداوة ظاهرة للأمة الإسلامية ونبيها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ذلك الحقد الذي أعمى قلوبهم وأحرقها وشتت شملهم في الدنيا حيث نفاهم صلى الله عليه وسلم من المدينة وذلك بقوة الله التي تسانده حيث أخبر تعالى
____________________
1 هي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم وهي من هوازن كما في الإصابة في تمييز الصحابة 4/284. قال ابن القيم في الزاد 1/83 واختلف في إسلام أبويه من الرضاعة.
2 الطبقات الكبرى 1/113، 120، 153، 155، 159، السيرة النبوية 1/546 وما بعدها.
عن ذلك فقال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1.
ويجدر بنا ونحن بصدد الحديث عن حقدهم ودسائسهم أن نبين طوائف اليهود الذين تمركزوا في المدينة منذ زمن طويل وهذه الطوائف هي: بنو قينقاع وبنو النضير، وبنو قريظة وكل طائفة من هذه الطوائف كان لها موقف مع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكانت كلها مواقف تنضح بالحقد والكراهية.
وكان من موقف بني قينقاع كما قال الحافظ2 ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر جمع يهود بني قينقاع في سوقهم فقال: يايهود أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً يوم بدر.
____________________
1 سورة الحشر الآية 2.
2 فتح الباري 7/332 بتصرف.
فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال ولو قاتلناك لتعلمن أنا نحن الناس1. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ … إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الْأَبْصَارِ} الآيتان2. وهكذا يظهر أن أول من نقض العهد من اليهود هم بنو قينقاع3.
قال ابن هشام: "وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور4 بن مخرمة عن أبي عون5 قال كان من أمر بني فينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب6 لها فباعته بسوق بني قنيقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت
____________________
1 تفسير ابن كثير 1/350، السيرة النبوية 2/47.
2 سورة آل عمران الآيتان 12، 13.
3 الطبقات الكبرى 2/29، فتح الباري 7/330.
4 عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أبو محمد المدني المخرمي بسكون المعجمة وفتح الراء الخفيفة - ليس به باس - ت 170. روى له البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة. تهذيب التهذيب 5/171.
5 أبو عون هو: محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد الثقفي الكوفي الأعور - ثقة - من الرابعة ت 116. روى له (خ م د ت س) . تهذيب التهذيب 9/322.
6 الجلب: بفتحتين فعل بمعنى مفعول وهو ما يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد وذلك من التجارة. المصباح المنير 127.
انكشفت سوءتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً وشدت اليهود على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع"1 وأثر ابن هشام فيه انقطاع من أسفله ومن أعلاه.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: "فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه" وكان ذلك في شوال بعد وقعة بدر وأراد قتلهم فاستوهبهم منه كبير المنافقين2.
وكانوا حلفاءه فوهبهم له وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات3. قال ابن حزم: "وهم قوم عبد الله بن سلام4 - مخفف - وكانوا في طرف المدينة5 وكانوا سبعمائة مقاتل"6.
____________________
1 السيرة النبوية 2/48.
2 هو: عبد الله بن أبي بن سلول ونفاقه مشهور. انظر: البداية والنهاية 4/4.
3 أذرعات بالفتح ثم السكون وكسر الراء وعين مهملة وألف وتاء بلد في إطراف الشام تجاور أرض البلقاء. مراصد الإطلاع 1/47.
4 عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري كان حليفا لهم من بني قينقاع وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام وكان اسمه في الجاهلية الحصين فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم عبد الله. أسد الغابة 3/176.
5 انظر رسالة - طوائف ليهود الثلاث في المدينة- لأكرم حسين السندي.
6 جوامع السيرة 154.
ثم نقض العهد بعد ذلك بنو النضير وكان رئيسهم حيي بن أخطب والمشهور في كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهض بنفسه إلى بني النضير مستعيناً بهم في دية القتيلين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري1 الذي نجا من حادثة بئر معونة.
فلما كلمهم صلى الله عليه وسلم قالوا: "نعم فقعد رسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي ونفر من أصحابه إلى جدار من جدرهم" فاجتمع بنو النضير وقالوا: "من رجل يصعد على ظهر البيت فيلقي صخرة على محمد فيقتله فيريحنا منه. فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأوحى الله تعالى بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام ولم يشعر بذلك أحد من أصحابه ممن كانوا معه فلما استلبثه أصحابه رضي الله عنهم قاموا فرجعوا إلى المدينة واتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم بما أوحى الله تعالى إليه بما أرادته اليهود وأمر أصحابه بالتهيؤ لحربهم"2.
____________________
1 هو: عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله بن إياس بن عبيد بن ناشرة بن كعب بن جدي بن ضمرة يكنى أبا أمية. أسلم قديماً وكان أول مشاهده بئر معونة وكان صاحب نجدة. أسد الغابة 4/86، الاستيعاب 3/248.
2 جوامع السيرة 181، السيرة النبوية 2/190.
لكن ابن حجر أورد غير هذا حيث قال: وروى ابن مردويه1 قصة بني النضير بإسناد صحيح إلى معمر2 عن الزهري أخبرني عبد الله3 بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أبي وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أن قال: فلما كانت غزوة بدر كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود إنكم أهل الحلقة والحصون يتهددونهم4 فأجمع بنو النضير على الغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك5 ويلقاك ثلاثة من علمائنا فإن آمنوا بك اتبعناك
____________________
1 هو أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك بن موسى بن جعفر الاصبهاني أبو بكر (محدث) حافظ مفسر مؤرخ ت لست بقين من رمضان عام 410هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 17/308.
2 هو معمر بن راشد الازدي مولاهم أبو عروة البصري نزيل اليمن (ثقة ثبت) فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً وكذا فيما حدث بالبصرة من كبار السابعة مات سنة 154 وهو ابن ثمان وخمسين. روى له (ع) . التقريب 344.
3 عبد الله بن كعب وليس بن عبد الرحمن بن مالك الأنصاري المدني ثقة يقال له رؤية. مات سنة سبع أو ثمان وتسعين 98هـ. روى له (خ م د س ق) . تهذيب التهذيب 5/360.
4 هكذا في الأصل والمناسب يغرونهم.
5 الغدر ضد الوفاء غدره وبه كنصر وضرب وسمع. القاموس 2/103.
ففعل فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم قال ابن حجر: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي فالله أعلم"1.
أما بنو قريظة فكان سبب محاصرتهم وقتلهم ما وقع منهم من نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومما لأتهم2 لقريش وغطفان ومطاوعتهم لعدو الله وعدو رسوله حيي بن أخطب حتى أنه لم يزل بسيدهم كعب بن أسد يفتله في الذروة والغارب3 حتى نقض عهده وأخلف وعده4. وكان مصير هذه الطائفة أن نزلت على حكم الصحابي الجليل سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه ومواليه فحكم فيهم أن يقتل رجالهم ويسبى نساؤهم وذراريهم وتقسم أموالهم5 فقال صلى الله عليه وسلم: "قضيت بحكم الله"6.
____________________
1 فتح الباري 7/331.
2 مالأه بالمد ساعده على الأمر وشايعه. القاموس المحيط 1/30.
3 أي يدور من وراء خديعته. القاموس المحيط 4/29.
4 السيرة النبوية 2/240، سمط النجوم العوالي 2/115، زاد المعاد 2/130.
5 السيرة النبوية 2/240، جوامع السيرة 195..
6 وذلك من حديث صحيح رواه أبو سعيد الخدري. انظر: صحيح البخاري 5/93 (باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة) .
أما يهود خيبر فقد نقضوا العهد وخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع وحاصرهم حتى فتحها وغنم ما فيها1.
بعد أن رأينا طباع اليهود وأن ديدنهم الحقد والعداوة للإسلام والمسلمين مهما كلفهم ذلك وأنهم لا زالوا ولن يزالوا يكيدون للمسلمين ويقتلونهم متى سنحت الفرصة لهم فهم مهما اضطهدوا فعندما يفيقون يكون أول عمل لهم هو ضد المسلمين فقط.
ولا أدل على ذلك أن يهود أسبانيا عندما طردهم فرديناد ملك أسبانيا أنقذ السلطان بيازيد الثاني يهود أسبانيا من إبادة محققة وقدمت لهم الحكومة العثمانية جميع الحقوق وأصبحوا في حالة مرضية للغاية فما عليهم إلا أن يدفعوا الجزية ويعيشوا في أمن واطمئنان.
على الرغم من كل ما قدمته الحكومة العثمانية وولاتها فقد توجه اليهودي دافيد روبيني عام 505هـ إلى البابا كليمنت السابع وعرض عليه مشروع محالفة عسكرية مسيحية يهودية ضد المسلمين تقضي بما يلي:
(1) إنهاء العداء القائم بين المسيحيين واليهود على حساب المسلمين.
____________________
1 البداية والنهاية 4/181، فتح الباري 7/464، جوامع السيرة 211.
(2) تعاون جيوش أوروبا مع جموع الشعب اليهودي الذين يقيمون داخل الدولة العثمانية للانقضاض عليها من الداخل وغزوها من الخارج واحتلال أرضيها.
(3) تتولى الدولة المسيحية تزويد اليهود الذين يقيمون داخل الدولة الإسلامية بالأسلحة التي تساعدهم في الانقضاض على المسلمين1.
هذه هي أخلاق اليهود من قديم الزمان ولازالت هي أخلاقهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وأخيراً:
قال الأستاذ محمد عزة دروزة: "ولليهود في العهد المدني شأن كبير متعدد النواحي لأنهم أول من اصطدم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولقد شغلوا في القرآن المدني حيزاً واسعاً منذ بدء تنزيله" ثم قال: "ولعل من الدلائل على أنهم أول من اصطدم مع النبي ما جاء في الآيات الأولى من البقرة التي هي أول السور المدنية في ترتيب النزول فقد جاء في أولها: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} " 2.
____________________
1 السياسة اليهودية 195- 196.
2 سورة البقرة الآية 14.
فقد قال جمهور المفسرين: "إن شياطينهم هم اليهود ويدل هذا بوضوح على أن اليهود هم الذين أغروا المنافقين بالنفاق وشجعوهم في مواقف الخداع"1.
__________
1 سيرة الرسول 2/121.
,
لما نفدت حيل اليهود وأصبح مكرهم مكشوفاً وعجزهم واضحاً لجأوا إلى كفار قريش -ليدللوا بذلك على جبنهم وذلهم- لجأوا محرضين كفار قريش ليشنوا حرباً عامة على المسلمين في المدينة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1. وقد أعطوا العهود والمواثيق لكفار قريش أنهم سيكونون معهم محاولين بذلك تغطية الذلة والجبن الذي هو من أخلاقهم دائماً وأبداً.
تكون الوفد من بني النضير ومن بني وائل، وحيكت المؤامرة في خيبر وانطلق بعدها الوفد يضم: سلام بن أبي الحقيق النضري - أبا رافع - وحيي بن أخطب النضري وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري.
ومن بني وائل هوذة بن قيس الوائلي، وأبو عامر الوائلي، ووحوح بن عامر الوائلي كل هؤلاء توجهوا إلى مكة يرأسهم حيي بن أخطب الذي أعمى قلبه الحقد والحسد، وكان أهل مكة ينتظرون بفارغ الصبر من يشد من عزمهم ويساعدهم على حرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
____________________
1 سورة الأنفال الآية 30.
سار الوفد حتى وصل مكة فسألهم أهلها: من أهدى أنحن أم محمد؟ وبينوا لهم صفة الطرفين قريش، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكانت صفة محمد التي عيب بها هي: أنه كان يعيب آلهتهم وينفرهم من عبادتها، ويدعوهم إلى عبادة الواحد القهار. فكان رد أولئك اليهود في صالح الكفار ولكن كان الفشل حليفهم حيث رد عليهم القرآن وذلك بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.
ثم ما لبثوا أن فاتحوهم في الموضوع الذي جاءوا من أجله فسر كفار قريش بذلك أكثر وأكثر ونشطوا له فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إنهم أعطوهم تمر خيبر سنة كاملة مقابل ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم ضده. وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك فاجتمعوا فيه وأجابوهم.
وقد تقدم ذكر ذلك في حديث ابن إسحاق2 المتقدم. أما ابن سعد فقال: مشيراً إلى جم غفير من العلماء الذين نقل عنهم الواقدي قالوا: "لما
____________________
1 سورة النساء الآية 51.
2 السيرة النبوية 2/214.
أجلى رسول صلى الله عليه وسلم، بني النضير ساروا إلى خيبر فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة فألبوا قريشاً ودعوهم إلى الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاهدوهم وجامعوهم على قتاله ووعدوهم لذلك موعداً. ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسليماً ففارقوهم على مثل ذلك"1. أما الحافظ فقد نقل ذلك من مغازي موسى بن عقبة وقال: "خرج حيي بن أخطب بعد قتل2 بني النضير إلى مكة يحرض قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان ويحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنهم نصف تمر خيبر فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك"3 … الخ.
أما ابن جرير4 فقد ساق القصة بسنده إلى ابن إسحاق وفيها بين مدللاً بذلك على ذهاب أولئك اليهود إلى كفار قريش وإلى غطفان وتحريضهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقد أورد الخبر نفسه في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/65- 66.
2 قد بينت أنه لم يحصل قتل بل جرت مصالحة مع بني النضير وتم إجلاؤهم.
3 فتح الباري 7/393.
4 جامع البيان 20/129.
كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1. عن ابن عباس رضي الله عنهما2. وقد أورده ابن هشام3 عن يزيد بن رومان. وكلها آثار مقطوعة لكنها تتقوي بما جاء في ذلك من شواهد والقرآن يؤيد ذلك بوضوح.
إضافة إلى ذلك فقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} 4. قال: يعني غزوة الأحزاب، وبني قريظة وكان سببها:-
أن نفراً من اليهود منهم.
كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم5، وحيي بن أخطب النضريون، وهوذة بن قيس، وأبو عامر من بني وائل، وكلهم يهود6 هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا
____________________
1 سورة النساء الآية 51.
2 جامع البيان 5/135.
3 السيرة النبوية 2/214.
4 سورة الأحزاب الآية 8.
5 كثير من أهل المغازي لم يذكروا ابن مشكم هذا.
6 الجامع لأحكام القرآن 14/128.
وخرجوا في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك فأجابهم أهل مكة إلى ذلك ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم1.
أما صاحب السيرة الحلبية فقال:" وسببها لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من كبرائهم منهم: سيدهم حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، وعظيمهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبو عامر الفاسق إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرضونهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقالوا: "إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله أي ونكون معكم على عداوته فقال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد"2.
____________________
1 تقدم الحديث مطولاً في سبب الغزوة.
2 السيرة الحلبية 2/628.
وهكذا نرى أن أصحاب السير قد أطبقوا على ذكر هذا السبب وعلى ذكر هذا الوفد إلا أن بعضهم يذكر اسماً لم يذكره الآخر وبعضهم قد يذكر الكنية ولا يذكر الاسم، وقد يحصل في ذلك لبس، وتفادياً لذلك اللبس جئت بأقوال أهل السير والمغازي ليتبين الأمر ويتضح المراد ويبدو من استعراض كلام الحلبي أنه ذكر رئيس زعماء الوفد وفرق بين زعيمهم وسيدهم وعظيمهم وفي دلائل النبوة للبيهقي طرف من هذا1.
مما سبق يظهر بوضوح أن هذا الوفد قد تكون في خيبر فعلاً وكان اليهود هم المتزعمين لذلك الموقف المخزي، وهو موقف لا يستغرب منهم فتاريخهم مليء بالكيد والدسائس لغيرهم عموماً ولأهل الإسلام خصوصاً.
إلا أن الغريب2 وجود بني وائل في هذا الوفد، ولعل سبب تمالؤهم مع اليهود يرجع إلى أن اليهود لما جاءوا إلى خيبر، وكان بنو وائل يسكنونها قبلهم وجاء اليهود ومعهم الأموال وأخذوا في تنميتها وسيطروا بواسطة تلك الأموال على أولئك الضعفاء فأغروهم بذلك وأخرجوهم معهم ولعلهم ضغطوا عليهم بذلك.
__________
1 دلائل النبوة 3/428.
2 ذلك لأن القرطبي قال في الجامع لأحكام القرآن 14/128. قال بعد أن ذكر الوفد (وكلهم يهود) فلعلهم كانوا قبل ظهور دعوة الإسلام معتنقين دين اليهود فصاروا منهم ولم أجد من ذكرهم في اليهود غيره والله أعلم.
,
إن القبائل التي قام اليهود بزيارتها وإغرائها على قتال المسلمين كانت من أشهر قبائل العرب وأقواها يتمثل ذلك في قريش وغطفان. أما غير هاتين القبيلتين فكان تابعاً لهما. لذلك قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش1 حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم2 ومن تبعهم من
____________________
1 قريش: قبيلة عظيمة اختلف في أصل تسميتها ونسبتها فقالوا: قريش من القرش وهو الكسب والجمع، وقالوا: التقريش التفتيش فكان يقرش أي: فهر بن مالك عن خلة كل ذي خلة فيسدها بفضله فمن كان محتاجاً أغناه ومن كان عارياً كساه. وقيل: سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم إلى غير ذلك. القاموس المحيط 2/283، معجم قبائل العرب 3/947.
2 الأحابيش: بطن اختلف فيه فقال ابن قتيبة هم بنو المصطلق والحياء بن سعد بن عمرو وبنو الهون بن خزيمة. اجتمعوا بذنب حبشي - وحبشي بالضم جبل بأسفل مكة - فتحالفوا بالله أنا ليد على غيرنا ما سجاليل وأوضح نهار وما أرسى حبشي مكانه. وقال حماد الراوية إنما سموا بذلك لاجتماعهم والتحابش هو التجمع في كلام العرب. وقال الجوهري: "بطن من قريش ". وقال أبو الفداء: "هم من بطون كنانة بن خزيمة ثم قال وليسوا من الحبشة كما يتوهم بعضهم". القاموس المحيط 2/267، تاج العروس والمعارف 269، معجم قبائل العرب 1/5.
بني كنانة1، وأهل تهامة2، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد3.. الخ.
وقد أورد الطبري خبراً من طريق ابن إسحاق باللفظ نفسه 4 إلا أنه مرسل ثم أورد خبراً آخر وفيه قال:
حدثني محمد بن عمرو5 قال حدثنا أبو عاصم6 قال حدثنا عيسى7
____________________
1 كنانة بن خزيمة قبيلة عظيمة من العدنانية وتنقسم إلى عدة بطون منها قريش بل أن ابن قتيبة قال: "أن النضر بن كنانة هو أبو قريش". المعارف 31، معجم قبائل العرب 3/996.
2 ينسبون إلى تهامة وهي الساحل قال ابن قتيبة وإذا تصوبت من ثنايا العرج واستقبلك الأراك والمرخ فقد اتهمت والتهمان فرع من قحطان. المصدر السابق 1/134.
3 السيرة النبوية 2/219- 220.
4 تاريخ الأمم والملوك 2/43.
5 محمد بن عمرو الباهلي البصري أبو بكر قدم بغداد وحدث بها ت 249هـ في شهر المحرم وصف بأنه ثقة. انظر: تاريخ بغداد 3/127.
6 أبو عاصم النبيل هو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم بن الضحاك الشيباني البصري - ثقة ثبت - روى له (ع) ت سنة اثنتي عشرة ومائتين أو بعدها. التقريب 155.
7 عيسى بن ميمون المعروف بابن داية الجرشي بضم الجيم وفتح الراء المعجمة ثم المكي أبو موسى - ثقة - من السابعة. روى له أبو داود في الناسخ والمنسوخ. التقريب 272.
وحدثني الحارث1 قال حدثنا الحسن2 قال حدثنا ورقاء3 جميعاً4 عن ابن أبي نجيح5 عن مجاهد6 في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال عيينة بن بدر في أهل نجد {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} قال أبو سفيان قال وواجهتهم قريظة7
____________________
1 الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي صاحب المسند سمع علي بن عاصم ويزيد بن هارون، وكان حافظاً عارفاً بالحديث عالي الإسناد بالمرة تُلكم فيه بلا حجة قال الدارقطني قد اختلف فيه وهو عندي صدوق وقال ابن حزم ضعيف ولينه بعض البغاددة لكونه يأخذ على الرواية ت 282هـ. ميزان الاعتدال 1/442.
2 الحسن هو ابن موسى الأشيب أبو علي البغدادي قاضي الموصل وغيرها ثقة من التاسعة. مات سنة 209هـ أو التي بعدها. التقريب 72.
3 ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن صدوق في حديثه عن منصور لين من السابعة. روى له (ع) . التقريب 369.
4 أي السند الأول المنتهى بعيسى والسند الثاني بورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح.
5 عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي أبو يسار الثقفي مولاهم - ثقة - رمي بالقدر وربما دلس من السادسة 131هـ أو بعدها. روى له (ع) . التقريب 191.
6 مجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي -ثقة - إمام في التفسير وفي العلم من الثالثة ت سنة أحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة وله ثلاث وثمانون. روى له (ع) . التقريب 328.
7 جامع البيان 2/129، وهذا الأثر بسند صحيح ورجاله ثقات.
أما السيوطي فقال: "المراد بالأحزاب القبائل التي أغراها زعماء اليهود الذين خرجوا يؤلبونهم1 على القتال وهم: قريش وغطفان2 وبنو سليم3 وبنو أسد4 وفزارة5 وأشجع"6
____________________
1 التأليب: الألب بالفتح والكسر القوم يجتمعون على عداوة إنسان وقد تألبوا: أي تجمعوا. النهاية في غريب الحديث 1/59.
2 قبيلة نجدية لها ثلاثة أقسام وقد تقدمت في ص 49.
3 قبيلة عظيمة من قيس عيلان من العدنانية وتتفرع إلى عدة بطون وعشائر منها:
أ- بنو ذكوان.
ب- بنو بهثة بن سليم. انظر ذلك في: معجم قبائل العرب 2/543
4 بنو أسد هم أبناء أسد بن خزيمة وهي قبيلة عظيمة من العدنانية وهي ذات بطون كثيرة منها:
أ - بنو كاهل.
ب- بنو غنم.
جـ- بنو ثعلبة. وكانت منازلهم مما يلي الكرخ من أرض نجد. المصدر السابق 1/21.
5 فزارة بن ذبيان: بطن عظيم من غطفان من العدنانية وتنقسم إلى خمسة إفخاذ هي:
أ- عدي.
ب- سعد.
جـ- شمخ.
د- مازن.
هـ- ظالم ومنهم: بنو العشراء وبنو غراب وكان من هذا البطن جماعة من العلماء والأئمة. معجم قبائل العرب 3/918
6 أشجع: قبيلة من غطفان من قيس عيلان من العدنانية. كانت منازلهم بضواحي المدينة، وكان بالمغرب الأقصى منهم حي عظيم، وكانوا حلفاء للخزرج في الجاهلية وقد رجعوا عن دينهم أيام الردة وحاربهم أبو بكر - رضي الله عنه - حتى عادوا من جديد إلى الإسلام. معجم قبائل العرب 1/29.
وبنو مرة1 حتى كان عدة من وافى الخندق من المشركين نحواً من عشرة آلاف2.
وفي الدر المنثور قال: "أخرج الفريابي3، وابن أبي شيبة4، وابن المنذر5، وابن أبي حاتم6 عن مجاهد به".
____________________
1 بنو مرة: من أقدم قبائل العرب وأصحها نسباً وأشدها مراسا وأبعدها عن الحضارة. المصدر السابق 3/1070.
2 الخصائص الكبرى 1/565.
3 هو محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبي مولاهم الفريابي بكسر الفاء وسكون الراء بعدها تحتانية وبعد الألف موحدة وهي من أعمال بلخ بخراسان نزيل قيسارية من ساحل الشام - ثقة فاضل - يقال أخطأ في حديث سفيان وهو مقدم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق من التاسعة. مات سنة اثنتي عشرة ومائتين. التقريب 325، تذكرة الحفاظ 1/376، معجم البلدان 1/479، معجم المؤلفين 10/140.
4 هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي - ثقة حافظ- صاحب تصانيف من العاشرة. ت سنة خمس وثلاثين ومائتين. روى له (خ م د س ق) . التقريب 187.
5 هو الحافظ العلامة الفقيه الأوحد أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري شيخ الحرم وصاحب الكتب التي لم يصنف مثلها. وكان مجتهداً لا يقلد أحداً. مات سنة ثمان عشرة وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 3/782، طبقات الشافعية 3/102.
6 قال ذلك في تفسيره وهو مخطوط صورته بالجامعة الإسلامية والموجود إلى سورة الرعد وابن أبي حاتم هو: عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران التميمي الحنظلي أبو محمد عالم محدث عارف بالرجال فقيه أصولي متكلم. ولد سنة أربعين ومائتين. قال أبو الوليد الباجي ابن أبي حاتم ثقة حافظ. وقال الذهبي هو الإمام الحافظ الناقد ت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. تذكرة الحفاظ 3/829- 832، معجم المؤلفين 5/170.
ثم قال وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة1 به وهو أتم من غيره.
مما تقدم يظهر بوضوح: "أن القبائل التي شاركت قريشاً وغطفاناً - وهما القبيلتان العظيمتان المتزعمتان لهذه الحرب- الأحابيش2 وكنانة وأهل تهامة وهذه شاركت قريشاً بحكم جوارها لها فنهضوا لنصرتها.
وشارك مع غطفان بعض القبائل النجدية والتي هي في الحقيقة متفرعة عنها وتعتبر روافد لها.
____________________
1 الدر المنثور 5/187.
2 نسبة إلى جبل في مكة يسمى (حبشي) وقد تقدموا.
إضافة إلى بني قريظة الناقضين العهد حيث أحاطت هذه الفرق بالمسلمين من كل جهة.
وضاق المسلمون بهذا الحصار ذرعاً ووصفه الله بأبلغ وصف في قاله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} "1.
__________
1 سورة الأحزاب الآيتان 10، 11.
,
...
الفصل الثاني بيان دور المنافقين في هذه الغزوة
هذا الفصل هو تفسير لقوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} 1. والنفاق هو بالكسر فعل المنافق2. وهو: إظهار الخير وإسرار الشر وهو أنواع:
(أ) اعتقادي: وهو الذي يخلّد صاحبه في النار.
(ب) عملي: وهو من أكبر الذنوب وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله وسره علانيته ومدخله مخرجه ومشهده مغيبه3.
هذا هو المنافق وهذا دوره دائماً وأبداً.
ذلك لأن قلبه مريض ونفسه خبيثة ولأنه يدخل في الأمور على قاعدة غير صلبه ثم يتعجل الأمور فيخيب ظنه ويغضب ربه.
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 12.
2 مختار الصحاح 674.
3 تفسير ابن كثير 1/47.
وسرعان ما يتهاوى كيانه فيصبح يضمر الشر لكل ما هو خبر ويظهر خلافه حتى يأمن مكر الناس وهو لا يعلم أن الله سبحانه وتعالى عالم به وبما يحيكه وما يضمره {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} 1، {…وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2.
هؤلاء هم المنافقون المتسترون بالإسلام.
إلا أن الله كشفهم في بعض غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كما في أحد وبني المصطلق والخندق وغيرها. حيث كان ينزل القرآن أولاً بأول فيفضحهم.
وفي هذه الغزوة - الخندق - بالذات ظهر منهم النفاق حيث أظهر كثير منهم العداء مما زاد في تفاقم الأمر وخطورته.
حكى لنا القرآن ذلك الخطر وتلك الشدة فقال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 3.
أما بالنسبة لما فعلوه هذه المرة فقد روى الطبراني حيث قال:
____________________
1 سورة العلق الآية 14.
2 سورة الأنفال الآية 30.
3 سورة الأحزاب الآية 10.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل1 حدثني سعيد بن محمد الجرمي2 حدثنا أبو تميلة3 حدثنا نعيم بن سعيد العبدي4 أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال: "احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟ قال رجل: نعم. قال إمالا5 فتقدم فدلنا عليه. فانطلقوا إلى رجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه فأرسلت
____________________
1 عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الرحمن. ولد الإمام ثقة من الثانية عشرة. مات سنة 290هـ. وله بضع وسبعون. روى له النسائي. التقريب 167.
2 سعيد بن محمد بن سعيد الجرمي - بفتح الجيم المعجمة وسكون الراء - الكوفي صدوق رمي بالتشيع. من كبار الحادية عشرة. روى له (خ م د ق) . التقريب 135، المغني في أسماء الرجال 18.
3 هو يحيى بن واضح الأنصاري مولاهم - أبو تميلة بمثناه فوقية مصغراً المروذي مشهور بكنيته ثقة من كبار التاسعة. روى له الجماعة. التقريب 380، تهذيب الكمال 32/22.
4 نعيم لم أجد له ترجمة ولعل فيه تصحيف.
5 قال في حاشية الصبان شارحاً لهذه الكلمة: "حذفت كان مع معموليها بعد أن في قولهم - أفعل هذا إمالا". أي إن كنت لا تفعل غيره فما عوض عن كان، ولا نافيه للخبر ومنه قوله:
أمرعت الأرض لو أن مالا
لو أن نوقا لك أو جمالا
أو ثلة من غنم إمالا.
التقدير: إن كنت لا تجد غيره. حاشية الصبان 1/245.
امرأته أن جيء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا فجاء الرجل يسعى فقال بأبي وأمي وله معزة1. ومعها جديها فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الجدي2 من روائنا فذبح الجدي وعمدت امرأته إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت وأدركت3 وثردت فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه فيها فقال "بسم الله اللهم بارك فيها إطعموا".
فأكلوا منها حتى صدروا4 ولم يأكلوا إلا ثلثها وبقي ثلثاها فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم5 وجاء أولئك العشرة6 مكانهم فأكلوا منها حتى شبعوا ثم قام ودعا لربة البيت وسمت7 عليها وعلى أهل بيتها ثم مشوا إلى الخندق.
____________________
1 المعزة: هي الأنثى الماعز. مختار الصحاح 457.
2 الجدي: هو ولد المعزة.
3 أدركت: أي نضجت طحينتها.
4 صدروا أي شبعوا.
5 في مجمع الزوائد 6/131- نغديكم - من الغداء وهو تصحيف لا يتلاءم مع ما قبله.
6 في مجمع الزوائد 6/131 بعد العشرة - مكانه -.
7 قال ابن الأثير في النهاية 2/397:
في حديث الأكل سمو الله ودنّوا وسمتوا أي إذا فرغتم فادعوا بالبركة لمن طعمتم عنده والتسميت الدعاء.
فقال: "اذهبوا بنا إلى سلمان وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها" فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "دعوني فأكون أول من ضربها فقال: بسم الله فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة قال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة. فقال عندها المنافقون نحن بخندق وهو يعدنا قصور فارس والروم"1.
قال الهيثمي2: "ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد ونعيم العنبري3 وهما ثقتان". إلا أن ابن جرير قد أورد أثراً شاهداً عن الحسن البصري لهذا الحديث قال فيه: "حدثنا بشر حدثنا هوذه4 بن خليفة قال حدثنا عوف5 عن
____________________
1 المعجم الكبير 11/376.
2 معجم الزوائد 6/131.
3 كذا في مجمع الزوائد وفي البداية والنهاية 4/100، نعيم الغري بالغين المعجمة وفي معجم الكبير للطبراني كما تقدم آنفاً (العبدى) وكل هذه التراجم لم أقف عليها.
4 هوذه بفتح الهاء وزيادة هاء في آخره: ابن خليفة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي البكراوي أبو الأشهب البصري الأصم نزيل بغداد صدوق من التاسعة. مات سنة 216. روى له ابن ماجه. التقريب 365.
5 عوف هو بن أبي جميلة الأعرابي العبدي البصري - ثقة - رمي بالقدر والتشيع من السادسة. مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة 147هـ. وله ست وثمانون. روى له الجماعة. التقريب 266.
الحسن1 في قوله تعالى: {… وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 2. قال ظنونا مختلفة ظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يستأصلون3 وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون4. وأورد ابن كثير5 هذا الخبر عن الحسن باللفظ نفسه. وهذا الأثر ينتهي إلى الحسن البصري فهو مقطوع".
كذلك أورد ابن جرير أثراً آخر بسند آخر قال فيه: "حدثني يونس6 قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد7 قال: قال
____________________
1 الحسن بن أبي الحسن يسار البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيراً ويدلس. قال البزار كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين خطبوا بالبصرة وهو رأس الطبقة الثالثة. مات سنة 110هـ. وقد قارب التسعين. روى له أصحاب الكتب الستة. التقريب 69، تذكرة الحفاظ 1/71.
2 سورة الأحزاب تكملة الآية 10.
3 يُستأصلون: بضم التحتانية وسكون المهملة بالبناء للمجهول واستأصله قلعة من أصله. مختار الصحاح 18.
4 جامع البيان 21/132.
5 تفسير ابن كثير 3/472.
6 يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدفي أبو موسى البصري - ثقة - من صغار العاشرة. مات سنة 264. وله ست وتسعون سنة. روى له (م س ق) . التقريب 390.
7 ابن زيد هو أسامة وهما اثنان وكلاهما شيخ لابن وهب أحدهما عدوي قال الحافظ توفي في زمن أبي جعفر المنصور وهو ضعيف، أما الليثي فقد توفي سنة 153هـ وهو صدوق وكلاهما مدنيان. تهذيب التهذيب 1/207- 210.
"رجل يوم الأحزاب لرجل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يافلان أرأيت إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله فأين هذا من هذا؟ وأحدنا لا يستطيع أن يخرج ليبول من الخوف" {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} . فقال: كذبت لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك" قال: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاه فقال: ما قلت؟ " قال: "كذب علي يارسول الله ما قلت شيئاً ما خرج من فمي قط. قال الله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} حتى بلغ {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1. قال: "فهذا قول الله {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} "2. والأثر فيه انقطاع في أعلى الإسناد.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن فليح3 قال: "فلما أشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة وأني لارجو أن
____________________
1 سورة التوبة الآية 74.
2 سورة التوبة الآية 66. وذلك من تفسير الطبري 21/133.
3 ابن فليح هو محمد بن فليح بن سلميان الأسلمي ابو عبد الله. روى عن موسى بن عقبة وعمرو مولى المطلب قال ابن معين: "ليس بثقة" وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه قال: "ما به ليس بذاك القوي". الجرح والتعديل 8/59.
أطوف البيت العتيق آمنا وان يدفع الله عز وجل إلي مفاتيح الكعبة وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل". وقال رجل ممن معه لأصحابه: "ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن ها هنا لا يأمن أحدنا أن يذهب للغائط والله ما يعدنا إلا غروراً"1.
أما السيوطي فقد قال: "وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم2 والبيهقي في الدلائل من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده وساق الحديث بطوله"3. إلا أن مداره على كثير بن عبد الله وهو ضعيف.
وأخيراً قال ابن إسحاق في قوله تعالى: {… وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 4. ظن المؤمنون كل ظن ونجم
____________________
1 دلائل النبوة للبيهقي 3/402.
2 الحافظ الكبير كحدث العصر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني الشافعي محدث مؤرخ صوفي. توفي بأصبهان سنة 430هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 3/1092، السير 17/453.
3 الدر المنثور 5/185.
4 سورة الأحزاب الآية 9.
النفاق حتى قال معتب بن قشير1 أخو بني عمرو بن عوف: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط"2.
وهكذا نرى من خلال هذه الآثار أن للمنافقين دوراً خطيراً في هذه الغزوة بالذات ذلك لأنهم لا يظهرون إلا في أوقات الأزمات. أما عندما ينتصر المسلمون فلا يسمع لهم صوت. والقرآن الكريم فضحهم في أكثر من موطن ولكنا أردنا إيراد الآثار التي تبين أمرهم خاصة في هذه الغزوة الفاصلة3.
__________
1 معتب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاف بن ضبيعة وليس له عقب شهد بدراً وأحد كذلك قال ابن إسحاق. وقال ابن حجر: "ذكروه فيمن شهد العقبة وقيل أنه كان منافقاً وأنه الذي قال يوم أحد لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا وقيل أنه تاب. وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدراً وأثبت ابن عبد البر في الاستيعاب حاشية الإصابة انه شهد بدراً وأحداً والعقبة، وأنه قال يوم أحد لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، وهناك ذكر بأنه معتب بن بشير - بالباء المعجمة –". الطبقات الكبرى 3/463، الإصابة 3/443.
أما السهيلي فقد عنون ببراءة معتب فقال: قال ابن هشام وأخبرني من أثق به من أهل العلم أن معتب بن قشير لم يكن من المنافقين واحتج بأنه كان من أهل بدر. الروض الأنف 3/262
2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/472.
3 لأن الرسول (قال: (لن يغزوكم بعد عامكم هذا) .
,
,
...
الفصل الأول: مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حول حفر الخندق
إن الشورى من الأمور التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك لما يلي:
(أ) لتأليف قلوب أصحابه.
(ب) وليقتدي به من بعده.
(جـ) وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحرب والأمور الجزئية وغير ذلك1.
وغالباً ما يفعل ذلك في الحروب تطييباً لقلوبهم وأخذاً بما يتضح أنه الأولى من آرائهم وتجاربهم. وتنشيطاً لهم فيما يفعلونه2.
لذلك قال تعالى مخالطباً رسوله صلى الله عليه وسلم وممتناً عليه وعلى المؤمنين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 3.
____________________
1 السياسة الشرعية 134.
2 تفسير القرآن العظيم 1/420، عارضة الأحوذي 7/208.
3 سورة آل عمران الآية 159.
حدث ذلك أولاً في بدر كما هو معروف وشاورهم في أحد1. هل يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو. وشاورهم يوم الخندق أولاً: بالنسبة لخطة الدفاع وهي ما نحن بصدده. ثم شاورهم في مصالحة الأحزاب بثلث تمر المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه رؤساء الأنصار وذلك بدليل الحديث الذي رواه البزار2 حيث قال: "حدثنا عقبة بن سنان3 ثنا عثمان الغطفاني4 ثنا محمد بن عمرو5
____________________
1 أي غزوة أحد.
2 هو أحمد بن عمر بن عبد الخالق البصري البزار (أبو بكر) محدث فقيه. ولد سنة 210هـ. وارتحل في الشيخوخة ناشراً لحديثه فحدث بأصبهان عن الكبار وببغداد ومصر ومكة والرملة. وأدركه أجله فمات سنة 297هـ. من تصانيفه شرح موطأ مالك والمسند. انظر: تاريخ بغداد 4/334، السير 13/554.
3 عقبة بن سنان بن عقبة بن سنان بن سعد بن جابر بن محمد بن محصن الهدادي بفتح هاء وخفة دال كما في المغني صفحة 84. بصري. روى عن غسان بن مضر وعثمان بن عفان الفطفاني. سمع منه أبي في الرحلة الثالثة ثنا عبد الرحمن قال: "سئل أبي عنه فقال: صدوق". الجرح والتعديل 6/311.
4 عثمان بن عثمان الغطفاني أبو عمرو القاضي البصري صدوق ربما وهم من الثامنة. روى له (م د س) . انظر: التقريب235.
5 محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني صدوق له أوهام من السادسة ثبت. مات سنة خمس وأربعين ومائة على الصحيح. روى له (ع) . التقريب 313.
عن أبي سلمة1 عن أبي هريرة2 قال: "جاء الحارث الغطفاني3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "يا محمد ناصفنا تمر المدينة4 وإلا ملأناها عليك5 خيلاً ورجالاً" فقال: "حتى استأمر6 السعود سعد بن عبادة7 وسعد بن معاذ
____________________
1 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل ثقة مكثر من الثالثة. مات سنة 94، وقيل بعدها. وكان مولده بضع وعشرون. روى له (ع) . التقريب 409.
2 أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه فقيل عبد الرحمن بن صخر وقيل غير ذلك. التقريب 431، التهذيب 12/262، أسد الغابة 5/315.
3 قائدة بني مرة وسيأتي فيما بعد.
4 بالمثناة الفوقية وهو التمر المعروف وفي بعض المراجع - ثمر- بالمثلثة وهي تعم التمر وغيره. انظر في ذلك البداية والنهاية 4/104، أسد الغابة 2/284.
5 في مجمع الزوائد 6/132 ملأتها.
6 بمعنى استشر والسعود جمع سعد وهو هنا يريد السعدين بن معاذ وابن عبادة واستشارته صلى الله عليه وسلم لهما يدل على فضلهما لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدى قومهما لذلك قال ابن الأثير عند ترجمة سعد بن عبادة: جاء الخبر أن قريشاً سمعوا صائحاً يصيح ليلاً على أبي قبيس:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف.
قال فظنت قريش أنه يعني سعد بن زيد مناة بن تميم وسعد هذيم من قضاعة فسمعوا الليلة الثانية قائلاً.
يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزر جيين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدي وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
7 هو سعد بن عبادة بن سليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي. أحد النقباء واحد الأجواد، ووقع في صحيح مسلم أنه شهد بدراً والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج فلدغته حية، ذكر ذلك ابن سعد وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رده لاستنابته على المدينة فلم يتمكن من الخروج إلى بدر حكاه السهيلي عن ابن قتيبة وممن ذكره فيمن شهد بدراً عروة والبخاري وابن أبي حاتم والطبراني. قال ابن كثير: "وقد وقع في صحيح مسلم ما يشهد لذلك ثم" قال: "والصحيح أن ذلك سعد بن معاذ". الطبقات الكبرى 3/614، وأسد الغابة 2/283، البداية والنهاية 3/319، الإصابة 2/30.
يعني يشاورهما فقالا: "لا والله ما أعطينا الدنية1 من أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الله بالإسلام فرجع إليه الحارث فأخبره" فقال: "غدرت يا محمد" قال: فقال حسان:"
يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمداً لا يغدرُ
إن تغدوا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبرِ
وأمانة النهدي حيث لقيتها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبرُ2
____________________
1 الدّنيّة بتشديد التحتانية وهي الخصلة الحقيرة المذمومة من الدنو. مختار الصحاح 212.
2 في البيت الأول - يا حار - وهو منادي مرخم حارث والبيت الأول موحد في أغلب الروايات إلا أن آخره في الديوان - لم يغدر - بكسر الراء وهو الأولى ليتناسب مع البيتين الآخرين. أما بالنسبة للثاني فهناك اختلاف لا يغير المعنى ففي الشطر الأول مثلاً من عاداتكم - في الديون - منكم شيمة وفي الشطر الأخير منه - واللؤم- في الديوان والغدر - وهو مكسور القافية والسخبر شجر تألفة الحيات فتكسن في أصوله. الواحدة سخبرة قال ابن الأثير وقد ورد ذلك في حديث ابن الزبير حيث قال لمعاوية: لا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر، أما البيت الثالث فهو غير واضح المعنى لكن يوضحه ما جاء في أسد الغابة حيث قال: وأمانة المري ما استودعته) وقد بين ابن الأثير أن سبب هذه الأبيات غير السبب المذكور في الحديث وأنه حدث هذا عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مع الحارث دعاة: يدعون قومه للإسلام فغدروا بهم فقال حسان هذه الأبيات قلت ولا يمنع أن تكون هذه الأبيات تكررت في الحادثين. انظر في كل ذلك: ديوان حسان 1/137، 2/127، أسد الغابة 1/343، الإصابة 1/286، النهاية في غريب الحديث 2/349.
قال: فقال الحارث: "كف عنا يامحمد لسان حسان فلو مزج به ماء البحر لمزجه".
قال البزار: "لا نعلم رواه عن محمد بن عمرو هكذا إلا عثمان ولم نسمعه إلا من عقبة"1.
والحديث بهذا السند يعتبر حسناً لذاته وقد ذكره ابن الأثير عند ترجمة سعد بن مسعود2 الأنصاري وكذا ذكره الحافظ3.
أما الهيثمي4 فقد قال: "رواه البزار والطبراني ولفظه: عن أبي هريرة
____________________
1 كشف الأستار 2/332، الإصابة 2/36.
2 أسد الغابة 2/294.
3 الإصابة 2/36.
4 الهيثمي هو علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي - نور الدين أبو الحسن محدث حافظ وافق العراقي في السماع ولازمه وتوفي بالقاهرة في رمضان 807هـ. من تصانيفه مجمع الزوائد، موارد الضمآن في زوائد ابن حبان، كشف الأستار عن زوائد البزار، الضوء اللامع للسخاوي 5/200.
قال: "جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد شاطرنا تمر المدينة" فقال: "حتى استأمر السعد فبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع1 وسعد بن خيثمة2 بن مسعود3 فقال: "إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وأن الحارث قد سألكم أن تشاطروه تمر المدينة فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا" فقالوا: "يارسول الله أوحي من السماء؟ فالتسليم لأمر الله أو عن رأيك أو هواك؟
____________________
1 سعد بن الربيع بن عمر بن أبي زهير بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي عقبى بدري نقيب كان أحد نقباء الأنصار قاله عروة وابن شهاب وابن عقبة وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف وقتل في أحد. أسد الغابة 2/277، الإصابة 2/26، الاستبصار 114. وهناك سعد بن الربيع - رجل آخر ولكنه يعرف بابن الحنظلية قال فيه الحافظ قال أبو حاتم: "استشهد بأحد قال وفيه نظر ولعله أراد الذي قبله وأما هذا فذكر ابن سعد أنه شهد الخندق". انظر: الإصابة 2/27 عند ترجمته. ولكن بحثت في الطبقات لابن سعد فلم أجده لأن ابن سعد قد ذكر واحداً بهذا الاسم وهو الذي قتل في أحد إلا أن يكون ذكره في غير الطبقات فالله أعلم.
2 سعد بن خثيمة بن الحارث الأنصاري الأوسي يكني أبا خثيمة وهو عقبي بدري قتل في بدر. الاستبصار 265، أسد الغابة 2/275.
3 سعد بن مسعود الأنصاري قال ابن الأثير والحافظ: إنه شهد الخندق وأنه كان ضمن من استشارهم يومئذ. أسد الغابة 2/294ولكنه ذكر سعد بن خثيمة مع أنه ذكر قبل أنه قتل في بدر. انظر: الإصابة 2/36
فرأينا نتبع هواك ورأيك فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا. فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا شراء أو قرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو ذا تسمعون ما" يقولون. قالوا غدرت يا محمد".
فقال حسان1 بن ثابت رضي الله عنه:
يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمداً لا يغدرُ
وأمانة المري2 حين لقيتها ... كسر الزجاجة صدعها لا يجبرُ
إن تغدروا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبرِ
ثم قال الهيثمي: "رواه البزار والطبراني ورجالهما فيهم محمد بن عمرو حديثه حسن وبقية رجاله ثقات"3.
____________________
1 حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بفتح المهملة والراء الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن أو أبو الوليد شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهور ت سنة أربع وخمسين وله مائة وعشرون سنة.
وذلك في خلافة علي رضي الله عنه وقد عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام. قال ابن الأثير وكذلك عاش أبوه ثابت وجده المنذر وأبو جده حرام عاش كل واحد منهم مائة عشرين سنة ولا يعرف في العرب مثلهم أربعة تناسلوا من صلب واحد عاش كل واحد منهم مائة وعشرين. وقد وهب له النبي صلى الله عليه وسلم جاريته سيرين أخت مارية فولدت له عبد الرحمن بن حسان. أسد الغابة 2/4.
2 يقصد الحارث بن عوف المري.
3 مجمع الزاوئد 6/132- 133. انظر: الإصابة 2/36.
وقد أشار إلى ذلك ابن حزم1 ألا أنه ذكر السعدين فقط2 كما ذكره ابن كثير عن ابن إسحاق مطولاً وأنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى السعدين بعد أن حصلت المراوضة3 ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح وأخيراً تناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال ليجهدوا علينا4.
أما ما جاء في الحديث السابق الذي ذكره الهيثمي وذكر فيه السعود5 وساق خمسة منهم، فقد رجعت إلى تراجمهم فوجدت أن هناك تناقضا ظاهراً حيث تدل الرواية التي ذكرها الهثيمي أنهم كانوا جميعاً ضمن الصحابة الذين حضروا الغزوة أما الحقيقة فهي تدل على أن سعد
____________________
1 جوامع السيرة 188.
2 ابن معاذ وابن عبادة.
3 المراوضة: هي ما يجري بين المتبابعين من الزيادة والنقصان. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/276.
4 البداية والنهاية 4/104.
5 جاء ذكر السعود في شعر حسان حيث قال:
أروني سعوداً كالسعود التي سمت
بمكة من أولاد عمرو بن عامر
أقاموا عماد الدين حتى تمكنت
قواعده بالمرهفات البواترقال أبو جعفر بن حبيب أراد بالسعود سبعة وهم أربعة من الأوس وثلاثة من الخزرج. الإصابة 2/25.
بن الربيع مثلاً قد استشهد في غزوة أحد وقد ساق ابن الأثير حديثاً يدل على ذلك1 وقد تقدمت ترجمته.
أما سعد بن خيثمة فقد استشهد ببدر ذكر ذلك ابن إسحاق2 وغيره.
أما سعد بن مسعود فقد ذكر الحافظ أن له ذكراً في حديث الطبراني3 المذكور ثم ساق الحديث إلى أن قال … قال ابن الأثير في ذكر سعد بن خيثمة نظر لأنه استشهد ببدر. والخندق كانت بعدها بثلاث سنين، ثم قال لا يلزم من الغلط في سعد بن خيثمة الغلط في سعد بن مسعود فإن ثبت الخبر فهو من كبار الأنصار بحيث كان يستشار في ذلك الوقت4.
وهكذا تمت هذه المشاروة مع السعدين كما جاء ذلك في حديث البزار الذي يعتبر أقوى حديث في الباب على ضوء إسناده5.
____________________
1 أسد الغابة 2/278.
2 السيرة النبوية 1/690، أسد الغابة 2/275، الإصابة 2/36.
3 تقدم في ص 138.
4 الإصابة 2/36.
5 تقدم وهو يعتبر حسناً لذاته.
ولم تتم تلك الصفقة التي كان يحلم بها الحارث بن عوف وعيينة بن حصن كما في بعض الروايات.
أما المشاورة الثانية الني حصلت في هذه الغزوة فقد حصلت عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمع عليه كفار قريش ومن تابعهم على المسير إلى المدينة فاستشار الصحابة رضي الله عنهم وتمخضت تلك المشاورة عن رأي سديد أدلى به سلمان1 رضي الله عنه حيث أشار بحفر الخندق لكي يحول بين العدو وبين المدينة2.
ولم يرد في ذلك حديث صحيح غير أن الطبري قال: "حدثت عن محمد بن عمر3 قال كان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
1 سلمان الفارسي أبو عبد الله يقال أنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف بسلمان الخير كان أصله من فارس من رامهرمز من قرية يقال لها جئ، ويقال بل كان أصله من أصبهان قال ابن عبد البر وقد ذكرته في التمهيد وذكرت حديث إسلامه بتمامه وكان إذا قيل له ابن من أنت؟ قال أنا سلمان بن الإسلام من بني آدم وقد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد بسبب الرق فأشار عليه صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة وقد عاش ثلاثمائة سنة وكان من المعمرين وكان له ثلاث بنات. انظر: الاستيعاب حاشية الإصابة 2/56، أسد الغابة 2/328- 332
2 زاد المعاد 3/271، السيرة الحلبية 1/631.
3 هو الواقدي شيخ ابن سعد وقد تقدم.
وهو يومئذ حر"1، وقال يا رسول الله: "إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا"2.
والواقدي وصفه أهل الحديث بأنه متروك الحديث مع سعة علمه.
وبذلك قال ابن هشام3 ونقله عنه ابن كثير4 وبه قال ابن الأثير5. وقد نقل الحافظ في الفتح حيث قال: وكان الذي أشار بذلك سلمان فيما ذكر أصحاب المغازي منهم أبو معشر6 قال: "قال سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا"7.
لقد كان الخندق ذا أهمية عظمى ذلك لأن المسلمين عندما بحثوا خطة الدفاع عن المدينة كانوا يفكرون في
____________________
1 لأنه قبل ذلك كان مملوكاً حتى أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة وبذلك تحرر من الرق ولازم الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 مغازي الواقدي 2/445، تاريخ الأمم والملوك 2/44، جامع البيان 21/130
3 السيرة النبوية 2/224.
4 البداية والنهاية 4/95.
5 الكامل 2/122.
6 هو نجيح بن عبد الرحمن السندي بكسر المهملة وسكون النون المدني أبو معشر وهو مولى بني هاشم مشهور بكنيته - ضعيف - أسن واختلط مات سنة 170هـ. انظر: التقريب 356.
7 فتح الباري 7/392- 393.
إيجاد وسيلة فعالة يتحاشون بها الالتحام الشامل المباشر مع جيوش الأحزاب المتفوقة عدداً وعدة في معركة فاصلة ليتسنى لهم تجميدها وشل حركتها على النحو الواسع الذي تريد تلك القوة الباغية.
ولقد كان لتنفيذ هذا المشروع الدفاعي أكبر الأثر في تجميد نشاط جيوش الأحزاب وشل حركتها ثم فشل الغزو في النهاية1.
ولقد حفر الخندق في المنطقة الشمالية الغربية من المدينة لأن هذا المكان هو أصلح موقع يجب أن يعسكر فيه من يريد الدفاع عن المدينة لأنه الناحية الوحيدة المكشوفة التي لابد لأي غاز يريد المدينة من أن يتجه إليها ذلك لأن الجهات الأخرى محاطة بأشجار النخيل والزروع الكثيفة والأبنية المتشابكة والحواجز الطبيعية الصعبة كالجبال وغيرها والتي لا تسمح لقوات الأحزاب الكبيرة أن تقوم بإجراء أي قتال على نطاق واسع كما تريد2.
وعندما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم حفر الخندق - بعد المشاورة - أمر بنقل النساء والذراري إلى الآطم3 الحصينة حتى لا يصيبهم مكروه.
____________________
1 غزوة الأحزاب لمحمد باشميل 147.
2 المصدر السابق 149.
3 الأطم بضمة وضمتين القصر وكل حصن مبني بالحجارة وكل بيت مربع مسطح. القاموس 4/74.
لأنه كان يتخوف عليهم من اليهود - بني قريظة - حيث كانت منازلهم مما يلي العوالي1 وكانوا قد مالؤوا الأحزاب ووافقوهم على نقض العهد الذي ابرموه مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى الطبراني حيث قال: "حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي2 البغدادي ثنا عثمان بن يعقوب العثماني3 ثنا محمد بن طلحة4 التميمي عن محمد بن سهل بن أبي حثمة5 عن هرير6 بن عبد الرحمن بن رافع7 بن خديج8 عن أبيه عن
____________________
1 العوالي بالفتح جمع العالي ضيعة بينها وبين المدينة أربعة أميال وقيل ثلاثة (وهو الصحيح) . انظر: مراصد الإطلاع 2/970.
2 هو محمد بن عبد الله العدوي يعرف بالقرمطي. روى عنه أبو القاسم الطبراني. انظر: تاريخ بغداد 433.
3 لم أجد له ترجمة.
4 محمد بن طلحة بن عبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن عثمان ابن عبيد الله التميمي المعروف بابن الطويل وجده عثمان هو أخو طلحة أحد العشرة صدوق يخطئ من الثامنة. مات سنة ثمان ومائة. روى له (س ق) . التقريب 302.
5 محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري الأوسي قال الحافظ ذكره البخاري ولم يذكر فيه جرحاً وذكره ابن حبان في الثقات. تعجيل المنفعة 365.
6 هرير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج الأنصاري المدني - مقبول - من الخامسة التقريب 363. قال الذهبي وقال الازدي يتكلمون في حديثه وقد وثقه ابن معين وابن حبان. الميزان 4/295.
7 عبد الرحمن بن رافع قال ابن أبي حاتم روى عن أبيه رافع. وروى عنه ابنه هرير. الجرح والتعديل 5/232.
8 رافع بن خديج بن عدي الحارثي الأوسي الأنصاري صحابي جليل أول مشاهده أحد ثم الخندق. مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين وقيل قبل ذلك. التقريب99، الاستيعاب 2/59.
جده قال: "لما كان يوم الخندق لم يكن حصن أحصن من حصن بني حارثة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان والذراري فيه" فقال: "إن ألمَّ بكن1 أحد فالمعن بالسيف" فجاءهن رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له نجدان - أحد بني جحاش2على فرس حتى كان في أصل الحصن ثم جعل يقول للنساء انزلن إلى خير لكن فحركن السيف فأبصره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر الحصن قوم فيهم رجل من بني حارثة يقال له ظهير بن رافع3 فقال: "يا نجدان ابرز فبرز إليه فحمل عليه فرسه فقتله وأخذ رأسه فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم". هذا الحديث قال فيه الهيثمي بعد إيراده.
رواه الطبراني وقال: "ورجاله ثقات4. وقد رواه ابن جرير في تاريخه بسنده من طريق ابن إسحاق"5.
____________________
1 إن ألم بكن أي إذا حصل ذلك وهو دخول أي غريب عنهم اليهن.
2 في مجمع الزاوئد حشاش واثبت ما في المعجم الكبير.
3 ظهير بن رافع قال ابن قدامة وشهد ظهير العقبة الثانية ولم يشهد بدراً وشهد أحداً مع أخيه مظهر بن رافع ولم يذكر متى مات. الاستبصار 239
4 مجمع الزوائد 6/133، وهو في المعجم الكبير 4/318حديث 4378.
5 تاريخ الأمم والملوك 2/570- 571.
وقال الهيثمي بعد إيراد هذا الحديث: "عن الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الخندق فجعل نساءه وعمته صفية في أطم يقال له فارع…" الحديث إلا أنه قال بعد سياقه لهذا الحديث … رواه البزار وأبو يعلي باختصار وإسناد هما ضعيف.
ومع ذلك فالمتن فيه اضطراب حيث إن آخره يخالف أوله فقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً خرج إلى الخندق ثم قال بعد ذلك: ثم خرج إلى أحد. ويظهر من ذلك أنه حصل التباس من خروجه إلى أحد خروجه إلى الخندق ثم قال الهيثمي1 مؤكداً ذلك:
وقد تقدم الحديث من رواية صفية في وقعة أحد. وهو عند البزار2 أن ذلك كان في أحد والمشهور أن هذه القصة كانت في الخندق.
أما كونه صلى الله عليه وسلم جعلهم في أطم يقال له فارع فهو صحيح بدليل ما جاء في صحيح مسلم3 عن عبد الله بن الزبير وفيه أنه كان هو وعمر بن أبي سلمة في أطم حسان يوم الخندق مع النسوة… الخ كذلك روى
____________________
1 مجمع الزوائد 6/133- 134.
2 كشف الأستار 2/333- 334.
3 صحيح مسلم 4/1879، كتاب فضائل الصحابة.
هذا الحديث أحمد1 في مسند الزبير ثم أورد الهثيمي بعد ذلك حديثاً آخر بهذا المعنى ولفظه عن عروة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ نساءه يوم الأحزاب أطما من آطام المدينة وكان حسان بن ثابت رجلاً جباناً فأدخله مع النساء فأغلق الباب فجاء يهودي فقعد على باب الأطم فقالت صفيه بنت عبد المطلب: إنزل يا حسان إلى هذا العلج2 فاقتله فقال ما كنت لأجعل نفسي خطراً لهذا العلج فائتزرت بكساء وأخذت فهرا3 فنزلت إليه فقطعت رأسه… الخ الحديث.
قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ولكنه مرسل"4.
قال السمهودي: "وروى الإمام أحمد بإسناد قوي عن عبد الله بن الزبير قال: "كانت صفية في حصن حسان بن ثابت يوم الخندق أي وهو المسمى بفارع
____________________
1 مسند الإمام أحمد 1/166.
2 العلج: بكسر العين المهملة قال في مختار الصحاح بوزن العجل: الواحد من كفار العجم والجمع علوج واعلاج وعلجه بوزن عنبة. مختار الصحاح 449.
3 الفهر: بكسر الفاء الموحدة هو الحجر قدر ما يدق به الجوز أو يملأ الكف ويؤنث. القاموس المحيط 2/112.
4 مجمع الزوائد 6/134.
فذكر الحديث في قتلها اليهودي وقولها لحسان انزل فاسلبه" فقال: "مالي بسلبه حاجة"1.
وهذا الحديث وهو رفع النساء والذراري في الآطام رواه ابن جرير في تاريخه2 وقد روى الطبراني هذه القصة عن صفية في غزوة أحد كما تقدم.
إلا أن الهيثمي قال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق أم عروة بنت جعفر بن الزبير عن أبيها ولم أعرفهما وبقية رجاله ثقات"3.
ثم عقب السمهودي قائلاً: "والمذكور في كتب السير أن هذه القصة كانت في الخندق وأن بعضهم كان بحصن بني حارثة وبعضهم بفارع وأن صفية رضي الله عنها لما فرغت من قتل اليهودي رجعت إلى الحصن فقالت لحسان: "انزل
____________________
1 وفاء الوفاء 1/215.
2 تاريخ الأمم والملوك 2/50.
3 مجمع الزوائد 6/115.
فاسلبه1 فإني لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل" قال: "مالي بسلبه حاجة يابنت عبد المطلب"2 أ. هـ. كلام السمهودي.
وهذه القصة صحيحة لتظافر الأدلة التي يقوي بعضها بعضاً يؤيدها أن اليهود إنما غدروا في غزوة الخندق ولم يكن لهم ذكر في أحد.
أما بالنسبة لهذه التهمة التي وجهت ضد حسان بن ثابت وهي الجبن فقد دفعها بعض العلماء لذلك قال السهيلي: "مجمل هذا الحديث عند الناس أن حساناً كان جباناً شديد الجبن وقد دفع بعض العلماء هذا وانكره وقال: لو صح هذا. لهجي به حسان فإنه كان يهاجي الشعراء وكانوا يردون عليه فما عيره أحد بجبن. وإن صح فلعل حسان كان معتلاً في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال وهذا أولى ما تأول".
ثم قال: "وممن أنكر أن يكون هذا صحيحاً أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه الدرر3 وهذا هو الحق والله أعلم فإن شعر حسان كان أشد
____________________
1 السلب هو أخذ ما يكون على المقتول أو معه من سلاح وثياب ودابة وغيرها النهاية في غريب الحديث 2/387.
2 وفاء الوفاء 1/315.
3 الروض الأنف 3/381، وفي الاستيعاب 1/405. قال: وقال اكندا هل الخبار والسير: إن حسان كان من أجبن الناس، وذكروا من جبنه أشياء مستشنعة كرهت ذكرها لنكارتها.
على الأعداء من وقع النبل، وذلك واضح من المهاجاة التي وقعت بينه وبين شعراء قريش كابن الزبعرى وغيره، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينصب له منبراً في المسجد1 يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم لأسلنك كما تسل الشعرة من العجين2 ولو كان هذا حقاً لهجاه به اعداؤه.
__________
1 أسد الغابة 2/4.
2 النهاية في غريب الحديث 2/392، والحديث في البخاري. انظر: فتح الباري 7/346، ورواه مسلم في صحيحه 4/1934 فضائل حسان.
,
كان صلوات الله عليه وسلامه المثل الأعلى في التواضع، وذلك لحسن أخلاقه التي مدحه الله به، وهذا حاله صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب على السواء. وتواضعه عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع قليل من كثير.
أما بالنسبة لما كان منه في هذه الغزوة فقد روى البخاري في ذلك حديثاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهذا نصه:
قال البخاري - رحمه الله -: حدثنا خلاد بن يحى1 حدثنا عبد الواحد2 بن أيمن3 عن أبيه قال: "أتيت جابراً -رضي الله عنه- فقال إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت في الخندق" فقال: "أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً فأخذ
____________________
1 خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي أبو محمد الكوفي نزيل مكة - صدوق - رمي بالإرجاء، وهو من كبار شيوخ البخاري من التاسعة مات سنة 217هـ.
2 عبد الواحد بن أيمن المخزومي مولاهم أبو القاسم المكي لا بأس به من الخامسة روى له - خ م س - التقريب 221.
3 أيمن الحبشي المكي والد عبد الواحد - ثقة - من الرابعة روى له البخاري وأبو داود في الناسخ والمنسوخ. التقريب 40.
النبي صلى الله عليه وسلم المعول1 فضرب فعاد كثيباً2 أهيل أو أهيم"3 فقلت يا رسول الله: "ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت عندي شعير وعناق4. فذبحتُ العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة5 ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي6 قد كادت تنضج
____________________
1 المعول: الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر والجمع المعاول، مختار الصحاح 463.
2 الكثيب: الرمل المستطيل المحدودب. النهاية في غريب الحديث 4/152.
3 الشك من الراوي قال الحافظ في الفتح 7/397، وفي رواية الإسماعيلي أهيل بغير شك، وكذا عند يونس، وفي رواية أحمد - كثيبا يهال قال والمعنى أنه صار رملاً يسيل ولا يتماسك قال تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} أي رملاً سائلاً، وأما أهيم فقال عياض: ضبطها بعضهم بالمثلثة وبعضهم بالمثناة وفسرها بأنها تكسرت. والكدية جاءت في رواية أبي ذر الكيدة بفتح الكاف وسكون التحتانية قيل هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض وفي رواية الإسماعيلي فعرضت كدية - كما هنا- وهي بضم الكاف وتقديم الدال على التحتانية. وزاد في روايته - فقال رشوها بالماء فرشوها- فتح الباري 7/396.
4 صحيح البخاري مع الفتح 7/395، والعناق الأنثى من الماعز ما لم يتم له سنة، النهاية 3/311.
5 البرمة: هو القدر مطلقاً وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن. النهاية 1/121.
6 الأثافي: هي حجار ثلاث يوضع عليها القدر. مختار الصحاح 84.
فقلت: طعيم1 لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال: كم هو فذكرت له: "فقال كثير طيب". قال: قل لها: "لا تنزع البرمة ولا الخبر من التنور2 حتى آتي". فقال: قوموا فقام المهاجرون والأنصار. فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم قالت: هل سألك قلت: نعم. فقال: "ادخلوا ولا تضاغطوا" 3 فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر4 البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف5 حتى شبعوا وبقي بقية. قال: "كلي هذا واهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة" 6.
____________________
1 بالتصغير للقلة. لأنه حصل في رواية سعيد بن ميناء التي تلي هذه أن جابر رضي الله عنه لما جاء وأخبر امرأته فقالت بك وبك فقال قد فعلت الذي قلت. قال الحافظ في رواية يونس قال: "فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله -عز وجل-". فتح الباري 7/398.
2 التنور: الذي يخبز فيه ومنه قوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ} مختار الصحاح 79.
3 فيه دليل على كثرتهم ومعنى لا تضاغطوا: أي لا تتزاحموا.
4 أي يغطى.
5 أي يغرف مرقاً من البرمة.
6 فتح الباري 7/395.
كما رواه أيضاً أحمد1 والنسائي2 والبيهقي3.
أما البيهقي فقد أخرج هذا الحديث من رواية الإسماعيلي عن طريق المحاربي عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: قلت لجابر: "حدثني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرويه عنك فقال جابر: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر فيه فلبثنا ثلاثة أيام لا نطعم شيئاً ولا نقدر عليه فعرضت في الخندق كدية فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت هذه كدية4 قد عرضت في الخندق فرششنا عليها الماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب بحجر فأخذ المعول أو المسحاة ثم سمى ثلاثاً ثم ضرب فعادت كثياً أهيل"5 الحديث.
قال الحافظ: "وقد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب" قال: "لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر
____________________
1 مسند الإمام أحمد 3/300-301.
2 سنن النسائي 6/43 باب غزوة الترك والحبشة والرواية ليست عن جابر وإنما هي عن رجل من الصحابة.
3 دلائل النبوة 3/417.
4 هكذا وردت في أشهر الروايات، ووقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني (كندة) بنون، وعند ابن السكن: كتدة: بمثناة من فوق، قال عياض لا أعرف لهما معنى، فتح الباري 7/397.
5 دلائل النبوة 3/423.
الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فأخذ المعول ثم قال: "بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إن لأبصر قصر المدائن أبيض. ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة".
قال الحافظ: "وقد أخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نحوه"1.
وهناك أحاديث صحيحة تبين بوضوح مباشرته صلى الله عليه وسلم الحفر ونقل التراب مع صحابته رضي الله عنهم من ذلك ما روي البخاري ونصه:
قال البخاري2 رحمه الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم3 حدثنا شعبة4 عن أبي إسحاق5 عن
____________________
1 فتح الباري 7/397.
2 صحيح البخاري 5/47 كتاب المغازي باب غزوة الخندق.
3 هو الأزدي الفراهيدي. -ثقة- روى (ع) من التاسعة مات سنة 222هـ. التقريب 335.
4 هو ابن الحجاج بن الورد الواسطي ثم البصري - ثقة حافظ متقن - روى له (ع) من السابعة مات سنة ستين ومائة. التقريب 145.
5 أبو إسحاق هو: عمرو بن عبد الله السبيعي بكسر المهملة وكسر الموحدة مكثر ثقة عابد روى له (ع) من الثالثة مات سنة تسع وعشرين ومائة. التقريب 260-261.
البراء1 رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو إغبر بطنه2. يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علين
__________
ا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علين
__________
ا ... إذا أرادوا فتنة أبين
__________
ا
قال البراء: "ويرفع بها صوته أبينا أبينا" 3.
كما رواه مسلم4 وأحمد5 والدارمي6 والروياني7 بزيادة (ينقل في زنبيل8) وأخرجه الخطيب9 كما أورده الحافظ في عدة مواضع من
____________________
1 البراء بن عازب. الصحابي الجليل استصغر يوم بدر، أبو عمارة صحابي ابن صحابي أحاديثه 305 توفي بالكوفة سنة 72هـ.
2 كذا وقع بالشك: بالغين المعجمة فيهما فأما التي بالموحدة فواضح من الغبار، وأما التي بالميم فقال الخطابي إن كانت محفوظة فالمعنى وارى التراب جلدة بطنه. الفتح 7/399.
3 فيه دليل على تواضعه صلى الله عليه وسلم، وانشراح صدره ومجاراته لأصحابه فيما هو حلال وطيب.
4 صحيح مسلم 3/1430 باب غزوة الأحزاب وهي الخندق.
5 مسند الإمام أحمد 4/282/285-291/300/302/303.
6 سنن الدارمي 2/221.
7 في المسند 1/227 رقم (317) .
8 الزنبيل: بكسر الزاي أوله وزيادة نون ساكنة وهو مرادف للعرق والمكتل. انظر الفتح 4/169، والهدي لابن القيم حيث جاء فيه (والمكتل هو الزنبيل والقفة) 3/178.
9 تاريخ بغداد 11/289
الفتح1.
وهذا الحديث يدل بجلاء على مشاركته صلى الله عليه وسلم لهم وعلى تواضعه وقد جاء عند أحمد2 عن أم سلمة3 - رضي الله عنها- قالت: "ما نسيت قوله يوم الخندق وهو يعاطيهم اللبن وقد أغبر شعر صدره وهو يقول: "اللهم إن الخير خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة". الحديث.
كما جاء في الرواية الثانية للبراء عند البخاري حيث قال: حدثني أحمد بن عثمان4 حدثنا شريح بن مسلمة5 قال حدثني
____________________
1 الفتح 6/46، 160، 7/247، 399، 11/515، 13/222.
2 مسند الإمام أحمد 6/289.
3 أم سلمة اسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقد ولدت له سلمة وعمر ودرة وزينب، وتوفي عنها فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة اثنين من الهجرة بعد وقعة بدر وعاشت بعد ذلك ستين سنة، ت سنة اثنتين وستين وقيل قبلها. انظر الاستيعاب 4/472، أسد الغابة 5/588، والعبر للذهبي 1/48.
4 أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي أبو عبد الله الكوفي ثقة من الحادية عشرة مات سنة 261هـ، روى له (خ م س ق) . التقريب 15.
5 شريح بن مسلمة التنوخي الكوفي - صدوق - من قدماء العاشرة مات سنة 222هـ، روى له (خ س) التقريب 145.
إبراهيم بن يوسف1 قال حدثني أبي2 عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يحدث قال: "لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر3 فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علين
__________
ا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علين
__________
ا ... إذا أرادوا فتنة أبين
__________
ا
قال:" ثم يمد صوته بآخرها"4.
هكذا جاء أيضاً في هذه الرواية مباشرته صلى الله عليه وسلم لنقل التراب الناتج من الحفر فلقد كان صلى الله عليه وسلم مدرسة للأخلاق الكريمة الفاضلة المستقاة من القرآن
____________________
1 إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي صدوق يهم من السابعة مات سنة 198هـ، روى له (خ م د ت س) التقريب 24.
2 يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي وقد ينسب لجده - ثقة - من السابعة مات سنة 157هـ، روى له (ع) التقريب 388.
3 قال الحافظ: "وليس كذلك فإن صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق المسربة - أي الشعر- الذي في الصدر إلى البطن. قال فيمكن الجمع بأنه كان مع دقته كثيراً أي لم يكن منتشراً بل كان مستطيلاً والله أعلم". فتح الباري 7/401.
4 صحيح البخاري 5/47، والفتح 7/399.
الكريم يصدق ذلك قول عائشة - رضي الله عنها - عندما سئلت عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن1.
وسيرته صلى الله عليه وسلم مليئة بأمثال ذلك.
لذلك قال ابن هشام: "فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا عليه من الأمر ضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر وعمل معه المسلمون فيه فدأب فيه ودأبوا وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن.
أما المسلمون فكانوا لا يستأذنون إلا عند الضرورة فإذا قضوا حاجاتهم رجعوا إلى ما كانوا فيه من عمل رغبة في الخير واحتساباً له وقد أنزل الله في ذلك قرآنا يتلى فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك… الآية} 2.
____________________
1 صحيح مسلم 1/513، وأبو داود في التطوع 26، والترمذي في السير 69، والنسائي في قيام الليل 2، وابن ماجه في الأحكام 14.
2 سورة النور الآية 62.
حيث نزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة في الخير والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم 1.
ثم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون ويذهبون بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "2.
وهذه الآيات عامة ساقها ابن هشام وغيره للاستدلال بها على الفريقين. وعامة في الاستئذان سواء في الحرب أو في السلم وهي في الحقيقة نزلت كما قال ابن كثير3 في الذين يستأذنون في الخروج من الجمعة وغيرها.
__________
1 السيرة النبوية 2/216.
2 سورة النور الآية 63.
3 تفسير القرآن العظيم 3/306.
,
والمعجزات التي وقعت في أثناء ذلك
إن المصاعب والمشاكل تعترض حتى الأعمال السهلة، وفي أوقات السلم فكيف بعمل شاق ومجهود ضخم وكيف بعمل يكمن فيه درءُ الخطر القادم والمحدق بالمسلمين وبالمدينة التي تؤويهم إلا أن نصر الله لعباده يتجلى عندما ينصروه {… وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1.
إنه عندما علم المسلمون بتكتل الأحزاب وتهيؤهم للخروج لغزو المدينة بقوة كبيرة عندها فكر المسلمون في خطة الدفاع وهي (الخندق) وكانت ناجحة للغاية. وكانوا يعملون فيه بجد حتى ينتهوا منه قبل وصول العدو، وفعلاً شمروا عن ساعد الجد وبدأو بداية المدافع المستميت ولكن اعترضتهم مشاكل منها - الكدية -. تلك التي جعلتهم يذهبون للرسول صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بأمرها - وذلك لأنها استعصت عليهم - ويجيء صلى الله عليه وسلم ويضربها فتعود رملاً سائلاً وقد ورد ذلك عند البخاري حيث قال: حدثنا خلاد بن يحى حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: "أتيت جابراً رضي الله عنه
____________________
1 سورة الحج جزء من الآية 40.
فقال: "إنا يوم الخندق نحفر - فعرضت كدية شديدة1 - فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم" فقالوا: "هذه كدية عرضت في الخندق" فقال: "أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم". الحديث2.
الحديث رواه أيضاً أحمد3 بزيادة رشوها بالماء - والنسائي4 بلفظ مرادف- عرضت لهم صخرة - والبيهقي5.
وأخرجه البيهقي6 بسنده عن أيمن المخزومي وفيه قال أيمن المخزومي: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "كنا يوم الخندق نحفر فعرضت كذانة7، وهي الجبل"، الحديث.
____________________
1 هذه رواية الإسماعيلي عن طريق المحاربي والكدية القطعة الغليظة. انظر هدي الساري 178.
2 صحيح البخاري 5/45 وقد تقدم.
3 مسند الإمام أحمد 3/300- 301، 4/303.
4 سنن النسائي 6/43.
5 دلائل النبوة 3/423.
6 دلائل النبوة 3/423.
7 الكذانة ككتانة حجارة رخوة كالمدر واكذوا صاروا فيها و (الكذكذة) الحمرة الشديدة وكذّ خشن. القاموس 1/371 وهذا التفسير لا يستقيم مع ما هو معلوم من وقوف هذه الصخرة في طريقهم.
وأخرجه كذلك مطولاً من طريق كثير بن عبد الله1 عن أبيه2 عن جده3 وفي أوله "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع فمرت بنا صخرة بيضاء كسرت معاويلنا فأردنا أن نعدل عنها فقلنا حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلنا إليه سلمان"4. الحديث.
وهذا الحديث مداره على كثير هذا وهو ضعيف عند الجمهور كما قال الهيثمي وحسن الترمذي حديثه.
وقد أخرج الطبري هذا الحديث بسنده فقال: حدثنا ابن بشار5 قال ثنا محمد بن خالد بن عثمة6 قال ثنا كثير
____________________
1 لعله حصل خطأ في مطبوعة الفتح 7/397 حيث جاء (كثير بن عبد الرحمن) والصواب ابن عبد الله كما في التقريب (285) ، التهذيب 8/412، وهو ضعيف من السابعة ونسبه بعضهم إلى الكذب. انظر: الميزان 3/406.
2 هو عبد الله بن عمرو بن عوف بن يزيد المزني - مقبول - من الثالثة التقريب 183.
3 عمرو بن عوف بن يزيد بن ملحة بكسر أوله ومهملة أبو عبد الله المزني صحابي مات في ولاية معاوية. روى له (خ ت ر ت ق) . انظر: التقريب 261، الاستيعاب 3/274.
4 فتح الباري 7/398.
5 هو محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري أبو بكر - بندار - ثقة - من العاشرة. مات سنة 252. وله بضع وثمانون سنة. روى له (ع) . التقريب 291.
6 محمد بن خالد بن عثمة بمثلثة ساكنة قبلها فتحة ويقال أنها أمه الحنفي البصري صدوق يخطئ من العاشرة. روى له - الأربعة - التقريب 29.
بن عبد الله بن عمرو عوف المزني قال ثني أبي عن أبيه قال: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام ذكرت الأحزاب وفيه فحفرنا تحت دوبار1 حتى بلغنا الصرى2 أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة3 فكسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا يا سلمان أرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه"4 الحديث.
قال الحافظ5: "ووقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن فعند النسائي6 قال في الضربات الثلاث {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} " 7.
____________________
1 هكذا جاءت العبارة ولعلها محرفة ودوبار لفظة فارسية معناها مرتين. وهذا التفسير أيضا ليس مفهوم ولا يتفق مع النص. جامع البيان 21/134.
2 لم أقف لها على معنى ولعلها كما قال صاحب اللسان 14/457 (الماء الذي طال استنقاعه) .
3 المروة: حجارة بيض براقة - تورى النار - أو هي أصل الحجارة. القاموس 4/392.
4 جامع البيان 21/133، تاريخ الأمم والملوك 2/45.
5 فتح الباري 7/397.
6 سنن النسائي 6/43.
7 سورة الأنعام الآية 115.
وهذا إسناد أحمد حيث قال ابنه عبد الله: حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر1 ثنا عوف عن ميمون أبي عبد الله2 عن البراء بن عازب قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق" قال: "وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول" قال: "فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال عوف وأحسبه قال: "وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة. فأخذ المعول فقال: بسم الله فضرب ضربة فكسر الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله أني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ثم قال: بسم الله فضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله أني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا. ثم قال بسم الله وضرب ضربة أخرى فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله أني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا"3. الحديث
____________________
1 محمد بن جعفر الهذلي مولاهم المدني البصري المعروف - بغندر - ثقة صحيح الكتاب إلا فيه غفلة من التاسعة. مات سنة 243هـ (ع) . التقريب 293.
2 هو ميمون أبو عبد الله البصري مولى ابن سمرة ضعيف وقيل اسم أبيه أستاذ وفرق بينهما ابن أبي حاتم من الرابعة سئل عنه يحيى بن سعيد فحمّض وجهه وقال زعم شعبة أنه كان فسلا وقال الأثرم عن أحمد أحاديثه مناكير وذكره ابن حبان في الثقات وقال أبو داود تكلم فيه. التقريب 354، التهذيب 2/393.
3 المسند 4/303، الفتح الرباني 21/78.
أما ابن إسحاق فقد قال: "وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني فيها من الله تعالى عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته. عاين1 ذلك المسلمون فكان مما بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه إشتد عليهم في بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فتفل2 فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح3 ذلك الماء على تلك الكدية. "فيقول من حضرها فوالذي بعثه بالحق نبياً لانهالت4حتى عادت كالكثيب لا يرد فأساً ولا مسحاة"5. قال ابن كثير: "هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه6 وعند أحمد فأخذ المعول أو المسحاة7 بالشك وعند الواقدي فأخذ الكرزين8. وقد تتابعت المعجزات التي أجراها الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم في
____________________
1 عاين من المعاينة وهي المشاهدة.
2 تفل: أي بصق.
3 النضح: هو الرش.
4 انهالت: تفتتت.
5 السيرة النبوية 2/217.
6 البداية والنهاية 4/97.
7 مسند الإمام أحمد 3/300.
8 الكرزين: الفأس الكبيرة. القاموس 4/63.
أثناء حفر الخندق من ذلك: تكثير طعام جابر رضي الله عنه"، لذلك روى البخاري رحمه الله حيث قال: حدثني عمرو بن علي1 حدثنا أبوعاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان2 أخبرنا سعيد بن مينا 3. قال: "سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً4 شديداً فانكفأت5 إلى امرأتي6 فقلت لها هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً.
____________________
1 عمرو بن علي بن حجر بن كنيز بنون وزاي أبو جعفر الفلاس الصيرفي الباهلي البصري ثقة حافظ من العاشرة ت سنة 249هـ. روى له (ع) . التقريب 261.
2 حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية الجمحي المكي - ثقة حجة - من السادسة. مات سنة 151هـ. روى له (ع) . التقريب 86.
3 سعيد بن مينا مولى البختري بن أبي ذباب الحجازي مكي أو مدني. يكنى أبا الوليد - ثقة - من الثالثة. روى له (خ م د ت ق) . التقريب 126.
4 الخمص هو ضمور البطن من الجوع، ومنه حديث (كالطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) . أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف. النهاية في غريب الحديث 2/80.
5 انكفأت رجعت. المصدر السابق 183.
6 اسمها سهلية بنت مسعود. فتح الباري 7/397 ولم أجد لها ترجمة في كتب التراجم الأخرى.
فأخرجتْ إلي جراباً1 فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن2 فذبحتها وطحنتِ الشعير ففرغتْ إلى فراغي وقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه". فجئته فساررته فقلت: "يارسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك".
فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سؤراً3 فحي هلا بكم فقال صلى الله عليه وسلم لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ فجئتُ وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئتُ امرأتي فقالت بك وبك4 فقلتُ قد فعلتُ الذي قلتِ فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك
____________________
1 الجراب والجريب مكيال قدر أربعة اقفزة. القاموس 1/45.
2 داجن أي سمينة وهي التي تترك في البيت ولا تفلت للمرعى ومن شأنها أن تسمن. النهاية 2/102.
3 سؤرا: أي طعاماً يدعو إليه الناس. واللفظة فارسية (وهي بالسين وليست بالصاد كما في بعض المصادر) النهاية في غريب الحديث 2/420.
4 هذه خصومة تحصل في مثل هذه الحال خوفاً من الفضيحة لقلة الأكل وكثرة الأضياف. قال الحافظ وجاء في رواية يونس: أنه قال فلقيت من الحياء مالا يعلمه إلا الله عز وجل وقلت جاء الخلق على صاع من شعير وعناق فدخلت على امرأتي أقول افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين فقالت هل كان سألك كم طعامك فقلت: نعم! فقالت: الله ورسوله أعلم ونحن قد أخبرناه بما عندنا فكشفت عني غماً شديداً. فتح الباري 7/398.
ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال أدعُ خابزة فلتخبز معي1. واقدحي2من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف فاقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه. وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبزكما هو". الحديث3.
الحديث رواه أيضا مسلم4 عن سعيد بن مينا بنفس اللفظ والحاكم5.
وعند البخاري من طريق أيمن المخزومي المتقدم وفي آخره (قال كلى هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة) 6.
وقد أورده ابن تيمية7 ضمن المعجزات8.
____________________
1 كذا في الصحيح 5/47، الفتح 7/396، وفي البداية والنهاية 4/98 (فلتخبز معك) وهو الظاهر.
2 القدح بفتح القاف وسكون الدال هو الغرف. القاموس المحيط 1/242.
3 صحيح البخاري 5/46 باب غزوة الخندق.
4 صحيح مسلم 3/1610 كتاب الأشربة.
5 المستدرك 3/31.
6 فتح الباري 7/395.
7 هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي شيخ الإسلام - تقي الدين -أبو العباس، محدث حافظ مفسر، فقيه. ولد في ربيع الأول 12 منه عام 661هـ. توفي في دمشق في 20 ذو القعدة عام 728. من مصنفاته السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية وغير ذلك من الكتب القيمة. تذكرة الحفاظ 4/1496، شذرات الذهب 6/80.
8 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/193.
وفي رواية يونس "كلي وأهدي فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع".
وفي رواية أبي الزبير عن جابر "فأكلنا نحن وأهدينا لجيراننا فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك"1.
قال السيوطي2: "وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي3 في الدلائل عن جابر هذا الحديث".
ورواه أحمد عن سعيد بن مينا وفيه قال: "فبرك وسمى ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صدروا أهل الخندق عنها"4. أ. هـ.
عدد من أكل من مائدة جابر رضي الله عنه:
الرواية التي في الصحيحين أنهم ألف (وهم ألف) 5.
وفي رواية أبي نعيم في المستخرج: "فأخبرني أنهم كانوا تسعمائة أو ثمانمائة".
____________________
1 فتح الباري 7/398.
2 الدر المنثور 5/187.
3 دلائل النبوة 3/422.
4 مسند الإمام أحمد 3/300.
5 صحيح البخاري 5/47. باب غزوة الخندق.
وفي رواية عبد الواحد بن أيمن عند الإسماعيلي (كانوا ثمانمائة أو ثلاثمائة) .
وفي رواية أبي الزبير (كانوا ثلاثمائة) . قال الحافظ1: "والحكم للزائد لمزيد علمه لأن القصة متحدة".
وفي سياق الحديث عن المعجزات قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن مينا أنه حُدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة2 من تمر في ثوبي ثم قالت: "أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما" قالت: "فأخذتها فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي" فقال صلى الله عليه وسلم تعالى: "يابنية ما هذا معك؟ " قالت فقلت: "يارسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه" قال: "هاتيه" قالت: "فصببته في كفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما". ثم أمر بثوب فبسط له ثم دحا3 بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء، فاجتمع أهل
____________________
1 فتح الباري 7/319.
2 الحفنة: ملى الكفين من طعام. مختار الصحاح 145.
3 دحا الشيء بسطه منه قوله تعالى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} . مختار الصحاح 3/300.
الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب1.أ. هـ.
قال ابن كثير2: "هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع".
لقد تنوعت المعجزات له صلى الله عليه وسلم فبعضها حدث في أثناء حفر الخندق وكانت عاجلة وبعضها حدث كما قال صلى الله عليه وسلم بعد أعوام طويلة من وفاته صلى الله عليه وسلم ولا زلنا نرى الكثير مما قال ونشاهد أعلام نبوته تباعاً لذلك روى الإمام مسلم حديثاً في ذلك وفيه قال: حدثنا ابن المثنى وابن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي مسلمة3 قال: سمعت أبا نضرة4 يحدث عن أبي سعيد الخدري5 قال: "أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
____________________
1 السيرة النبوية 2/218، الروض الأنف 6/265.
2 البداية والنهاية 4/99.
3 هو سعيد بن يزيد بن مسلمة الازدي أبو سلمة البصري القصير ثقة من الرابعة. روى له (ع) 127.
4 المنذر بن مالك بن قطعة بضم القاف وفتح المهملة العبدي العوقي بفتح المهملة والواو ثم قاف البصري أبو نضرة بنون ومعجمة ساكنة مشهور بكنيته - ثقة - من الثالثة. مات سنة ثمان أو تسع ومائة. روى له البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة. التقريب 347.
5 هذه كنيته واسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري له ولأبيه صحبة وهو صحابي مشهور. التقريب 119.
لعمار1 حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه يقول: بؤس ابن سميه تقتلك فئة باغية" 2 كما رواه الترمذي3 والطيالسي4.
ولقد تحقق ما قاله صلى الله عليه وسلم حيث قتل عمار في صفين مع علي رضي الله عنه ولما قتله أصحاب معاوية رضي الله عنه قال عمرو بن العاص: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة5.
__________
1 هو الصحابي الجليل عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي بنون ساكنة ومهملة أبو اليقظان مولى بني مخزوم من السابقين الأولين بدري قتل بصفين مع على سنة سبع وثلاثين. التقريب 250.
2 صحيح مسلم 4/2235. كتاب الفتن وأشراط الساعة.
3 سنن الترمذي 5/333. مناقب عمار بن ياسر.
4 منحة المعبود 2/152.
5 أسد الغابة 4/47.
,
...
الفصل الرابع: مكان الخندق وسرعة إنجازهم لحفره
لقد بدأ المسلمون في حفر الخندق في وقت عصيب - ذلك لأنهم يبادرون قدم العدو. وقد وكل صلى الله عليه وسلم لكل أناس جزءاً من المكان المتفق على حفره وفي ذلك تنشيط لهم ودافع على المسابقة في إكمال ما يلزم كل طائفة علماً بأنه صلى الله عليه وسلم قد وضع يده معهم ليدفعهم ويرغبهم أكثر في ذلك فقد روى الطبراني:
عن عمرو بن عوف المزني أن رسول صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر السبختين1 طرف بني حارثة عام حزّب الأحزاب2 حتى بلغ المذابح3
____________________
1 كذا في المجمع 6/130 -أحمر السبختين- وفي بقية الكتب ورد غير ذلك- ولعله تصحيف فقد جاء عند الطبري في جامع البيان 21/133 - أحمر الشيخين- وفي تاريخ الأمم والملوك 3/45 أجم الشيخين، وفي دلائل النبوة للبيهقي 3/400 الأجم - السمر- وهذا هو الحق لأن الا جم هي الحصون، وفيه (حتى توارت بآجام المدينة) أي حصونها واحدها أُجُم بضمتين. النهاية في غريب الحديث 1/26.
2 في الطبري عام -ذكرت الأحزاب- جامع البيان 21/133، وتاريخ الأمم والملوك 3/45.
3 اختلف فيها كثيراً، ولكن التحقيق سيأتي في نهاية هذا الفصل نقلاً عن ياقوت الحموي وغيره.
فقطع لكل - عشرة أربعين ذراعاً واحتج1 المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً فقال المهاجرين: "سلمان منا وقالت الأنصار منا" فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت". الحديث2.
قال الهيثمي3: "رواه الطبراني وفيه كثير بن عبد الله المزني وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه. وقد كذبه الشافعي. وتركه أحمد". وفي الميزان عن ابن حبان - له عن جده نسخة موضوعة - وقال الشافعي وأبو داود: "هو ركن من أركان الكذب"4.
وقد أورده ابن جرير الطبري5 مطولاً ومداره على كثير هذا.
وعلى ذلك فهو ضعيف لضعف كثير إلا أنه يتقوى بما سيأتي من المتابعات والشواهد، مما يدل على أن له أصلاً.
وقد حصل اختلاف بين روايات هذا الحديث مع أن مدارها على واحد. فقد نقل الحافظ حيث قال:
____________________
1 عند الطبري في التفسير 21/134 -اختلف- وفي التاريخ 3/45 - (احتق) - وهو الأصح. انظر: لسان العرب 10/49.
2 المعجم الكبير للطبراني 6/260 حديث (6040) وفيه (النسختين) بدل السبختين.
3 مجمع الزوائد 6/130.
4 تهذيب التهذيب 8/421، سبل السلام 3/59.
5 جامع البيان 21/133، تاريخ الأمم والملوك 3/45.
وأخرجه البيهقي مطولاً من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده وساق الحديث إلى أن قال:
وخط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع -وفيه- فمرت بنا صخرة بيضاء كسرت معاويلنا فأردنا أن نعدل عنها فقلنا: حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلنا إليه سلمان - وفيه- فضرب ضربة صدع الصخرة وبرق منها برقة وكبر المسلمون - وفيه - رأيناك تكبر فكبرنا بتكبيرك فقال: إن البرقة الأولى اضاءت لها قصور الشام فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم - وفي آخره- ففرح المسلمون واستبشروا1.
وهذه الرواية سبق في الفتح أنها للطبراني وفيها أن كل أربعين ذراع لعشرة من الناس2 كذلك أورد ابن كثير هذه الرواية بلفظ "بين كل عشرة أربعين ذراعاً"3.
وفي الدلائل للبيهقي: فلما وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانب من الخندق قال المهاجرون يا سلمان احفر معنا. الحديث4. وليس فيه تحديد الناس والأذرع.
____________________
1 فتح الباري 7/397.
2 مجمع الزوائد 6/130.
3 البداية والنهاية 4/99.
4 دلائل النبوة للبيهقي 3/400.
ورواه ابن جرير: عن ابن بشار عن محمد بن خالد بن عثمة عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده فذكره - وفيه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعاً. قال واحتق1 المهاجرون والأنصار في سلمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" قال عمرو بن عوف فكنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً. الحديث2.
ولقد حفروا رضي الله عنهم بجد ونشاط وكانت المسافة طويلة وشاقة حيث كان الحفر من طرف بني حارثة - وبنو حارثة- في طرف الحرة الشرقية - إلى المذاد- من طرف بني سلمة بعد جبل بني عبيد من بني سلمة3.
وكان هذا مع ما كان بهم من الجوع وبدائية الأدوات التي كانوا يستخدمونها إلا أن اعتمادهم على الله ثم على قوة إيمانهم به وبرسوله
____________________
1 وهي عند ابن كثير هكذا -ومعناها- اختلفوا وتنازعوا. انظر: البداية والنهاية 4/99
2 جامع البيان 21/133-134، وقد تقدم رجال السند مترجمين في ص 169.
3 المدينة بين الماضي والحاضر 377.
وبمشروعية الدفاع عن الإسلام وعن النفس كل ذلك جعلهم ينجزون ما بدأوا فيه بسرعة فائقة إذا قيس بأعمال الآلات الحديثة اليوم.
أما بالنسبة لتحديد المكان المحفور على ضوء الأدلة فقد قال صاحب المواهب1 اللدنية: روى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني أنه صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر الشيخين… وهما أطمان طرف بني حارثة حتى بلغ المذاد2.
ولقد عمل صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة مع المسلمين ليقوي نشاطهم وتزداد رغبتهم كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يبادلهم الأهازيج. لأن الشعر والتمثل به مما يزيد في النشاط. وبذلك جرت عادتهم في الحرب وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز3 لذلك روى البخاري رحمه الله حيث قال:
____________________
1 المواهب اللدنية 2/102، وهو محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الزرقاني المالكي أبو عبد الله ت 1122. معجم المؤلفين 10/124.
2 هذا ما قاله الزرقاني بالنسبة لهذا الحديث - بسند لا بأس به- ولم أطلع على الجزء من مسند الطبراني الذي فيه مسند - عمرو بن عوف-.
3 نوع من الشعر - وقد جاء في حديث الوليد بن المغيرة حين قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم أنه شاعر فقال: "لقد عرفت الشعر رجزه وهزجه وقريضه فما هو به" والرجز: بحر من بحور الشعر وتسمى قصائده أراجيز واحدها أرجوزه فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر ويسمى قائله راجزاً. النهاية في غريب الحديث 2/199.
حدثنا عبد الله بن محمد1 حدثنا معاوية بن عمرو2 حدثنا أبو إسحاق3 عن حميد4 سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة.
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً5
ورواه مسلم من طريق محمد بن حاتم السمين بنفس اللفظ إلا أن فيه تقديماً وتأخيراً6. قال الحافظ قوله: "فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك" أي أنهم عملوا فيه بأنفسهم لاحتياجهم إلى ذلك لا لمجرد الرغبة في الأجر7
____________________
1 هو المسندي وترجمته في تهذيب التهذيب 10/215.
2 هو الأزدي المعنى -بفتح الميم وسكون المهملة- الكوفي أبو عمرو البغدادي، تهذيب التهذيب 10/215.
3 أبو إسحاق هو - الفزاري واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث- ثقة حافظ من الثامنة روى له (ع) التقريب 22.
4 هو الطويل أبو عبيدة البصري اختلف في اسم أبيه -ثقة مدلس- من الخامسة- روى له (ع) التقريب 84.
5 صحيح البخاري 5/45 كتاب المغازي باب غزوة الخندق.
6 صحيح مسلم 3/1432 كتاب الجهاد والسير.
7 فتح الباري 5/394.
أقول: "إنه قد يفهم من كلام الحافظ أن الحاجة وحدها هي التي دفعتهم للعمل ولكنه واضح أن الرغبة في الأجر هي السمة الغالبة في ذلك وأن الحاجة مضافة إلى ذلك خصوصاً أولئك الذين مدحهم الله في أكثر من آية بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1 الآية.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن العيش عيش الآخرة" فقد بين الحافظ سبب هذا القول وهو لما رأى ما بهم من النصب والجوع قال ذلك.
قال: "وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زيادة في هذا الرجز:
والعن عضلاً والقارة ... هم كلفونا ننقل الحجارة
ثم قال: "والشطر الأول غير موزون ولعله" كان: "والعن الهي عضلاً والقارة".
وفي الطريق الثانية لأنس أنه قال ذلك جواباً لقولهم: "نحن الذين بايعوا محمداً" قال: "ولا أثر للتقديم والتأخير فيه لأنه يحمل على أنه كان يقول" إذا قالوا ويقولون إذا قال.
____________________
1 سورة الفتح الآية الأخيرة.
قال: "وفيه أن إنشاد الشعر سبب للتنشيط في العمل وبذلك جرت عادتهم في الحرب وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز".
وقال في قوله: "على الجهاد ما بقينا أبداً" في رواية عبد العزيز على الإسلام بدل - الجهاد - والأول اثبت1. وهذا الحديث ورد في عدة مواضع في صحيح البخاري2.
أقول: "إن المسلم عليه أن يتأسى برسوله صلى الله عليه وسلم فحينما يرى البذخ الذي فيه بعض الناس والفقر الذي فيه آخرون - يقول - اللهم إن العيش عيش الآخرة. لأنها كلمة ترتفع بالنفس عن الدنيا الفانية وإغراءاتها المذلة".
وقد جاء عند البخاري من طريق ثانية عن أنس وفيها قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو معمر3 حدثنا عبد الوارث4 عن
____________________
1 فتح الباري 7/394-395 كتاب الجهاد - باب غزوة الخندق.
2 فتح الباري 6/45 كتاب الجهاد باب التحريض على القتال، 6/46، 6/117، 13/192 كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس.
3 عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج التميمي أبو معمر المقعد المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف البصري واسم أبي الحجاج ميسرة ثقة ثبت - رمي بالقدر من العاشرة. مات سنة أربع وعشرين ومائتين روى له (ع) التقريب 183.
4 هو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوزي بفتح المثناة وتشديد النون البصري - ثقة ثبت - رمي بالقدر ولم يثبت عنه - من الثامنة مات سنة ثمان ومائة. روى له (ع) . التقريب 222.
عبد العزيز1 عن أنس رضي الله عنه2 قال: "جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم3 وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الإسلام ما بقينا أبداً
قال: "يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم:
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فبارك في الأنصار والمهاجرة.
قال: "يؤتون بملئ كفِّى من الشعير فيصنع لهم بإهالة4 سنخة5 توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة6 في الحلق ولها ريح منتن"7… الحديث.
____________________
1 هو عبد العزيز بن صهيب البناني بموحدة ونونين البصري ثقة من الرابعة مات سنة ثلاثين ومائة روى له (ع) التقريب 215.
2 أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين صحابي مشهور مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة. التقريب 39. والاستيعاب 1/198.
3 المتن هو الكتف (وقد جاء في رواية أخرى على أكتاف) وفي أخرى على أكتادنا وكلاهما بمعنى واحد) .
4 الإهالة: بكسر الهمزة وتخفيف الهاء. الدهن مما يؤتدم به وقيل هو ما أذيب من الألية والشحم وقيل الدسم الجامد. النهاية في غريب الحديث 1/84.
5 السنخة: المتغيرة الريح وذلك لقدمها. النهاية 1/84، وفتح الباري 7/395.
6 بشعة: كريهة الطعم عند ازدرادها. فتح الباري 7/395.
7 فتح الباري 7/392-393.
هكذا كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صراع دائم مع الدنيا وإغراءاتها ولم تجد إليهم سبيلاً بل كانوا على يقين تام بأن الآخرة أحسن وأولى {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} 1. وكانوا يعملون هذه الأعمال المجيدة الشاقة دفاعاً عن هذا الدين الحنيف وهم في حالة صعبة حيث الجوع والبرد القارس ومع ذلك كانت عزائمهم صلبة تكسر الصخور.
ومن أيقن مثلهم بخراب الدنيا وذهابها عمل لعمارة الآخرة ونسي الآلام كلها وتخطى كل العقبات.
وقد روى البخاري حديثاً آخر بمعنى مقارب لما سبق قال فيه:
حدثنا قتيبة2 حدثنا عبد العزيز3 عن أبي حازم4 عن
____________________
1 سورة الضحى الآية 4.
2 قتيبة بن سعيد بن جميل بفتح الجيم ابن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني وبغلان من قرى بلخ وهي بفتح الموحدة وسكون المعجمة يقال: اسمه يحيى وقيل: علي -ثقة ثبت- من العاشرة مات سنة 240هـ عن تسعين سنة (ع) التقريب 281.
3 عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي أبو محمد الجهني مولاهم المدني -صدوق- كان يحدث من كتب غيره فيخطئ قال النسائي حديثه عن عبيد الله العمري منكر من الثامنة مات سنة ست أو سبع وثمانين ومائة (ع) التقريب 216.
4 سلمة بن دينار أبو حازم الأعرج الأفزر التمار المدني القاضي مولى الأسود بن سفيان -ثقة عابد- من الخامسة مات في خلافة المنصور (ع) التقريب 130.
سهل بن سعد1 رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب2 على أكتادنا3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار" الحديث4.
كما رواه مسلم5 والترمذي6 والطبراني7:
أما الأماكن الواردة في الخندق فقد اختلف فيها كثيراً وقد يذكر البعض ما لا يذكره الآخر كما أنه يحدث في بعض الأحيان تصحيف لبعضها وخاصة المتشابهة في الحروف وسأذكر ما وجدته في كتب المؤرخين وبعد ذلك نستطيع المقارنة والحكم.
____________________
1 سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس له ولأبيه صحبة مشهور، وهو آخر من مات بالمدينة أحاديثه 188، الاستيعاب 2/224، وكشف المشكل من حديث الصحيحين 2/266.
2 فيه دلالة على صغر سن سهل في ذلك الوقت وأنه كان ومن في مثل سنه مخصصين لنقل التراب المحفور.
3 الكتد بتفح التاء وكسرها مجمع الكتفين وهو الكاهل. النهاية 4/149.
4 صحيح البخاري 5/45، الفتح 7/392.
5 صحيح مسلم 3/1432.
6 سنن الترمذي 5/356 أبواب المناقب.
7 المعجم الكبير 6/205.
قال الفيروز أبادي1: "فحفر صلى الله عليه وسلم طولاً من أعلى وادي بطحان2 غربي الوادي مع الحرة إلى غربي المصلى يوم العيد ثم إلى مسجد الفتح ثم إلى الجبلين الصغيرين غربي الوادي وجعل المسلمون ظهورهم إلى جبل سلع وضرب قبته على موضع مسجد الفتح اليوم3 والخندق بينهم وبين المشركين". أ. هـ.
وقد مر في الحديث الذي رواه كثير بن عبد الله المزني وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر (السبختين) وقد ظهر في الكلمة
____________________
1 المغانم المطابة 134 تحقيق الجاسر.
2 بطحان بضم فسكون عند المحدثين وحكى أهل اللغة بطحان بفتح أوله وكسر ثانيه وهو: واد بالمدينة وهو أحد أوديتها الثلاثة: العقيق وبطحان وقناة. وقد روى الزبير بن بكار -بطحان على ترعة من ترع الجنة- انظر المغانم المطابة 56، والنهاية في غريب الحديث 1/136.
3 مسجد الفتح الذي يسمى حالياً بهذا الاسم يقع على طرف جبل سلع في الشمال الغربي منه مطلاً على مسيل بطحان (أبي جيده) ويبعد عن المدينة بـ 3 كيلوات المغانم المطابة 958، وقد رد هذا - حمود التويجري- حيث قال لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أسس في المدينة مسجداً سوى مسجده ومسجد قباء ومن زعم غير هذا فقوله بعيد من الصحة والذي يظهر أن هذه المساجد كانت من إنشاء المفتونين بالآثار ونسبتها إلى الأكابر ليكون لذلك موقع عند الجهال، مجلة البحوث الإسلامية 279-280 العدد الخامس محرم - جمادى الآخرة 1400. قلت: وبالنظر إلى طبيعة المكان نجد أنه يقع في الجنوب الغربي وليس في الشمال كما قال صاحب المغانم المطابة. والله أعلم.
بين قوسين تصحيف وأنها أجم الشيخين كما في الطبري1 والبيهقي2 وعلى ذلك (فاجم الشيخين) الأجم: بضمتين: الحصن3 والشيخان تثنية شيخ وهو موضع بالمدينة كان فيه معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خرج لقتال المشركين بأحد. وقيل: هما اطمان سميا به لأن شيخاً وشيخة كانا يتحدثان هناك4.
وقال العياشي: "جاء فيما ساقه السمهودي عن الطبراني ما سماهما فيه باجم الشيخين والبيهقي في دلائل النبوة سماهما - الاجم السمر5 - وكل هذا ينطبق على الشيخين الاطمين المذكورين"6.
ومن هنا بدأ مكان حفر الخندق وقد ورد في حديث - كثير - المتقدم خط الخندق من أحمر السبختين طرف بني حارثة وعليه فقد ذكر السمهودي - ضمن المساجد- مسجد بني حارثة وقد ذكر العياشي7 أن هذا المسجد يقع في طريق المستراح من الغرب أ. هـ.
____________________
1 تاريخ الأمم والملوك 3/45.
2 دلائل النبوة 3/419.
3 القاموس المحيط 4/73.
4 معجم البلدان 3/380.
5 دلائل النبوة 3/418.
6 المدينة بين الماضي والحاضر 373.
7 المدينة بين الماضي والحاضر 373.
أقول: "والمستراح موضع معروف اليوم على يسار الذاهب إلى شهداء أحد ويبعد عن المسجد النبوي بحوالي ثلاثة كيلو مترات. وهذا يعني أن مكان الخندق بشكل عام كما يذكره المؤرخون من حرة واقم إلى حرة الوبرة وهما تسميان اليوم (بالشرقية والغربية) ".
لذلك قال العياشي1: "من هنا بدأ خط الخندق - وذلك حينما ذكر الاجم السمر- أو الشيخين - طرف بني حارثة التي عند القلعة التي تتوسط طريق الشهداء حتى تنتهي إلى المذاد من طرف بني سلمة أ. هـ. أما (المذاد) فقد حصل فيها اختلاف أيضا فقد ورد عند الهيثمي2 (المداحج) بالدال المهملة وعند الطبري3 وياقوت4 أنها المذاد وقال ياقوت: هو بالفتح وأخره دال مهملة وهو اسم المكان من ذاده يذوده إذا طرده" قال ابن الأعرابي: "المذاد والمزاد بالزاي المعجمة - المرتفع موضع بالمدينة حيث حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق. وقيل: هو واد بين سلع وخندق المدينة. قال كعب بن مالك:
____________________
1 المدينة بين الماضي والحاضر 377.
2 مجمع الزوائد 6/130.
3 جامع اليبان 21/133 تاريخ الأمم والملوك 3/45.
4 معجم البلدان 5/88، النهاية في غريب الحديث 4/311.
من سره ضرب يرعبل بعضه ... بعضاً كمعمعة الإباء المحرق
فليات مأسدة تسل سيوفها ... بين المذاد وبين جزع الخندق أ. هـ. 1
وعليه فالمذاد ورد ذكره في هذا البيت كما ترى مما يدل على شهرته عندهم أما المداحج فلم أقف لها على ذكر في المصادر التي رجعت إليها ولعل فيها تصحيفاً.
وهناك موضعان ورد ذكرهما في الخندق وهما - الندى، الصرى2- ولم أجد لهما ذكراً في معالم المدينة إلا أن هناك ذكراً لما يشابه الصرى حيث قال ياقوت: صرار، بكسر أوله وآخره مثل ثانيه وهي الأماكن المرتفعة التي لا يعلوها الماء يقال لها صرار، وصرار: اسم جبل وقيل موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق قاله الخطابي. أهـ3.
أما بالنسبة للندى، ومع إني لم أجد لها ذكراً في المواقع إلا أني وجدت في دلائل النبوة للبيهقي ما قد يوضح هذا الالتباس، وإن لم
____________________
1 معجم البلدان 5/88، والنهاية في غريب الحديث 4/311.
2 جامع البيان 21/134، تاريخ الأمم والملوك فيه - الندى- وليس فيه الصرى 3/45.
3 معجم البلدان 3/398.
يوضحه فهو لا يخلو من فائدة، وعليه فقد روى اليبهقي من طريق كثير ابن عبد الله المزني حديثاً، وفيه قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً فحفرنا حتى بلغنا الثّديّ1 أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدّورة2. الحديث.
وعلى ذلك فهذه الكلمة - الثدى- محتملة لما يأتي:
1- أنهم حفروا إلى ما يبلغ الثدى وفي هذا دلالة على عمق الخندق.
2- ويحتمل أنها الثرى -بالثاء المعجمة والراء المهملة- ويكون فيها تصحيف.
والثرى بمعنى الندى3، وتكون الندى لا تصحيف فيها. وهذا يدل على أنه ليس هناك مكان معروف يسمى الندى، وإنما الندى هو الجود وهو المطر والبلل4، ويطلق على قطرات الماء التي تصبح على أوراق الأشجار. ولذلك قال الطبري والصرى هو الماء5.
____________________
1 وهذا العمق قد يكون أكثر من متر لأن طول الرجل المتوسط متر ونصف فأكثر.
2 دلائل النبوة 3/419.
3 القاموس المحيط 4/394.
4 مختار الصحاح 653.
5 جامع البيان 21/134.
عقب ذلك قال السفاريني1:
وكان الخندق بسطة ونحوها وكان سلع الجبل خلف ظهورهم، والخندق من المذاد2 إلى ذباب3 إلى راتج4.
وكان قد عمل فيه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه -رضي الله عنهم- مستعجلين. ثم قال في الهامش تعليقاً على هذه الأماكن:
المزاد: هو أطم لبني حرام غربي مساجد الفتح، وذباب: كغراب اسم جبل بالمدينة، وراتج: اسم أطم أيضاً. أهـ5.
قال ابن سعد: "ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وكل بكل جانب منه قوماً
____________________
1 هو محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني النابلسي الحنبلي (أبو العون) شمس الدين محدث فقيه أصولي صوفي مؤرخ مشارك في بعض العلوم ولد عام 1114هـ، وتوفي 1188هـ، من تصانيفه معارج الأنوار في سيرة النبي المختار. انظر معجم المؤلفين 8/262.
2 هو المذاد: بالذال أخت الدال وهذا بدليل ما جاء في شعر كعب بن مالك وقد مر في هذا البحث في صفحة 197.
3 ذباب: قال ياقوت ذكره الحازمي بكسر أوله وباءين جبل بالمدينة له ذكر في المغازي والأخبار معجم البلدان 3/3.
4 راتج: بعد الألف تاء مثناه من فوق مكسورة وجيم: اطم من آطام بالمدينة وتسمى الناحية به. معجم البلدان 3/12.
5 شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد 1/199- 200.
وكان المهاجرون من ناحية راتج إلى ذباب وكانت الأنصار من ذباب إلى جبل بني عبيد وكان سائر المدينة مشبكاً بالبنيان، فهي كالحصن وخندقت بنو عبد الأشهل عليها مما يلي راتج إلى خلفها حتى جاء الخندق من وراء المسجد، وخندقت بنو دينار من عند جربا إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم"1.
ويستنتج من هذا وذاك أن أقصى نقطة من الشرق بالنسبة للخندق هي راتج، وآخر نقطة من الغرب جبل بني عبيد، وفيما بينهما جرى الحفر.
أما المدة التي استغرقوها في أثناء الحفر ففيها أقوال:
1- قول ابن سعد "وفرغوا من حفره في ستة أيام، ورفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام"2.
2 - وقول القسطلاني: "وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق قريباً من
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/66- 67.
2 المصدر السابق 2/67.
عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعاً وعشرين ليلة. وعند النووي في الروضة خمسة عشر يوماً. وعند ابن القيم في الهدي النبوي شهراً". أهـ1.
3 - وقول السمهودي: "وما تقدم من فراغ الخندق في ستة أيام هو المعروف لكن قال الحافظ ابن حجر إن في مغازي ابن عقبة: أنهم أقاموا في عمله قريباً من عشرين ليلة ثم ساق الكلام كما ساقه القسطلاني ثم عقب قائلاً: "والذي في الهدي - وأقام المشركون شهراً- أي يحاصرون. وكذا ما قاله في الروضة إنما هو في الحصار وكذا ابن عقبة إنما ذكر ذلك في الحصار" ثم قال: "لكن نقل ابن سيد الناس عن ابن سعد أن المدة في عمل الخندق ستة أيام ثم قال وغيره يقول بضع عشرة ليلة، وقيل أربعاً وعشرين"2.
قال القسطلاني: "ولست بواثق من هذا التعقيب فإن الحافظ نقل أولاً عن ابن عقبة أن مدة الحصار عشرون يوماً ثم بعد قليل ذكر هذا الخلاف في مدة الحفر وتوهيم مثله لا ينبغي"3.
____________________
1 المواهب اللدانية 1/112.
2 وفاء الوفاء 4/1208- 1209، وذكره الحافظ في الفتح 7/394.
3 المواهب اللدانية 1/110.
4- قول المقريزي: "إنهم فرغوا من حفره في ستة أيام"1.
5- قول ابن الجوزي: "إن مدة الحصار كانت بضع عشرة ليلة، وقيل أربعاً وعشرين ليلة ثم قال: وفرغوا من حفره في ستة أيام"2.
ومن المعاصرين:
6- محمد محمد أبو شهبة: "أثبت أنهم أتموا حفر الخندق في خلال ستة أيام"3.
7- أما عماد الدين خليل فقال: "وكان لتقسيم العمل وإسهام الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إلى جانب أصحابه، والإيمان العميق الذي كان يدفع المسلمين إلى بذل كل طاقاتهم لإنجاز الخطة الدفاعية وشعورهم بعظم الخطر المحدق إن هوجمت المدينة قبل أن ينجز حفر الخندق. فضلاً عن تأميل الرسول صلى الله عليه وسلم جنده بالنصر القريب في الأرض والأجر العريض في السماء.
____________________
1 الإمتاع 1/216.
2 الوفاء بأحوال المصطفى 693، التلقيح 59.
3 السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة 2/229.
وكان لهذه الأمور جميعاً الأثر الحاسم في تمكين المسلمين من حفر الخندق الذي يمتد "اثنا عشر ألف ذراع"1. في ستة أيام قبل أن يدهمهم الأعداء.
__________
1 هذه المسافة تقدر بستة كيلوات.
,
,
,
...
المبحث الأول: عدد جيش المشركين، وبيان قواده
بعد أن اجتمع الوفد اليهودي بقيادة زعيمهم الحاقد حيي بن أخطب بقواد قريش وزعمائها، وبعد أن رجعوا فرحين بما جاء به ذلك الوفد المشؤوم الذي كشف الله أمره، ولعنه حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} 1 الآية.
بعد ذلك كله اجتمع زعماء قريش في دار الندوة2 للمشاورة وخرجوا بقرار نهائي هو الموافقة على ما أراده اليهود منهم وقد صادف
____________________
1 سورة النساء الآيتين 52- 53.
2 دار الندوة: مكان بمكة أحدثه قصي بن كلاب بن مرة لما تملك مكة، وهي دار كانوا يجتمعون فيها للمشاورة، واللفظة مأخوذة من لفظ الندى والنادي والمنتدى، وهو مجلس القوم الذي يندون حوله أي يذهبون قريباً منه ثم يرجعون هذا ما قاله ياقوت. معجم البلدان 2/413، أما ابن دريد فقال: "أن قصياً أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع، وبني دار الندوة، وهي الدار التي كانت قريش تجتمع فيها عند النوائب في الحرب أو غيرها. الاشتقاق 155"، وقال الحلبي: "دار الندوة من جهة الحِجر وكان لها باب إلى المسجد أعدت للاجتماع"، السيرة الحلبية 2/222.
هوى في نفوسهم ألا وهو استئصال الإسلام والقضاء على حامليه كما كانوا يعتقدون ذلك؛ لأن نظرتهم كانت تغتر بالعدد الكبير الذي حشدوه إلى أرض المعركة، ونسوا أن النصر من عند الله، وأنه هو الذي نصر المؤمنين مع قلتهم في بدرٍ وغيرها. تجاهلوا ذلك كله وكان يراودهم أمل متعلق بالكثرة الكاثرة التي ذهب اليهود من أجلها إلى غطفان وبقية القبائل المعادية للإسلام في ذلك الوقت.
ولكنهم كما قال الله تعالى: {… وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1.
وهم مع ذلك لا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى قال: {…كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ …} 2 الآية.
قال ابن إسحاق: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع
____________________
1 سورة الأنفال الآية 30.
2 سورة البقرة الآية 249.
الأسيال من رومة1 بين الجرف وزغابة2 في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة، وأهل تهامة وأقبلت غطفان، ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي3 إلى جانب أحد"4، أهـ.
____________________
1 رومة: بضم الراء وسكون الواو: أرض بالمدينة بين الجرف وزغابة نزلها المشركون عام الخندق. وبهذا يعرف التصحيف الذي ورد عند الطبري في تاريخ الأمم والملوك 2/46، حيث قال بمجتمع الأسيال من دومة: بالدال. وقلت لعله تصحيف لأن الدومة بالعالية قرب بني قريظة، وإلى جانبها الدويمة مصغراً أما رومة فهي العرصة الكبرى التي تلتقي بالجرف وكلاهما في آخر العقيق. قال ذلك الفيروزآبادي والسمهودي. المغانم المطابة 171، وفاء الوفاء 4/1227، ومعجم البلدان لياقوت 3/104.
2 زغابة: قال ياقوت بالفتح في الأول وبعد الألف باء موحدة قال ابن إسحاق: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف …" الخ.
قال ورواه أبو عبد البكري الأندلسي زغابة بضم الزاي وعين مهملة وذكره الطبري فقال بين الجرف والغابة واختار هذه الرواية، وقال لأن زغابة لا تعرف. وليس الأمر كذلك فإنه قد روي في الحديث المسند أنه عليه الصلاة والسلام قال في ناقة أهداها إليه أعرابي فكافأه بست بكرات فلم يرض فقال عليه الصلاة والسلام ألا تعجبون لهذا الأعرابي أهدي إلي ناقتي أعرفها بعينها ذهبت مني يوم زغابة، وقد كافأته بست فسخط الحديث، وقد جاء ذكر زغابة في حديث آخر فكيف لا يكون معروفاً؟ فالا عرف إذا عندنا زغابة بالغين المعجمة. أ. هـ. كلام ياقوت في معجم البلدان 3/141-142. وقد وافقه الفيروزآبادي في القاموس 1/79.
3 نقمي: بالتحريك والقصر: موضع من أعراض المدينة كان لآل أبي طالب، قال ابن إسحاق، وأقبلت غطفان يوم الخندق، ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد أ. هـ. كلام ياقوت في معجم البلدان 5/300، وكذا في القاموس 4/183، والمغانم المطابة 414كلاهما للفيروزآبادي.
4 السيرة النبوية 2/215، والروض الآنف 3/261.
أما ابن سعد فقد قال في سياق حديثه عن الخندق: أخبرنا أبو الوليد الطيالسي1 أخبرنا أبو عوانة2 عن أبي بشر3 عن سعيد بن جبير قال كان يوم الخندق بالمدينة قال فجاء أبو سفيان بن حرب ومن معه من قريش ومن تبعه من كنانة … وعيينة بن حصن ومن تبعه من غطفان. وطليحة ومن تبعه من بني أسد وأبو الأعور السلمي ومن تبعه من بني سليم4
والأثر موقوف على سعيد بن جبير: "ورجال السند ثقات".
وقد ذكر ابن سعد أن زعماء قريش دخلوا دار الندوة وعقدوا اللواء
____________________
1 أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم البصري ثقة ثبت من التاسعة مات سنة سبع وعشرين ومائتين وله أربع وتسعون سنة روى له (ع) . التقريب 364.
2 أبو عوانة … هو وضاح بتشديد المعجمة ثم مهملة بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز مشهور بالكنية - ثقة ثبت- من السابعة مات سنة خمس أو ست وسبعين (بعد المائة) روى له (ع) التقريب 369.
3 أبو بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وتثقيل التحتانية - ثقة - من أثبت الناس في سعيد بن جبير ضعفه شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد من الخامسة مات سنة خمس وقيل سنة ست وعشرين (بعد المائة) روى له (ع) التقريب 55.
4 الطبقات الكبرى 2/71.
فيها وحمله عثمان1 بن طلحة بن أبي طلحة، وذلك بعد أن ساق سنده الطويل، وفيه قال: قالوا2: "لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة فألبوا قريشاً ودعوهم إلى الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاهدوهم على قتاله ووعدوهم لذلك موعداً ثم خرجوا من عندهم حتى أتوا غطفان وسليماً ففارقوهم على مثل ما اتفقوا عليه مع قريش". قال ابن سعد: "عندئذ تجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب فكانوا أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وكان معم ألف وخمسمائة بعير قال: "وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب بن أمية"3، ووافقهم بنو سليم
____________________
1 عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد فلقيا عمرو بن العاص قد أتى من عند النجاشي يريد الهجرة فاصطحبوا حتى قدموا المدينة وقال صلى الله عليه وسلم حين رآهم (ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها) يعني أنهم وجوه أهل مكة. أسد الغابة 3/273.
2 أي السند المتقدم في أول الكتاب وهذه طريقته يقدم السند في أول الكتاب ثم يعيد لضمير إليه ويقول قالوا.
3 أبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي صحابي مشهور أسلم عام الفتح مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل بعدها. انظر الاستيعاب 4/240، والتقريب 151.
بمر الظهران وهم سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس" أهـ. كلام ابن سعد1.
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق2، إلا أنه لم يذكر عدد جيش قريش ولكنه ذكر العدد الإجمالي لجيش الأحزاب وتابعه على ذلك ابن كثير3.
أما الطبري فقد ساق حديثاً من طريق ابن إسحاق قال: "ثنى يزيد بن رومان في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا…} 4 الآية. والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة … الخ"5.
ثم ساق حديثاً آخر طويلاً من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة وعن محمد بن كعب القرظي وعن عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم6 وفيه:
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/5.
2 السيرة النبوية 2/215.
3 البداية والنهاية 4/95.
4 سورة الأحزاب الآية 9.
5 جامع البيان 21/129 وقد تقدمت تراجم رجال السند.
6 تقدمت تراجمهم في ص 47.
"فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ومسعود بن رخيلة1 الأشجعي فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة2، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد"3.
____________________
1 هكذا ورد اسمه في طبقات ابن سعد 2/66، وتاريخ الأمم والملوك للطبري2/44، الاستيعاب لأبي عمر 3/448، وأسد الغابة 4/357، والأمتاع للمقريزي 1/230، والإصابة لابن حجر 3/410 كل هذه المراجع تذكر بأن اسمه مسعود بن رخيلة بضم الراء وفتح الخاء المعجمة مصغراً وفي السيرة النبوية لابن هشام 2/215، وجوامع السيرة لابن حزم (186) (مسعر) وكذا الطبري في جامع البيان 21/130.
2 الجرف: بالضم ثم السكون موضع على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام كانت به أموال لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قالوا والذي سماه بهذا الاسم هو تبع مر به فقال هذا جرف الأرض، وكان يسمي قبل ذلك العرض بكسر العين. انظر معجم البلدان 2/128، والمغانم المطابة 88/89.
3 جامع البيان 21/129-130.
قال ابن القيم: "خرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف ووافاهم بنو سليم بمر الظهران وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف"1.
أما الطبري فقد قال: "فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على بني فزارة والحارث بن عوف المري على بني مرة ومسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من أشجع … الخ"2. وقد تابعه في هذا ابن حزم3، وابن الأثير 4، والقرطبي5.
____________________
1 زاد المعاد 3/271.
2 تاريخ الأمم والملوك 2/44.
3 جوامع السيرة 186.
4 الكامل 2/122.
5 الجامع لأحكام القرآن 14/128.
عقب ذلك قال السيوطي: "وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن ابن عباس قال أنزل الله في شأن الخندق وذكر نعمه عليهم وكفايته إياهم عدوهم بعد سوء الظن ومقالة من تكلم من أهل النفاق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} 1 الآية. وكانت الجنود التي أتت المسلمين أسداً وغطفان وسليماً … الخ"2.
كما ذكر ابن الجوزي3: "أن عدد قريش كان أربعة آلاف رجل قادوا معهم ثلاثمائة فرس ومائة وخمسين بعيراً، وبنو سليم كانوا سبعمائة، وفزارة كانوا ألف رجل، وأشجع كانوا أربعمائة رجل، وبنو مرة كانوا أربعمائة"4 … وبه قال المقريزي5. أخيراً قال الحافظ ابن حجر، ذكر موسى بن عقبة في المغازي قال:
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 9.
2 الدر المنثور 5/186.
3 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر القرشي التيمي البكري البغدادي المعروف بابن الجوزي جمال الدين أبو الفرج. توفي سنة 597هـ. تذكرة الحفاظ 3/1342، ومعجم المؤلفين 5/157.
4 الوفاء بأخبار المصطفى 692.
5 إمتاع الأسماع 1/218-219.
"خرج حيي بن أخطب بعد قتل بني النضير1 إلى مكة يحرض2 قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان، ويحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم نصف تمر خيبر فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش فنزلوا بمر الظهران فجاء من أجابهم من بني سليم مدداً لهم فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله - الأحزاب - وذكر ابن إسحاق بأسانيده أن عدتهم عشرة آلاف3.
نبذة عن القواد الخمسة المشاركين في هذه الغزوة ومتى كان إسلامهم:
____________________
1 هذا وهم أو سبق قلم - ذكر قتل بني النضير- والواقع بخلاف ذلك. حيث بين الله في كتابه الكريم أنه أخرجهم من درياهم، ولم يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل أحداً منهم حيث قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} الخ الآية من سورة الحشر رقم (2) . أما قصة إخراجهم وسببها فقد ذكره أصحاب المغازي والسير والتفاسير من ذلك السيرة النبوية 2/190.
2 حرض تحرضياً: حثه، القاموس المحيط 2/327.
3 فتح الباري 7/393.
1- أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية:
أسلم يوم الفتح وشارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين والطائف بعد أن شارك في قتاله صلى الله عليه وسلم كثيراً. وقد ولد قبل الفيل بعشر سنين، وقد أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية كما أعطى المؤلفة قلوبهم، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية فقال له أبو سفيان: "والله إنك لكريم فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فلنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فنعم المسالم أنت جزاك الله خيراً"، تولى على نجران في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وسكنها مدة ثم عاد إلى المدينة فمات بها سنة إحدى وثلاثين، وقيل اثنتين وثلاثين، وقيل أربع وثلاثين، وقيل كان عمره ثمان وثمانين، وقيل ثلاثاً وتسعين سنة1.
2- أما عيينة بن حصن، كنيته أبو مالك
فكان من الجفاة الغلاظ وكان اسمه حذيفة، وسمي عيينة لشتر كان بعينه، أسلم ثم ارتد، وآمن بطليحة حين تنبأ، وأخذه خالد بن الوليد أسيراً فأتي به أبا بكر -رضي الله عنه-، فمن عليه وروي أنه دخل المدينة مجموعة يداه إلى عنقه جعل الغلمان يطعنونه بأيديهم في بطنه وخاصرته،
____________________
1 أسد الغابة 3/12.
ويقولون أي عدو الله ارتددت عن الإسلام فيقول، والله ما كنت آمنت قط1، ولم يزل مظهراً الإسلام على جفوته حتى مات وهو عم الحر بن قيس، وكان الحر رجلاً صالحاً من أهل القرآن، وكان عيينة أيضاً من المؤلفة قلوبهم، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم الأحمق المطاع لأنه كان في الجاهلية من الجرارين2 يقود عشرة آلاف قناة3.
3- الحارث بن عوف المري:
وقد أسلم، ولم يذكر متى كان ذلك، وإنما قالوا4 قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وبعث معه رجلاً من الأنصار إلى قومه ليسلموا فقتلوا الأنصاري، ولم يستطع الحارث أن يمنع عنه وهو صاحب الحمالة في
____________________
1 البداية والنهاية 6/318، وأسد الغابة 4/167.
2 انفرد بها ابن الأثير ولم ادر معناها رغم بحثي في كتب الغريب ولعله كما قالت الخنساء: ترثي أخاها صخراً حمال ألوية شهاد أندية للجيش جرار.
3 أسد الغابة 4/167، والسيرة النبوية 2/215. والقناة: الرمح.
4 أي المؤرخين مثل ابن الأثير في أسد الغابة 1/342، وابن حجر في الإصابة 1/286، وقد قال البيهقي في الدلائل 3/399 - فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بني مرة قال لعيينة بن بدر وغطفان ياقومي أطيعوني ودعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوه من العرب فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع فانقادوا لأمر عيينة بن بدر أ. هـ.
حرب داحس والغبراء1، وأحد رؤوس الأحزاب يوم الخندق، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على قومه بني مرة. انتهى.
قال ابن سعد: "وقد روى الزهري أن الحارث رجع ببني مرة فلم يشهد الخندق منهم أحد قال والأول أثبت أي أنهم - شهدوا الخندق مع الحارث بن عوف"2-. وعلى كلٍ فقد كان الحارث أحسن قواد الكفار، وأرجحهم عقلاً، وأقلهم حقداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إسلامه، وعد من الصحابة الكرام.
4- أبو الأعور السلمي:
هو سفيان بن عمرو، وهو مشهور بكنيته، ولا يعلم متى أسلم كذا قال الحلبي3: "ولكنه شارك في القتال مع معاوية -رضي الله عنه- ضد علي -رضي الله عنه- يوم صفين4. وأنه كان على مقدمة جيش معاوية ذلك اليوم" أ: هـ.
____________________
1 المعارف لابن قتية 61.
2 طبقات ابن سعد 2/66.
3 السيرة الحلبية 2/631.
4 البداية والنهاية 7/261.
5- مسعود بن رخيلة:
هو مسعود بن رخلية بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع الأشجعي كان قائد أشجع يوم الأحزاب مع المشركين، أسلم فحسن إسلامه، ذكر ذلك أبو جعفر الطبري1.
6- طليحة الأسدي:
طليحة هذا كان أحد القواد لجيش الأحزاب حيث كان على رأس قومه بني أسد الذين جاءوا مساعدين لغطفان كما قيل.
وعلى كلٍ فقد تنبأ طليحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليه أبو بكر -رضي الله عنه- خالداً - رضي الله عنه-، وقد انضم إلى طليحة كثير من القبائل منهم عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة ثم انهزم الناس عن طليحة فلما جاء المسلمون ركب على فرس قد أعدها له وأركب زوجته النوار على بعير له ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه2.
وقد قال ابن كثير: "إن طليحة ارتد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عاد إلى الإسلام، وحسن إسلامه وشهد القتال مع خالد في بقية أيامه.
____________________
1 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 3/448، وأسد الغابة لابن الأثير 4/357، والإصابة 3/410.
2 طبقات ابن سعد 2/66، البداية والنهاية 6/318.
وقد سأل خالد - رضي الله عنه- بعض أصحاب طليحة ممن أسلموا عن الوحي الذي أخبرهم به فقال: إنه كان يقول: الحمام واليمام والصرد والصوام قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام، إلى غير ذلك من الخرافات"1…
وأسلم طليحة إسلاماً صحيحاً، وله في قتال الفرس في القادسية بلاءٌ حسنٌ، وقد أوصى عمر - رضي الله عنه- النعمان بن مقرن أن يستعين في حربه بطليحة وعمرو بن معدي كرب، وأن يستشيرهما في الحرب ولا يوليهما من الأمر شيئاً2.
والخلاصة أن عدد جيش الكفار كان عشرة آلاف، وهو العدد الإجمالي الذي ذكره ابن إسحاق وغير واحد.
__________
1 البداية والنهاية 6/318، السيرة الحلبية 2/631.
2 أسد الغابة 3/66.
,
جيش المسلمين هو ذلك الجيش الذي ضحى بالغالي والنفيس في سبيل الله في سبيل الدفاع عن هذا الدين الحنيف دين الله الذي قال فيه سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. هذا الجيش رغم قلة عدده وعدته فقد كان كثيراً قوياً بإيمانه وبعقيدته. وقد حصل في تقدير هذا الجيش خلاف على النحو التالي:
1- قال ابن إسحاق: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين" أ. هـ2. وتابعه في ذلك ابن سعد3 والطبري4 والبيهقي5 وابن عبد البر6 وابن الأثير7 وابن سيد الناس8 وابن كثير9 وذكره الديار بكري10
____________________
1 سورة آل عمران الآية 85.
2 السيرة النبوية 2/220 والروض الآنف 3/261.
3 الطبقات الكبرى 2/66.
4 جامع البيان 21/130.
5 دلائل النبوة 3/452.
6 الدرر في اختصار المغازي والسير 181.
7 الكامل في التاريخ 2/123.
8 عيون الأثر 2/57.
9 البداية والنهاية 4/102.
10 تاريخ الخميس 1/480.
كما ذكره صاحب المواهب اللدنية1.
2- قال ابن حزم: "وقد قيل تسعمائة فقط قال: وهو الصحيح الذي لا شك فيه"2.
3- قال الديار بكري3: "بعد أن ذكر أن عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف قال وقيل: كان المسلمون ألفاً. هكذا بصيغة التمريض"4.
قلت: "ولعل القائل بذلك ذهب إلى ما ورد في حديث جابر حيث قال: في سياق الحديث الذي فيه القصة التي أضاف5 فيها جابر النبي صلى الله عليه وسلم على عناق وصاع من شعير … وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق كلهم إلى أن قال … وهم ألف"6. ولا يجزم بهذا أن عدد المسلمين كانوا ألفاً على ضوء هذا، وإنما هذا العدد هو الذي كان موجوداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت في مأدبة جابر - ولعل … أكثرهم كان قد استأذن منه
____________________
1 المواهب اللدنية 2/110.
2 جوامع السيرة 187.
3 حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري - مؤرخ فقيه- توفي بمكة في حدود سنة 966هـ، معجم المؤلفين 4/47.
4 تاريخ الخميس 1/480.
5 مادة ضيف تأتي لعدة معاني وهي هنا بمعنى الإكرام، انظر: النهاية في غريب الحديث 3/108-109.
6 صحيح البخاري 5/44، وفتح الباري 7/396.
صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتناوبون في الحفر كما هو معلوم. أما ابن القيم فقد قال: "إنهم كانوا ثلاثة آلاف ثم عقب قائلاً: وقال ابن إسحاق: "خرج في سبعمائة قال: وهذا غلط من خروجه يوم أحد"1.
وقال القسطلاني وكانوا ثلاثة آلاف ثم قال: "قال الشافعي ووهم من قال كانوا سبعمائة"2.
أما بالنسبة للرأي الثاني: فلم يشر أحد إليه وهو الذي ارتضاه ابن حزم ورفض ما عداه3 وإذا فلعل الأولى الرأي القائل بأنهم كانوا ثلاثة آلاف لكثرة القائلين بذلك والله أعلم.
قال ابن سعد: "ولما تم حفر الخندق رفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان ليال مضين4 من ذي القعدة وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة وكان يحمل لواء الأنصار سعد بن عبادة
____________________
1 زاد المعاد 3/271، وبنفس هذا الرد قال المقريزي في الإمتاع 1/266.
2 المواهب اللدنية 1/111.
3 جوامع السيرة 187.
4 الطبقات الكبرى 2/67، مع أن المقريزي قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة وهو في حد ذاته اتفاق مع ابن سعد. انظر الامتاع 1/216.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم1 في مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة.
وكان عباد بن بشر2 على حرس قبته صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة3. قال ابن القيم: "وهو الذي كان على حرسه وقد حرسه الزبير بن العوام أيضاً يوم الخندق" قال ابن سيد الناس4: وقال ابن سعد في باب حراس النبي صلى الله عليه وسلم: "حرسه يوم بدر حين نام في العريش سعد بن معاذ ويوم أحد محمد بن مسلمة ويوم الخندق الزبير بن العوام"5.
____________________
1 سلمة بن أسلم بن حريش بن عدي بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي يكنى أبا سعد شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل يوم جسر أبي عبيد سنة أربع عشرة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل استشهد وهو ابن ثلاث وستين سنة. الاستيعاب 2/198، وأسد الغابة 2/332.
2 عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي ثم الأشهلي يكنى - أبا بشر - وقيل أبو الربيع - أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير قبل إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ممن قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين. قالت عائشة - رضي الله عنها- ثلاثة من الأنصار لم يكن يعتد عليهم فضلاً كلهم من بني عبد الأشهل سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. انظر: الاستيعاب 2/350، وأسد الغابة 3/100.
3 الطبقات الكبرى 2/67.
4 عيون الأثر 2/58.
5 زاد المعاد 1/127.
وعندما استقر صلى الله عليه وسلم في معسكره المختار حسب الخطة العسكرية الناجحة نظم جنود المسلمين ووزعهم فبعضهم للحراسة على الخندق ومنافذه وبعضهم على قبته لأنها كانت مستهدفة من الأعداء.
وكان صلى الله عليه وسلم يختلف بنفسه إلى ثلمة1 في الخندق يحرسها وكان الوقت شتاء شديد البرودة وقد روى البزار في ذلك حديثاً وفيه قال: حدثنا عبد الله بن شبيب2 ثنا إبراهيم بن المنذر3 ثنا إسماعيل بن داود4 ثنا مالك ابن أنس عن يحيى بن سعيد5 عن عمرة6 عن
____________________
1 الثلمة والثغرة بمعنى واحد وهي الفتحة. النهاية في غريب الحديث 1/213.
2 عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي أخباري علامة لكنه واه قال أبو أحمد الحاكم ذاهب الحديث قال الذهبي: "يروي عن أصحاب مالك وبالغ - فضلك الرازي- فقال يحل ضرب عنقه، وقال عبد الرحمن بن خراش يسرق الحديث، قال ابن حبان يقلب الأحاديث ويسرقها". الميزان 2/438.
3 إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي - صدوق - تكلم فيه أحمد لأجل القرآن من العاشرة مات سنة ست وثلاثين ومائتين (خ ت س ق) التقريب 23.
4 إسماعيل بن داود بن عبد الله بن مخراق المخراقي روى عن مالك بن أنس وغيره قال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول هو ضعيف الحديث جداً وقال في موضع آخر سمعت أبي يقول هو منكر الحديث. الجرح والتعديل 2/167-201.
5 يحي بن سعيد بن قيس الأنصاري ثقة (ع) التقريب 367.
6 عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية أكثرت عن عائشة -ثقة- من الثالثة ماتت قبل المائة ويقال بعدها روى لها (ع) التقريب 471.
عائشة قالت: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالخندق فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد ثغرة من الجبل يخاف منها فيأتي فيضطجع في حجري ثم يقوم فيتسمع فسمع حسن إنسان عليه الحديد فانسل"1 في الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا؟ ". فقال: "أنا سعد جئتك لتأمرني بأمرك" فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت في تلك الثغرة".
قالت عائشة: "فنام رسول الله في حجري حتى سمعت غطيطه2 فقالت عائشة لا أنساها لسعد"3.
قال الهيثمي قلت: "في الصحيح طرف منه ثم قال: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن شبيب وهو ضعيف"4.
أما البزار فقال: "لا نعلم رواه إلا عائشة بهذا الإسناد".
وقد روى البخاري ما يقويه ولكن بغير تصريح بذكر الخندق5
____________________
1 أنسل أسرع خفية. القاموس المحيط 4/57 قلت لعله (ينسل) .
2 غط النائم إذا سمع له صوت من الفم. القاموس المحيط 2/376.
3 كشف الأستار 2/333.
4 مجمع الزوائد 6/135.
5 صحيح البخاري مع الفتح 13/219 كتاب التمني وهو عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عائشة ….
كما أورده الترمذي في مناقب سعد بن أبي وقاص1 بيد أنه لم يذكر أن ذلك كان في الخندق. لذلك قال ابن العربي.
وكانت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعاهد ثغرة من الجبل يحافظ عليها ثم يزلفه2 البرد ذلك اليوم فيأتي فيضطجع في حجري ثم يقوم فسمعت حس رجل عليه حديد وقد أسند في الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا؟ " ثم ساق الحديث بمثل ما جاء عن البزار إلا أنه صرح بأنه سعد بن أبي وقاص3.
وقد جاءت الرواية التي عند البخاري والتي عند الترمذي في المناقب مفسرة لما كان مبهماً عند البزار وهو سعد لأن السعود في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير فتبين بالروايتين أنه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
وحديث البزار وإن كان ضعيفاً إلا أن ما جاء عند البخاري والترمذي يقويه والحديث يدل بوضوح على: الشدة التي عاناها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في هذه الغزوة وأن الخطر الذي أحدق بهم كان كبيراً حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعاهد تلك الثغرة بنفسه
____________________
1 تحفة الأحوذي 10/256-257.
2 أزلفه يزلفه قرّ به والزلفة الطائفة من أول الليل والجمع زلف. المختار 273.
3 أحكام القرآن 3/1511.
يخاف على المسلمين منها وأن القائد عليه ما على جنوده من حراسة ومرابطة؛ بل إن القائد هو المثل الأعلى لجنوده والرسول صلى الله عليه وسلم كان خير قائد.
قال المقريزي: "قالت أم سلمة - رضي الله عنها-: شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف المريسيع وخيبر وكنا بالحديبية وفي الفتح وحنين لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة1، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فالمدينة تحرس حتى الصباح نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفاً. حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً.
قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها فإذا آذاه البرد دخل قبته فأدفأته عائشة - رضي الله عنها- في حضنها2 فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة يحرسها ويقول ما أخشى على الناس إلا منها.
__________
1 الحرج: أضيق الضيق. النهاية في غريب الحديث 1/361.
2 الحضن: مادون الإبط إلى الكشح وحضن الطائر بيضه إذا ضمه إلى نفسه. مختار الصحاح 142.
,
لقد اشتد البلاء على المسلمين في هذه الغزوة بالذات؛ لأن قريشاً جاءت بحلفائها كما جاءت غطفان بكل قوادها وحلفائها مستهدفين استئصال الإسلام والمسلمين وفي أثناء الاستعداد لهذه الجموع الزاحفة جاء عدو الله حيي بن أخطب وهو أحد الأعضاء الذين حزبوا الأحزاب جاء إلى كعب بن أسد رئيس القبيلة الباقية من اليهود وهي قبيلة بني قريظة وجادله على نقض العهد وفتله في الذروة والغارب حتى وافق على ذلك بشروط تقبلها عدو الله حيي بن أخطب.
وبنو قريظة كما هو معروف كانوا يسكنون في العوالي أي في الجنوب الشرقي من المدينة على وادي مهزور1 إذن فهم يعتبرون خلف المسلمين ويكونون أخطر على هذه الحال لأن الضربة من الوراء تؤثر أكثر حيث أن المسلمين يستعدون ومستحفزون لأعدائهم الذين أمامهم ولكن الله نصر المسلمين وخذل أعداءه وأعداءهم وقد وصف الله سبحانه
____________________
1 مهزور وقيل مهزوز واد بالمدينة كان يسمى وادي قريظة كان يسيل بماء المطر يهبط من مفرق حرة واقم ثم يسيل ويصب في وادي بطحان. معجم البلدان 5/234.
وتعالى ذلك البلاء وتلك الشدة التي أتت على المسلمين لم يأت عليهم مثلها حيث قال سبحانه:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} 1.
وقال تعالى مبيناً مظاهرة2 وموافقة اليهود (بني قريظة) للأحزاب: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ3 وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} 4.
أما الجهد ومشقة العيش اللتان كان يعانيهما المسلمون وخاصة في هذه الغزوة فقد بينتها الأحاديث الصحيحة وغيرها.
وسأورد ما يبين ذلك باختصار فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 9 - 10.
2 أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. تفسير القرآن العظيم 3/478.
3 صياصيهم أي حصونهم والأصل في الصياصي هي قرون البقر ومنه قيل للحصون (الصياصي) . النهاية في غريب الحديث 3/67.
4 سورة الأحزاب الآية 25 - 26.
معمر المقعد عن عبد الوارث 1عن عبد العزيز2 عن أنس رضي الله عنه وفيه قال: يؤتون بملئ كفي من الشعير فيصنع لهم باهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن … الخ3.
كما روى أيضاً رحمه الله حديثاً آخر قال: حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه4 قال أتيت جابراً رضي الله عنه فقال: "إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة إلى أن قال: ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً" … الحديث 5.
وقد ورد هذا الحديث من وجه آخر عن سعيد بن مينا قال سمعت جابراً رضي الله عنه قال: "لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً … الخ" الحديث6.
وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعتمدون في أكلهم وشربهم على التمر والماء (الأسودين) يتضح ذلك باستعراض سنته صلى الله عليه وسلم وسيرته في مأكله ومشربه.
____________________
1 عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوزي البصري ثقة ثبت وقد تقدم.
2 عبد العزيز هو بن صهيب البناني البصري - ثقة وقد تقدم-.
3 صحيح البخاري مع فتح الباري 7/393.
4 تقدم رجال السند في ص 97.
5 تقدم في ص 155.
6 صحيح البخاري مع فتح الباري 7/365- 366.
فقد روى ابن أبي شيبة عن عروة مرسلاً1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صاف المشركين يوم الخندق وكان يوماً شديداً لم يلق المسلمون مثله قط قال ورسوله الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر معه جالس وذلك زمان طلع النخل وكانوا يفرحون به فرحاً شديداً لأن عيشهم فيه فرفع أبو بكر رأسه فبصر بطلعة وكانت أول طلعة رؤيت فقال هكذا بيده طلعة يارسول الله من الفرح فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم لا تنزع منا صالح ما أعطيتنا أو صالحاً أعطيتنا" 2 والأثر ضعيف حيث رواه عروة مرسلاً.
أما الآثار الدالة على نقض بني قريظة العهد فهي كثيرة حسبي أن أورد بعضها مشيراً إلى الباقي:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن محمد3 أنبأنا عبد الله4 أخبرنا هشام بن عروة5
____________________
1 المرسل: اتفق علماء الطوائف على أنه قول التابعي الكبير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعله يسمى مرسلاً. تدريب الراوي 1/195.
2 كنز العمال 10/455.
3 أحمد بن محمد بن موسى أبو العباس السمسار المعروف بمردويه - ثقة حافظ- من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين ومائتين. روى له (خ ت س) . التقريب 16.
4 عبد الله المبارك المروزي - ثقة ثبت - من الثامنة مات سنة أحدى وثمانين ومائة روى له (ع) . التقريب 87.
5 هشام بن عروة بن الزبير - ثقة فقيه ربما دلس من الخامسة مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة. روى له (ع) . التقريب 364.
عن أبيه عن عبد الله بن الزبير1 قال: "كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر ابن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: "يا أبت رأيتك تختلف" قال أو هل رأيتني يابني قلت نعم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال فداك أبي وأمي2.
وقال أيضاً: حدثنا أبو نعيم3 حدثنا سفيان4 عن محمد بن المنكدر5 عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يأتيني بخبر القوم " قال الزبير: "أنا" فقال
____________________
1 هو أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين ولي الخلافة تسع سنين وقتل في سنة ثلاث وسبعين في ذي الحجة. روى له الجماعة. انظر: الاستيعاب 3/39، والتقريب 173.
2 صحيح البخاري مع الفتح 7/80 كتاب فضائل الصحابة.
3 هو الفضل بن دكين الكوفي - ثقة ثبت - من التاسعة مات سنة 218- 219. وهو من كبار شيوخ البخاري. روى له (ع) . التقريب 275.
4 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي - ثقة حافظ - فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة. مات سنة 161هـ. روى له الجماعة. التقريب 128.
5 محمد بن المنكدر عبد الله بن الهدير بالتصغير المدني - ثقة فاضل - من الثالثة مات 130. روى له (ع) . التقريب 320.
النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوارياً وحواراي الزبير" 1.
وقال رحمه الله: حدثنا صدقة2 أخبرنا ابن عيينة3 حدثنا بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال ندب4 رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قال: "صدقة أظنه يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندب الناس فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن لكل نبي حوارياً وحواري الزبير بن العوام" 5.
قال الحميدي وقال سفيان زاد هشام بن عروة وابن عمتي6. كما أخرجه مسلم7، وأحمد8، والترمذي9، وابن ماجه10
____________________
1 صحيح البخاري مع فتح الباري 6/52 كتاب الجهاد ومسند الحميدي 2/516.
2 صدقة بن الفضل أبو الفضل المروزي - ثقة - من العاشرة مات سنة ثلاث أو ست أو عشرين ومائتين روى له (خ) . التقريب 152.
3 سفيان بن عينية أبو محمد الكوفي ثم المكي - ثقة حافظ - فقيه إمام حجة من رؤوس الطبقة الثامنة وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار مات في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة وله أحدى وتسعون سنة روى له (ع) . التقريب 128.
4 ندبه إلى الأمر كنصره إذا دعاه وحثه ووجهه. القاموس 1/131.
5 صحيح البخاري مع فتح الباري 6/53 كتاب الجهاد.
6 مسند الحميدي 2/516.
7 صحيح مسلم 4/1879 كتاب فضائل الصحابة.
8 مسند الإمام أحمد 3/307.
9 سنن الترمذي 5/309 كتاب المناقب.
10 سنن ابن ماجة 1/45.
وقد أورده البخاري كما سبق من عدة طرق منها طريق أبي العباس مردويه والفضل بن دكين وصدقة ومحمد بن كثير والحميدي وقد رواه الحميدي عن ابن عيينة بالجزم (يوم الخندق) ولم يشك كما ظن صدقة ومن طريق علي بن عبد الله1 قال قلت لسفيان: فإن الثوري يقول: "يوم بني قريظة" فقال كذا حفظته منه كما أنك جالس (يوم الخندق) قال "سفيان هو يوم واحد وتبسم سفيان"2.
وقال البيهقي3 رحمه الله: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم4 الدرابردي بمرو قال حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي5، حدثنا أبو
____________________
1 علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن بن المديني البصري - ثقة - إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله حتى قال البخاري ما استصغرت نفسي إلا عنده وقال فيه شيخه بن عينية كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلمه مني وقال النسائي كأن الله خلقه للحديث. من العاشرة مات سنة 234. روى له (خ د ت س فق) . التقريب 247
2 صحيح البخاري مع الفتح 13/239.
3 دلائل النبوة 3/451.
4 أبو بكر محمد بن أحمد لم أقف له على ترجمة.
5 أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر أبو العباس البرتي القاضي ولي قضاء بغداد بعد وفاة أبي هاشم الرفاعي وكان ثقة ثبتاً حجة. تاريخ بغداد 5/61.
حذيفة1 حدثنا عكرمة بن عمار2 عن محمد بن عبيد3 أبي قدامة الحنفي عن عبد العزيز4 ابن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه: "أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا" فقال حذيفة: "لا تمنوا ذلك فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً".
وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا اصبعه … الخ الحديث5.
وقد أشار ابن كثير إلى هذه الرواية فقال:
____________________
1 أبو حذيفة هو موسى بن مسعود النهدي البصري صدوق سيء الحفظ يصحف من صغار التاسعة مات سنة 227 أو بعدها وقد جاوز التسعين وحديثه عند البخاري في المتابعات (خ د ت ق) . التقريب 352.
2 عكرمة بن عمار العجلي أبو عمار اليمامي أصله من البصرة صدوق يغلط وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب ولم يكن له كتاب. من الخامسة مات قبل الستين ومائة (خت س ق) . التقريب 242.
3 كذا عند البيهقي وفي التقريب هو محمد بن عبد الله بن أبي قدامة الحنفي ويقال أبو قدامة مقبول (د) . التقريب 306.
4 عبد العزيز أخو حذيفة ويقال ابن أخيه وثقه ابن حبان من الثانية وذكره بعضهم في الصحابة (د) . التقريب 216.
5 دلائل النبوة للبيهقي 3/451.
"وقد أخرجه الحاكم والبيهقي في الدلائل من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز بن أخي حذيفة به"1…
وقال السيوطي: "أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طرق عن حذيفة بنفس اللفظ"2. كما أورده الطبري عن ابن حميد عن فتى من أهل الكوفة ولم يذكر فيه بني قريظة3. ولكنه رحمه الله أورد حديثاً آخر قال فيه: حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة قال ثنى محمد ابن إسحاق عن يزيد بن رومان وعن الزهري وعن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن محمد بن كعب القرظي وعن غيرهم من علمائنا4 وفيه:
____________________
1 تفسير القرآن العظيم 3/471، البداية والنهاية 4/114.
2 الدر المنثور 5/184، وانظر: دلائل النبوة لأبي نعيم 433.
3 جامع البيان 21/127.
4 السند فيه ابن حميد وسلمة. الأول ضعيف والثاني صدوق كثير الخطأ أما ابن إسحاق فهو وإن كان صدوقاً يدلس إلا أنه إمام في المغازي. وقد تقدم السند في ص 47 ما عدا ابن حميد وسلمة.
"وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسعد القرظي صاحب عقد بني قريظة1، وعهدهم وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه عاقده على ذلك وعاهده فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه حيي ويحك2 يا كعب افتح لي قال ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤم وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً"، قال: "ويحك افتح أكلمك". قال: "ما أنا بفاعل قال والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك3 أن آكل معك منها فاحفظ4 الرجل ففتح له".
فقال: "ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر ببحر طام5 جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد. قد عاهدوني
____________________
1 أي أنه كان رئيسهم وسيدهم.
2 ويح: كلمة ترحّم وتوجّع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها وقد يقال بمعنى المدح والتعجب وهي منصوبة على المصدر. النهاية 5/235.
3 الجشيشة: طعام يصنع من الجشيش وهو البر يطحن غليظاً ثم تجعل في القدور ويلقى عليها لحم أو تمر وتطبخ. النهاية في غريب الحديث 1/273.
4 احفظه: أغضبه.
5 طام: مرتفع ويريد كثرة الرجال.
وعاقدوني على أن لا يبرحوا1 حتى نستأصل محمداً ومن معه قال فقال له كعب جئتني والله بذل الدهر وبجهام2 قد هراق ماؤه فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءاً فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب3 حتى سمع له على أن أعطاه عهداً (من الله) وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عيونه متحرياً عن نقض اليهود للعهد الذي أبرموه معه صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق:
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير
____________________
1 على أن لا يتركوا أو يغادروا المكان.
2 الجهام السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.
3 هذا مثل وأصله في البعير يستعصي عليك فتأخذ القراد من ذروته وغارب سنامه وتفتل هناك فيجد لذة فيأنس عند ذلك.
4 جامع البيان 21/129- 130.
أخو بني عمرو بن عوف فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً1 أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس. قال فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم (فيما) 2 نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد ابن معاذ3 وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدة فقال له سعد بن عبادة دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى4 من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم قالوا عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين" 5.
____________________
1 الحنوا لي لحنا: أي قولوا لي قولاً أفهمه ويخفى على غيري. القاموس 4/366.
2 قوله (فيما نالو) وعند الطبري ونالوا.
3 فشاتمهم سعد بن معاذ (عند الطبري فشاتمهم سعد بن عبادة) وكذا عند ابن كثير في البداية 4/104.
4 أربى مأخوذ من الربا وهو لغة الزيادة.
5 السيرة النبوية 2/220- 221- 222 وقد ذكرت القصة في:
أ- طبقات ابن سعد باقتضاب 2/67.
ب- ابن كثير في البداية وفيها زيادة سأوردها فيما بعد.
جـ- جامع البيان 21/129- 131، وتاريخ الأمم الملوك 3/46، 47.
د- السهيلي في الروض الأنف 3/268.
و عيون الأثر 3/59.
وقد أورد ابن كثير هذه القصة وفيها زيادة حسنة فقال بعد أن ذكر محاورة حيي بن أخطب لكعب:
وقد تكلم عمرو بن سعد القرظي1 فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة.
ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال: "إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوّه" ثم قال2: قال ابن إسحاق: "فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محاربته مع الأحزاب ثم ساق الحديث… إلى أن قال: قال موسى بن عقبة وأمر كعب بن أسد وبنو قريظة حيياً أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمداً. قالوا وتكون الرهائن تسعين رجلاً3 من أشرافهم فنازلهم4 حيي
____________________
1 ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 4/103 وقال ابن الأثير في أسد الغابة 4/107 عمرو بن سعد من بني قريظة نزل من حصن بني قريظة في الليلة التي صبيحتها فتح حصنهم فبات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح فلما أصبح لم يدر أين هو حتى الساعة.
2 أي ابن كثير.
3 هكذا عند البيهقي في الدلائل 3/446وعند ابن كثير في البداية 4/103وعند المقريزي في الإمتاع 1/237 أنهم طلبوا سبعين رجلاً منهم.
4 أي التزم لهم بذلك.
على ذلك فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة1 أسد وأسيد وثعلبة فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن إسحاق: "فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير"2. قال: "انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم فإن كان حقاً فالحنوا لى لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس" 3. قال4: "فخرجوا حتى أتوهم" قال موسى ابن عقبة: "فدخلوا معهم حصنهم فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف فقالوا الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم يريدون - بني نضير - ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل سعد بن عبادة يشاتهم فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ: "والله ما جئنا لهذا ولما بيننا أكبر من المشاتمة".
____________________
1 هكذا بالنون وعند البيهقي في الدلائل 3/401 وعند المقريزي في الإمتاع 1/244 بالمثناة التحتانية وهم من اليهود إلا أن ابن هشام قال إنهم ليسو من بني قريظة وإنما هم من بني هدل ونسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم. السيرة النبوية 2/238.
2 خوات ابن جبير الأنصاري الأوسي يكنى أبا عبد الله وقيل أبو صالح وكان أحد فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: أسد الغابة 2/125.
3 البداية والنهاية 4/103- 104، والسيرة النبوية 2/222.
4 أي ابن كثير في البداية والنهاية 4/104.
ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: "إنكم قد علمتم الذي يبننا وبينكم يا بني قريظة وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمرَّ منه فقالوا - لعنهم الله - أكلت ايرأبيك فقال غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن".
وقال ابن إسحاق1: "نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكارجلاً فيه حدةٌ "2 وقد تقدم كلام ابن إسحاق.
تنبيه:
ذكر ابن إسحاق3 أن الذي كان فيه حدة من السعدين رضي الله عنهما هو سعد بن معاذ. أما الطبري4 فقد بين في كتابه أنه ابن عبادة وتبعه البيهقي5 ونقل ابن سيد الناس عن ابن عائذ أنه سعد بن عبادة6.
____________________
1 أي ابن كثير في البداية والنهاية 4/104، والسيرة النبوية 2/222.
2 المصدر السابق 4/103- 104، والحدة: كالنشاط والسرعة في الأمور والمضاء فيها. انظر: النهاية لابن الأثير 352.
3 السيرة النبوية 2/222.
4 جامع البيان 21/131، وتاريخ الأمم والملوك 3/47.
5 دلائل النبوة 3/429.
6 عيون الأثر 2/59.
أما ابن كثير فقد اكتفى بالنقل عن ابن إسحاق وموسى بن عقبة ولم يرجح1.
أما صاحب السيرة الحلبية فقال: "فشتمهم سعد بن معاذ وهم - حلفاؤه - أي وقيل سعد بن عبادة أي وكان فيه حدة فشاتموه قال ولا مانع من وجود الأمرين" أ. هـ. 2 وقد تابع في ذلك ابن خلدون بدليل أنهم أحلافه ومواليه3.
أقول وهذا الذي ذكره صاحب السيرة الحلبية هو أوجه حيث أنه ذكر أنه شتمهم لأنهم حلفاؤه وإذا كانت هناك حدة فلم تذكر في ترجمتهما وإنما قد يكون المشهور بالحدة هو ابن عبادة رضي الله عنه؛ لأنه ذكر أنه كانت فيه غيرة شديدة - وهي مذكورة في كتب التاريخ والسنة- وقد يغضب ويغار عندما يسمع سب الرسول صلى الله عليه وسلم فيشاتمهم ومن هنا قد تأتي الحدة المذكورة والأرجح أنه سعد بن معاذ رضي الله عنه للتعليل الذي ذكره ابن خلدون وتبعه الحلبي.
____________________
1 البداية والنهاية 4/104.
2 السيرة الحلبية 2/638.
3 تاريخ ابن خلدون 2/773.
وقال ابن كثير1: عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} 2.
قال: "قد تقدم أن بني قريظة لما قدم جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة. نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد".
وعند قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} . قال: "يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في إتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عن هم في التوراة الإنجيل. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 3.
____________________
1 تفسير القرآن العظيم 3/477- 478.
2 سورة الأحزاب الآيتين 25 - 26.
3 سورة البقرة الآية 89.
وعند قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قال: "هو الخوف لأنهم كانوا مالؤا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من يعلم كمن لا يعلم واخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزواهم - في الدنيا - ويسودوا فيها- فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال وانشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون فكما راموا العز ذلوا وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا … الخ".
ثم قال في ختام ذلك: "وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة. ولهذا قال تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} الآية1. فالذين قتلوا هم المقاتلة والأسراء هم الأصاغر والنساء"2. أ. هـ.
وأخيراً أود أن أشير إلى أنه قد مر بنا في الأحاديث الصحيحة أن الذي ذهب لكشف خبر بني قريظة هو الزبير بن العوام.
كما أنه مر أن الذي قام بنفس المهمة السعدان وابن رواحة وخوات بن جبير رضي الله عنهم وإزاء هذا الأشكال قال الحافظ3:
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 26.
2 تفسير القرآن العظيم 3/477 - 478.
3 هو ابن حجر.
"قد استشكل ذكر الزبير في هذه القصة فقال شيخنا ابن الملقن1 اعلم أنه وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب لكشف خبر بني قريظة والمشهور كما قاله شيخنا أبو الفتح اليعمري"2. أن الذي توجه ليأتي بخبر القوم حذيفة كما روينا من طريق ابن إسحاق وغيره. قلت3. وهذا الحصر مردود فإن القصة التي ذهب لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها.
فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشاً على محاربة المسلمين.
وقصة حذيفة كانت لما أشتد الحصار على المسلمين بالخندق وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف والقصة في ذلك مشهورة4. وستأتي إن شاء الله.
____________________
1 ابن الملقن هو عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري الواد ياشي الأندلسي التكروري الأصل المصري الشافعي (أبو حفص فقيه أصولي محدث حافظ مؤرخ مشارك في بعض العلوم ولد بالقاهرة 723هـ. وتوفي بها عام 804هـ. انظر: الضوء اللامع 6/100، معجم المؤلفين 7/297.
2 هو ابن سيد الناس وقد تقدم في ص 50.
3 أي الحافظ ابن حجر.
4 فتح الباري 7/406- 407.
وهذا الخلاف الذي ساقه الحافظ قد أغفل ما ذكره أصحاب المغازي والسير وقد ذكروا أن الوفد الذي تم إرساله هو السعدان ومن معهما.
ويمكن الجمع بين هذه الأقوال:
بأن الزبير بن العوام رضي الله عنه ذهب للاستكشاف العام والملاحظة، وهل عند بني قريظة استعداد ظاهر يدل على نقضهم العهد أو لا؟، وقد عاد يقول بأنهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم وقد جمعوا ماشيتهم. أما السعدان ومن معهما فكان استكشافهم خاصاً حيث دار الحوار بينهم وبين اليهود وظهر للعيان نقضهم للعهد وخبثهم.
وقد ذكر المقريزي1: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خوات بن جبير لينظر غرة لنبي قريظة فكمن لهم فحمله رجل منهم وقد أخذه النوم فأمكنه الله من الرجل وقتله ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره.
وفيه غرابة. ووجه الغرابة - أن اليهود وبعد نقضهم العهد ووضوح خبثهم والوقت ليس هزل بل هو وقت خوف وشدة على الجانبين وكلاهما يتمنى أن يقتل من الجانب الآخر من ظفر به فكيف
____________________
1 إمتاع الأسماع 1/227- 228.
يتسنى فعل هذا وكيف يقدم على حمل عدوه ويأمنه وهو أعلى منه والله أعلم. أما قصة حذيفة فهي واضحة لورودها في الصحيح وهي أنها كانت في اللحظات الأخيرة من الشدة والبلاء.
وبعدها نصر الله دينه ورسوله وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده حيث عاد رضي الله عنه يبشر الرسول صلى الله عليه وسلم بانصراف الأحزاب وأنه رأي أبا سفيان قد ركب بعيره وهو معقول"1.
__________
1 فقه السيرة 333.
,
...
الفصل الثالث: في تخذيل المنافقين للصف الإسلامي
موقف المنافقين وخذلانهم للمسلمين في الأوقات الحرجة أوقات الضيق والمواقف الصعبة بينها الله سبحانه وتعالى أولاً بأول ونحن عندما نستعرض القرآن الكريم نجد وفي أول سورة منه وهي البقرة1 بين لنا الله سبحانه وتعالى مبدأهم وأنهم إنما يخادعون الله بأعمالهم وما شعروا أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم بين الله سبحانه هذا الموقف بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 2، وبين سبحانه وتعالى أن في قلوبهم مرضاً وزادهم الله مرضاً فتأصل فيهم المرض وذلك بعد أن وضح لهم الطريق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير3: "وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه، بين الناس من كان يظهر الكفر وهو في الباطن مؤمن فلما هاجر رسول الله
____________________
1 قيل إنها أول سورة نزلت بالمدينة ما عدا {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فقد كانت آخر ما نزل كما قيل. انظر: تفسير القرآن العظيم 1/35.
2 سورة البقرة الآتين 7، 8.
3 تفسير القرآن العظيم 1/47.
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، قال فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً؛ لأنه لم يكن للمسلمين شوكة تخاف، أقول: إن الحسد كان من مقومات نفاقهم - فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته وأعز دينه قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد توجه فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هم على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب" أ. هـ.
قال1: "وقد نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض ولذلك قال سبحانه لنبيه موضحاً له ما ينطوون عليه من الكذب. {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2.
____________________
1 أي ابن كثير.
2 سورة المنافقين الآية16.
وقال ابن القيم: "وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها، ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاث في أول سورة البقرة المؤمنين والكفار والمنافقين فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشر آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد ثم استطرد قائلاً فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه وكم من علم له قد طمسوه" … الخ1.
واستمر هذا الوضع الخطير حتى جاءت غزوة أحد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاقاة أعدائه حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله ابن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم وعصاني2 ما ندري علام
____________________
1 صفات المنافقين 16.
2 يشير إلى المشاورة التي دارت قبل الخروج إلى أحد وكان من رأي كبير المنافقين القعود في المدينة ووافق الرسول مع القائلين بالخروج فأخذ من هذا حجة وذريعة.
نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس فرجع بمن إتبعه من قومه من أهل النفاق، والريب هكذا قال ابن إسحاق1 واستمر وضعهم هذا حتى جاءت هذه الغزوة - غزوة الخندق- فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم سورة الأحزاب كما قال شيخ المفسرين وابن كثير وصاحب2 الفتوحات الإلهية3 أنها نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الآيات من سورة الأحزاب فقد ذكر سبحانه المنافقين في تسع آيات منها حيث قال تعالى بعد أن ذكر وامتن على عباده المؤمنين بنعمته عليهم وصرف عدوهم، وبين مجئ الأحزاب والحالة الشديدة التي عاناها المسلمون والبلاء الذي امتحنهم الله به فثبت المؤمنون وانكشف أعداء الله المنافقون فقال تعالى:
1- {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} 4.
____________________
1 السيرة النبوية 2/64.
2 وهو سليمان بن عمر بن منصور العجيلي المصري المعروف بالجمل ت 1204هـ. انظر: معجم المؤلفين 4/271.
3 انظر: تفسير الطبري 21/133، تفسير ابن كثير 3/470، والفتوحات الإلهية 3/421.
4 سورة الأحزاب الآية 12.
2- {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} 1.
3- {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} .
4- {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} .
5- {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} .
6- {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
7- {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} .
8- {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
9- {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} 2.
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 13.
2 سورة الأحزاب الآيات من 11- 20.
وسأورد ملخصاً بتفسير الآيات من تفسير ابن كثير حيث قال في قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} . يقول تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً فحينئذ ظهر النفاق وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم ثم قال بعد إيراد الآية الأولى - {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ …} : أما المنافق فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إيمانه، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال، وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يعني المدينة كما جاء في الصحيح1: "أريت في المنام دار هجرتكم أرض بين حرتين فذهب وهلى2 أنها هجر فإذا هي يثرب".
قوله: {لا مُقَامَ لَكُمْ} 3. أي ها هنا يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة. أما ابن الجوزي4 فقد قال: "إن المنافقين قالوا ذلك لكثرة العدو"
____________________
1 صحيح البخاري مع الفتح 7/226.
2 الوهل - وهل إلى الشيء بالفتح يهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ذهب وهمه إليه النهاية 5/333.
3 سورة الأحزاب الآية 13.
4 زاد المسير 6/359.
قال: وهذا قول الجمهور قال: "وحكى الماوردي قولين آخرين أحدهما: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب قاله الحسن1، والثاني لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان قاله الكلبي". أ. هـ2.
وقوله {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} قال العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هم بنو حارثة قالوا بيوتنا نخاف عليها السراق" قال ابن كثير: "وكذا قال غير واحد، قال وذكر ابن إسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي يعني اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو فهم يخشون عليها منهم ثم كذبهم الله فقال {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أي ليست كما يزعمون {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} أي هرباً من الزحف"3.
____________________
1 هو الحسن البصري.
2 هو: محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي (أبو النضر) مفسر أخباري نسابة راوية ولد بالكوفة وشهد دير الجماجم مع ابن الأشعث. وتوفي في الكوفة سنة 146. من آثاره تفسير القرآن وهو متهم بالكذب عند المحدثين روى له (ت فق) . انظر في ذلك: التقريب 298، وانظر ترجمته في معجم المؤلفين 15/15.
3 تفسير القرآن العظيم 3/473.
قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً …} الآيات.
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن هؤلاء الذين {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ… الآية} أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً. وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع … وهذا ذم لهم في غاية الذم".
ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفرون من الزحف: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} أي وأن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد لابد من ذلك. ثم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ …} الآيات1.
____________________
1 يشير إلى أن أناساً غابوا عن بدر ورأو ما أعز الله به دينه وما أعطى عباده من الفضل والكرامة قالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن فساق الله إليهم ذلك حتى كان في ناحية المدينة فصنعوا ما قص الله عليكم قاله قتادة. انظر: الدر المنثور 5/188 قال ابن جرير وذكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم في الخندق بعد الذي كان منهم بأحد. جامع البيان 21/137.
وقال: "يخبر تعالى عن احاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار وهم مع ذلك {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} ويستمر سبحانه وتعالى يبين لنبيه صفات هؤلاء المنافقين وأنهم من جبنهم وخوفهم {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} وذلك لضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم"1.
الآثار الواردة في ذلك:
قال الطبري رحمه الله: حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} 2 قال: "قال ذلك أناس من المنافقين قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم وقد حصرنا ههنا ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته ما وعدنا ورسوله إلا غرورا3. والأثر على ضوء هذا السند يعتبر حسناً".
____________________
1 تفسير القرآن العظيم 3/473.
2 الأحزاب الآية 11.
3 جامع البيان 21/131.
وقال رحمه الله: حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد1 قال: "قال رجل يوم الأحزاب لرجل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يا فلان أرأيت إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" فأين هذا من هذا وأحدنا لا يستطيع أن يخرج يبول من الخوف {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} فقال له كذبت لأخبرن رسول الله خبرك قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاه فقال: ما قلت؟ فقال: كذب عليّ يا رسول الله ما قلت شيئاً ما خرج هذا من فمي قط قال الله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ} حتى بلغ {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} قال فهذا قول الله {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} " 2. والأثر ضعيف لضعف ابن زيد لكنه يتقوى بانضمام غيره إليه.
وقال: حدثنا ابن بشار3 قال ثنا محمد بن خالد بن عثمة قال ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني قال ثنى أبي عن أبيه قال: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق … وساق الحديث إلى أن قال:
____________________
1 هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم ضعيف من الثامنة مات سنة اثنتين وثمانين بعد المائة. روى له الترمذي وابن ماجه. التقريب 202.
2 جامع البيان 21/133.
3 هو محمد بن بشار وقد تقدم السند.
"فحفرنا تحت دوبار حتى بلغنا الصرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها فإن المعدل1 قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه فرقى سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية2 فقال يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت صخرة بيضاء من بطن الخندق مروة3 فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجئ منها قليل ولا كثير فمرنا بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك".
فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق ورقينا نحن التسعة على شفة الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها4 يعني لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون.
____________________
1 عدل عن الطريق جار ومال. انظر: مختار الصحاح 418.
2 لعلها مصنوعة بها فتنسب إليها.
3 المروة هي الحجارة البيض البراقة توري النار أو أصل الحجارة. القاموس المحيط 4/392.
4 اللابة هي الحرة والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود. النهاية في غريب الحديث 4/274.
وضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح. ثم أخذ بيد سلمان فرقى. فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا"1.
قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر فنكبر ولا نرى شيئاً غير ذلك قال: "صدقتم ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاء لي منه قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبرائيل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهر عليها.
____________________
1 جامع البيان 21/134.
ثم ضربت ضربتي الثالثة وبرق منها الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرائيل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر " فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا الله النصر بعد الحصر. فطبقت الأحزاب فقال المسلمون: { ... هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ …} . الآية1.
وقال المنافقون: "ألا تعجبون يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق2. ولا تستطيعون أن تبرزوا"3.
وأنزل القرآن {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} 45.وهكذا انتهى هذا الحديث الطويل مع أني اختصرت أوله؛ بل حذفته ومداره على كثير المزني وهو ضعيف كما تقدم إلا أن الحديث يتقوى بالشواهد والمتابعات.
____________________
1 سورة لأحزاب جزء من آية 12.
2 الفرق: بفتح الفاء المعجمة الموحدة والراء المهملة. الخوف. مختار الصحاح 500.
3 جامع البيان 21/134.
4 سورة الأحزاب الآية 12.
5 جامع البيان 21/134.
وقد جاء بمعناه عند النسائي1 إلا إن عنده في الضربة الثالثة قال
"فرفعت لي مدائن الحبشة" وأخرجه أبو نعيم2. كما أخرجه البيهقي3 بلفظ مقارب له وقد ذكره ابن كثير4 وقال في آخره: حديث غريب.
وقد ذكر ابن كثير عن الطبراني حديثاً يقوي الحديث السابق وهو مطابق له في المعنى مخالف له في اللفظ من طريق عبد الله بن يزيد5 وفيه قال: "فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة وكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط" فقال: "فتحت فارس، ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط" فقال: "فتحت الروم، ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: جاء الله بحمير أعوانا وأنصاراً" الحديث6.
____________________
1 سنن النسائي 6/43- 44.
2 في الدلائل 3/432.
3 في دلائل النبوة 3/399. وفيه ذكر فتح الشام وفارس واليمن.
4 البداية والنهاية 4/101.
5 هو عبد الله المعافري أبو عبد الرحمن الحبلي بضم المهملة والموحدة - ثقة - من الثالثة مات سنة مائة بأفريقية روى له (بخ م 4) أي البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة.
6 البداية والنهاية 4/100.
قال ابن كثير: "حديث غريب من هذا الوجه وقال: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي - أحد رجال السند- فيه ضعف- إلا أنه لم يرد فيه ذكر للمنافقين. ثم أورد حديثاً آخر عند الطبراني وهو عن عكرمة عن ابن عباس وفيه قال: "اذهبوا بنا إلى سلمان وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوني فأكون أول من ضربها وقال بسم الله فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة. فقال عندها المنافقون نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم" 1.
وقد سكت ابن كثير عن هذا الحديث أما الهيثمي2 فقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد ونعيم العنبري وهما ثقتان".
وهذه الأحاديث متقاربة المعنى ويشد بعضها بعضا.
____________________
1 البداية والنهاية 4/101.
2 مجمع الزوائد 6/132 وقد تقدم الحديث بكامله في مبحث: دور المنافقين في هذه الغزوة.
قال الطبري: حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن ابن إسحاق قال ثنى يزيد بن رومان في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} 1 الآية إلى قوله تعالى … فرارا} .
يقول أوس بن قيظي: "ومن كان على ذلك من رأيه من قومه2. والسند إلى يزيد بن رومان فيه ضعف لضعف ابن حميد".
قال ابن إسحاق: "وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث يا رسول الله: إن بيوتنا عورة من العدو وذلك في ملأ من قومه"أ: هـ3.
وقال السيوطي: "وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي قالا قال متعب بن قشير كان محمداً يرى أن يأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط.
____________________
1 سورة الأحزاب الآية رقم 13: ويثرب اسم للمدينة قديم فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم وسماها طيبة وطابة كراهية التثريب وهو اللوم والتغيير، وقيل هو اسم أرضها، وقيل سميت باسم رجل من العماليق. النهاية في غريب الحديث 5/292.
2 جامع البيان 21/135.
3 السيرة النبوية 3/222، تفسير ابن كثير 3/473، البداية والنهاية 4/104.
وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه بني حارثة: "إن بيوتنا عورة وهي خارجة من المدينة آئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا" فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم ومقالة من قال من أهل النفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا…} الخ الآية1. ثم قال الطبري معقباً على ذلك عند قوله تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيّ} الآية قال: "يقول تعالى ذكره: ويستأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
قال الطبري رحمه الله: حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} أي لو دخل عليهم من نواحي المدينة ثم سئلوا الفتنة أي الشرك {لَآتَوْهَا} 3 يقول: لأعطوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً}
____________________
1 الدر المنثور 5/186.
2 جامع البيان 21/135.
3 قوله تعالى لآتوها: فيها قراءتان بالمد أعطوها وبالقصر جاءوها. انظر: جامع البيان 21/136- 137.
يقول: "إلا أعطوها طيبة بها أنفسهم"1…
وعند قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} الآية2.
وقال رحمه الله: حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن ابن إسحاق قال ثني يزيد بن رومان في قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} الآية وهم بنو حارثة وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين هما بالفشل يوم أحد ثم عاهدوا الله لا يعودون لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم3. مشيراً بذلك إلى قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4.
وقال السيوطي أيضا: "أخرج ابن أبي حاتم عن السدي5 رضي الله عنه في قوله:
____________________
1 جامع البيان 21/136- 137.
2 سورة الأحزاب الآية 15.
3 جامع البيان 21/137.
4 سورة آل عمران الآية 122.
5 هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير القرشي (أبو محمد) مفسر سكن الكوفة توفي سنة 127هـ. من آثاره التفسير. معجم المؤلفين 1/276. وهو عند المحدثين صدوق يهم روى له (م والأربعة) وانظر في ذلك التقريب 34.
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} قال: "إلى المدينة عن قتال أبي سفيان {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} قال: "جاءه رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما يدعى أبا عرابة بن أوس والآخر يدعى أوس بن قيظي فقالا يارسول الله: "أن بيوتتنا عورة يعنون أنها ذليلة الحيطان وهي في أقصي المدينة ونحن نخاف السرق فائذن لنا فقال الله {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} " الآية1.
وقال الطبري رحمه الله: حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة في قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} الآية. قال: "كان ناس غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضيلة" فقالوا: "لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن فساق الله ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة"2.
هذا الأثر سنده حسن إلى قتادة حيث إن بشر العقدي صدوق ويزيد وسعيد ثقتان. وهكذا بين الله سبحانه وتعالى لنبيه بأن هؤلاء الذين
____________________
1 الدر المنثور 5/188.
2 جامع البيان 21/137.
يستأذنون بأنه لن ينفعهم الفرار وذلك في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .الآيات1.
وقال بالنسبة للمعوقين: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} 2.
أما الآثار فقد قال الطبري رحمه الله: حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} : "قال هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحماً لا لتهمهم أبو سفيان وأصحابه دعوا هذا الرجل فإنه هالك. وقوله: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} أي لا يشهدون القتال يغيبون عنه" … الخ3. وسند هذا الأثر مثل سابقه.
وقال رحمه الله: حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 15، 16.
2 سورة الأحزاب الآية 17.
3 جامع البيان 21/139.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} الخ الآية قال: "هذا يوم الأحزاب انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف ونبيذ فقال له أنت ههنا في الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؟ فقال: "هلم إلى هذا فقد بلغ بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها1 محمد أبداً فقال كذبت والذي يحلف به" قال: "وكان أخاه من أبيه وأمه أما والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم أمرك".
قال وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره قال فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام يخبره {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ} ". الخ2.
سند هذا الأثر ضعيف لضعف ابن زيد وكون يونس - صدوق يخطئ أما ابن وهب فهو ثقة وقد ذكره السيوطي عن أبن أبي حاتم ينفس اللفظ3.
__________
1 قال في جامع البيان 21 (هامش 139 قال كذا في الأصل وفي الدر المنثور للسيوطي - لا يستقي لها- وما ذكره السيوطي ليس بواضح والذي ذكره الطبري أوضح نوعاً ما ومعناه والله أعلم: أن محمداً وأصحابه مهزومون لا محالة ولا يمكن أن يستقبل هذه الجموع مرة أخرى.
2 جامع البيان 21/139.
3 الدر المنثور 5/188.
,
,
,
...
المبحث الأول: الحصار الذي لحق بالمسلمين
بعد أن تم حفر الخندق ووصلت الأحزاب ونقض بنو قريظة العهد المبرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجم النفاق وقال المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} 1.
ولكنهم لقتلهم وكثرة العدو وأحاطته بهم من كل مكان ثقل الأمر عليهم وأشتد البلاء حيث بين الله سبحانه وتعالى ذلك الموقف بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} الآيات2.
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 22.
2 سورة الأحزاب الآيتين 10، 11.
وقبل أن يتوجه صلى الله عليه وسلم إلى المعسكر وكما هي عادته صلى الله عليه وسلم كلما أراد أن يغزو ويحارب يجعل أميراً على المدينة يقوم بشؤونها حتى يعود عليه الصلاة والسلام. وكان في هذه الغزوة قد أمّر عليه الصلاة والسلام المهاجر الصابر الأعمى: عبد الله ابن أم مكتوم1 رضي الله عنه ثم توجه إلى معسكره وبدأ المرابطة وحاصر أعداءُ الله المسلمين وقتاً ليس بالقصير وعرف المسلمون مَنْ يتربص بهم وراء هذا الحصار فقرروا مواصلة المرابطة في مكانهم ينضحون بالنبل كل مقترب ويتحملون لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والجبل وتتسع ثغورها يوماً بعد يوم. لذلك قال ابن إسحاق:
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال. إلا إن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي.
قال ابن هشام: "ويقال: عمرو بن عبد بن أبي قيس":
قال ابن إسحاق: "وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب واسم أبي وهب - جعدة - المخزوميان وضرار بن الخطاب الشاعر بن مرداس أخو بني محارب بن فهر تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم. حتى مروا
____________________
1 الأعمى صحابي جليل شهد القادسية واستشهد بها وقيل رجع إلى المدينة فمات بها. انظر ترجمته في: الإصابة 3/523، أسد الغابة 4/127، المعارف لابن قتيبة 126.
بمنازل بني كنانة فقالوا تهيأوا يابني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم ثم اقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا والله أن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها". أ. هـ. 1
وبدأ الحصار واشتدت وطأته وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول المدينة على هذا النحو فإن فرض الحصار وترقب نتائجه ليس من شيمهم وكانوا يحاولون شتى المحاولات لتحطيم هذا الحصار وهم في كل ذلك يفشلون أمام صمود المسلمين.
أما الحصار فقد اختلف فيه على أقوال:
(1) قال ابن كثير2 قال ابن إسحاق: "فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطاً وأقام المشركون يحاصرونه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا3 بالنبل. وبه قال ابن جرير الطبري4 وابن الأثير5 وابن سيد الناس"6.
____________________
1 السيرة النبوية 2/224.
2 البداية والنهاية 4/104.
3 الرميا بكسر الراء والميم مشددتين وتخفيف الياء أي المراماة.
4 تاريخ الأمم والملوك3/47، جامع البيان 21/128.
5 الكامل لابن كثير 2/124.
6 عيون الأثر 2/60.
(2) أما ابن سعد فقد ساق في ذلك حديثاً ليبين بأن الحصار دام أربعاً وعشرين ليلة - إلا أن ظاهره الإرسال وهو من رواية ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم 1 وقد قال قبل ذلك أي ابن سعد وحُصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة2.
والذي ذكره ابن سعد على ضوء الحديث المسند وهو أربع وعشرون ليلة هو مقارب للقائلين بأن الحصار كان شهراً. وهو قول للواقدي3. لكن قوله بأن المدة كانت بضع عشرة ليلة مغاير للقول الأول.
(3) قال الحافظ4: "وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يوماً".
(4) قال ابن القيم5: "إن الحصار دام شهراً ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين".
(5) قال القسطلاني6: "وفي الروضة للنووي خمسة عشر يوماً - وهذا يقوي قول ابن سعد المتقدم بأن الحصار دام بضع عشرة ليلة".
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/73.
2 الطبقات الكبرى 2/69
3انظر المواهب اللدانية 2/112
4 فتح الباري 7/393.
5 زاد المعاد 3/272.
6 المواهب اللدانية 2/112.
والصحيح هو ما جزم به ابن القيم بدليل الآثار الآتية. وكذلك وجد في إشعارهم ما يدل على ذلك.
أما الآثار فهي:
قال الطبري رحمه الله: حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة1 في قولـ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} الآية قال2 يعني الملائكة قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً … الخ"3. من حديث طويل. والأثر بهذا السند حسن لذاته إلى قتادة.
وقال ابن سعد رحمه الله: أخبرنا عارم بن الفضل4 أخبرنا حماد بن زيد5 عن يحيى بن سعيد
____________________
1 السند تقدمت تراجم رجاله.
2 قال القائل في الأولى والثانية (قتادة) .
3 جامع البيان 21/128.
4 عارم بن الفضل: عارم لقب واسمه محمد بن الفضل البصري - ثقة ثبت - تغير بأخر عمره من صغار التاسعة مات سنة ثلاث أو أربع وعشرين بعد المائتين روى له (ع) . انظر: التقريب 315.
5 حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي أبو إسماعيل البصري - ثقة ثبت - فقيه قيل إنه كان ضريراً ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب - من كبار الثامنة- مات سنة تسع وسبعين وقيل سبع وتسعين وقيل سنة تسع وثمانين ومائة روى له (ع) . التقريب 82.
قال: قال سعيد بن المسيب1: "حاصر النبي صلى الله عليه وسلم المشركون في الخندق أربعاً وعشرين ليلة …" الحديث2.
والأثر رجاله ثقات إلا أنه مرسل.
أما الاشعار الدالة على ذلك فقد جاء في السيرة النبوية ما يلي:
قال ضرار بن الخطاب بن مرداس3 وكان أحد الفرسان الذين
حاولوا اقتحام الخندق وكان أيضاً أحد الشعراء المشهورين ولا يخفى ما للشعر من تأثير على النفوس في الحروب وغيرها.
____________________
1 سعيد بن المسيب بن حزن ابن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الاثبات الفقهاء الكبار من كبار - الثانية - اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وقال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين روى له (ع) . التقريب 126.
2 الطبقات الكبرى 2/73.
3 ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كثير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك القرشي كان أبوه الخطاب رئيس بني فهر في زمانه وكان يأخذ المرباع لقومه وكان ضرار يوم الفجار على بني محارب بن فهر وكان من فرسان قريش وشجعانهم وشعرائهم وهو أحد الأربعة الذين وثبوا الخندق قال الزبير بن بكار لم يكن في قريش أشعر منه ومن ابن الزبعرى وقد أسلم يوم الفتح ووهم من ظنه أخا لعمر بن الخطاب وممن وهم في ذلك الحلبي في سيرته 2/644 والحقيقة أنهما لا يلتقيان إلا في فهر بن مالك. انظر المعارف لابن قتيبة 77، أسد الغابة 3/40.
قال يوم الخندق شعراً جاء فيه:
فأحجرناهم شهراً كريتا1 ... وكنا فوقهم كالقاهرينا2
ومن ذلك أيضاً ما جاء في شعر ابن الزبعرى3 من قصيدة طويلة:
شهراً وعشرا قاهرين محمداً ... وصحابه في الحرب خير صحاب4
فقد ذكر عشراً زيادة على الشهر ولعله ضرورة شعرية حتى يستقيم الوزن وإلا فالثابت شهراً.
__________
1 أحجرناهم حصرناهم وشهراً كريتا تاماً كاملاً قال في القاموس 1/155 سنة كريت تامة.
2 السيرة النبوية 2/225.
3 هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص القرشي السهمي الشاعر أمه عاتكة بنت عبد الله بن عمرو بن وهب بن حذافة بن جمح وكان أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وعلى أصحابه بلسانه ونفسه وكان يناضل عن قريش ويهاجي المسلمين وكان من أشهر شعراء قريش. أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه. أسد الغابة 3/159.
4 السيرة النبوية 2/258.
,
قال ابن إسحاق: "في سياق حديثه عن المناوشات التي حصلت بين الفريقين ثم تيمموا1 مكاناً ضيقاً2 فضربوا خيلهم فاقتحمت3 منه فجالت بهم في السبخة4 بين الخندق وسلع.
وخرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة5 التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق6 نحوهم7 وهنا أحس الفريقان بالخطر وكانت هي الشرارة الأولى
____________________
1 تيمموا: قصدوا. النهاية في غريب الحديث 5/300.
2 قال بعض المؤرخين -: "أن هذا المكان أغفله المسلمون ويمكن أن يقال أنه لصعوبة المكان وصلابته ولأن المنطقة كما هو معروف- أكثرها صخرية - كان هذا المكان ضيقاً والله أعلم".
3 اقتحمت: اقتحم في الأمر رمي بنفسه فيه من غير رويّة. مختار الصحاح 522.
4 السبخة بالتحريك واحدة السباخ وهي الأرض الملحة النازة. معجم البلدان 3/183.
5 الثغرة: الثلمة وهي موضع المخافة من أطراف البلاد. النهاية في غريب بالحديث 1/213.
6 العنق: بفتح العين والنون. نوع من سير الإبل والخيل وهو الوسط بين السريع والبطئ.
7 السيرة النبوية 2/224.
التي ألهبت حماس الفريقين فالمسلمون كان حماسهم يكمن في فرحهم بنجاح الخطة التي اتخذوها وهي -الخندق-.
والمشركون كان حماسهم لقتل بعض زعمائهم كما سيأتي وكانوا يحاولون جاهدين الانتقام وكانوا هم أشد خطراً لأنهم هم المعتدون. كما أن المسلمين أصبحوا يطوقونهم في تلك الحالة - وهم داخل معسكر المسلمين- أمامهم في الثغرة وخلفهم في المعسكر.
مقتل عمرو بن عبدود:
قال ابن إسحاق: "وكان عمرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلماً1 ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله قال من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب فقال له ياعمرو: "إنك كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه قال له: أجل". قال له علي: "فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام" قال "لا حاجة لي بذلك". قال "فإني أدعوك إلى النزال" فقال له: "لم يأبن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك". قال له علي: "لكني والله
____________________
1 معلماً: المعلم الذي يجعل له علامة يعرف بها.
أحب أن أقتلك" فحمي1 عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره2 وضرب وجهه ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي -رضي الله عنه- وخرجت خيلهم منهزمةً حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
قال ابن إسحاق: "وقال علي رضوان الله عليه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت رب محمد بصوابي
فصددت حين تركته متجدلاً ... كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني ... كنت المقطر بزّني أثوابي3
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب4
قال ابن هشام: "وأكثر أهل الشعر يشك فيها لعلي بن أبي طالب"5.
الآثار الدالة على ذلك:
قال الحاكم -رحمه الله-: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار6 حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق7 قال: "كان عمرو بن عبدود
____________________
1 فحمى: أشتد غضبه.
2 عقر البعير والفرس بالسيف (فانعقر) أي ضرب قوائمه. المختار الصحاح 445.
3 المقطر: هو الذي يلقي على قطره - وتقطر - تهيأ للقتال ورمي بنفسه من علو. وبزّني: سلبني ثيابي أو أي شيء كان معي. القاموس المحيط 2/119، 116.
4 هكذا جاء عند ابن إسحاق وفي الاكتفاء للكلاعي أبياتاً أخرى فراجعه 2/168.
5 السيرة النبوية 2/225.
6 هو العطاردي.
7 تقدم رجال السند.
فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، ولم يشهد أُحُداً فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده فلما وقف هو وخيله قال له علي ياعمرو قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعوك رجل إلى خلتين إلا قبلت منه أحداهما فقال عمرو أجل. فقال علي -رضي الله عنه- فإني أدعوك إلى الله -عز وجل- وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والإسلام فقال لا حاجة لي في ذلك قال فإني أدعوك إلى البراز فقال يابن أخي لم؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. فقال علي لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو فاقتحم عن فرسه فعقره ثم أقبل فجاء إلى علي وقال من يبارز؟ فقام علي وهو مقنع في الحديد فقال أنا له يا نبي الله فقال إنه عمرو بن عبدود1 اجلس. فنادى عمرو ألا رجل فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه علي -رضي الله عنه- وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك ... مجيب صوتك غير عاجز
ذو نبهة وبصيرة ... والصدق منجا كل فايز
إني لأرجو أن أقيم ... عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء ... يبقى ذكرها عند الهزاهز2
____________________
1 قال صلى الله عليه وسلم ذلك لعلي لأن عمراً كان فارساً مشهوراً معمراً قد جاوز التسعين فهو أدرى بالحرب وملابساتها. انظر: الطبقات الكبرى 2/68، السيرة النبوية 2/641.
2 عند البيهقي أنه قال هذه الأبيات رداً على أبيات قالها عمرو سأوردها فيما بعد أن شاء الله.
فقال له عمرو: من أنت؟ قال أنا علي قال ابن من؟ ابن عبد مناف؟ فقال أنا علي بن أبي طالب فقال عندك يا ابن أخي مِنْ أعمامك من هو أسن منك1؟ فانصرف فإني أكره أن أهريق دمك فقال علي لكني والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب فسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته2 فضربه عمرو في الدرقة فقدها3. وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي -رضي الله عنه- على حبل العائق فسقط وثار العجاج4 فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن علياً قتله وقال رضي الله عنه شعراً كان في آخره:
عبد الحجارة من سفاهة عقله5 ... وعبدت رب محمد بصواب
ثم أقبل علي -رضي الله عنه- نحو رسول الله ووجهه يتهلل فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هلا استلبت درعه فليس للعرب درعاً خيراً منها.
____________________
1 أسن منك: أكبر منك.
2 الدرقة هي الحجفة والجمع درق والدرق بالفتح الصلب من كل شيء. القاموس المحيط 3/330.
3 فقدها: القذ الشق طولاً. المصدر السابق 10/325.
4 العجاج: الغبار والد خان أيضاً. مختار الصحاح 413.
5 في بعض الروايات (رأيه) وكلاهما بمعنى.
فقال: "ضربته فأتقاني بسؤته واستحييت ابن عمي أن استلبه1. وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق". أ: هـ2.
وقد أورد البيهقي من طريق ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة حيث قال: "وخرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد فنادى من يبارز؟ فقال علي -رضي الله عنه- أنا لها يانبي الله فقال إنه عمرو اجلس، ونادى عمرو ألا رجل وهو يؤنبهم"3 ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إليّ رجلاً فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححت من النداء ... بجمعكم هل من مبارز؟
ووقفت إذ جبن المشجع ... موقف القرن4 المناجز
زاد ابن كثير5:
ولذاك أني لم أزل ... متسرعاً قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى ... والجود من خير الغرائز
____________________
1 هكذا ثبت في كلا الروايات وهذا يرد على صاحب السيرة الحلبية حيث قال وعندي اشتباه في هذا لأن هذه الوقعة لعلي كانت يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة وهذا يرده نقله نفس الكلام من السهيلي. السيرة الحلبية 2/643.
2 المستدرك للحاكم 3/32-33، السنن الكبرى للبيهقي 6/308، 9/132.
3 التأنيب المبالغة في التوبيخ والتعنيف. النهاية في غريب الحديث 1/73.
4 القرن: بكسر المثناة المعجمة وهو الكفؤ في الشجاعة. المختار 532.
5 البداية والنهاية 4/106.
قال فقام علي -رضي الله عنه- فقال يا رسول الله: "أنا فقال إنه عمرو فقال وإن كان عمراً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك ... مجيب صوتك غير عاجز
ذو1 نية وبص
__________
يرة ... والصدق منجا كل فايز
إني لأرجو أن أق
__________
يم ... عليك نائحة الجنائز
من ضربة نج
__________
لاء ... يبقى ذكرها عند الهزاهز
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته وقال: "اللهم أعنه عليه" وفي لفظ "اللهم هذا أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين" 2.
فقال له عمرو من أنت؟ قال أنا علي قال ابن عبد مناف؟ قال أنا علي بن أبي طالب3. فقال يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك … وساق إلى قوله …
____________________
1 كذا في الدلائل - وفي البداية 4/106 (في) وفي موضع آخر ذو نبهة.
2 ذكر هذا صاحب السيرة الحلية 2/641.
3 واسم أبي طالب - عبد مناف.
وضربه على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرفنا أن علياً قد قتله فثم يقول علي
أعليّ تقتحم الفوارس هكذا ... عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم تمنعني الفرار حفيظتي ... ومصمم في الراس ليس بنابي
إلى أن قال
عبد الحجارة من سفاهة رأيه ... وعبدت رب محمد بصوابي
قال ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل1.
قال ابن هشام وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو فقال في ذلك حسان:
فرّ وألقى لنا رمح
__________
هـ ... لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم ... ما إن يحور عن المعدل
ولم تلو ظهرك مستُأنساً ... كان قفاك قفا فرعل
وقال ابن هشام الفراعل صغار الضباع2.
زاد ابن سعد حيث قال: قال علي أنا أبارزه يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه
____________________
1 الدلائل للبيهقي 3/439، البداية والنهاية 4/106- 107، والروض الأنف 3/279.
2 السيرة النبوية 3/262، بهامشها الروض الأنف 3/280.
وقال: "اللهم أعنه عليه" 1.
وقال الزرقاني نقلاً عن الحاكم قال2: سمعت الأصم قال سمعت العطاردي قال سمعت يحى بن آدم3 يقول ما شبهت قتل علي عمراً إلا بقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت} 4 الآية. والحديث يعتبر من الشواهد المقوية. وحديث قتل علي لعمرو ذكره غير واحد منهم: ابن سعد5 كما أخرجه الطبري عن الزهري6 مرسلاً وذكره ابن الأثير7. وعزاه ابن سيد الناس لابن إسحاق8، وقد ذَكَره علي المتقي الهندّي، وذكر بأن المحاملي أورده في أماليه وفيه زيادةٌ هذا نصها:
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/68.
2 أي الحاكم، وانظر: المستدرك 3/36.
3 يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي أبو زكريا مولي بني أمية - ثقة حافظ فاضل - من كبار التاسعة مات سنة ثلاث ومائتين (ع) . التقريب 373.
4 سورة البقرة الآية 25.
5 شرح المواهب اللدنية 2/115.
6 تاريخ الأمم والملوك 3/48.
7 الكامل 2/124.
8 عيون الأثر 2/61.
عن ابن عباس قال: "سَمِعْتُ عمر يقول جاء عمرو بن عبد ود فجعل يجول بفرسه حتى جاوز الخندق إلى أن قال: … صلى الله عليه وسلم: "اخرج يا علي" فقال له عمرو من أنت يا ابن أخي؟ قال أنا علي فقال إن أباك كان نديماً لي لا أحب قتالك … إلى أن قال عمرو إني نذرت أن أقتل حمزة فسبقني إليه وحشي ثم إني نذرت أن أقتل محمداً قال علي: "فانزل فنزل فاختلفا في الضربة فضربه علي فقتله"1.
وقد قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لعلي في مبارزة عمرو دعا الله وقال اللهم أعنه عليه بعد أن عممه وأعطاه سيفه ذا الفقار وكل ذلك بدون إسناد وذكروا أيضاً أن علياً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق اللهم أنك أخذت عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا علي فلا تدعني فرداً وأنت خير الوارثين" أ: هـ. هكذا ذكره في كنز العمال2وعزاه إلى الديلمي.
مقتل نوفل المخزومي:
قال ابن سعد: "ثم أًجْمع رؤساؤهم أن يغدوا يوماً فغدوا جميعاً ومعهم رؤساء سائر الأحزاب وطَلَبوا مضيقاً من الخندق يقحمون منه خيلهم إلى
____________________
1 كنز العمال 10/456- 457.
2 كنز العمال 10/456- 457.
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يجدوا ذلك وقالوا: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها قالو فمن هناك إذاً، فصاروا إلى مكان ضيق أغفله المسلمون فعبر عكرمة بن أبي جهل ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب وهبيرة بن ابي وهب وعمرو بن عبد ود وذكر المبارزة إلى أن قال: وولي أصحابه1هاربين وظفرت بهم خيولهم2وحمل الزبير بن العوام على نوفل بن عبد الله بالسيف فضربه فشقه باثنين"3.
وقال البيهقي: "وذكر ابن إسحاق خروجهم ودعاء عمرو إلى البراز على وجه آخر في الإسناد الذي ذكرناه فقال: "وكان ممن خرج يوم الخندق هبيرة بن أبي وهب4المخزومي وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يسأل المبارزة فَخَرَج إليه الزُّبير بن العَوام رضي الله عنْه فضرَبه فشقَّه باثنتين حتى فل في سيفه فلا5 فانصرف وهو يقول:
أني امرؤ احمي واحتمي ... عن النبي المصطفى الأمي
____________________
1 يرجع الضمير في قوله - وولي أصحابه - إلى عمرو بن عبدود.
2 الضمير محتمل الرجوع إلى خيل المسلمين وقد يكون راجعا إلى خيل الكفار.
3 الطبقات الكبرى 2/68.
4 هو زوج أم هانئ - أخت على رضي الله عنه-.
5 فل: أي في سيفه كسر. مختار الصحاح 512.
قال الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية: "وَبَرز نوفل بن عبد الله المخزومي فقتله الزبير بن العوام بالسيف حتى شقه اثنين فقطع سرجه حتى خلص إلى كاهل الفرس فقيل: ما رأينا سيفاً مثل سيفك قال ما هو السيف ولكنها الساعد" أ. هـ. 1
وقال ابن سيد الناس نقلاً عن ابن عائذ قوله: "واقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه فرد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خبيث خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب2 لنا في ديته وقيل أعطوه في جثته عشرة آلاف"3.
وقال ابن كثير: "وقد ذكر موسى بن عقبة أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حيث قتل وعرضوا عليه الدية فقال إنه خبيث
____________________
1 شرح المواهب 2/115.
2 الأرب: الحاجة. مختار الصحاح 13.
3 عيون الأثر 2/60.
خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته فلا أرب لنا في ديته ولسنا نمنعكم أن تدفنوه".
قال: وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق حيث قال: "وخرج نوفل المخزومي فسأل المبارزة فذكر خروج الزبير إليه وقتله".
ثم قال: "وقد ذكر ابن جرير أن نوفلاً لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يامعشر العرب فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركين رمته1. من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئاً ومكنهم من أخذه إليهم. قال وهذا غريب من وجهين" أ. هـ. 2ولم يبين وجه الغرابة.
ثم إن ابن جرير رواه عن الزهري والزهري رواه مرسلاً فهو ضعيف. لأن الآثار التي وردت كلها على اختلاف مراتبها تبين أن قاتله الزبير إلا أن يكونا اشتركا في قتله فالله أعلم.
على ضوء ما سبق نرى أن هناك اختلافاً حول قاتل نوفل:
____________________
1 رمته: جيفته.
2 البداية والنهاية 4/107.
(أ) فالأكثر أن الذي قتله الزبير وذلك بصريح الآثار وكثرة القائلين بذلك وقد تقدموا.
(ب) المعارض لهذا الرأي هو الطبري وقد تقدم قوله كما يفهم ذلك من كلام ابن الأثير1 وإن كان لم يصرح.
والحق أن قاتله هو الزبير وذلك لما يأتي:
قال ابن جرير كما في كنز العمال: حدثنا أبو كريب2 حدثنا وكيع3 عن سفيان عن عبد الكريم الجزري4 عن عكرمة5 قال لما كان يوم الخندق قام رجل من المشركين
____________________
1 الكامل 2/124 حيث قال بعد أن ذكر المبارزة وقتل علي عمراً قال وقتل من المشركين اثنان قتل أحدهما علي.
2 محمد بن العلاء بن كريب الهمذاني - أبو كريب- الكوفي مشهور بكنيته - ثقة حافظ - من العاشرة- مات سنة 249. وهو ابن سبع وثمانين سنة (ع) التقريب 314.
3 وكيع بن الجراح بن فليح الرؤاسي بضم الراء ثم المهملة أبو سفيان الكوفي - ثقة حافظ- عابد من كبار التاسعة مات في آخر أو أول سنة 197. وله سبعون سنة (ع) . التقريب 369.
4 عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد مولى بني أمية وهو الخضرمي بالخاء والضاد المعجمتين نسبة إلى قرية من اليمامة - ثقة - من السادسة مات سنة 127 (ع) التقريب 217.
5 عكرمة هو مولى ابن عباس وقد تقدم.
فقال من يبارز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقالت صفية يا رسول الله واجدى1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيهما علا صاحبه قتله" فعلاه الزبير فقتله ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه فنفله إياه2. والحديث على ضوء هذا السند مرسل ورجاله ثقات.
الاختلاف حول بيع جيفة الكافر:
أ- الكثيرون من أهل المغازي والسير يذكرون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الدية - في الكافر الذي قتل في الخندق - بل دفعه إليهم وقال بأنه خبيث الجثة وتؤيدهم الآثار التالية:
قال المتقي الهندي وعزاه لابن أبي شيبة: "عن عكرمة أن نوفلاً أو ابن نوفل تردى به فرسه يوم الخندق فقتل فبعث أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بديته مائة من الإبل فأبي النبي صلى الله عليه وسلم وقال "خذوه فأنه خبيث الدية خبيث الجثة" 3.
____________________
1 واجدي من الوجد وهو الحزن وهو - بالجيم المعجمة - وفي المنتخب واحدى بالحاء المهملة ولعل الظاهر بالجيم المعجمة لأن صفية كان لها ابن آخر وحضر غزوة الخندق وكان يسمى - السائب - المعارف لابن قتيبة 96.
2 كنز العمال 10/455.
3 كنز العمال 10/455.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا نصر بن باب1 حدثنا حجاج عن الحكم2 عن مقسم3 عن ابن عباس أنه قال قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين فأعطوه بجيفته مالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجثة الدية فلم يقبل منهم شيئاً"4. والحديث ضعيف لوجود نصر بن باب فيه. قال ابن كثير: "وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة5 عن
____________________
1 نصر بن باب أبو سهل الخراساني المروزي روى عن داود بن أبي هند وإبراهيم الصائغ وعنه أحمد وابن المديني ومحمد بن رافع. قال الذهبي: "تركه جماعة" وقال البخاري: "يرمونه بالكذب" وقال ابن معين: "ليس حديثه بشيء" وقال ابن حبان: "لا يحتج به" وقال أحمد: "ما كان به بأس إنما انكروا عليه حين حدث عن إبراهيم الصائغ قيل توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة". انظر: ميزان الاعتدال 4/250
2 الحكم بن عتيبة بالمثناة ثم الموحدة مصغراً أبو محمد الكندي الكوفي - ثقة ثبت - فقيه إلا أنه ربما دلس من الخامسة مات سنة 113 أو بعدها وله نيف وستون (ع) . التقريب 80.
3 مقسم بكسر أوله ابن بجرة بضم الموحدة وسكون الجيم ويقال نجدة بفتح النون والدال أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث ويقال له مولى ابن عباس للزومه له - صدوق وكان يرسل من الرابعة مات سنة أحدى ومائة وماله في البخاري إلا حديث واحد روى له الجماعة إلا مسلماً. التقريب 346.
4 مسند الإمام أحمد 1/248- 271.
5 حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بأخره من كبار الثامنة. مات سنة 167 روى له (خت م ع) . التقريب 82.
حجاج وهو ابن ارطأة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيك1 اثني عشر ألفاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في جسده ولا في ثمنه2.
وقد رواه الترمذي حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان3 حدثنا أبو أحمد4 حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: "أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم"5. قال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من حديث الحكم". ولعل استغراب الترمذي أتى بسبب أبي حمد الزبيري فإنه يخطئ في حديث الثوري والرواية هنا عنه.
____________________
1 كذا عند البيهقي وعند ابن كثير (نعطيهم) .
2 البداية والنهاية 4/107، انظر السنن الكبرى للبيهقي 9/133.
3 محمود بن غيلان العدوي مولاهم أبو أحمد المروزي نزيل بغداد - ثقة - من العاشرة مات سنة 239 وقيل بعد ذلك روى له (خ م ت ق س) . التقريب 330.
4 محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسدي أبو أحمد الزبيري الكوفي - ثقة ثبت - إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري من التاسعة مات سنة 203. روى له (ع) التقريب 304
5 سنن الترمذي 3/129، وفي الميزان 3/615 قال: حسنه الترمذي وهو غريب.
أما كلام أهل المغازي في ذلك فهو كما قال البيهقي: "وذكر ابن إسحاق في موضع آخر من هذا الكتاب عقب قتل الزبير لنوفل - أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق". إلى أن قال: "وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال صلى الله عليه وسلم: "هو لكم لا نأكل ثمن الموتى" أ. هـ. 1
وقال الديار بكري: "وفي معالم التنزيل: طلب المشركون جيفة نوفل بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية" 2.أ. هـ:
(ب) في مقابل القائلين بعدم جواز بيع جيفة الكافر واعتمادهم على الآثار الواردة جاء عند الحاكم ما يخالف ذلك حيث أورد بسنده حديثاً يدل على الجواز وأخذ الدية.
حيث قال رحمه الله: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب3 حدثنا أحمد بن عبد الجبار4
____________________
1 دلائل النبوة للبيهقي 3/440.
2 تاريخ الخميس 1/488.
3 هو النيسابوري الأصم تقدم.
4 هو العطاردي تقدم.
حدثنا يونس بن بكير1 عن محمد بن عبد الرحمن2 عن الحكم بن عتيبة عن مقسم3 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قتل رجل من المشركين يوم الخندق فطلبوا أن يواروه4 فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعطوه الدية"5…
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
درجة الحديث:
الحديث ضعيف لضعف ابن أبي ليلى ثم إن الحكم ثبت أنه لم يرو عن مقسم إلا خمسة أحاديث ليس هذا منها قال الذهبي: "حسنه الترمذي".
وقال عبد الحق6 في أحكامه وابن القطان7: "إسناده ضعيف"
____________________
1 يونس بن بكير أيضا تقدم.
2 محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن - صدوق سيئ الحفظ جداً من السابعة مات سنة ثمان وأربعين 148 روى له الأربعة. التقريب 308.
3 الحكم ومقسم تقدمت ترجمتهما.
4 يواروه: يدفنوه من ذلك قوله تعالى {فأواري سوأة أخي} المائدة الآية 31.
5 المستدرك للحاكم 3/32.
6 عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسين بن سعيد الحافظ العلامة الحجة أبو محمد الأزدي الأشبيلي ويعرف أيضا بابن الخراط من مؤلفاته الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم والأحكام الكبرى وغير ذلك ت سنة 582. تذكرة الحفاظ 4/1350.
7 هو علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى الكتامي ويعرف بابن القطان أبو الحسن محدث عارف بالرجال من أهل فارس قرطبي الأصل. من تصانيفه شرح أحكام عبد الحق وبيان الوهم والإيهام في الحديث ت سنة 628. انظر: تذكرة الحفاظ 4/1407.
ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها وضعفاه من جهة ابن أبي ليلى وقول الترمذي أولى1.
ثم أن هناك اضطراباً في الإسناد فقد جاء عند الترمذي بسند فيه ابن أبي ليلى وجاء فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ديته وقال أنه خبيث الدية خبيث الجثة.
وعلى ذلك:
تبين أن الصحيح هو:
عدم جواز بيع جيفة الكافر أو أخذ ديته قال الحافظ أثناء شرحه لتبويب البخاري حيث قال (باب طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن) ثم قال قوله (ولا يؤخذ لهم ثمن) قال: "أشار به لحديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم" ثم قال: وذكر ابن إسحاق في المغازي: "أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده"2.
____________________
1 الميزان 3/615.
2 فتح الباري 6/282.
وبهذا وغيره مما تقدم يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ مقابل جثة نوفل لا دية ولا ثمناً بل إنه أعطاهم وقال إنه خبيث الدية خبيث الجثة وفي رواية قال: "لعنه الله ولعن ديته" 1.
__________
1 البداية والنهاية 4/107، عيون الأثر 2/60.
,
أولاً: القتلى من المسلمين:
استمرت المعركة والحصار مضروب فما مضت أسابيع ثلاثة على ذلك الحصار المضروب حتى دب القنوط والتخاذل في صفوف المهاجمين على حين بقيت جبهة المدافعين عن حوزة الدين الإسلامي - سليمة لم تثلم ورغم كثرة الأعداء وتحرشاتهم ومناوشاتهم المستمرة طيلة تلك المدة إلا أنه لم يقتل من المسلمين إلا عدد قليل وهم:
1- سعد بن معاذ سيد الأوس وحامل لوائهم يوم الخندق1 وقد أفردت لبلائه في هذه الغزوة فصلاً خاصاً.
2-أنس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم ابن عامر بن زاعورا بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس وزاعورا هو أخو عبد الأشهل كذا نسبه ابن الكلبي وهو أخو مالك وعمير والحارث بني أوس. قال ابن الأثير: "شهد أحداً وقتل يوم الخندق" قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: "رماه خالد
____________________
1 أنظر ترجمته في: أسد الغابة 2/296، الإصابة في تمييز الصحابة 2/37، الطبقات الكبرى 3/420.
بن الوليد بسهم فقتله ولم يشهد بدراً"1. وذلك بدليل ما أورده الهيثمي حيث قال: "عن ابن شهاب قال استشهد يوم الخندق من الأنصار أنس بن معاذ2 بن أوس بن عبد عمرو …الخ" ثم قال: "رواه الطبراني3 ورجاله رجال الصحيح"4.
وقال ابن سعد: "وكان فيمن قتل أيضاً في أيام الخندق أنس بن أوس بن عتيك من بني عبد الأشهل قتله خالد بن الوليد"5.
3- عبد الله بن سهل الأشهلي:
قال ابن الأثير: "عبد الله بن سهل بن رافع الأنصاري ثم الأشهلي من بني زعوراء بن عبد الأشهل وقيل أنه من غسان وهو حليف لبني عبد الأشهل" وقال:
____________________
1 أسد الغابة 1/122، والاستيعاب 1/198.
2 هو أنس بن أوس وليس في ترجمته - معاذ - وانظر: المصدر السابق، البداية والنهاية 4/116.
3 المعجم الكبير 1/265 حديث 770.
4 مجمع الزوائد 6/142.
5 الطبقات الكبرى 2/70.
"ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة فيمن شهد بدراً من الأنصار من بني عبد الأشهل وحلفائهم ثم قال مرة أخرى وقد ذكر ابن إسحاق فيمن قتل من المسلمين يوم الخندق عبد الله بن سهل من بني عبد الأشهل والله أعلم"1.
4- ثعلبة بن عنمة2 بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري الخزرجي السلمي شهد العقبة في البيعتين وشهد بدراً وهو أحد الذين كسروا آلهة بني سلمة قتل يوم الخندق شهيداً قاله ابن إسحاق قتله هبيرة بن أبي وهب المخزومي3. وقد روى الزهري أثراً مرسلاً ونصه: "استشهد يوم الخندق من الأنصار أنس بن معاذ … إلى قوله… ومن الأنصار ثم من بني سلمة ثعلبة بن غنمة… الخ4".
وقد ذكره ابن سعد وهناك جاء اسمه ثعلبة بن عنمة بالعين المهملة5.
____________________
1 أسد الغابة 3/171، والاستيعاب 3/56.
2 هكذا عند ابن الأثير وابن كثير في البداية والنهاية 9/116، السيرة النبوية 3/222 بالغين المعجمة.
3 أسد الغابة 1/244.
4 وقد تقدم الأثر وحكم الهيثمي عليه قريباً.
5 الطبقات الكبرى 2/70 وقال بأن قاتله هبيرة بن أبي وهب.
كما ذكر ذلك ابن كثير وجاء في اسمه - ثعلبة بن غنمة بالغين المعجمة والنون1.
5- طفيل بن النعمان بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي عقبي بدري استشهد يوم الخندق هذا ما قاله ابن الأثير2. وذكره ابن كثير أيضاً3 ولم يذكره ابن سعد أثناء ذكره لمن استشهد ولكنه ذكره في طبقات البدريين من الأنصار وأن الذي قتله يوم الخندق هو وحشي4.
6- كعب بن زيد النجاري:
قال ابن الأثير: "شهد بدراً قاله ابن شهاب وابن إسحاق وابن الكلبي" وقال ابن الكلبي: "قتل يوم الخندق" وقال الواقدي: "قتله ضرار بن الخطاب يوم الخندق
____________________
1 البداية والنهاية 4/116.
2 أسد الغابة 3/56.
3 البداية والنهاية 4/116، والسيرة النبوية 3/222.
4 الطبقات الكبرى 3/573، السيرة الحلبية 2/648.
وبه قال ابن سعد"1 وقال ابن إسحاق: "أصابه سهم غرب يوم الخندق فقتله" وبقول ابن إسحاق هذا قال ابن كثير2.
قال ابن الأثير: "ويذكرون أن الذي أصابه أمية بن ربيعة بن صخر الدؤلي وكان قد نجا يوم بئر معونة"3.
7 - 8 سليط وسفيان بن عوف الأسلمي. وساق البزار حديثاً بسنده وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سليطا وسفيان بن عوف الأسلمي طليعة يوم الأحزاب فخرجا حتى إذا كانا بالبيداء إلتفت عليهم خيل لأبي سفيان فقاتلا حتى قتلا فأتيَ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنا في قبر واحداً فهما الشهيدان القرينان4.
وقال الهيثمي: "رواه البزار وفيه جماعة لم أعرفهم"5 وقال حبيب الرحمن الأعظمي6 قلت: "وقال الحافظ في الإصابة: في سنده من لا يعرف".
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/70.
2 البداية والنهاية 4/116.
3 أسد الغابة 4/241.
4 كشف الأستار 2/333.
5 مجمع الزوائد 6/135.
6 محقق كشف الأستار قال ذلك في 2/332.
9- وقد تفرد ابن دريد1 بقوله: "ومنهم سنان بن صيفي الخزرجي شهد بدراً والعقبة وقتل يوم الخندق".
ثانياً: القتلى من المشركين:
رغم كثرة المناوشات التي قامت بها جموع الأحزاب ورغم كثرتهم ومع ذلك فقد قتل منهم ثلاثة فقط2 وقيل أربعة3 وهم:
1- من بني عبد الدار:
منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار. أصابه سهم فمات منه بمكة.
وقال ابن هشام هو: "عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق"4.
2- ومن بني مخزوم:
نوفل بن عبد الله بن المغيرة.
اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك5.
____________________
1 الاشتقاق 465. وانظر ترجمته في الطبقات الكبرى 3/572، أسد الغابة 2/359.
2 هذا ما اتفق على إيراده المؤرخون وأهل المغازي.
3 ذكر الرابع وانفرد به ابن هشام. السيرة النبوية 3/253.
4 كذلك انفرد ابن هشام بهذه التسمية والبقية يقولون أن اسمه (منبه) .
5 البداية والنهاية 4/116.
قال في تاريخ الخميس: "وفي روضة الأحباب: اقتحم الخندق نوفل حين الفرار فسقط فيه فرماه المسلمون بالحجارة فصرخ يا معشر العرب قتله أحسن من هذه"1.
وقد تقدم الخلاف في قاتله فقيل إنه بعد تورطه وصراخه قتله علي رضي الله عنه وقيل إن الزبير قتله مبارزة وعلى كلا الحالين فقد هلك، ولأهميته لدى المشركين فقد بعثوا لشراء جسده ليدفنوه فأعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لا خير في جسده ولا في ثمنه.
3- ومن بني عامر:
عمرو بن عَبْدُود العامري. قتله علي مبارزة وقد سبق ذكرها.
هؤلاء الثلاثة أتفق أهل المغازي والسير على إيرادهم في القتلى والقائلون بذلك هم:
ابن إسحاق2 وابن سعد3 وابن جرير4 وابن الأثير5 وابن كثير6.
____________________
1 تاريخ الخميس 1/487.
2 السيرة النبوية 2/253.
3 الطبقات الكبرى 2/68- 70.
4 تاريخ الأمم والملوك 3/49.
5 الكامل 2/124.
6 البداية والنهاية 4/116.
4- حسل بن عمرو. انفرد بذكره ابن هشام حيث قال: وحدثني الثقة أنه حُدث عن ابن شهاب الزهري أنه قال: "قتل علي يومئذ عمرو بن عبدود وابنه حسل بن عمرو"1.
هؤلاء الذين قتلوا من المشركين رغم كثرتهم ويمكن أن نرجع سبب قلة القتلى من الجانبين إلى أن: "وجود الخندق كان له سبب مباشر بعد الله. ذلك لأن المشركين تخوفوا من هذه المكيدة ولم يقتل إلا من اقتحم أو اقترب كما فعل نوفل وعمرو بن ود. والخندق في الحقيقة نصر من الله حيث ألهمهم الله إلى حفره وأعانهم على سرعة إنجازه فكان حاجزاً حصيناً ولكي يبين الله سبحانه لأعداء المسلمين من منافقين وكفار أن النصر بيد الله وليست بالكثرة وأنه متى كان الله سبحانه مع فئة ولو قليلة تكون لها الغلبة في النهاية ذلك لأن هذه الفئة القليلة تقاتل عن عقيدة سامية ومبدأ عظيم ألا وهو الإسلام".
__________
1 السيرة النبوية 2/253.
,
اشتدت المعركة وهذا طبيعى ما دام قد قتل من فرسان المشركين وصناديدهم أربعة تقريباً وذلك خلال غارة سريعة. مما زاد من حقدهم علاوة على الذي دفعهم للمجيء من مَكَّة وغيرها من بلدان الأحزاب لمحاصرة المسلمين والقضاء عليهم.
لكنهم ولله الحمد وجدوا غير ما يتوقعون. علماً بأن المسلمين شغلوا من الخلف وذلك من قبل اليهود فقد حصل منهم التعرض والتحرش بالنساء والذراري. ولما طال الحصار أخذ اليهود قبحهم الله يرسلون إمدادات للأحزاب.
ذكر ذلك صاحب السيرة الحلبية فقال:
أن دورية مسلحة من الأنصار خرج رجالها ليدفنوا ميتاً لهم فصادفوا قافلة من عشرين بعيراً محملة تمراً وشعيراً وتبناً. فأخذها المسلمون وخفف الله بها عليهم من ضائقة المجاعة التي كانوا يعانونها1.
مما جعل الهزائم تتوالى على الأحزاب. إلا أنهم زادوا من نشاط خيلهم فكانت الخيول تطوف بأعداد كبيرة كل ليلة حول الخندق حتى الصباح فتخلفها أعداد طول النهار وأصحابها يطمعون في أخذ المسلمين على حين غرة وذلك لأن خالد بن الوليد كان في هذه الغزوة قائداً
____________________
1 السيرة الحلبية 2/107.
للفرسان كما كان في غزوة أحد وهو يطمع كما فعل في أحد أن يصيب غرة من المسلمين ولكن هيهات "لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين"1.
وبعد قتل فرسانهم المشهورين في الهجمة الأولى تابعوا التحركات رجاء الانتقام لصناديد الكفر لذلك قال ابن سعد:
فكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً ويغدو خالد بن الوليد يوماً ويغدو عمرو بن العاص يوماً ويغدو هبيرة بن أبي وهب الذي نجا من الكرة الأولى يوماً ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوماً فلا يزالون يجيلون خيلهم يتفرقون مرة ويجتمعون أخرى ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمون رماتهم فيرمون2.
قال ابن سعد: "وبعد قتل أصحابهم اتعدوا أن يغدوا من الغد فباتوا يعبئون أصحابهم وفرقوا كتائبهم ونحوا3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد فقاتلوهم يومهم ذلك إلى هوي من الليل ما يقدرون أن يزولوا من مواضعهم ولا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ظهراً ولا
____________________
1 رواه البخاري في كتاب الأدب 83، مسلم في كتاب الزهد 63، وأبو داود في الأدب 29، وابن ماجة في الفتن 13، والدارمي في الرقاق 65، وأحمد 2/115، 379.
2 الطبقات الكبرى 2/67.
3 عند ابن سيد الناس جهزوا.
عصراً ولا مغرباً ولا عشاء حتى كشفهم الله فرجعوا متفرقين إلى منازلهم وعسكرهم وانصرف المسلمون إلى قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام أسيد بن الحضير1 على الخندق في مائتين من المسلمين وكر خالد بن الوليد في خيل من المشركين يطلبون غرة من المسلمين فناوشوهم ساعة ومع المشركين وحشي2 فزرق3 الطفيلَ بن النعمان من بني سلمة بمزراقه فقتله وانكشفوا وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبته فأمر بلالاً فأذن وأقام الظهر فصلى ثم أقام بعد كل صلاة إقامة إقامة وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من
____________________
1 أسيد بضم الهمزة هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك الأنصاري الأوسي الأشهلي يكنى أبا يحيى وأسلم أسيد قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة وكان إسلامه بعد العقبة الأولى وقبل الثانية وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يكرمه ولا يقدم عليه أحد. وقد اختلف في شهوده بدراً ولكنه شهد أحد وما بعدها توفي رضي الله عنه سنة عشرين في شعبان ودفن بالبقيع. انظر: أسد الغابة 1/92.
2 وحشي هو قاتل حمزة وهو ابن حرب الحبشي أبو دسمه وهو من سودان مكة وهو مولى لطعيمة بن عدي وقيل مولى جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي وشرك في قتله مسيلمة الكذاب يوم اليمامة وكان يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام وبعد أن ضاقت عليه الدنيا عندما فتحت مكة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً ولكن الرسول قال له بعد أن أسلم وشرح له قصة قتل حمزة. غيب عني وجهك قال ولم ير وجهي حتى قبضه الله، وقد مات وهو مخمور. انظر: أسد الغابة 5/83- 84.
3 زرقه رماه والمزراق رمح قصير قاله في القاموس 3/240.
الصلوات وقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى يعني العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً"1.
وقد نقل ابن العربي2 خلافاً في الصلاة الوسطى وأي صلاة كانت على الآتي:
1- إنها الظهر قاله زيد بن ثابت.
2- إنها العصر قاله علي في أحدي روايتيه.
3- إنها المغرب قاله البراء.
4- إنها العشاء الآخره.
5- إنها الصبح قاله ابن عباس وابن عمرو أبو أمامة والرواية الصحيحة عن علي.
6- إنها الجمعة.
7- إنها غير معنية.
قال: "وكل قول من هذه الأقوال مستند إلى ما لا يستقل بالدليل.
فأما من قال إنها الظهر فلأنها أول صلاة فرضت.
وأما من قال إنها العصر فتعلق بحديث علي رضي الله عنه شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً.
____________________
1 الطبقات الكبرى 2/68- 69.
2 في أحكام القرآن 1/225.
وأما من قال إنها المغرب فلأنها وتر بين أشفاع.
وأما من قال إنها الصبح فلأنها في وقت متوسط بين الليل والنهار قاله ابن عباس1 ومالك وقال غيرهما هي مشهودة2 والعصر وإن كانت مثلها فتزيد الصبح عليها بوجهين أحدهما: أنها أثقل الصلوات على المنافقين. والثاني: إن في الموطأ عن عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين".
قال: "وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر ويعارض حديث علي رضي الله عنه ويبين أن المراد أنها كانت وسطى بين ما فات وبقي".
وأما من قال إنها الجمعة فلأنها تختص بشروط زائدة وهذا يدل على شرفها وفضلها.
وأما من قال إنها غير معينة فلتعارض الأدلة وعدم الترجيح وهذا هو الصحيح3.
____________________
1 في الأصل قدم مالك على ابن عباس.
2 مشهودة من الملائكة وقد قال تعالى عن القرآن {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} .
3 أحكام القرآن 1/225.
قال: "وهذا هو الصحيح فإن الله خبأها في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان وخبأ الساعة التي في يوم الجمعة وخبأ الكبائر في السيئات ليحافظ الخلق على الصلوات ويقوموا جميع شهر رمضان ويلزموا الذكر في يوم الجمعة كله ويجتنبوا جميع الكبائر والسيئات"1.
أقول: "رحم الله ابن العربي كيف يرجح أن الصلاة الوسطى مبهمة مع صريح الأدلة التي جاءت في الصحيحين وغيرهما وقد صرحت أنها صلاة العصر، ولذلك ذكر الحافظ ابن كثير كل الأقوال في ذلك وتبين من خلال ما نقله أنها صلاة العصر2
وقد جاء التصريح بأن الصلاة الوسطى هي العصر في هذه الغزوة حيث قال صلى الله عليه وسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر وقد جاء عند البخاري ما يقوي ذلك حيث قال: حدثنا إسحاق3 حدثنا روح4 حدثنا هشام5 عن محمد6 عن عبيدة7 عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: "ملأ
____________________
1 أحكام القرآن 1/226.
2 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/290- 291.
3 إسحاق بن منصور السلولي بفتح المهملة واللامين مولاهم أبو عبد الرحمن صدوق.
4 روح بن عبادة بن العلاء بن حسان القبس أبو محمد البصري - ثقة -.
5 هشام بن حسان الأزدي القردوسي بالقاف وضم الدال أبو عبد الله البصري-ثقة-.
6 محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر بن أبي عمرة البصري ثقة ثبت عابد كبير القدر.
7 عبيدة بن عمر السلماني تابعي كبير مخضرم ثقة ثبت.
الله عليهم بيوتهم وقبرهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" 1.
وقد أخرج هذا الحديث المصرح بتعيين الصلاة الوسطى كل من: مسلم2 وأبو داود3 والترمذي4 وابن ماجة5 والدارمي6 وعبد بن حميد7 وأحمد8 ورواه الطبراني9 عن ابن عباس بلفظ ادخل الله قبورهم ناراً.
وقد أخرجه النسائي10 عن عبيدة عن علي به، إلا أنه لم يرد عنده ذكر الأحزاب. وفي هذا الحديث تصريح بأن الذي فات من الصلوات وتأخرت عن وقتها هي صلاة العصر وذلك بدليل قوله: "حتى غابت الشمس" وبدليل الحديث الذي رواه أحمد حيث قال:
____________________
1 صحيح البخاري 5/92 كتاب المغازي باب غزوة الخندق.
2 صحيح مسلم 1/436 كتاب المساجد باب التغليظ في تفويت صلاة العصر.
3 سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي 1/287 كتاب الصلاة.
4 سنن الترمذي 4/286 أبواب التفسير سورة البقرة.
5 سنن ابن ماجة 1/224 كتاب الصلاة.
6 سنن الدارمي 1/125 كتاب الصلاة.
7 من المنتخب لعبد بن حميد 1/155 حديث (77) .
8 مسند أحمد 1/79، 81، 113، 122، 126، 135، 137، 146، 150، 152، 404، 456.
9 المعجم الكبير للطبراني 10/360.
10 سنن النسائي 1/236 باب المحافظة على صلاة العصر.
حدثنا أبو معاوية1 حدثنا الأعمش عن مسلم2 عن شتير بن شكل3 عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً ثم صلاها بين العشائين المغرب والعشاء"4.
وكذا رواه مسلم من حديث أبي معاوية والنسائي5 من طريق
عيسى بن يونس6 كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن شتير بن شكل عن حميد عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله7.
وقد رواه مسلم أيضاً من طريق شعبة بن الحكم8 بن عتيبة عن
____________________
1 أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي عمي وهو صغير (ثقة) احفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره.
2 مسلم بن صبيح بالتصغير الهمداني أبو الضحى الكوفي العطار مشهور بكنيته (ثقة) فاضل.
3 شتير بمثناة مصغراً ابن شكل بفتح المعجمة والكاف العبسي بموحدة الكوفي يقال إنه أدرك الجاهلية (ثقة) .
4 مسند أحمد 1/79.
5 سنن النسائي 1/236.
6 عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة أخو إسرائيل كوفي نزل الشام مرابطاً (ثقة) مأمون.
7 صحيح مسلم 1/437 كتاب المساجد.
8 الحكم بن عتيبة أبو محمد الكندي وقد تقدم.
يحيى الجزار1 عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله2.
ورواه الترمذي والنسائي من طريق الحسن البصري عن علي به.
قال الترمذي: "ولا يعرف سماعه منه"3.
قال الإمام ابن كثير: وقال ابن أبي حاتم4 حدثنا أحمد5 بن سنان حدثنا عبد الرحمن6 بن مهدي عن سفيان7 عن عاصم8 عن زر9 قال قلت لعبيدة سل علياً
____________________
1 يحي بن الجزار العُرنى بضم المهملة وفتح الراء ثم نون الكوفي.
2 صحيح مسلم 1/437.
3 أي سماع حسن البصري لا يصح من علي. انظر: تفسير ابن كثير 1/291.
4 ابن أبي حاتم تقدم في ص 114.
5 أحمد بن سنان بن أسد بن حيان بكسر المهملة بعدها موحدة أبو جعفر القطان الواسطي (ثقة) حافظ. التقريب 13.
6 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري (ثقة ثبت) حافظ عارف بالرجال والحديث قال ابن المديني ما رأيت أعلم منه من التاسعة مات سنة 198 وهو بن ثلاث وسبعين سنة (ع) . التقريب 210.
7 سفيان هو الثوري كما في القواعد المفيدة في معرفة أسماء الرجال المذكورين في جامع الإمام البخاري ص 9 وقد تقدمت ترجمته في ص 240.
8 هو عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري (ثقة) من الرابعة لم يتكلم فيه إلا القطان وكان بسبب دخوله الولاية مات بعد سنة 140 (ع) التقريب 159.
9 زر بكسر أوله وتشديد الراء ابن حبيش بمهملة وموحدة ومعجمة مصغر ابن حباشة بضم المهملة بعدها موحدة ثم معجمة: الأسدي الكوفي أبو مريم (ثقة) جليل مخضرم مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة (ع) . التقريب 106.
عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: "كنا نراها الفجر أو الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم ناراً" 1.
ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي به2.
وقال: "حديث يوم الأحزاب وشغل المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ روي عن جماعة من الصحابة وإنما المقصود رواية من نص منهم في روايته أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر" قال3 وقد رواه مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب رضي الله عنهما4.
وقد جاء عند البخاري5 في كتاب الدعوات: عن علي رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فقال: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس وهي صلاة العصر" وقد عقب الحافظ على ذلك قائلاً وقوله في هذه الرواية: "وهي صلاة العصر".
____________________
1 تفسير القرآن العظيم 1/291.
2 جامع البيان 2/558.
3 أي ابن كثير.
4 تفسير القرآن العظيم 1/291.
5 البخاري مع فتح الباري 11/194 كتاب الدعوات باب الدعاء على المشركين.
جزم الكرماني بأنه مدرج في الخبر من قول بعض رواته:
قال: "وفيه نظر فقد تقدم في الجهاد من رواية عيسى بن يونس، وفي المغازي من رواية روح بن عبادة، وفي التفسير من رواية يزيد بن هارون، ومن رواية يحي بن سعيد كلهم عن هشام كذلك، ولكن بلفظ "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر".
وكذا أخرجه من طريق شتير بن شكل عن علي ومن طريق مرة عن عبد الله بن مسعود مثله سواء وأصرح من ذلك ما أخرجه من حديث حذيفة مرفوعاً "شغلونا عن صلاة العصر" وهو ظاهر في أنه من نفس الحديث1. قال2 وروى أحمد والترمذي من حديث سمرة رفعه "الصلاة الوسطى صلاة العصر" ومن طريق كهيل3 بن حرملة سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا أبو هاشم4 بن عتبة فقال: "أنا أعلم لكم فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم خرج إلينا فقال "أخبرنا أنها صلاة العصر". ومن طريق عبد العزيز
____________________
1 فتح الباري 11/195 كتاب الدعوات باب الدعاء على المشركين.
2 قال ابن حجر.
3 هو كهيل بن حرملة النميري. الجرح والتعديل 7/173.
4 هو أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشي العبشمي قيل اسمه خالد، وقيل مهشم وقيل هشام صحابي من مسلمة الفتح مات في خلافة عثمان (ت س ق) التقريب 430، الاستيعاب 4/333.
بن مروان أنه أرسل إلى رجل فقال أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال أرسلني أبو بكر وعمر أسأله وأنا غلام صغير فقال هي العصر.
ومن حديث أبي مالك1 الأشعري رفعه الصلاة الوسطى صلاة العصر.
قال وروى الترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود مثله.
وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال كان في مصحف عائشة: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر"2.
قال3: "وروى ابن المنذر من طريق مقسم 4عن ابن عباس قال "شغل الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس" فقال:
____________________
1 أبو مالك الأشعري هو الحارث بن الحارث الأشعري الشامي صحابي يكنى أبا مالك تفرد بالرواية عنه أبو سلام وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا. التقريب 59، الاستيعاب 4/308.
2 فتح الباري 8/195 وفيه رد على ابن العربي حيث ذكر فيما تقدم أن في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر.
3 قال أي الحافظ ابن حجر.
4 مقسم هو مولى ابن عباس وهو صدوق وقد تقدم.
"شغلونا عن الصلاة الوسطى" ثم ساق الاختلاف حول الصلاة الوسطى ثم قال: "وشبهة من قال أنها الصبح قوية لكن كونها العصر هو المعتمد وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه". قال الترمذي: "هو قول أكثر علماء الصحابة". وقال الماوردي: "هو قول جمهور التابعين".
وقال ابن عبد البر: "هو قول أكثر أهل الأثر".
وبه قال من المالكية ابن حبيب1 وابن العربي وابن عطية2، ويؤيده أيضاً ما رواه مسلم عن البراء بن عازب: "نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله ثم نسخت فنزلت "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فقال رجل فهي إذن صلاة العصر فقال "أخبرتك كيف نزلت"3.
____________________
1 هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جاهمة بن عباس بن مرداس السلمي العباسي الأندلسي القرطبي المالكي (أبو مروان) الفقيه المشهور صدوق ضعيف الحفظ كثير الغلط من كبار العاشرة مات سنة 239. التقريب 218.
2 ابن عطية هو عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي أبو محمد ت سنة 546هـ. وذلك في كتابة المحرر الوجيز 2/235. وانظر ترجمته في السير 19/587.
3 فتح الباري 8/196.
وهذه الأحاديث على اختلاف طرقها وكثرتها جاءت خاصة بصلاة العصر وأنها هي الوسطى وقد استطرد في ذلك ابن جرير1 عند تفسير آية المحافظة على الصلوات.
كما أنه ورد عند البخاري حديث آخر عن عمر مشابه لحديث علي ومصرح بأن الذي فاتهم من الصلوات هي العصر حيث قال رحمه الله:
حدثنا معاذ بن فضالة2 قال حدثنا هشام3 عن يحي عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن عمر ابن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش فقال: "يارسول الله ما كدت اصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب" قال النبي: "والله ما صلينا فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب"4.
____________________
1 جامع البيان 2/553- 572.
2 معاذ بن فضالة الزهراني أو الطفاوي أبو زيد البصري - ثقة - من العاشرة وهو من كبار شيوخ البخاري مات سنة 210 روى له البخاري. التقريب 340.
3 هشام بن أبي عبد الله سنبر بمهملة ثم نون ثم موحدة أبو بكر البصري الدستوائي بفتح الدال وسكون سين مهملتين وفتح المثناة ثم مد - ثقة ثبت - وقد رمي بالقدر. التقريب 364.
4 صحيح البخاري 5/92 كتاب المغازي.
وقد أورده البخاري على عادته في عدة أماكن1 كما رواه مسلم2 والترمذي3 والنسائي4 قال الحافظ:
وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي والنسائي: "أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله"5.
أما النسائي فلم يصرح بأن ذلك كان يوم الخندق6.
أما الترمذي فقد روى حديث ابن مسعود الذي ذكره الحافظ إلا أن فيه أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن أربع صلوات وهذا نصه:
قال الترمذي رحمه الله:
____________________
1 صحيح البخاري مع الفتح 2/68 كتاب المواقيت، 2/72، 2/123 كتاب الأذان، 2/434 كتاب الخوف.
2 صحيح مسلم 1/348 كتاب المساجد.
3 سنن الترمذي 1/116.
4 سنن النسائي 1/297.
5 فتح الباري 2/69.
6 سنن النسائي 1/297.
حدثنا هناد1 حدثنا هشيم2 عن أبي الزبير3 عن نافع4 بن جبير بن مطعم عن أبي عبيدة5 بن عبد الله بن مسعود قال: قال عبد الله بن مسعود: "إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء".
قال الترمذي وفي الباب عن أبي سعيد وجابر.
قال أبو عيسى: "حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله" قال وهو الذي اختاره بعض أهل العلم في الفوائت أن
____________________
1 هناد بن السرى بتشديد النون بعدها ألف وكسر الراء الخفيفة ابن مصعب التميمي أبو السري الكوفي (ثقة) . التقريب 365.
2 هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم بمعجمتين الواسطى (ثقة ثبت) كثير التدليس والإرسال الخفي. التقريب 365.
3 هو محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم أبو الزبير المكي (صدوق) إلا أنه يدلس. التقريب 318.
4 نافع بن جبير بن مطعم النوفلي أبو محمد أو أبو عبد الله المدني (ثقة فاضل) . التقريب 355.
5 أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته والأشهر أنه لا اسم له غيرها ويقال اسمه عامر كوفي (ثقة) من كبار الثالثة والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه مات سنة ثمانين. التقريب 416.
يقيم الرجل لكل صلاة إذا قضاها وإن لم يقم أجزأه وهو قول الشافعي1.
وبذلك قال ابن عبد البر فقد بين أن الذي فاتهم يوم الأحزاب إنما هي أربع صلوات قال أبو عمر بعد أن ساق اختلاف الأئمة حول قضاء الفوائت هل يؤذن ويقيم لكل صلاة أم يقيم فقط أم لا يؤذن ولا يقيم…الخ.
وقال: روى هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو سعيد الخدري وابن مسعود2 أما حديث ابن مسعود فقد رواه الترمذي وقد تقدم وبين الترمذي هناك أنه لا بأس به، وقال: "إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود وقد أكد ذلك الحافظ"3.
أما حديث أبي سعيد الخدري فقد رواه أحمد بسند رجاله ثقات وقد أثبته ابن عبد البر وكلا الطريقين4 عن ابن أبي ذئب5 عن المقبري6
____________________
1 سنن الترمذي 1/115 باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ.
2 التمهيد 5/234- 237.
3 التقريب 416.
4 أي الطريق التي رواه بها أحمد والطريق التي أخرجه بها ابن عبد البر.
5 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري الحارث المدني (ثقة فاضل) . التقريب 308.
6 هو سعيد بن أبي سعيد بن كيسان المقبري أبو سعد المدني ثقة من الثالثة تغير قبل موته بأربع سنين وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة مات في حدود العشرين وقيل قبلها وقيل بعدها. التقريب 122.
عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بلالاً فأقام فصلى الظهر ثم أقام العصر ثم أقام المغرب ثم أقام العشاء وذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} 1.
وقد اختلف العلماء في ذلك على ما يلي:
1- مالك والشافعي والأوزاعي وأصحابهم قالوا فيمن فاتته صلاة أو صلوات حتى خرج وقتها أنه يقيم لكل واحدة إقامة ولا يؤذن.
2- الثوري قال ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة.
3- أبو حنيفة وأصحابه قالوا: "من فاتته صلاة واحدة صلاها بأذان وإقامة فإن لم يفعل فصلاته تامة".
4- قال محمد بن الحسن إذا فاتته صلوات فإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فحسن وإن أذن وأقام لكل صلاة فحسن ولم يذكر خلافاً.
5- أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود بن علي قالوا يؤذن ويقيم لكل صلاة فاتته على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ نام عن الصلاة وهذا هو الراجح ثم عقب قائلاً:
____________________
1 مسند أحمد 3/49.
حجة من قال إنه يقيم لكل صلاة فاتته ولا يؤذن لها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل ثم أقام لكل صلاة ولم يؤذن. وروى هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو سعيد الخدري وابن مسعود وقد تقدم1.
ثم أورد2 حديث ابن مسعود كما ورد عند الترمذي بنفس السند إلا أنه قال هكذا قال هشيم في هذا الحديث فأذن ثم أقام فصلى الظهر فذكر الأذان للظهر وحدها قال: "وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة3 عن هشيم سواء. وخالفه هشام الدستوائي" فقال "فيه فأمر بلالاً فأقام فصلى الظهر ولم يذكر أذاناً للظهر ولا لغيرها".
ثم ذكر رحمه الله سنداً آخر له ولكنه عن أبي عبيدة وقد ثبت أنه لم يسمع من أبيه وفيه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام فصلى الظهر وفي آخره ثم طاف علينا فقال: "ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم"4 إلا أنه لم يصرح عند أحمد بأن ذلك كان يوم الخندق وعلى كل حال وعلى ضوء ما تقدم فالحديث منقطع.
____________________
1 التمهيد 5/234- 237.
2 أي ابن عبد البر.
3 المصنف 2/70.
4 مسند أحمد 1/423.
أقول: "وفي هذا دليل على أن الذي فاتهم من الصلوات أربع وهذا لا ينطبق على العشاء لأن وقتها ممتد قال الحافظ1: "لأن العشاء لم تكن فاتت".
قال: قال اليعمري2: "من الناس من رجح ما في الصحيحين وصرح بذلك ابن العربي" فقال: "إن الصحيح أن الصلاة التي شغل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة هي العصر" قلت: "ويؤيده حديث علي في مسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" قال: "ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعته أياماً فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام".
قال وهذا أولى. قلت3: "ويقربه روايتي أبي سعيد وابن مسعود وليس فيهما تعرض لقصة عمر بل فيهما أن قضاءه وقع بعد خروج وقت المغرب4. وهذا أولى بمعنى أنه إذا لم نرجح ما في الصحيحين فالمصير إلى الجمع أفضل خروجاً من المعارضة".
____________________
1 فتح الباري 2/69.
2 هو ابن سيد الناس وقد تقدم.
3 أي الحافظ ابن حجر.
4 فتح الباري 2/70.
قال الحافظ1: "وقد اختلف في سبب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ذلك اليوم؟. فقيل كان ذلك نسياناً واستبعد أن يقع ذلك من الجميع ويمكن أن يستدل له بما رواه أحمد من حديث أبي جمعة2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب فلما سلم قال: "هل علم رجل منكم أني صليت العصر؟ قالوا لا يارسول الله فصلى العصر ثم صلى المغرب": قال: "وفي صحة هذا الحديث نظر لأنه مخالف لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر "والله ما صليتها". ويمكن الجمع بينهما بتكلف.
وقيل كان عمداً لكونهم شغلوه فلم يمكنوه من ذلك وهو أقرب لاسيما وقد وقع عند أحمد3 والنسائي4 من حديث أبي سعيد أن ذلك كان قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف {فرجالاً أو ركبانا} 5.
____________________
1 فتح الباري 2/69.
2 أبو جمعة الأنصاري أو الكناني اسمه حبيب بن سباع ويقال جنبذ بضم الجيم والموحدة بينهما نون ساكنة ابن سباع صحابي سكن الشام ثم مصر مات بعد السبعين. التقريب 399، الاستيعاب 4/187.
3 مسند أحمد 3/49.
4 سنن النسائي 2/17.
5 سورة البقرة جزء من آية 239.
وكونهم تركوها عمداً هو الأقرب كما ذكر ذلك الحافظ لأنهم شغلوه صلى الله عليه وسلم فلم يمكنوه من ذلك لأنه قد بلغ الضيق والجهد والكرب والخوف بهذه الصفوة المباركة شأوا بعيداً إلى درجة أنهم في تلك اللحظات الأخيرة من محنة الغزو المرعب جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأفصحوا له بصراحة عما يعانونه من شدة الخوف والضيق والكرب فقالوا له يارسول الله لقد بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله قال نعم قولوا: "اللهم أستر عوراتنا وآمن روعاتنا". وهذا الحديث رواه أحمد1 وابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن أبي عامر وقد حسنه الألباني2.
وخلاصة القول أن فوات الصلاة أو الصلوات عليهم في تلك الأيام كانت قبل نزول الأمر بصلاة الخوف وقد صرح بذلك الحافظ3 وغير واحد. وأن نزولها كان في غزوة ذات الرقاع4.
وقد نقل الحافظ الاختلاف فيها وأثبت أنها بعد الخندق كما ذكر
____________________
1 مسند أحمد 3/3.
2 حاشية فقه السيرة للغزالي 229.
3 فتح الباري 7/421- 424.
4 غزوة ذات الرقاع ذكرها ابن سعد قبل الخندق ولكن الراجح ما رجحه البخاري وبعده الحافظ وصاحب أضواء البيان.
ذلك ابن عبد البر1 ورجح ذلك الشنقيطي2 حيث قال: "واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر وإن جزم جماعة كبيرة من المؤرخين بان غزوة ذات الرقاع قبل خيبر" قال: "والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبي صلى الله عليه وسلم حين خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع".
وقد قال البخاري رحمه الله: "باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلاً وهي بعد خيبر لأن أبا موسى الأشعري جاء بعد خيبر ثم قال رحمه الله: بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق".
__________
1 التمهيد 5/234.
2 أضواء البيان 1/310- 312.
الفصل الثالث: "دور سعد بن معاذ وبلاؤه في هذه الغزوة
كان سعد بن معاذ -رضي الله عنه- من السابقين الأولين لاعتناق هذا الدين الحنيف بل أنه بإسلامه أسلم قومه بني عبد الأشهل وقد أسلم -رضي الله عنه- على يد أول سفير أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان ذلك على يد مصعب بن عمير -رضي الله عنه وأرضاه-.
وقد شهد سعد رضي الله تعالى عنه بدراً وكان له الموقف المشجع والشهير والذي حمده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حيث قال للرسول صلى الله عليه وسلم بعد كلام جميل … فامض يارسول الله لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً أنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله. قال فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه1.
وقال ابن الأثير: "ومقاماته في الإسلام مشهورة وكبيرة ولو لم يكن له إلا يوم بدر لكفى"2. أما دوره في هذه الغزوة فهو عظيم حيث أنه رضي الله عنه
____________________
1 البداية والنهاية 3/262.
2 أسد الغابة 2/298- 299.
جاهد في الله حق جهاده حتى ضحى في النهاية بنفسه في سبيل الله وفي سبيل إعلاء دينه حيث مات شهيداً من آثار رمية رماه بها أحد المشركين أيام غزوة الأحزاب، وسلم نفسه رضي الله عنه لله راضياً مرضياً.
بعد أن حكم في بني قريظة حيث كانت مشاعر التغيظ في أفئدة المسلمين نحوهم قد بلغت ذروتها. وعن مشاركته في الخندق يقول ابن إسحاق:
وحدثني أبو ليلي عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري أخو بني حارثة1 أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق وكان من أحرز حصون المدينة قال وكانت أم سعد بن معاذ في الحصن قالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب قالت فمر سعد وعليه درع مقلصة2 قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربته يرقد3 بها ويقول:
____________________
1 أبو ليلى عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري المدني ويقال اسمه عبد الله - ثقة - من الرابعة. قال البخاري عبد الله بن سهل سمع من عائشة. التقريب 424، تهذيب التهذيب 12/215.
2 مقلصة: "قصيرة قد ارتفعت يقال تقلص الشيء إذا ارتفع وانقبض. مختار الصحاح 548، النهاية في غريب الحديث 4/100 حيث قال ومنه حديث عائشة أنها رأت على سعد درعاً مقلصة. أي مجتمعة منضمة.
3 هكذا في سيرة ابن هشام 2/226 ثم قال الشراح في الهامش: "يرقد يسرع وفي سائر الأصول: "يرقل: "والظاهر أنها كما في الأصل: "يرقد - قال في القاموس المحيط أثناء شرحه لكلمة (الرقد) والأرقداد الأسراع. وهو مصدر. انظر القاموس 1/295. وكما قال السهيلي أن يرقد بمعنى يسرع - الروض الأنف 3/280 ويمكن أن تكون (يرقل) إلا أنها بعيدة بناء على ما ذكره صاحب القاموس حيث قال في 3/386 في كلمة الرقلة وأرقل أسرع: "على وزن أفعل. ويمكن أن تكون (يرفل) بالفاء المعجمة الموحدة بناء على ما ذكره صاحب القاموس حيث قال في 3/386 في كلمة - رفل - وأرفل جر ذيله وتبختر أو خطر بيده. وقد جاء في غزوة أحد أن أباد جانة كما قال ابن إسحاق كان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب وأنه خرج عصابة حمراء فاعتصب بها ثم جعل يتبختر بين الصفين فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال أنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن. انظر البداية والنهاية 4/15 والله أعلم.
"لبث قليلاً يشهد الهيجاء حمل1 لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت أمه2 إلحق بني فقد والله أخرت قالت عائشة فقلت لها يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ3 مما هي عليه قالت وخفت عليه حيث أصاب السهم منه فرمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل4
____________________
1 ورد في بعض الأصول (جمل) بالجيم المعجمة ويبدو أنه تصحيف والحق أنه حمل بن سعد بن حارثة بن معقل بن عليم بن جناب الكلبي. انظر: "الروض الأنف للسهيلي 3/280، فقه السيرة للغزالي هامش صفحة 327.
2 اسمها كبشة بنت رافع وهذا يدل على تضحيتها وفدائها حيث تحث ابنها على الإسراع إلى الجهاد في سبيل الله. وانظر ترجمتها في الاستيعاب 4/460.
3 أسبغ: "أكمل وأطول.
4 الأكحل عرق في الذراع ويسمى عرق الحياة وهو في وسط الذراع ويقال أن في كل عضو منه شعبة فهو في اليد الأكحل وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النساء إذا قطع لم يرقأ الدم. انظر النهاية في غريب الحديث 4/154، فتح الباري 7/413.
رماه كما حدثني عاصم بن قتادة1 حبان2 بن قيس بن العرقة3 أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة فقال له سعد: "عرق الله وجهك في النار4 اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله5 لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة"6. والحديث حسن على ضوء هذا السند.
وقد أورده الهيثمي بسياق أطول مما هنا وفيه تفسير لبعض الغريب وهذا نصه: "وعن عائشة قالت خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس فسمعت وئيد الأرض من ورائي يعني حس الأرض قالت فإذا أنا بسعد
____________________
1 قد تقدمت ترجمته.
2 قال السهيلي في الروض 3/280 والذي رمى سعداً هو حبان بن قيس وقد قيل في الذي رماه غير ذلك وسيأتي.
3 العرقة اسمها قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم سميت العرقة لطيب ريحها وهي جدة خديجة أم أمها هالة وتكنى أم فاطمة. الروض الأنف 3/280.
4 وفي مكان آخر أن قائل هذا الدعاء هو النبي صلى الله عليه وسلم.
5 الضمير يرجع إلى الجرح الذي حصل له من الرمية التي رمي بها رضي الله عنه.
6 السيرة النبوية 2/227.
بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه1 قالت فجلست إلى الأرض فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد قالت وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم قالت فمر وهو يرتجز2.
قالت: "فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين وإذا فيها عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه تسبغة له تعني المغفر فقال عمر ما جاء بك لعمري إنك لجريئة وما يؤمنك ألا يكون تحوز3 قالت فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها، قال4 فرفع الرجل التسبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله فقال ويحك يا عمر إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين التحوز والفرار إلا إلى الله تعالى قالت ويرمي سعداً رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له فقال له
____________________
1 المجن: "هو الترس لأنه يواري حامله أي يستره والميم زائدة. النهاية في غريب الحديث 1/308.
2 قولها يرتجز إشارة إلى البيت الذي قاله وثبت عند ابن إسحاق وهو: "لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل.
3 ذكر ابن الأثير في مادة (حوز) ومعناه التنحي إلى مكان آمن كما في قوله تعالى: " {أو متحيزاً إلى فئة} النهاية لابن الأثير بتصرف 1/459.
4 احسب أن بدل قال قلت حتى تعود لعائشة كسابقه.
خذها وأنا ابن العرقة فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله سعد فقال اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فيخرجوا من صياصيهم1. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم2 فضربت على سعد في المسجد"3. أ. هـ. من حديث طويل ذكر فيه بني قريظة أيضاً.
وقد خرج حديث عائشة هذا الطبري4 كما ذكره ابن كثير5 وغيره من المؤرخين. قال الهيثمي قلت: "في الصحيح بعضه6 ثم قال: "رواه أحمد وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات".
وهو من زوائد عبد الله بن أحمد وهذا نصه:
حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا ابن نمير ثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: "أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان بن
____________________
1 صياصيهم: "حصونهم.
2 من أدم أي من جلد وقد جاء أنها خيمة رفيدة الأسلمية لأنها كانت تداوى فيها الجرحى. انظر: "البداية والنهاية 4/121.
3 مجمع الزوائد 6/137.
4 تاريخ الأمم والملوك 3/49- 50.
5 البداية والنهاية 4/108.
6 مجمع الزوائد 6/138.
العرقة في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب" 1. والحديث بهذا السند يعتبر صحيحاً والله أعلم.
قلت: "وذكره الألباني في الصحيحة2 وعزاه إلى من تقدم ذكرهم".
وقال الحاكم: "سعد يكنى أبا عمرو وكان لواء الأوس معه يوم الخندق فرمي في أكحله بسهم فقطعه ونزف وذلك في سنة خمس من الهجرة" أ. هـ. 3
وقال ابن الأثير: "ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله رماه حبان بن قيس بن العرقة… وساق الكلام بمثل ما جاء في حديث عائشة المتقدم4. كما ذكر ذلك البيهقي عن ابن إسحاق5.
قال المقريزي في سياقه لحديث الخندق: "قال محمد بن مسلمة وغيره كان ليلنا بالخندق نهاراً وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه.. إلى أن قال:
____________________
1 مسند الإمام أحمد 6/56، 141 وهو في الأخيرة أتم.
2 1/103.
3 المستدرك 3/205.
4 الكامل 2/124- 125.
5 الدلائل 3/441.
"حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفاً شديداً وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا متفرقين أو مجتمعين بين أيديهم وهم حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي في آخرين1 فتناوشوا يوماً بالنبل ساعة وهم جميعاً في وجه واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بسلاحه على فرسه فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله وقال خذها وأنا ابن العرقة فقال صلى الله عليه وسلم عرق الله وجهه في النار ويقال بل رماه أبو أسامة الجشمي" أ. هـ. 2
قال ابن الأثير: "وقيل إن الذي رمى سعداً هو أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم"3. قال ابن إسحاق: "وحدثني من لا أتهم عن عبيد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول: "ما أصاب سعداً يومئذ بالسهم إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم وقال في ذلك شعراً ذكره ابن إسحاق حيث" قال: "وقد قال أبو أسامة في ذلك شعراً لعكرمة بن أبي جهل:
____________________
1 وقيل كان ثالثهم وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه في غزوة أحد.
2 إمتاع الأسماع 1/232.
3 الكامل 2/125.
أعكرم هلا لمتني إذ تقول لي ... فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذي ألزمت سعداً مرشة ... لها بين أثناء المرافق عاند1
قضى نحبه منها سعيد فاعولت ... عليه مع الشمط العذاري النواهد2
وكان قد قال ابن إسحاق: "رماه كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة حبان بن قيس بن العرقة…الخ"3. وبهذا القول قال الطبري4.
أما ابن هشام فقد قال: "ويقال إن الذي رمى سعداً: "خفاجة بن عاصم بن حبان5. وعلى كل حال فالله أعلم أي ذلك كان فبالنسبة للقولين الذين ذكرهما ابن إسحاق فهما منقطعان والذين روى عنهما ابن إسحاق كلاهما ثقة إلا أنهما متأخران. فأحدهما من الطبقة الثالثة وهو عبيد الله بن كعب والثاني من الطبقة الرابعة وهو عاصم بن عمر بن قتادة".
____________________
1 العاند: "العرق الذي لا ينقطع منه الدم.
2 النحب: "الموت وأعولت بكت بصوت مرتفع والشمط جمع شمطاء وهي التي خالط شعرها الشيب والعذارى الأبكار والنواهد جمع ناهد وهي التي ظهر نهدها". السيرة النبوية 2/227.
3 انظر: "السيرة النبوية 2/227.
4 تاريخ الأمم والملوك 2/49.
5 السيرة النبوية 2/228.
أما رأي ابن هشام فقد ورد بصيغة التمريض فهو متنف وبعيد. والراجح مع القائلين بأنه - حبان بن العرقة - لكثرتهم أما من قال أنه أبو أسامة الجشمي فلعله شارك إلا أنه ينتفي لتحديدهم الرمية في الأكحل.
قال ابن الأثير: "فلما قال سعد ما قال انقطع الدم وقد أعطاه الله ما طلب فاندمل جرحه واستمر يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة"1.
قال ابن كثير: "وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك. فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذرايهم حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة" 2.
هذا جانب من جهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو جانب مشرق حقاً يدل لذلك دعاءه عندما أصيب في أكحله وقد روى البخاري حديثاً اشتمل على بعض ما تقدم وفيه زيادة حسنة وهذا نصه: "قال البخاري رحمه الله:
____________________
1 الكامل 2/125.
2 البداية والنهاية 4/108.
"حدثنا زكريا بن يحي1 حدثنا عبد الله بن نمير2 حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة رماه في الأكحل فضرب النبي صلى الله ,
إن دور نعيم –رضي الله عنه- في هذه الغزوة عظيم. خاصة إذا عرفنا أنه في أول أيام دخوله في الإسلام. وقد اشتهر هذا الدور عند المؤرخين.
بيد أني رغم ذلك لم أجد سنداً يؤكده ويؤيده، ولكنه مستفيض عند المؤرخين وقد كان دوره حاسماً في القضية حيث شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وأرسل الله عليهم الريح، وجنوداً من عنده – وكان السبب في زعزعة الأحزاب هو نعيم بعد الله عز وجل-.
قال ابن إسحاق عن هذا الدور: "ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن منقذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله: "إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة" 1.
____________________
1 صحيح البخاري الجهاد 157، المناقب 25، الإستبانة6، وأخرجه مسلم في الجهاد 18، 19، الزكاة 153، وأبو داود في الجهاد 92، والسنة 28، كما أخرجه الترمذي في الجهاد 5، وابن ماجه في الجهاد 28، وأخرجه أحمد في مسنده 1/81، 90، 113، 126، 131، 134، 2/312، 314، 3/224، 297، 308، 6/382، 459، انظر: فتح الباري 6/157- 158 حيث قال الحافظ ذكر الواقدي أن أول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعه في غزوة الخندق. وانظر: فتح الباري 6/618 كتاب المناقب، 12/283.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية؛ فقال يا بني قريظة قد عرفتم وُدِّي إياكم وخاصةَ ما بيني وبينكم قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشاً وغطفانَ ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره.
وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره. فليسوا كأنتم.
فإن رأوا نهزة1 أصابوها؛ وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه. فقالوا له لقد أشرت بالرأي.
قال2: "ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن
____________________
1 النهزة اختلاس الشيء بسرعة والأصل - فرصة.
2 أي ابن إسحاق.
معه من رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وأنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني، فقالوا نفعل قال تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، فقالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال فاكتموا عني قالوا نفعل فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم"1.
هذا ما تناقله أهل السير عن نعيم، وبعضهم يذكر ما لا يذكره الآخر وبعضهم يزيد وبعضهم ينقص.
أما الواقدي فقد ذكر القصة باستفاضة وهذا كلامه:
____________________
1 السيرة النبوية 3/229- 230.
قال: "حدثنا عبد الله بن عاصم الأشجعي عن أبيه1 قال: "قال نعيم بن مسعود: "كانت بنو قريظة أهل شرف وأموال، وكنا قوماً عرباً لا نخل لنا ولا كرم، وإنما نحن أهل شاة وبعير؛ فكنت أقدم على كعب بن أسد فأقيم عندهم الأيام أشرب من شرابهم وآكل من طعامهم ثم يحملونني تمراً على ركابي ما كانت. فأرجع إلى أهلي، فلما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي وأنا على ديني".
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً فأقامت الأحزاب ما أقامت حتى أجدب الجناب وهلك الخف والكراع 2وقذف الله عز وجل في قلبي الإسلام وكتمت قومي إسلامي، فأخرج حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء، وأجده يصلي فلما رآني جلس ثم قال ما جاء بك يا نعيم؟ قلت: "إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق فمرني بما شئت يا رسول الله فوالله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له، قومي لا يعلمون إسلامي ولا غيرهم". قال: "ما استطعت أن تخذل الناس فخذل"؛ قال: "قلت أفعل ولكن يا رسول الله أقول؟ فاذن لي، قال: "قل ما بدا لك فأنت في
____________________
1 لم أجد لهما ترجمة.
2 يريد بالخف الإبل وفي بعض النسخ الحافر وهو الخيل.
حلّ"، قال فذهبت حتى جئت بني قريظة فلما رأوني رحبوا وأكرموني وحيوا وعرضوا علي الطعام والشراب، فقلت إني لم آت لشيء من هذا وإنما جئتكم نصباً بأمركم وتخوفاً عليكم لأشير عليكم برأي، وقد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم فقالوا قد عرفنا ذلك وأنت عندنا على ما تحب من الصدق والبر، قال: "فاكتموا عني قالوا نفعل قال إن أمر هذا الرجل بلاء – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – صنع ما قد رأيتم ببني قيقناع وبني النضير وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال".
وكان ابن أبي الحقيق قد سار فينا1 فاجتمعنا معه لنصركم وأرى الأمر قد تطاول كما ترون وأنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة، أما قريش وغطفان فهم قوم جاءوا سيارة حتى نزلوا حيث رأيتم فإن وجدوا فرصة انتهزوها.
وإن كانت الحرب أو أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم وأنتم لا تقدرون على ذلك البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم وقد غلظ عليهم جانب محمد أجلبوا عليه أمس إلى الليل2 فقتل رأسهم عمرو بن عبد وهربوا منه مجرحين وهم لا غناء بهم عنكم لما يعرفون
____________________
1 يريد الذي ذهب محرضاً ضمن الوفد اليهودي.
2 اجلبوا: توعدوا بشر وأجلب على فرسه صاح. القاموس 1/47.
عندكم1، فلا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، تستوثقون به منهم ألا يناجزوا محمداً، قالوا أشرت بالرأي علينا والنصح، ودعوا له وتشكروا وقالوا نحن فاعلون، قال ولكن اكتموا عني قالوا نعم نفعل.
ثم خرج إلى أبي سفيان بن حرب في رجال من قريش فقال: "يا أبا سفيان قد جئتك بنصيحة فاكتم عني قال أفعل. قال تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمدٍ، وأرادوا إصلاحه. ومراجعته أرسلوا إليه وأنا عندهم أنّا سنأخذ من قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلاً نسلمهم إليك تضرب أعناقهم وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم يعنون بني النضير – ونكون معك على قريش حتى نردهم عنك، فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهناً فلا تدفعوا إليهم أحداً، واحذروهم على أشرافكم، ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفاً قالوا لا نذكره، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان إني رجل منكم فاكتموا عني واعلموا أن قريظة بعثوا إلى محمد وقال لهم مثل ما قال لقريش فاحذروا أن تدفعوا إليهم أحداً من رجالكم، وكان رجلاً منهم فصدقوه2.
____________________
1 يشير إلى أنهم أهل حلقة وسلاح.
2 مغازي الواقدي 2/481- 482.
وأرسلت اليهود عزال بن سموأل إلى أبي سفيان بن حرب وأشراف قريش إن ثواءكم1 قد طال، ولم تصنعوا شيئاً، وليس الذي تصنعون برأي، إنكم لو وعدتمونا يوماً تزحفون فيه إلى محمد فتأتون من وجه وتأتي غطفان من وجه ونخرج نحن من وجه آخر لم يفلت من بعضنا.
ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا بِرِهَانٍ2 من أشرافكم يكونون عندنا فإنا نخاف إن مستكم الحرب3 وأصابكم ما تكرهون شمرتم وتركتمونا في عقر دارنا وقد نابذنا4 محمداً بالعداوة، فانصرف الرسول إلى بني قريظة، ولم يرجعوا إليهم شيئاً، وقال أبو سفيان هذا ما قال نعيم، فخرج نعيم إلى بني قريظة فقال: "يا معشر بني قريظة أنا عند أبي سفيان حتى جاء رسولكم إليه يطلب منه الرهائن فلم يرد عليه شيئاً فلما ولى قال لو طلبوا مني عناقاً5 ما رهنتها، أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم إلى محمد يقتلهم، فارتأوا آراءكم حتى تأخذوا الرهن فإنكم إن لم تقاتلوا محمداً" وانصرف أبو سفيان تكونوا على مواعدتكم الأولى. قالوا
____________________
1 طال ثواءنا: أي طال مقامنا.
2 برهان: بكسر المعجمة فما بعدها من الرهن.
3 في بعض المراجع ضرستكم الحرب.
4 نابذنا: نبذ العهد إذا نقضه وألقاه إلى من كان بينه وبينه. النهاية 5/7.
5 العتاق: الأنثى من أولاد المعز.
نرجو ذلك يا نعيم؟ قال نعم قال كعب بن أسد فإنا لا نقاتله والله لقد كنت لهذا كارهاً، ولكن حيي رجل مشؤم".
قال الزبير بن باطا: "إنْ انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل منا إلا السيف، قال نعيم لا تخش ذلك يا أبا عبد الرحمن. قال الزبير بلى والتوارة، ولو أصابت اليهود رأيها، ولحِمَ الأمر، لتخرجن إلى محمد ولا يطلبون من قريش رهناً فإن قريشاً لا تعطينا رهنا أبداً. وعلى أي وجه تعطينا قريش الرهن وعددهم أكثر من عددنا ومعهم كراع ولا كراع معنا وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه؟ وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف فأبى محمد إلا السيف فهم ينصرفون بغير شيء"1.
فلما كانت ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان يا معشر قريش إن الجناب. قد أجدب، وهلك الكراع، والخف، وغدرت اليهود، وكذبت وليس هذا بحين مقام فانصرفوا، قالت قريش فاعلم علم اليهود، واستيقن خبرهم، فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس مساء ليلة السبت فقال: "يا معشر اليهود
____________________
1 مغازي الواقدي 2/482.
إنه قد طال المكث وجهد الخف والكراع وأجدب الجناب وإنا لسنا بدار مقامه. اخرجوا إلى هذا الرجل حتى نناجزه بالغداة، قالوا غداً السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملاً، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهاناً من رجالكم يكونون معنا لئلا تبرحوا حتى نناجز محمداً. فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به، معنا الذراري والنساء والأموال فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا ما وراءك؟ قال أحلف بالله أن الخبر الذي جاء به نعيم حق لقد غدر أعداء الله، وأرسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجال منهم بمثل رسالة أبي سفيان فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان".
وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم نحلف بالله إن الخبر الذي قال نعيم لحق، وعرفوا أن قريشاً لا تقيم فسُقِطَ في أيديهم.
فكر أبو سفيان إليهم وقال: "إنا والله لا نفعل إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا"، فقالت اليهود مثل قولهم الأول وجعلت اليهود تقول الخبر ما قال نعيم وجعلت قريش وغطفان تقول الخبر ما قال نعيم، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء واختلف أمرهم، فكان نعيم يقول أنا خذلت بين
الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره فكان صحيح الإسلام بعد1.
وهناك بعض الآثار نوردها كشواهد لهذه القصة وهي من منتخب كنز العمال.
وفي المنتخب قال: "عن إبراهيم بن صابر الأشجعي عن أبيه عن أمه2 ابنة نعيم بن مسعود عن أبيها قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق "خذل عنا فإن الحرب خدعة"3.
وفي موضع آخر قال: "عن عروة قال كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له مسعود وكان نماماً، فلما كان يوم الخندق بعث أهل قريظة إلى أبي سفيان أن ابعث إلينا رجالاً يكونون في آطامنا حتى نقاتل محمداً مما يلي المدينة وتقاتل أنت مما يلي الخندق، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من وجهتين فقال لمسعود يا مسعود إنا نحن بعثنا إلى بني قريظة أن يرسلوا إلى
____________________
1 مغازي الراقدي 2/482.
2 لم أجد أحداً منهم في كتب التراجم التي بين يدي.
3 المنتخب من كنز العمال حاشية مسند أحمد 2/294.
أبي سفيان فيرسل إليهم رجالاً فإذا أتوهم قتلوهم فما عدا أن سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تمالك حتى أتى أبا سفيان فأخبره فقال صدق والله محمد ما كذب قط فلم يبعث إليهم أحداً1.
ثم قال وعن عائشة قالت إن نعيم بن مسعود قال يا نبي الله إني أسلمت ولم أعلم قومي بإسلامي فمرني بما شئت، فقال إنما أنت فينا كرجل واحد فخادع إن شئت فإن الحرب خدعة2.
سبت اليهود كان من عوامل التفرق والهزيمة:
قال الواقدي: "فحدثني موسى3 بن محمد بن إبراهيم4 عن أبيه قال لما قالت قريظة لعكرمة بن أبي جهل5 ما قالت قال أبو سفيان بن حرب لحيي بن أخطب أين ما وعدتنا من نصر قومك؟ قد خلونا وهم يريدون الغدر بنا.
____________________
1 المصدر السابق 2/295. قلت: هذه القصة غير ثابتة وسندها منقطع وقد ذكرها ابن قانع في معجم الصحابة 3/148.
2 المصدر السابق 2/295.
3 موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أبو محمد المدني - منكر الحديث من السادسة مات سنة 151هـ. روى له (ت ق) التقريب 352.
4 محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني - ثقة له أفراد من الرابعة مات سنة 120هـ على الصحيح (ع) . التقريب 288.
5 حيث أنه ذهب كسفير لقريش ليعرف خبر اليهود حول القتال.
قال حيي: "كلا والتوارة ولكن السبت قد حضر ونحن لا نكسر السبت فكيف ننصر على محمد وأصحابه إذا كسرنا السبت؟ فإذا كان يوم الأحد اغدوا على محمد وأصحابه بمثل حرق النار وخرج حيي بن أخطب حتى أتى بني قريظة فقال فداءكم أبي وأمي إن قريشاً قد اتهمتكم بالغدر واتهموني معكم وما السبت لو كسرتموه لما قد حضر من أمر عدوكم قال: "فغضب كعبد أسد ثم قال: "لو قتلهم محمد حتى لا يبقى منهم أحداً ما كسرنا سبتنا، فرجع حيي إلى أبي سفيان بن حرب فقال1 ألم أخبرك يا يهودي إن قومك يريدون الغدر؟ قال حيي: "لا والله ما يريدون الغدر ولكنهم يريدون الخروج يوم الأحد فقال أبو سفيان وما السبت؟ قال يوم من أيامهم يعظمون القتال فيه وذلك أن سبطاً2 منا أكلوا الحيتان يوم السبت فمسخهم الله قردة وخنازير".
قال أبو سفيان: "لا أراني أستنصر بإخوة القردة والخنازير، ثم قال أبو سفيان قد بعثت عكرمة بن أبي جهل وأصحابه إليهم فقالوا لا نقاتل حتى
____________________
1 القائل هو أبو سفيان.
2 مشيراً بذلك إلى قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (. الآية في سورة البقرة 65.
تبعثوا لنا بالرهائن من أشرافكم وقبل ذلك ما جاءنا عزال بن سموأل برسالتهم قال أبو سفيان: "أحلف باللات إن هو إلا غدركم".
وإني لأحسب أنك قد دخلت في غدر القوم. قال حيي والتوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء1 ما غدرت ولقد جئتك من عند قوم هم أعدى الناس لمحمد وأحرصهم على قتاله، ولكن ما مقام يوم واحد حتى يخرجوا معك، قال أبو سفيان لا والله ولا ساعة. لا أقيم بالناس انتظار غدركم، حتى خاف حيي بن أخطب على نفسه من أبي سفيان فخرج معهم من الخوف حتى بلغ الروحاء2 فما رجع إلا متسرقاً لما3 أعطى كعب بن أسد من نفسه ليرجعن إليه. فدخل مع بني قريظة حصنهم ليلاً. ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زحف إليهم ساعة ولت الأحزاب"4.
قال ابن جرير: "وخذل الله بينهم وبعث الله عز وجل عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرودة فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم فلما انتهى إلى
____________________
1 طور سيناء: قال ياقوت وسيناء بكسر أوله ويفتح اسم موضع بالشام يضاف إليه الطور وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام ونودي فيه وهو كثير الشجر. معجم البلدان 3/300.
2 الروحاء مكان غرب المدينة على طريق مكة تبعد عن المدينة بحوالي سبعين كيلا.
3 بكسر اللام.
4 مغازي الواقدي 2/485.
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً"1.
هكذا جاءت هذه القصة في كتب المغازي وهي مشهورة جداً ولكنها بدون إسناد يعتمد عليه إلا أن أهل المغازي والسير تناقلوها عن ابن إسحاق وقد ذكر ذلك الغزالي في فقه السيرة2 فعلق عليه ناصر الدين الألباني حيث قال: "هذه القصة ذكرها ابن إسحاق بدون إسناد وعنه ابن هشام. لكن قوله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة صحيح متواتر عنه صلى الله عليه وسلم وقد مر تخريجه3.
وقال ابن كثير4 عقب سرد القصة،: "وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة، وقد أورده عنه البيهقي في الدلائل فإنه ذكر ما حاصله أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عشاء فأشار إليه أن تعال فجاء فقال ما وراءك؟ فقال إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فينا جزوك، فقالت قريظة " نعم
____________________
1 تاريخ الأمم والملوك 2/51.
2 فقه السيرة للغزالي 332.
3 في أول هذا المبحث.
4 البداية والنهاية 4/113.
فأرسلوا إلينا بالرهن. وقد ذكر فيما تقدم أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة قال فقال له رسول الله إني مسر إليك شيئاً فلا تذكره، قال إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم، فخرج نعيم بن مسعود عامداً إلى غطفان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة، وعسى أن يصنع الله لنا". فأتى نعيم غطفان وقريشاً فأعلمهم فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه واتفق ذلك ليلة السبت يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضاً طلبوا الرهن توثقة فأوقع الله بينهم واختلفوا1، قلت وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة والله أعلم.
وقد ذكر أهل المغازي والسير والتفاسير وكل من تعرض لسيرته صلى الله عليه وسلم وغزواته هذه القصة وممن ذكرها:
ابن إسحاق2، والواقدي3، وابن سعد4، والبلاذري5،
____________________
1 القائل هو ابن كثير.
2 السيرة النبوية 2/229.
3 مغازي الواقدي 2/480.
4 الطبقات الكبرى 2/56.
5 أنساب الأشراف 1/165.
والطبري1، والبيهقي2، وابن عبد البر3، والسهيلي4، وابن الأثير5، والكلاعي6، وابن سيد الناس7، وابن القيم8، وابن كثير9، والسمهودي10، والسيوطي11، والقسطلاني12، وغيرهم.
كلمة عن نعيم: قال ابن الأثير: "هو نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن حلاوة"13 بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث بن غطفان الغطفاني الأشجعي أبو سلمة، أسلم في وقعة الخندق، وهو الذي أوقع الخلاف بين قريظة وغطفان وقريش يوم الخندق، وخذل بعضهم عن
____________________
1 تاريخ الأمم والملوك 3/44.
2 دلائل النبوة 3/415.
3 الدرر 186- 187.
4 الروض الأنف 6/277.
5 الكامل 2/125.
6 الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 2/172.
7 عيون الأثر 2/64.
8 زاد المعاد 2/131.
9 البداية والنهاية 4/111- 112.
10 وفاء الوفا 1/217.
11 الدر المنثور 5/192.
12 المواهب اللدنية 1/113.
13 في بعض الراجع (خلاوة) بالخاء المعجمة. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 4/277، جوامع السيرة 190.
بعض وأرسل الله عليهم الريح والبرد والجنود وهم الملائكة فصرف كيد الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أسلم واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخذل الكفار قال له النبي صلى الله عليه وسلم خذل ما استطعت فإن الحرب خدعة، رواه عنه ابنه سلمة1.
وقد نقل ابن الأثير رواية له عن ابنه سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين قرأ كتاب مسيلمة قال للرسولين فما تقولان أنتما قالا نقول كما قال: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما"، ومات نعيم في زمن خلافة عثمان وقيل بل قتل يوم الجمل قبل قدوم علي البصرة مع مجاشع بن مسعود السلمي وحكيم بن جبلة العبدي2.
وبهذا القول قال الحافظ3 إلا أنه لم يذكر أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم له: "خذل ما استطعت فإن الحرب خدعة" من رواية ابنه سلمة كما جزم هنا ابن الأثير. أما الذهبي4 فلم يذكر ذلك ولكنه جزم برواية ابنه سلمة عنه وأنه توفي قبل الجمل.
____________________
1 أكثر المراجع لا تذكر رواية سلمة لهذا.
2 أسد الغابة 5/33-34، وانظر للزيادة في ترجمته رضي الله عنه: الاستيعاب 4/70 (ت 2658) ، تجريد أسماء الصحابة 2/111، تهذيب التهذيب 10/466.
3 الإصابة في تمييز الصحابة 3/568.
4 تجريد أسماء الصحابة.
وقال النووي: "نعيم بن مسعود كان يسكن المدينة، وهو نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيس بن ثعلبة بن قنفذ بن خلاوة بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث بن غطفان الغطفاني الأشجعي الصحابي أبو سلمة"1.
__________
1 تهذيب الأسماء واللغات 1/131.
,
...
الفصل الخامس: دور حذيفة –رضي الله عنه- في هذه الغزوة
إن لحذيفة –رضي الله عنه- دوراً عظيماً كما كان لغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- فقد جاهدوا في الله حق جهاده وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته.
لكن بعضهم اشتهر عن بعض بأعماله أو بمواقف خاصة وقفها تميزت وحفظت في السنة المطهرة.
وحذيفة واحد من أولئك الصحابة الذين تميزوا عن غيرهم في هذه الغزوة، فكانت له ميزة فريدة حيث كان أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين، لم يعلمهم أحد غيره نستشف ذلك من ترجمته التالية:
قال ابن الأثير: "حذيفة بن اليمان: "وحذيفة بن حسل ويقال حسيل بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان –أبو عبد الله- العبسي واليمان لقب (حسل بن جابر) .
وقال ابن الكلبي: "هو لقب جروة بن الحارث وإنما قيل له ذلك لأنه أصاب دماً في قومه فهرب إلى المدينة وحالف بني عبد الأشهل من الأنصار فسماه قومه – اليمان- لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن.
روى عنه ابنه أبو عبيدة وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقيس بن أبي حازم، وأبو وائل وزيد بن وهب وغيرهم.
وهاجر إلى النبي ص فخيره بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم أحداً وقتل أبوه بها1.
وقد قتله المسلمون خطأ، أخرج ذلك ابن الأثير بسنده عن محمود بن لبيد2 قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر وهو اليمان –أبو حذيفة- وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان وهما شيخان كبيران فقال أحدهما لصاحبه لا أبالك ما تنظر3؟ فوالله ما بقي لأحدنا من عمره إلا مثل ظمء حمار4 إنما نحن
____________________
1 أسد الغابة (1/391) .
2 هو صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة مات سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وتسعين وله تسع وتسعون سنة. روى له البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة. التقريب 330.
3 لعلها - ما ننتظر - لأنها جاءت هكذا في ترجمة ثابت بن وقش. أسد الغابة 1/234.
4 ظمء حمار: أي يسير لأنه ليس شيء أقصر ظمأ من الحمار. انظر: القاموس المحيط 1/22.
هامة1 اليوم أو غداً، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذا أسيافهما ولحقا برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلا في المسلمين ولا يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش2 فقتله المشركون. وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين وهم لا يعرفونه فقتلوه فقال حذيفة أبي أبي. فقالوا والله ما عرفناه فصدقوا. فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"3.
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزاده4 رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً5.
قال ابن الأثير: "وحذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين لم يعلمهم أحد إلا حذيفة، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمر بن الخطاب أفي عمالي أحد من المنافقين؟ قال نعم واحد، قال من هو قال لا أذكره قال حذيفة فعزله
____________________
1 هامة: قال الفيروز أبادي في كلمة (الهم) واستطرد حتى قال: والهم والهمة بكسرهما. الشيخ الفاني. انظر: القاموس المحيط 4/192.
2 هو ثابت بن وقش بن زعوراء الأنصاري كذا نسبه ابن مندة وأبو نعيم وقال أبو عمر ثابت بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل فزاد في النسب زغبة وهو الصحيح. انظر: أسد الغابة 1/234، الاستيعاب 1/279.
3 هذا قول المؤمنين الصابرين الصادقين المصدقين فبمجرد قولهم له ما عرفناه صدقهم واستغفر لهم وتصدق بدية أبيه على المسلمين فطوبى له ذلك الفعل.
4 لعله فزاده ذلك الفعل وهو تصدقه بدية أبيه على المسلمين - خيراً ورفعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 أسد الغابة 2/16.
كأنما دل عليه. وكان عمر إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإنْ حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر"1.
وشهد حذيفة الحرب بِنَهَاوَنْد فلما قتل النعمان بن مقرن أمير ذلك الجيش أخذ الراية، وكان فتح همدان والري والدنيور على يده، وشهد فتح الجزيرة، ونزل نصيبين وتزوج فيها، وكان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر ليتجنبه وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب على سرية ليأتيه بخبر الكفار، ولم يشهد بدراً لأن المشركين اخذوا عليه الميثاق ألا يقاتلهم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم حل يقاتل أم لا، فقال صلى الله عليه وسلم بل نفي لهم"2 ونستعين بالله عليهم.
وسأل رجل حذيفة أيّ الفتن أشد؟ قال: "أن يُعرض عليك الخير والشر ولا تدري أيهما تركب، وكان موته رضي الله عنه بعد قتل عثمان بأربعين ليلة سنة ست وثلاثين"3.
أما بالنسبة لدوره العظيم في هذه الغزوة فقد قام رضي الله عنه بدور استكشاف خطير، ودخل في وسط الصفوف صفوف الأعداء رغم احتراسهم
____________________
1 أسد الغابة 1/390- 391.
2 نفي لهم: من الوفاء بالعهد.
3 أسد الغابة 1/390 - 391 وانظر ترجمته رضي الله عنه في:
الاستيعاب 1/276، والإصابة 1/317، الطبقات الكبرى 1/25، سير أعلام النبلاء 2/360، تهذيب التهذيب 2/219، صفوة الصفوة 1/249، تاريخ الإسلام 2/152، المعارف 114، النجوم الزاهرة 1/76، 85، 102.
وحراسهم المليئة قلوبهم بالحقد على المسلمين وخاصة بعد أن قتل بعض صناديدهم ورغم الظروف الخطيرة التي كانت تحيط به –رضي الله عنه- فقد ذهب في رعاية الله وحفظه ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالحفظ من بين يديه ومن خلفه واستجاب الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام، ودخل حذيفة مع الأعداء وتوغل في صفوفهم حتى أشرف على القائد أبي سفيان، وحفظه الله ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبارهم ورحيلهم.
روى ذلك كله الإمام مسلم –رحمه الله- حيث قال: "حدثنا زهير بن حرب1، وإسحاق2 بن إبراهيم جميعاً عن جرير3قال زهير: "حدثنا جرير عن الأعمش4 عن إبراهيم5 التيمي
____________________
1 زهير بن حرب بن شداد أبو خيثمة نزيل بغداد - ثقة ثبت - روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث. التقريب 108.
2 إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي أبو محمد بن راهوية المروزي- ثقة حافظ مجتهد - قرين أحمد. ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير. التقريب 27.
3 جرير بن عبد الحميد بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة الضبى الكوفي نزيل الري وقاضيها - ثقة - صحيح الكتاب قيل كان في آخر عمره يهم من حفظه. مات سنة 188هـ. تهذيب التهذيب 2/75.
4 سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد الكوفي الأعمش - ثقة حافظ عارف بالقراءة - ورع لكنه يدلس من الخامسة. التقريب 136.
5 إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي يكنى أبا أسماء الكوفي العابد ثقة إلا أنه يرسل ويدلس من الخامسة مات سنة 192هـ. وله أربعون سنة روى له الجماعة. التقريب 24.
عن أبيه1 قال كنا عند حذيفة فقال رجل: "لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت2فقال حذيفة: "أنت كنت تفعل ذلك3؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر4، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ " فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال: "قم يا حذيفة فاتنا بخبر القوم". فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: "اذهب فاتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ" 5،فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي
____________________
1 يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي ثقة يقال أنه أدرك الجاهلية من الثانية مات في خلافة عبد الملك روى له الجماعة. التقريب 382.
2 أبليت أي بالغت في نصرته كأنه أراد الزيادة على نصرة الصحابة رضوان الله عليهم شرح النووي على صحيح مسلم 3/1414.
3 استفهام إنكاري أي فعلنا ما نستطيع وهو ما لا تقدر عليه. المصدر السابق.
4 القّر: هو البرد الشديد.
5 ولا تذعرهم على: أي لا تفزعهم على ولا تحركهم علي وقيل معناه لا تنفرهم والمراد لا تحركهم عليك فإنهم إن أخذوك كان ذلك ضرراً علي لأنك رسولي وصاحبي (من صحيح مسلم) 3/1414 هامش الصفحة.
في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يُصْلَيْ ظهره1بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس2 فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا تذعرهم عليّ" ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت3، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائماً حتى أصبحت4 فلما أصبحت قال: "قم يا نومان" 5.
قصة حذيفة هذه وذهابه إلى الكفار ودخوله بينهم صحيحة وذكرها أهل السير والمغازي، وهي عند بعضهم أتم من بعض والذي سقته هو ما جاء عند مسلم6.
قال الألباني في تعليقه على فقه السيرة: "هذه القصة صحيحة وسياقها هنا مركب من ثلاث روايات:
____________________
1 يصلى ظهره: يدفئه.
2 كبد القوس: مقبضها وكبد كل شيء وسطه كما في القاموس 7/332.
3 قررت: أي بردت.
4 أصبحت: أي طلع الفجر.
5 نومان: كثير النوم.
6 صحيح مسلم 3/1414- 1415.
الأولى: عند الحاكم1 والبيهقي2 في الدلائل من طريق عبد العزيز بن أخي حذيفة عن حذيفة، وقد ذكر ابن كثير لفظها في التاريخ3.
الثانية: عند ابن هشام4 عن محمد بن إسحاق بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن حذيفة. وكذلك أخرجها أحمد5 من مسند حذيفة عن ابن إسحاق قال وظاهر إسناده الاتصال فهو صحيح.
الثالثة: أخرجها مسلم من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه عن حذيفة. ولها طريق رابعة أخرجها الحاكم في المستدرك"6 من طريق بلال العبسي عن حذيفة وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وأخرجه البزار7 وقال رجاله ثقات8، وقد أخرجه بزيادة حسنة وهذا نصه: "قال حذيفة: "إن الناس تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب
____________________
1 المستدرك 3/31.
2 دلائل النبوة 3/463.
3 البداية والنهاية 4/113- 115.
4 السيرة النبوية 2/231، 232.
5 مسند الإمام أحمد 5/392، 393.
6 المستدرك 3/31.
7 كشف الأستار 2/335.
8 فقه السيرة 333، 334.
فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جاثم"1 من النوم فقال يا ابن اليمان: "قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم".
قلت: "يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلا حياءً من البرد. قال: "انطلق يا ابن اليمان فلا بأس عليك من برد ولا حر حتى ترجع إليّ". قال فانطلقت حتى آتي عسكرهم فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله وقد تفرق الأحزاب عنه، فجئت حتى أجلس فيهم فحس أبو سفيان أنه قد دخل فيهم من غيرهم، فقال ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه قال فضربت بيدي على الذي عن يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي على الذي عن يساري فأخذت بيده فلبثت فيهم هنيهة ثم قمت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فأومئ إلي أن ادنو فدنوت حتى أرسل علي من الثوب الذي كان عليه ليدفئني، فلما فرغ من صلاته قال: "يا ابن اليمان اقعد ما خبر القوم؟ " قلت يا رسول الله: "تفرق الناس عن أبي سفيان فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار وقد صب الله عليهم من البرد مثل الذي صب علينا ولكنا نرجو من الله ما لا يرجون"أ: هـ2.
____________________
1 جاثم: جثم لزم مكانه فلم يبرح. القاموس 4/87 وعند البيهقي جاثي.
2 كشف الأستار 2/335، 336.
أما البيهقي فقد عقد لذلك باباً حيث قال: "باب إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- إلى عسكر المشركين، وما ظهر له في ذلك من أمارات النبوة بوقوفه ليلتئذ على ما أرسل على المشركين من الريح والجنود وتصديق الله سبحانه وتعالى قول نبيه صلى الله عليه وسلم فيما وعد حذيفة من حفظ الله إياه عن الأسر والبرد. ثم أورد القصة من خمس طرق":
الأولى: من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه وقد رواها بهذا الطريق الإمام مسلم1.
الثانية: من طريق بلال العبسي وقد شاركه في هذه الطريق الحاكم2.
الثالثة: عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة وقد شاركه فيها الحاكم3.
الرابعة: عن عمران بن سريع وقد ذكر ذلك أيضاً الحافظ4.
الخامسة: عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب " أن رجلاً قال لحذيفة5".
____________________
1 دلائل النبوة 3/449، صحيح مسلم 3/1414- 1415 كتاب الجهاد والسير.
2 دلائل النبوة 3/450، المستدرك 3/31.
3 دلائل النبوة 3/451، المستدرك 3/31.
4 دلائل النبوة 3/451، والحافظ في الفتح 7/400 كتاب المغازي باب غزوة الخندق.
5 دلائل النبوة 3/454.
وشيخه البيهقي في كل الطرق ماعدا الرابعة "أبو عبد الله الحافظ1" أما الطريق الرابعة فشيخه فيها أبو طاهر الفقيه2.
والرواية التي جاءت من طريق ابن أخي حذيفة هي أتم وفيها زيادات حسنة قال البيهقي: "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابردي بمروٍ قال حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البوني حدثنا أبو حذيفة حدثنا عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد أبي قدامة الحنفي3 عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا"4 فقال حذيفة: "لا تمنوا ذلك5 فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود".
وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها
____________________
1 أبو عبد الله الحافظ هو الحاكم وقد تقدمت ترجمته.
2 أبو طاهر الفقيه هو ابن محمش ذكر ذلك الذهبي في التذكرة 3/1132 في ترجمة البيهقي ولم أجده الآن.
3 تقدمت تراجم بعض رجال السند.
4 هذا كلام من لم يعايش المحنة والابتلاء فهو يتكلم من مكان آمن.
5 مشيراً بذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو.
أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له فيأذن لهم فيتسللون ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا1 رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي وما عَليَّ جنة2 من العدو ولا من البرد إلا مرط3 لامرأتي ما يجاوز ركبتي قال فأتاني وأنا جاثي على ركبتي فقال: "من هذا؟ " قلت حذيفة فقال حذيفة؟ قال: "فتقاصرت بالأرض"، فقلت بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم، قال: "قم فقمت" فقال: "إنه كاين في القوم خبر فاتني بخبر القوم"، قال وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قراً فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته"، قال فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوفي4 إلا خرج من جوفي فما أجد منه شيئاً".
____________________
1 أي استعرضنا واحداً كأنه يتخير.
2 الجنة السترة والوقاية ومنه حديث (والصوم جنة) . النهاية في غريب الحديث 1/308.
3 المرط: بكسر الميم وسكون الراء وهو الكساء ويكون من صوف وربما كان من الخزّ أو غيره. النهاية في غريب الحديث 4/319.
4 أراد بالجوف القلب. النهاية في غريب الحديث 1/316.
قال فلما وليت قال: "يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني"، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش فأضعه على كبد قوسي لأرميه في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني؛ فأمسكت ورددت سهمي في كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر، يقولون يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصف بي الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين1 فقالوا أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة2 يصلي فوالله ماعدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه3 أمر صلى فأخبرته
____________________
1 يشير بذلك إلى الملائكة وقد أرسلهم الله للتضييق على الكفار.
2 في بعض الروايات أنه كان مشتمل بمرط أحدى نسائه.
3 أي إذ نزل به مهم وقد روى هذا الإمام أحمد 5/388، النسائي 1/289 وحزبه كلمة واحدة وليست مركبة من (حز) و (به) كما يتوهم البعض.
خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يترحلون فأنزل الله تعالى: {َ يأيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} الآية.
وهكذا نفذ حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة شاقة ولكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له كان من الأسباب التي جعلته ينجح في تلك المهمة رغم ما صادف من مآزق وأهم مأزق واجهه عندما قال أبو سفيان لينظر امرؤ من جليسه، وهو تحفظ من أبي سفيان خوفاً من أن يكون داخل المعسكر أحد يتجسس لحساب المسلمين1 ولكنه لذكائه –رضي الله عنه- تخلص من هذا المأزق حيث سارع إلى الرجل الذي بجانبه وبدأه بالسؤال قائلاً من أنت؟.
وبهذا العمل تمكن حذيفة من الخروج من المأزق الذي وقع فيه والذي كاد أن يوقعه في قبضة المشركين لو انكشف أمره2، ثم سلط الله عليهم تلك الريح الهوجاء وأرسل عليهم ملائكته فزلزلتهم وجعلتهم يرتحلون، وفرق الله جمعهم وخذلهم وكفى الله المؤمنين شرهم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3.
__________
1 غزوة الأحزاب لباشميل 265.
2 السيرة الحلبية 2/653.
3 سورة الحج الآية 40.
,
,
...
المبحث الأول: "هبوب الريح
لقد تحدث القرآن الكريم عن هذه المعركة وتناول مراحلها في عدة آيات من سورة الأحزاب.
وأول ما تحدث عنه القرآن هو نزول البلاء على المسلمين بوصول قوات الأحزاب، وإنعام الله على المسلمين بدحر1 تلك القوات، وتسليط الله الريح عليهم، وإزعاجهم بجنود من عنده لم يرها أحد، مما أدى إلى إجبارهم على الرحيل عن المدينة وفك الحصار عنها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} 2 الآية.
ويعني القرآن الكريم بالجنود الذين جاءوا لحرب المسلمين قريش، وغطفان، وبني قريظة، أما الجنود الذي أشار القرآن إلى أن الله أرسلهم لإزعاج الأحزاب فقد ذكر كثير من أهل المغازي والتفاسير أنهم
____________________
1 دحره: طرده وأبعده. مختار الصحاح 199.
2 سورة الأحزاب الآية 9.
(الملائكة) ، ولم يثبت أنهم قاتلوا الأحزاب، ولكنهم أرسلوا للإزعاج والتضييق1. لذلك روى البخاري رحمه الله حيث قال: "حدثنا مسدد2، حدثنا يحى بن سعيد عن شعبة قال: "حدثني الحكم3 عن مجاهد عن ابن عباس –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" 4. كما رواه مسلم5 وأحمد6 كلهم عن ابن عباس.
وقد روى الإمام أحمد حديثاً بهذا المعنى عن أبي سعيد الخدري وهذا نصه: "قال ثنا أبو عامر7 ثنا الزبير بن عبد الله8 حدثني ربيح9 بن أبي
____________________
1 غزوة الأحزاب لمحمد باشميل 278.
2 مسدد هو مسرهد الأسدي البصري ويقال أن مسدد هو لقب وقد تقدم.
3 الحكم هو ابن عتيبة وقد تقدم.
4 صحيح البخاري 5/47.
5 صحيح مسلم 2/617.
6 مسند الإمام أحمد 1/223، 324، 341، 355، 373.
7 أبو عامر هو عبد الملك بن عمر القيس العقدي بفتح المهملة والقاف - ثقة - وقد تقدم.
8 الزبير بن عبد الله بن أبي خالد الأموي مولاهم ويقال له ابن رهيمة - مقبول روى له أبو داود من المراسيل. التقريب 106.
9 ربيح بمهملة وموحدة مصغراً ابن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري المدني يقال اسمه سعيد وربيح لقب - مقبول -. التقريب 100.
سعيد الخدري عن أبيه1 قال قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال نعم:"اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله عز وجل بالريح2.
قال الألباني في فقه السيرة3 مشيراً إلى هذا الحديث: "حديث حسن أخرجه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي سعيد الخدري" أهـ كلامه. كما روى البزار حديثاً آخر بسنده عن عكرمة حيث قال:
حدثنا عبد الله بن سعد4 حدثنا حفص بن غياث5 عن داود6 عن عكرمة عن ابن عباس قال: "أتت الصبا إلى الشمال ليلة الأحزاب
____________________
1 أبوه هو أبو سعيد الخدري الصحابي الجليل.
2 مسند الإمام أحمد 3/3.
3 فقه السيرة 329.
4 عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكى أبو عبد الرحمن المروزي نزيل مرو صدوق. التقريب 175.
5 حفص بن غياث بمعجمة مكسورة ابن طلق بن معاوية النخعي أبو عمر الكوفي القاضي - ثقة فقيه - تغير حفظه قليلاً في الآخر. التقريب 78- 79.
6 داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني - ثقة - إلا في عكرمة ورمي برأي الخوارج. التقريب 95.
فقالت مري ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة1 لا تسري بالليل فكانت الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبا.
قال: "ورواه جماعة عن داود مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا حفص ورجل من أهل البصرة وكان ثقة يقال له خلف بن عمرو ثم قال الهيثمي رواه البزار ورجاله رجال الصحيح"2.
قال الشوكاني3: "أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:
لما كان في ليلة الأحزاب جاءت الشمال للجنوب فقالت انطلقي فانصري الله ورسوله فقالت الجنوب إن الحرة لا تسري بالليل فغضب الله عليها وجعلها عقيماً فأرسل عليهم الصبا فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور".
وقد أخرج ابن سعد عن سعيد بن جبير قال: "لما كان يوم الخندق أتى جبريل عليه السلام ومعه الريح فقال حين
____________________
1 الحرة عكس المملوكة والأمة.
2 القائل هو البزار في كشف الأستار 2/336.
3 مجمع الزوائد 6/139.
أتى جبريل: "ألا أبشروا ثلاثاً"، فأرسل الله عليهم الريح فهتكت القباب، وكفأت القدور، ودفنت الرحال1، وقطعت الأوتاد، فانطلقوا لا يلوي أحد على أحد فأنزل الله تعالى: " {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 2.
وقد روى البيهقي في الدلائل حديثاً بهذا المعنى عن طريق زيد بن أسلم أن رجلاً قال لحذيفة: "أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه… إلى أن ذكر حذيفة رضي الله عنه خبر انطلاقه إلى معسكر الكفار، وأنهم تجادلوا، وبعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته ولا إناء إلا أكفأته"3.
قال الحافظ ومن طريق عمرو بن سريع عن حذيفة نحوه وفيه: "أن علقمة بن علاثة صار يقول يا آل عامر إن الريح قاتلني، وتحملت قريش وإن الريح لتغلبهم على بغض أمتعتهم4. وقد تقدم في دور حذيفة أنه وجد الريح في معسكر بني عامر وأنها ما تجاوزهم شبراً وأنهم يقولون يا آل عامر الرحيل الرحيل".
____________________
1 الرحال: جمع رحل وهو مركب يوضع على ظهر البعير. القاموس 3/383.
2 الطبقات الكبرى 2/71.
3 دلائل النبوة 3/451.
4 فتح الباري 7/400.
الريح التي سلطها الله سبحانه على الأحزاب:
في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري1 ومسلم2 وأحمد3 وغيرهم أن الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي (الصبا) . والصبا كما قال الحافظ: "هي بفتح المهملة وتخفيف الموحدة الريح الشرقية، وضدها الدبور وهي الريح الغربية ذلك لأنه حصل خلاف حول الريح التي نصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمع كون الأحاديث صرحت بأنها هي الصبا جاءت بعض الأحاديث بأن الحوار حصل بين الشمال، والجنوب، وحصل اختلاف حول التي أبت من نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل إن التي أبت هي الشمال وقيل إنها الجنوب".
لكن الحافظ بين أن هذا الخلاف ليس له معنى وأن الصبا والدبور متعاكسان يقابلان الشمال والجنوب وهذا كلامه:
الصبا: "يقال لها القبول بفتح القاف لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس، وضدها الدبور وهي التي أهلكت بها قوم عاد"4.
____________________
1 صحيح البخاري 5/47.
2 صحيح مسلم 2/617.
3 مسند الأمام أحمد 1/223، 324، 341، 355، 373.
4 فتح الباري 2/521.
قال الحافظ ومن لطيف المناسبة: "كون القبول نصرت أهل القبول وكون الدبور أهلكت أهل الأدبار، وأن الدبور أشد من الصبا1 قال: "ولما علم الله رأفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقومه رجاء أن يسلموا سلط عليهم الصبا؛ فكانت سبب رحيلهم عن المسلمين لما أصابهم بسببها من الشدة، ومع ذلك فلم تهلك منهم أحداً ولم تستأصلهم".
ومن الرياح أيضا: "الجنوب والشمال فهذه الأربع تهب من الجهات الأربع، وأي ريح هبت من بين جهتين منها يقال لها النكباء بفتح النون وسكون الكاف بعدها موحدة ومد"2.
وقال الحافظ في موضع آخر: "وقيل إن الصبا هي التي حملت قميص يوسف عليه السلام إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصل إليه وإنها هي التي تؤلف السحاب وتجمعه"3.
وقال الهمداني4: "رياح المشرق القبول وهي الصبا، ويقابلها من المغرب الدبور، والجنوب تهب من اليمن، ويقابلها الشمال، وما هب بين
____________________
1 فتح الباري 2/521.
2 فتح الباري 2/521.
3 فتح الباري 6/301.
4 هو: الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود بن سليمان بن عمرو بن الحارث الهمداني ويعرف بابن الحائك أبو محمد عالم أديب من مؤلفاته الأكليل في مفاخر قحطان وذكر اليمن ت 334. معجم المؤلفين 3/304.
الجنوب والقبول يسمى النكباء، وما بين الجنوب والدبور الداجن، وما بين الشمال والدبور وهي مقابلة النكباء: "أزيب ... وساق الكلام إلى أن قال اثنتا عشرة ريحاً لاثني عشر برجاً1 وتبعه في هذا المسعودي"2.
وهكذا يتبين أن لله سبحانه وتعالى جنوداً أقوياء {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 3، فقد سلط الله سبحانه هذا النوع من جنده فزلزلت الأعداء، وأزعجهم هذا الوضع وخاصة بعد أن حصل ما حصل من التخذيل بينهم وبين حلفائهم اليهود، وظن بعضهم ببعض سوءاً. ووصل الخلاف والتنافر بين الفريقين إلى درجة أصبح الحلف العسكري المعقود بينهما في حكم المنتهي وصار كل فريق يحمل الآخر مسؤولية انفصام عرى هذا الحلف.
عندئذ سلط الله عليهم القوة الإلهية. وقد فكرت عندئذ القيادة المشتركة للأحزاب في إنهاء الحصار المضروب على المدينة، والرجوع بجيوشها كلٌ إلى بلاده، وترك اليهود وشأنهم ليلقوا مصيرهم الرهيب، وفي النهاية وعندما أذن الله وأراد نصر أوليائه هبت على المنطقة التي يعسكر
____________________
1 صفة جزيرة العرب 300.
2 التنبيه والأشراف ص 16.
3 سورة المدثر جزء من آية 31.
فيها الأحزاب رياح قوية كانت لقوتها تقتلع الخيام وتهد الأبنية وتكفأ القدور، ولا تترك ناراً تشتعل مما جعل أبو سفيان يقول: "يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام فقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل"1.
وقد بلغ من خوف القوم عندما توالت عليهم عوامل الهزيمة أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم – ليتعرف كل منكم أخاه وليمسك بيده حذراً من أن يدخل بينكم عدو.
وقد حل عقال بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل، فقال له صفوان بن أمية إنك رئيس القوم فلا تتركهم وتمضي، فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل وترك خالد بن الوليد في جماعة ليحموا ظهور المرتحلين حتى لا يدهموا من ورائهم، وأزاح الله عن المسلمين تلك الغمة، ولولا لطف الله وعنايته بهذا الدين منّة منه وفضلاً لساءت الحال وكان جلاء الأحزاب في ذي القعدة2.
____________________
1 الاكتفاء 2/175.
2 نور اليقين 155.
حقيقة أنها نعمة، وأيما نعمة! حيث انقشعت الغمة، وخلص الله المسلمين من براثن المحنة، وقطف المؤمنون الصادقون ثمار صدقهم، وصبرهم، وثباتهم، مع نبيهم الحبيب صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي الرهيبة، المرعبة، التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فقد أخذت جيوش الأحزاب في فك الحصار عن المدينة.
وأخذت كتائبهم تولي الأدبار تجر أذيال الخيبة والخسران لم تجن من غزوها الكبير هذا سوى التعب والنصب1 {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2 ذلك؛ لأن المسلمين رغم قلتهم وقلة عتادهم فقد نصرهم الله؛ لأنهم كانوا يدافعون عن عقيدة سامية ارتضاها الله لهم، لا كما يدافع المسلمون اليوم عن الحزب والوطن والتراب ويزعمون أنهم ينصرون بسبب إخلاصهم لتلك المبادئ الفانية.
وهذا والله هو من أسباب الخذلان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
1 غزوة الأحزاب لمحمد باشميل 267.
2 سورة الحج الآية 40.
المبحث الثاني: "نتائج الغزوة
بالنظر في وقائع هذه الغزوة وبالرجوع والتفكير في مقدماتها وعندما ترى أو تسمع اجتماع تلك الجيوش الجرارة يحدوها الحقد والكراهية وترفرف عليها فكرة استئصال شوكة الإسلام والمسلمين. تلك الفكرة التي كان اليهود سبباً في رواجها وانتشارها بين جيوش الأحزاب عندما تنعم النظر في ذلك كله وترجع إلى المقاييس المادية – الأكثر يغلب الأقل- وتنسى قدرة الله سبحانه وتعالى.
تعلم علم اليقين أن عشرة آلاف أو أكثر تستطيع أن تهزم عدوها والذي كان يبلغ عدده على الأكثر وفي أغلب الأقوال ثلاثة آلاف.
بيد أن ابن إسحاق قال: "إنهم كانوا سبعمائة فقط"1.
وقال ابن حزم: "إنهم كانوا تسعمائة قال وهو الصحيح"2 وقد تقدم الراجح أنهم كانوا ثلاثة آلاف. لكن الله سبحانه قوي عزيز فقد أمد هذه القلة بنصر من عنده، وأعانهم بجند من جنده، وزودهم بثبات وطمأنينة فهونّ أمامهم المصائب والمحن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
____________________
1 ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد 3/271، ورده عليه وقال هذا غلط من خروجه يوم أحد.
2 جوامع السيرة 187.
عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} 1 الآية.
إذن فالمقاييس عنده تختلف، إذ أنها ليست على حسب الكثرة أو القوة، ولكن القلوب التي ملئت بتوحيده سبحانه وتعالى، وملئت بالتقوى التي تهون أمامها الدنيا وزخارفها أصبح الواحد منهم يتصور الجنة وكأنه ينظر إليها ومنهم من بشر بها وهو على قيد الحياة؛ فرخصت أنفسهم في سبيل الله لما أعد لهم سبحانه من نعيم مقيم، وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فكانوا يخرجون سراعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تهمهم قلتهم وكثرة عدوهم؛ لأن الله سبحانه كان يشد من أزرهم فيرسل معهم جنداً من جنوده الكثيرة، فقد أرسل معهم في بدر كما هو معلوم ملائكته فحاربت مع المسلمين.
وفي هذه الغزوة يخبر الله سبحانه وتعالى أنه رد الكافرين بغيظهم لم ينالوا ما أرادوا مما اجتمعوا عليه وذلك أنهم أرادوا في الواقع استئصال تلك القلة المباركة فقال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} 2.
____________________
1 سورة الأحزاب الآية 9.
2 سورة الأحزاب الآية 25.
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، لكنه قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} 1. فسلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى وهم أخلاط من قبائل شتى أحزاب وأراء.
فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم2 لم ينالوا خيراً لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه3. فقال تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} .
كان ذلك نتيجة واستجابة من الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقد دعا عليهم بدعاء رواه البخاري رحمه الله حيث قال:
____________________
1 سورة الأنفال الآية 33.
2 الحنق: الغيظ: مختار الصحاح 159.
3 تفسير القرآن العظيم 3/476- 477.
حدثنا محمد1، أخبرنا الفزاري2 وعبدة3 عن إسماعيل4 بن أبي خالد قال: "سمعت عبد الله بن أبى أوفى5 رضي الله عنهما يقول دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم6 ". كما رواه مسلم7، وأبو داود8 والترمذي9، وابن ماجه10، وعبد بن حميد11، وأحمد12.
____________________
1 محمد بن سلام بن الفرج السلمي مولاهم البيكندي أبو جعفر - ثقة ثبت -. التقريب 301.
2 مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري أبو عبد الله الكوفي نزيل مكة ثم دمشق - ثقة حافظ - وكان يدلس أسماء الشيوخ. التقريب 333.
3 عبدة بن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي يقال اسمه عبد الرحمن - ثقة ثبت -. التقريب 223.
4 إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم البجلي - ثقة ثبت - التقريب 33.
5 عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي جليل شهد الحديبية وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهراً مات سنة سبع وثمانين وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة. التقريب 168، الاستيعاب 3/7.
6 صحيح البخاري 5/92 كتاب المغازي، صحيح البخاري مع فتح الباري 6/106، 6/120، 7/406.
7 صحيح مسلم 3/1363 كتاب الجهاد.
8 سنن أبي داود 3/96.
9 سنن الترمذي 3/113.
10 سنن ابن ماجه 2/935.
11 المنتخب من مسند عبد بن حميد 1/186 حديث رقم (523) .
12 مسند الإمام أحمد 4/353،355،381.
وقد قال الحافظ أثناء شرحه لهذا الحديث: قوله: "اللهم منزل الكتاب ... الخ".
أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم فبالكتاب إلى قوله تعالى: " {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} 1، وبمجري السحاب إلى القدرة الظاهرة وتسخير السحاب حيث يحرك الريح بمشيئة الله تعالى وحيث يستقر في مكانه مع هبوب الريح وحيث تمطر تارة وأخرى لا تمطر.
فأشار بحركته إلى إعانة المجاهدين في حركتهم في القتال وبوقوفه إلى إمساك أيدي الكفار عنهم قال وكلها أحوال صالحة للمسلمين.
ثم قال: "وروى الإسماعيلي2 في هذا الحديث من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم دعا أيضاً فقال: "اللهم أنت ربنا وربهم ونحن عبيدك وهم عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك فاهزمهم وانصرنا عليهم". ثم قال: "ولسعيد بن منصور3
____________________
1 سورة التوبة الآية 14.
2 هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الجرجاني ولد عام (277) من تصانيفه الصحيح على شرط البخاري والفرائد والعوالي وغيرهما. انظر السير 16/292.
3 سعيد بن منصور بن شبه أبو عثمان الخراساني نزيل مكة ثقة مصنف وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به مات سنة (227) التقريب 126.
من طريق أبي عبد الرحمن الحُبليِّ1 عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً نحوه لكن بصيغة الأمر عطفاً على قوله " وسلوا الله العافية " في حديث آخر، فإن بليتم بهم فقولوا (اللهم) فذكره وزاد "وغضوا أبصاركم" واحملوا عليهم على بركة الله أهـ2.
ثم كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده" رواه البخاري3، ومسلم4، وأبو داود5، والنسائي6، وابن ماجه7، ومالك8، وأحمد9. وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} . إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش10.
____________________
1 هو عبد الله بن يزيد المعافري أبو عبد الرحمن الحبلي بضم المهملة والموحدة –ثقة- وقد تقدم في ص 273.
2 فتح الباري 6/157.
3 صحيح البخاري 5/49 كتاب الجهاد.
4 صحيح مسلم 2/980 كتاب الحج باب ما يقوله إذا قفل من سفر الحج وغيره.
5 سنن أبي داود 3/214 كتاب الجهاد.
6 سنن النسائي القسامة 34.
7 سنن ابن ماجة 2/878 كتاب الديات.
8 موطأ مالك 243.
9 مسند الإمام أحمد 1/444، 2/5، 10، 11، 15، 21، 38، 63.
10 تفسير القرآن العظيم 3/477.
وهكذا حصل حيث أن المشركين لم يغزوا المسلمين بعدها بل غزاهم المسلمون في بلادهم. أشار إلى ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله حيث قال: "حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان1 عن أبي إسحاق2، عن سليمان بن صرد3 قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب "نغزوهم ولا يغزوننا" 4.
كما رواه أحمد5.
وقد رواه البخاري من وجه آخر عن عبد الله بن محمد وقد صرح فيه بسماع أبي إسحاق له منه وفيه زيادة وهي كالآتي:
قال البخاري رحمه الله: حدثني عبد الله بن محمد6، حدثنا يحى بن آدم7، حدثنا إسرائيل8
____________________
1 سفيان هو الثوري وقد تقدم.
2 هو السبيعي وقد تقدم.
3 سليمان بن صرد بضم المهملة وفتح الراء بن الجون الخزاعي أبو مطرف الكوفي صحابي قتل بعين الوردة سنة (65هـ) وعين الوردة جهة كربلاء بالعراق. التقريب 134، والاستيعاب 2/210.
4 صحيح البخاري 5/48.
5 مسند الإمام أحمد 4/262.
6 هو المسندي. سمي بذلك لأنه كان يحب الإسناد ويرغب عن المرسلات وقد تقدم.
7 هو يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي. وقد تقدم.
8 إسرائيل هو بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني أبو سيف الكوفي ثقة تكلم فيه بلا حجة. التقريب 31.
سمعت أبا إسحاق يقول: "سمعت سليمان بن صرد يقول: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه الآن: "نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم1".
لذلك قال ابن كثير قال ابن إسحاق: "لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم". فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله تعالى مكة2 كما رواه الطبراني3. وقد أورده الهيثمي وقال رواه البزار ورجاله ثقات4.
مما تقدم نرى أن هذه الغزوة كانت نتيجتها هي انتصار المسلمين، وانهزام أعدائهم، وتفرقهم، ورضاهم من الغنيمة بالإياب5.
____________________
1 صحيح البخاري 5/48.
2 تفسير القرآن العظيم 3/477.
3 المعجم الكبير 7/115.
4 مجمع الزوائد 6/139.
5 قال في مجمع الأمثال 1/295، وأول من قاله امرؤ القيس بن حجر في قوله:
ولقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
ويقال عند القناعة بالسلامة.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم – أي الأحزاب – أو كفار قريش لا يغزوا المسلمين بعد هذه الغزوة وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث حصل ذلك حتى فتح مكة تلك التي أخرجه كفارها في بداية ظهور الإسلام، وخرج منها خائفاً يترقب، ولكنه بقوة الله وتأييده رجع إليها فاتحاً رافعاً راية التوحيد، حامداً ربه شاكراً له.
,
أذكر في هذه الخاتمة خلاصة لما اشتلمت عليه هذه الغزوة من أحكام، وفوائد، وعبر، وذلك من خلال دلالة النصوص الواردة، أو مقتضى عمله صلى الله عليه وسلم، وقد مرت بعض الأحكام في مواضعها.
وإنما جعلت هذه الخاتمة لإجمال ما سبق تفصيله وليكون كالخلاصة الجامعة يمكن للقارئ من خلالها الوقوف بسهولة على بعض تلك الأحكام.
وقد أكون مقلداً في هذا العمل الإمام ابن القيم1 –رحمه الله- فقد ذكر أشياء كثيرة عقب كل غزوة، إلا أنه للأسف لم يعرج على غزوة الخندق كما فعل ذلك أيضاً في غزوة بدر الكبرى حيث لم يتكلم عن الأحكام المستفادة من الغزوتين2.
____________________
1 في كتابه القيم زاد المعاد.
2 بدر والخندق.
ولكنْ حسبي أن أنهج نهجه في بقية الغزوات، حيث سأذكر بعض الأحكام الفقهية المستنبطة من هذه الغزوة المباركة، والتي كانت بمثابة درس أخير للكفر وأهله. فأيقنوا أن الله مع المؤمنين ومن كان الله معه كفاه شر أعدائه.
ومن تلك الأحكام:
1- الشورى:
الشورى في الإسلام مبدأ من مبادئ نظام الحكم الإسلامي، وعليه المعول عندما لا يوجد دليل من الكتاب أو السنة يحتم الأخذ بشيء معين.
وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كثيراً، كما فعل ذلك الخلفاء الراشدون بعده.
والشورى مصطلح إسلامي لا ينبغي أن يطلق على غير مدلوله الشرعي؛ لأن الشورى في الإسلام لها ميزات لا توجد في أي نظام آخر، أو أي قانون مستحدث1.
وهي خاصة بأهل الحل والعقد، فلا يدخل فيها من لا يستحقها لأن ذلك يخل بهذا المبدأ العظيم، وفي غزوة الخندق حصلت المشاورة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حول خطة الدفاع التي يتخذونها حيال الجموع الزاحفة
____________________
1 مرويات غزوة بدر الكبرى 142.
صوب المدينة، التي جاءت من بلادها عاقدة النية استئصال هذا الدين الحنيف الذي أصبح يهدد كيانهم ويبدد أصنامهم.
وقد أشار عليه سلمان الفارسي1 –رضي الله عنه- بحفر الخندق وذلك لإقتناعه بأنها خطة عظيمة جيدة في هذا الظرف الخطير؛ والوقت القصير؛ ولأنها قد نفذت في بلاد فارس ونفعت.
واقتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي السديد، وسارع إلى تنفيذه، وسارع أصحابه –رضي الله عنهم- في هذا العمل العظيم، وأنجزوه في مدة وجيزة2 حيث لا تستطيع الآلات الحديثة في هذا العصر المتطور مادياً أن تفعل فعلهم إذا أخذنا في الحسبان أنهم حفروا من طرف الحرة الغربية3 الشرقي إلى طرف الحرة الشرقية4 الغربي.
علماً بأن الحفر واسع وعميق بحيث لم تستطع الخيل اقتحامه مما يدل دلالة واضحة على عِظمه واتساعه، وما ذلك إلا بقدرة الله وقوته وتوفيقه
____________________
1 تقدمت ترجمته في الباب الثالث الفصل الأول منه.
2 ذلك لأنه قد تقدم الخلاف في ذلك والأكثر متفقون على أنهم مكثوا في الحفر ستة أيام.
3 الحرة الغربية وتسمى – حرة الوبرة-.
4 وتسمى حرة واقم لكنهم بدأوا من طرف حرة بني حارثة.
لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام –رضي الله عنهم- {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1.
2 - مشروعية جعل الإمام من ينوب عنه أثناء غيابه في قتال أو غيره.
وهذا مبدأ إسلامي مشروع شرعه النبي صلى الله عليه وسلم في عهده فالاقتداء به في ذلك مشروع.
وقد كان صلى الله عليه وسلم في كل غزوة، وفي كل سفر يعزم عليه يعين نائباً على المدينة يقوم بالصلاة بأهلها ممن تخلفوا عن القتال لعجز، أو إعالة ضعفاء، أو تمريض مرضى، وغير ذلك من رعاية شئون أهل المدينة.
وفي هذه الغزوة عين صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم وقد تقدم الخلاف في اسمه. قال الحافظ: وكون اسمه عمرو أشهر وأكثر قال وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاثة عشرة مرة قال وكان يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته وأشار إلى هذا قبله ابن الأثير2.
3 - التواضع في الإسلام:
مبدأ شرعي من مبادئ هذا الدين الحنيف وخلق كريم، ولقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في حجته التي تسمى حجة الوداع وقال: "يأيها الناس
____________________
1 سورة الحج الآية 40.
2 تهذيب التهذيب 8/34، أسد الغابة 4/103.
ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى. أبلغت…" 1. الحديث، من هذا المنطلق يتبين أن التواضع من الرئيس لمرؤسيه؛ ومن الكبير للصغير، بل التواضع من كل أحد مما دعا إليه الإسلام وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم وطبق بنفسه هذا المبدأ العظيم.
حيث باشر بنفسه في هذه الغزوة حفر الخندق، ونقل التراب وقد روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك حتى اغبر بطنه.
وما ذلك إلا لمعرفته بالله، وتواضعه لمن شرح صدره، ووضع وزره ورفع ذكره، حيث لا يذكر الله إلا ويذكر صلى الله عليه وسلم. وتواضعه يتجلى دائماً بين أصحابه سواء في الحرب أو في السلم وسنته مليئة بمثل ذلك.
4 - المبارزة:
وهي ملاقاة الند2 من المشركين أمام الصفوف واحداً لواحد.
____________________
1 مسند الإمام أحمد 5/411 وقد جاء في صحيح مسلم 4/2199 أن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد. الحديث.
2 الند: بالكسر المثل وبالفتح الطيب. القاموس 1/341.
وقد حصل في هذه الغزوة المباركة لقاء هام بين علي رضي الله عنه وبين أعتى أعداء الله عمرو بن عبد ود حتى إن المؤرخين أثبتوا جميعاً بأنه فارس قريش وأحد شجعانها المبرزين.
ومبارزة علي لعمرو رواها الحاكم في مستدركه وهي ثابتة عنده1. وقد تقدم الكلام عليها في مبحث خاص وهي جائزة وبالجواز قال الجمهور وخالف في ذلك الحسن البصري.
5 - بيع جيفة الكافر جوازها وعدمه:
وقد جاء في كتب الحديث ما يمنع ذلك فقد عنون البخاري بقوله: باب (طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن) وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز بيع جيفة المشرك قال المباركفوري: وإنما لا يجوز بيعها وأخذ الثمن فيها لانها ميتة لا يجوز تملكها ولا أخذ عوض عنها وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام2.
قال الحافظ: "قوله ولا يؤخذ لهم ثمن أشار به إلى حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم"3.
____________________
1 المستدرك 3/32.
2 تحفة الأحوذي 5/376.
3 فتح الباري 6/282 كتاب الجزية.
6 - لا يعدل عن الوضوء إلى التيمم مع وجود الماء:
أي أن الوضوء قد أوجبه الله سبحانه وتعالى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1 الآية.
قال الحافظ: "والوضوء بالضم الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما"2. والوضوء واجب إلا في حالات نادرة.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك الوضوء حتى في أثناء الحروب ذلك لأنه لما كان في هذه الغزوة وفاتته صلاته العصر كما مر في الأحاديث الصحيحة وفي بعضها أنه فاتته الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
عمد صلى الله عليه وسلم عندئذ إلى بطحان3 ليتوضأ، وترك التيمم مع أنه في وقت حرب وأوضاع حرجة؛ ولأنه هو المشرع صلى الله عليه وسلم؛ ولوجود الماء قريباً منه لم يترك الوضوء لما فيه من الأجر العظيم لذلك روى البخاري حيث قال في حديث تقدم وشاهدنا منه هو:
قال عمر بن الخطاب يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب قال النبي صلى الله عليه وسلم والله: "ما صليتها" فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان
____________________
1 سورة المائدة الآية 6.
2 فتح الباري 1/232.
3 أحد أودية المدينة المشهورة وانظر: 194.
فتوضأنا لها. الحديث1.
قال الحافظ: "والوضوء فُرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وهذا يوضح أنه من شروط الصلاة؛ لذلك ذكر الحاكم حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: "هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك" فقال: "ائتوني بوضوء" فتوضأ الحديث. قلت2 وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة لا على من أنكر وجوبه حينئذ قال وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوباً3.
7 - الخديعة في الحرب:
قال الحافظ: "وأصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافه"4.
وقد أورد البخاري رحمه الله في ذلك حديثين أحدهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (سمى الحرب خدعة) 5.
____________________
1 صحيح البخاري 5/47.
2 أي ابن حجر.
3 فتح الباري 1/232.
4 فتح الباري 6/158.
5 صحيح البخاري 4/24 كتاب الجهاد.
والثاني عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة1"، وقد أورد مسلم أحدهما عن أبي هريرة2.
ثم قال النووي: "واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل"3.
قال الطبري: "إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل"4.
قال الحافظ: "ذكر الواقدي أن أول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" في غزوة الخندق5.
وقد فعل ذلك نعيم بن مسعود رضي الله عنه في الخندق حيث أنه كان قد أسلم ولم يعلم به قومه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بإسلامه وأن قومه لا يعلمون بذلك.
____________________
1 فتح الباري 6/158.
2 صحيح مسلم 3/1362 كتاب الجهاد.
3 المصدر السابق 3/1362.
4 فتح الباري 6/159.
5 المصدر السابق 6/158.
وأراد مساعدة المسلمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فذهب لتوه إلى بني قريظة فقريش فغطفان وخذلهم الله وفرق جمعهم وشتت شملهم وكان نعيم سبباً هاماً في ذلك.
ولذلك قال الحافظ: "وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة"1.
8 - مشروعية إرسال العيون لأخذ أخبار الأعداء:
قال البخاري: "باب الجاسوس"2.
قال الحافظ: "الجاسوس بجيم ومهملتين أي حكمه إذا كان من جهة الكفار ومشروعيته إذا كان من جهة المسلمين. من هذا المنطلق فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليلة الأحزاب ليأتيه بأخبار تلك الجموع التي حاولت جاهدة في حرب المسلمين وإيذائهم.
وقد قام حذيفة رضي الله عنه بالمهمة خير قيام، حيث ذهب إليهم، وجلس بينهم، وسمع ما يدور في معسكرهم، وقد كان على مسافة قريبة
____________________
1 المصدر السابق 6/158.
2 صحيح البخاري 4/18.
من القائد أبي سفيان وأراد أن يرميه فتذكر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك "ولا تذعرهم عليّ1". فعاد رضي الله عنه يحمل أخباراً سارة وبشرى هامة هي رحيلهم، وانكشافهم عن المدينة التي ضاقت بهم ذرعاً {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} "2 الآية.
من هنا يؤخذ:
جواز استعمال العيون، وإرسالها للتعرف على حالة الأعداء، ومدى استعدادهم، وكيفية تحركاتهم، حتى يكون المسلمون على علم بأعدائهم فيعد المسلمون لكل أمر عدته ولا ينبغي للمسلمين أن يغفلوا عن تحركات أعدائهم وما يكيدونه للإسلام وأهله.
9– استعراض الإمام للجيش قبل وقوع القتال كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه الحديث.
وقد وقع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وغيرها. وخروج صغيري السن لم يحدث إلا عند أولئك الذين يستشعرون قيمة الشهادة وتهون أنفسهم في سبيل الله طمعاً فيما عنده من مغفرة ورضوان.
____________________
1 صحيح مسلم 3/1414-1415.
2 سورة الأحزاب جزء من الآية 25.
أما في هذه العصور المتأخرة التي طغى فيها حب الحياة وحب متاعها الفاني فلربما لا يخرج كبار السن إلا بالقوة ويدفعون إلى الخير دفعاً.
قال الحافظ: "وعند المالكية والحنفية لا تتوقف الإجازة للقتال على البلوغ بل للإمام أن يجيز من الصبيان من فيه قوة ونجدة فرب مراهق أقوى من بالغ.
ثم قال: وحديث ابن عمر حجة عليهم ولا سيما الزيادة التي جاءت عن ابن جريج ولفظها: "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فلم يجزني ولم يرني بلغت1".
وفي الحديث أيضاً من العبر: حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومعرفته التامة بأحوال أصحابه واحترامه لهم ولأبنائهم رغم عظم الرسالة والأعباء التي حملها ولا غَرْوَ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا2".
10 - تعاون الجميع إذا هوجمت البلاد:
وفي ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي وحديث أنس رضي الله
____________________
1 فتح الباري 5/279.
2 رواه الترمذي في البر 15، وأحمد 1/257، 2/207.
عنهما وكلاهما في الحفر، وما دار فيه ففيهما من العبر والدروس الشي الكثير منها:
1- القدوة في ذلك.
2- مباشرة الرسول صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريضاً للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك، وحتى يبتعدوا عن الاتكالية وما يعقبها من تبعات.
3فيهما إشارة إلى تحقير عيش الدنيا مهما بلغ لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 2.
4- ترديده صلى الله عليه وسلم بعض الكلمات إجابة لأصحابه لما كانوا يقولونه أثناء الحفر وذلك مما ينشط حيث إن الإنسان إذا اشتغل في عمل جسماني شاق فالسكوت يشق عليه ويتعب بسرعة أكثر مما لو كان يتكلم حيث ينسيه الكلام التعب وهذا مجرب.
5- ملاطفته لأصحابه رضي الله عنهم وهو الموصوف بقول ربه تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3. حيث كان أصحابه يرتجزون أثناء
____________________
1 سورة الأعلى الآية 17.
2 سورة الضحى الآية 42.
3 سورة القلم الآية 4.
الحفر برجل من المسلمين يقال له جعيل1 فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عمرا فكانوا يقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوماً ظهرا
فإذا مروا بعمرو قال صلى الله عليه وسلم: عمراً وإذا مروا بظهر قال صلى الله عليه وسلم ظهرا.
11 - من المعجزات التي حصلت في هذه الغزوة:
الكدية والطعام المبارك فيؤخذ منه:
1- طاعتهم رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحافظتهم على ذلك بدليل أنهم لما صادفوا تلك العقبة لم يتصرفوا حسب أرائهم بل رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ونتيجة لتلك الطاعة أعانهم الله عز وجل على تلك العقبات فأنجزوا ذلك العمل في وقت وجيز.
2- حبهم الشديد لله، ولرسوله، وشفقتهم على بعضهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ 2} ذلك أنه حينما رأى جابر ما يعانيه المصطفى صلى الله عليه وسلم من الجوع استأذن وعاد أدراجه إلى بيته ليجهز ما يستطيع عليه من طعام يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثلة من أصحابه وفعلاً
____________________
1 انظر أسد الغابة 1/290، وحاشية الأولياء 1/353 رقم الترجمة (55) .
2 سورة الفتح جزء من الآية الأخيرة.
وجد عناقاً وصاعاً من شعير فذبح العناق، وطحنت زوجته صاع الشعير وجهزوه وعاد جابر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء به ومن معه ضيفاً على تلك المأدبة المتواضعة.
3- تكثير الطعام الذي خجل1 جابر من قلته فأكل الجميع وشبعوا وذلك بفضل الله على نبيه وإظهاره على يديه تلك المعجزات الباهرة.
4- تواضعه عليه الصلاة والسلام لربه ولأصحابه حيث كان يغرف بنفسه اللحم، ويكسر لهم الخبز حتى صدروا عنه.
5- الإهداء للجيران من الطعام سنة، وخاصة في أوقات المجاعة وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث أبي ذر2. حيث قال: إن خليلي أوصاني "إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف".
12- أهمية الصلاة:
وفيه حديث عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله ما كدت أن أصلي".. الخ3. وفيه من الفوائد:
____________________
1 الخجل: التحير والدهش من الاستحياء. مختار الصحاح 170.
2 صحيح مسلم 4/2025.
3 صحيح البخاري 5/92.
1- جواز اليمين من غير استحلاف إذا اقتضت مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهم.
2- استحباب قضاء الفوائت في جماعة وبه قال أكثر أهل العلم إلا الليث مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت.
3- استدل به على عدم مشروعية الأذان للفائتة.
13 - كثرة جند الله:
وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما (نصرت بالصبا) وفيه:
1- تفضيل بعض المخلوقات على بعض.
2- إخبار المرء عن نفسه بما فضله الله به على سبيل التحدث بالنعمة، وبيان المنزلة لا على الفخر.
3- الإخبار عن الأمم الماضية وكيفية هلاكها.
4- الصبا هي أفضل الرياح التي تهب حيث أنها بفضل الله مبشرة بالخير، ويستفيد منها الزرع بخلاف غيرها من الرياح فمثلاً الرياح الشمالية إذا هبت تميت المزروعات غالباً وهذا ما جربه الفلاحون.
وقد ذكر ذلك الحافظ1 وعليه فالرياح هي:
____________________
1 فتح الباري 2/521.
أ- شرقية وهي الصبا وهي مباركة بدليل الحديث حيث أرسلها الله عذاباً لأعدائه وخيريتها مجربة لدى المزارعين.
ب- غربية وهي الدبور وقد أرسلت على عاد فأهلكتهم.
ج- جنوبية وهي التي تهب من جهة الجنوب وهي في الدرجة الثانية بعد الصبا من حيث خيريتها.
د- شمالية وهي إذا هبت بإذن الله جاءت بالزمهرير –البرد القارس- وتؤثر على الزرع وتتغير منها الأجسام.
14 - الجاسوس في الإسلام:
1- جواز استعمال التجسس في الإسلام.
2- منقبة للزبير رضي الله عنه وقوة قلبه وصحة يقينه.
3- جواز سفر الرجل وحده وأن النهي عن سفر الإنسان وحده إنما هو حيث لا تدعو الضرورة إلى ذلك.
أما في مثل هذه المهمات فهو جائز لأن فيه مصلحة للمسلمين. وقد يحدث للإنسان حاجة للسفر، ولا يجد من يرافقه فهل يا ترى يترك أمراً هاماً لأنه لم يجد مرافقين والأمر بذلك إنما هو للاستحباب.
قال الحافظ: "وقد وقع في كتب المغازي بعث كل من حذيفة ونعيم بن مسعود وغيرهما1. أما حديث الزبير حينما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريظة. وهو عن عبد الله بن الزبير عن أبيه"2 ...
ففيه كما قال الحافظ: "صحة سماع الصغير. وأنه لا يتوقف على أربع أو خمس لأن ابن الزبير كان يومئذ ابن سنتين وشهراً أو ثلاث وشهراً بحسب الاختلاف في وقت مولده وفي تاريخ الخندق"3.
15 - أهمية الدعاء:
وفيه حديث عبد الله ابن أبي أوفى "اللهم منزل الكتاب" ومن الفوائد ما ذكره الحافظ: أن فيه التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث: إنزال الكتاب- إجراء السحاب- هزيمة الأحزاب. وفيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار.
ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه، وسؤال الله تعالى بصفاته الحسنى وبنعمه السابغة ومراعاة نشاط النفوس
____________________
1 فتح الباري 6/138.
2 المصدر السابق 7/80 رقم الحديث 3720.
3 فتح الباري 7/81.
لفعل الطاعة والحث على سلوك الأدب وغير ذلك1.
وفيه حديث علي رضي الله عنه "لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً" الحديث2.
قال الحافظ: "وفيه الدعاء عليهم بأن يملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وليس فيه الدعاء عليهم بالهزيمة لكن يؤخذ من لفظ الزلزلة لأن في إحراق بيوتهم غاية التزلزل لنفوسهم".
وقال: "وفيه جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك".
كما تضمن كذلك دعاء صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على من يستحقه وهو من مات مشركاً منهم. وفيه شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الصلوات وخاصة صلاة العصر والتي قال صلى الله عليه وسلم في تاركها: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" 3.
وأخيراً يتبين من مجريات الأمور والأحداث في هذه الغزوة وغيرها من الغزوات أن النصر في المعارك لا يكون بكثرة العدد ووفرة السلاح وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش.
____________________
1 فتح الباري 6/157.
2 انظر الحديث في الصحيح 5/47.
3 فتح الباري 6/106، وقد أخرجه البخاري في المواقيت حديث رقم (553، 594) والنسائي في الصلاة.
وقد كان الجيش الإسلامي في هذه المعارك يمثل العقيدة النقية والإيمان الصادق والفرح بالاستشهاد والرغبة في ثواب الله وجنته.
كما يمثل الفرحة من الانعتاق من الضلال والفرقة والفساد. بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة وتفسخ الأخلاق، وتفكك الروابط الاجتماعية، والانغماس في الملذات.
والعصبية العمياء للتقاليد البالية والآباء الماضين والآلهة المزيفة انظر إلى ما كان يفعله الجيشان قبل بدء القتال.
فقد حرص المشركون قبل بدء معركة بدر مثلاً على أن يقيموا ثلاثة أيام يشربون فيها الخمور، وتغني لهم القيان، وتضرب لهم الدفوف، وتشعل عندهم النيران لتسمع العرب بما فعلوا فتهابهم.
وكانوا يظنون ذلك سبيلاً إلى النصر، بينما كان المسلمون قبل بدء أي معركة يتجهون إلى الله بقلوبهم يسألونه النصر، ويرجونه الشهادة، ويشمون روائح الجنة ويخر الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً مبتهلاً يسأل ربه أن ينصر عباده المؤمنين، وقد ابتهل كثيراً في هذه الغزوة ودعا الله حتى نصره وكانت النتيجة أن انتصر الأتقياء الخاشعون وانهزم اللاهون العابثون1.
____________________
1 السيرة النبوية دروس وعبر 114-115.
والذي يقارن بين أرقام المسلمين في أي معركة وبين أرقام المشركين يجد دائماً أن المشركين أكثر من المسلمين أضعافاً مضاعفة ومع ذلك فقد كان النصر حليف المسلمين رغم ذلك كله. والحمد لله رب العالمين.