...
المبحث الأول: سبب الغزوة:
درج كثير من أهل المغازي على جعل السبب في خروج المسلمين لهذه الغزوة رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل خروجه، وملخصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أنه دخل البيت هو وأصحابه وطافوا به، وحلق بعضهم وقصر البعض، وأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا.
وأول من أثبت هذا السبب - حسب علمي - هو الواقدي1، ثم تابعه كثير ممن كتب في المغازي كاليعقوبي2، والمقريزي3، الزرقاني4، وصاحب تاريخ الخميس5، والشيخ محمد بن عبد الوهاب6، وغيرهم.
وقد تردد كثيراً في إثبات تلك الرؤيا سبباً للغزوة، لأن أول من أثبتها - كما أشرت - هو الواقدي، بينما أغفلها من هو أثبت منه كابن إسحاق وابن سعد وغيرهما.
لكن بعد البحث والتتبع وجدت ما يشهد لها ويدل على أن لها أصلاً وذلك من القرآن والحديث:
قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ ... } 7.
__________
1 مغازي الواقدي 2/572.
2 تاريخ اليعقوبي 2/54.
3 امتاع الأسماع 1/274.
4 شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/179.
5 تاريخ الخميس 2/179.
6 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: 261.
7 سورة الفتح الآية: 27.
وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول هذه الآية هو التساؤل الذي حصل حول الرؤيا.
فقد روى ابن جرير ذلك عن مجاهد وابن زيد:
(4) قال ابن جرير: حدثنا محمد1 بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم2 قال: ثنا عيسى3، وحدثني الحارث4 قال ثنا الحسن5 قال: ثنا ورقاء6 جميعاً عن ابن أبي نجيح7 عن مجاهد8 في قوله "الرؤيا بالحق" قال: أرى النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟ "9.
سند هذا الأثر حسن إلى مجاهد لكنه مرسل.
(5) وقال ابن جرير: حدثني يونس10، قال: أخبرنا ابن وهب11 قال: قال
__________
1 محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة بن أبي رواد العتكي - بفتح المهلمة والمثناة - أبو جعفر البصري، صدوق، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين: م، د. تقريب: 313.
2 هو: الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري، ثقة ثبت، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين أو بعدها: ع. تقريب: 155.
3 عيسى بن ميمون الجرشي - بضم الجيم وفتح الراء والمعجمة - ثم المكي أبو موسى يعرف بابن داية - تحتانية خفيفة - ثقة من السابعة: خد. تقريب: 272.
4 الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي صاحب المسند، رمز له الذهبي بكلمة (صح) - وهي كما قال ابن حجر أنه اعتمد توثيقه - وقال الذهبي: كان عارفاً بالحديث حافظاً، تكلم فيه بلا حجة، وقال الدارقطني هو عندي صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن حزم، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. ميزان الاعتدال 1/442، لسان الميزان 2/157.
5 الحسن بن موسى الأشيب - بمعجمة ثم تحتانية - أبو علي البغدادي قاضي الموصل وغيرها، ثقة، مات سنة تسع أو عشر ومائتين: ع. تقريب: 72.
6 ورقاء بن عمر اليشكري، أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لين: ع. تقريب 379.
قال أحمد بن حنبل: ثقة صاحب سنة، توفي سنة نيف وستين ومائة رحمه الله. تذكرة الحفاظ 1/230.
7 عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي أبو يسار الثقفي مولاهم، ثقة، رمي بالقدر وربما دلس، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة أو بعدها: ع، تقريب: 191.
8 مجاهد بن جبر - بفتح الجيم وسكون الموحدة - ابو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة، وله ثلاث وثمانون: ع. تقريب: 328.
9 تفسير ابن جرير 26/107.
10 يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدفي أبو موسى البصري، ثقة، مات سنة أربع وستين ومائتين، وله ست وتسعون سنة: م، س، ق: تقريب: 390.
11 عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري الفقيه، ثقة، حافظ عابد، مات سنة سبع وتسعين ومائة، وله اثنتان وسبعون سنة: ع، تقريب: 193.
ابن زيد1: في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ... } ، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين" فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فنزلت الآية2.
سند هذا الأثر صحيح إلى ابن زيد وهو عبد الرحمن بن زيد ضعيف، ضعفه ابن معين، وابن المديني، وأحمد والنسائي، وغيرهم3.
لكن معنى الأثرين ثابت من حديث المسور ومروان ففيه من رواية معمر عند البخاري: "فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى: فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به4.
وفي حديثهما من رواية ابن إسحاق عند أحمد بسند حسن "وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهو لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا ... "5.
فالآية وما في حديث المسور ومروان تدل على أنه قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم رؤيا خرج المسلمون إثرها لهذه الغزوة.
لكن الأثر الذي رواه ابن جرير عن مجاهد يُعَكِّرُ على جعل هذه الرؤيا سبباً لخروج المسلمين إذ فيه: "أن الرؤيا حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية"، وذلك بعد خروج المسلمين.
لكن إذا تأملنا حديث المسور ومروان نرى في رواية معمر قول عمر: "أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ ".
__________
1:هوعبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، ضعيف، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة: ت، ق. تقريب: 202.
2 تفسير ابن جرير 26/107.
3 ميزان الاعتدال 2/564.
4 انظر ص:171.
5 انظر ص: 172.
وفي رواية ابن إسحاق: "وقد كان المسلمون خرجوا وهو لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم".
فكلام عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم بذلك قبل مجيئهم للحديبية، وما في رواية ابن إسحاق يفيد أن المسلمين خرجوا بعد الرؤيا.
لذلك حمل بعض العلماء الرؤيا التي يشير إليها الأثر الموقوف على مجاهد أنها رؤيا ثانية.
قال الزرقاني: "وأما ما رواه الفارابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: "أري النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال له أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ... } فهي رؤيا رآها بالحديبية تبشيراً له من الله ثانياً فلا يصلح جعلها سبباً لخروجه من المدينة"1.
__________
1 شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 2/179.