خروج أبي سفيان إلى الشام- محاولة المسلمين قطع الطريق عليه- نجاته في الذهاب! انتظارهم إياه في أوبته- علم قريش بتجهيز المسلمين- خروجهم إلى بدر- نجاة أبي سفيان بتجارته- تردد قريش والمسلمين في القتال- زوال التردد- موقف الفريقين في بدر- حماسة المسلمين وانتصارهم.
كانت سريّة عبد الله بن جحش مفترق طرق في سياسة الإسلام، فيها رمى واقد بن عبد الله التميميّ عمرو بن الخضرميّ بسهم فقتله، فكان أوّل دم أراق المسلمون. وفيها نزلت الآية التي قدّمنا؛، وعلى أثرها شرع قتال الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويصدّون عن سبيل الله. وكانت هذه السرّية مفترق طرق كذلك في سياسة المسلمين إزاء قريش، أن جعلت الفريقين يتناظران بأسا وقوّة. فقد جعل المسلمون يفكرون من بعدها تفكيرا جدّيا في استخلاص أموالهم من قريش بغزوهم وقتالهم. ذلك بأن قريشا حاولت إثارة شبه الجزيرة كلها على محمد وأصحابه أن قتلوا في الشهر الحرام؛ حتى لقد أيقن محمد أن لم يبق في مصانعتهم أو في اتفاق معهم رجاء. وقد خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة يقصد الشام، وهي التجارة التي أراد المسلمون اعتراضها حين خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى العشيرة. لكنهم إذ بلغوها كانت قافلة أبي سفيان قد مرّت بها ليومين من قبل وصولهم إليها؛ إذ ذاك اعتزم المسلمون انتظارها في عودتها. ولما تحيّن محمد انصرافها من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ينتظران خبرها، فسارا حتى نزلا على كشد الجهنيّ بالحوراء وأقاما عنده في خباء حتى مرّت العير، فأسرعا إلى محمد ليفضيا إليه بأمرها وما رأيا منها.
على أن محمدا لم ينتظر رسوليه إلى الحوراء وما يأتيان به من خبر العير؛ فقد ترامى إليه أنها عير عظيمة، وأن أهل مكة جميعا اشتركوا فيها، لم يبق أحد منهم من الرجال والنساء استطاع أن يساهم فيها بحظ إلا فعل، حتى قوّم ما فيها بخمسين ألفا من الدنانير. ولقد خشي إن هو انتظرها أن تفوته العير في عودتها إلى مكة كما فاتته في ذهابها إلى الشام. لذلك ندب المسلمين وقال لهم: هذه عير قريش؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها.
وخفّ بعض الناس وثقل بعض، وأراد جماعة لم يسلموا أن ينضموا طمعا في الغنيمة، فأبى محمد عليهم الانضمام أو يؤمنوا بالله ورسوله.
,
أمّا أبو سفيان فكان قد اتصل به خروج محمد لإعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته بعد أن ربحت تجارته، وجعل ينتظر أخبارهم. وكان الجهنيّ الذي نزل عليه رسولا محمد بالحوراء بعض من سأل. ومع أن الجهنيّ لم يصدقه الخبر فقد بلغه من أمر محمد والمهاجرين والأنصار معه مثل ما ترامى إلى محمد من خيره؛ فخاف عاقبة أمره أن لم يكن من قريش في حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلا. عند ذلك استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ فبعثه مسرعا إلى مكة ليستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. ووصل ضمضم من مكة إلى بطن الوادي فقطع أذني بعيره وجدع أنفه وحوّل رحله ووقف هو عليه وقد شق قميصه من قبل ومن دبر وجعل يصيح. يا معشر قريش! اللطيمة «1» اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها.
الغوث الغوث! وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم. وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النّظر. ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها، وقد كان لكل منهم في هذه العير نصيب.
على أن طائفة من أهل مكة كانت تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى أكرهتهم على الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، فكانت تتردد بين النفير للذود عن أموالها والقعود رجاء ألا يصيب العير مكروه. وهؤلاء كانوا يذكرون أن قريشا وكنانة بينهما ثأر في دماء تبادل الفريقان إراقتها. فإذا هي خفت إلى لقاء محمد لمنع عيرها منه خافت بني بكر (من كنانة) أن تهاجمها من خلفها. وكادت هذه الحجة ترجح وتؤيد رأي القائلين بالقعود لولا أن جاء مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. إذ ذاك رجحت كفة أبي جهل وعامر بن الحضرمي والدّعاة إلى الخروج لدفع محمد والذين معه، ولم يبق لكل قادر على القتال عذر في التخلف أو يرسل مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان لطّ «2» له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها. وكان أمية بن خلف قد أجمع على القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا. فأتاه بالمسيجد عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود فوضع عقبة المجمرة بين يديه وقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء. وقال أبو جهل: اكتحل أبا علي فإنما أنت امرأة. فقال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، وخرج معهم؛ فلم يبق بمكة متخلف قادر على القتال.
,
أما النبي عليه السلام فقد خرج في أصحابه من المدينة، لثمان خلون من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وجعل عمرو بن أم مكتوم فيها على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الرّوحاء واستعمله على المدينة. وكانت أمام المسلمين في مسيرتهم رايتان سوداوان، وكانت إبلهم سبعين بعيرا جعلوا يعتقبونها «3» ، كل اثنين منهم وكل ثلاثة وكل أربعة يعتقبون بعيرا، وكان حظ محمد في هذا كحظ سائر أصحابه، فكان هو وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون
__________
(1) اللطيمة: المال والتجارة.
(2) لط الغريم بالحق: ما طل فيه ومنعه، ولط حقه جحده.
(3) الاعتقاب هنا: أن يركب الواحد البعير مدة ثم ينزل ليتبعه الآخر فيركبه.
بعيرا وكانت عدّة من خرج مع محمد إلى هذه الغزوة خمسة وثلثمائة رجل، منهم ثلاثة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج. وانطلق القوم مسرعين من خوف أن يفلت أبو سفيان منهم، وهم يحاولون حيثما مرّوا أن يقفوا على أخباره. فلما كانوا بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن القوم فلم يجدوا عنده خبرا. وانطلقوا حتى أتوا واديا يقال له ذفران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبر بأن قريشا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغيّر وجه الأمر. لم يبق هؤلاء المسلمون مهاجروهم والأنصار أمام أبي سفيان وعيره والثلاثين أو الأربعين رجلا معه، لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه؛ بل هذه مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها. فهب المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله وأسروا منهم من أسروا واقتادوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم، يحفزها حرص على مالها والدفاع عنه وتؤازرها كثرة عديدها وعددها، وأن توقع بهم وأن تستردّ الغنيمة منهم أو تموت دونها. ولكن إذا عاد محمد من حيث أتى طمعت قريش وطمعت يهود المدينة فيه، واضطر إلى موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى أن يحتملوا من أذى يهود المدينة مثل ما احتملوا من أذى قريش بمكة. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الحق وأن ينصر الله دينه.
,
استشار الناس وأخبرهم بما بلغه من أمر قريش؛ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون» ، وسكت الناس.
فقال الرسول: أشيروا عليّ أيها الناس. وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ولم يبايعوه على اعتداء خارج مدينتهم. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايتهم التفت إلى محمد وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد:
«لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا. على السمع والطاعة؛ فامض لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا. إنا لصبر في الحرب صدق في اللّقاء- لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» . ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجه محمد بالمسرة وبدا عليه كل النشاط وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وارتحلوا جميعا، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر انطلق محمد على بعيره حتى وقف على شيخ من العرب وسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، ومنه عرف أن عير قريش منه قريب.
إذ ذاك عاد إلى قومه، فبعث عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام وسعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتلمّسون له الخبر عليه. وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان عرف محمد منهما أن قريشا وراء الكثيب بالعدوة القصوى. ولما أن أجابا أنهما لا يعرفان عدّة قريش، سألهما محمد كم ينحرون كل يوم؟
فأجابا: يوما تسعا ويوما عشرا. فاستنبط النبي من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف. وعرف من الغلامين كذلك أن أشراف قريش جميعا خرجوا لمنعه؛ فقال لقومه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» إذا فلابدّ له ولهم أمام قوم يزيدون عليهم في العدد ثلاثة أضعاف أن يشحذوا عزائمهم، وأن يوطّنوا على الشدة أفئدتهم ونفوسهم، وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه.
وكما عاد عليّ ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما ذهب اثنان من المسلمين حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى
تلّ قريب من الماء وأخذا وعاء لهما يستقيان فيه. وإنهما لعلى الماء إذ سمعا جارية تطالب صاحبتها بدين عليها والثانية تحبيبها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيه لك. وعاد الرجلان فأخبرا محمدا بما سمعا. فأما أبو سفيان فسبق الغير يتنطّس الأخبار حذر أن يكون محمد قد سبقه إلى الطريق. فلما ورد الماء وجد عليه مجديّ بن عمرو، فسأله: هل قد رأى أحدا؟ وأجاب مجديّ بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التلّ، وأشار إلى حيث أناخ الرجلان من المسلمين. فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد في روث بعيريهما نوى عرفه من علائف يثرب، فأسرع عائدا إلى أصحابه وعدل بالسير عن الطريق مساحلا البحر مسرعا في مسيره، حتى بعد ما بينه وبين محمد، ونجا.
وأصبح الغد والمسلمون في انتظار مروره بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنه فاتهم وأن مقاتلة قريش هم الذين ما يزالون على مقربة منهم؛ فيذوي في نفوس جماعة منهم ما كان يملؤها من أمل الغنيمة، ويجادل بعضهم النبيّ كي يعودوا إلى المدينة ولا يلقوا القوم الذين جاؤا من مكة لقتالهم. وفي ذلك نزل قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) «1» .
وقريش هم أيضا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفّى حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عدد غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدر فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها. ذلك أن بدرا كانت موسما من مواسم العرب، فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدا شوكة ويزيد دعوته انتشارا وقوة وخاصة بعد الذي كان من سريّة عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرميّ وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.
,
وتردّد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتّهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريف، وكان فيهم مطاعا. واتبعت سائر قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أمّا المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم، لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسّر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاؤا أدنى ماء منها نزل محمد به. وكان الحباب بن المنذر بن الجموح عليما بالمكان؛ فلما رأى حيث نزل النبيّ قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزل ثم نغوّر ما وراءه من القلب «2» ، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. ولم
__________
(1) سورة الانفال آية 7.
(2) القلب: جمع قليب، وهو البئر. يذكّر ويؤنث. وتغويرها: كبسها بالتراب حتى ينضب ماؤها.
يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتّبع رأي صاحبه، معلنا إلى قومه أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم.
,
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلا: «نبي الله، تبني لك عريشا تكون فيه وتعدّ عندك ركائبك ثم نلقى عدوّنا؛ فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ الله ما نحن بأشد لك حبّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك» . وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبني العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر في جانبه وجانب أصحابه لم يقع في يد عدوّه واستطاع اللّحاق بأصحابه في يثرب.
هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبّتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فهاءهم أولاء يعلمون أن قريشا تفوقهم في العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف في وجهها وقتالها. وهاهم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادي هو الذي يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبيّ يؤيدونه ويعزّزونه. وهاهم أولاء تتردّد نفوسهم بين الطمع في النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا في حماية النبيّ وتوقيته أن يظفر به عدوّه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأيّ موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأيّ إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان!
,
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقصّ لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلثمائة أو يزيدون قليلا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلا مثله. ولمّا كانت صفوة قريش قد خرجوا في هذا الجيش، خشي بعض ذوي الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدّة أبي جهل ورمية إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلا: «يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بن محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرّض منه لما تكرهون» . فلمّا بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظا وبعث إلى عامر بن الحضرميّ يقول له: «هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك» . وقام عامر فصرخ: واعمراه! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفرّ. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزوميّ من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطّلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إني ظهره تشخب رجله دما، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظبا السيوف من منظر الدم: ولا شيء أشدّ إثارة لعواطف القتال والحرب في الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدوّ وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة.
وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم:
يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل عليّ الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.
,
وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم. فلما رأى كثرة قريش وقلّة رجاله وضعف عدتهم إلى جانب عدة المشركين عاد إلى العريش ومعه أبو بكر، وهو أشد ما يكون خوفا من مصير ذلك اليوم، وأشد ما يكون إشفاقا مما يصير إليه أمر الإسلام إذا لم يتم للمسلمين النصر. واستقبل محمد القبلة واتجه بكل نفسه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وبالغ في التوبة والدعاء والابتهال وجعل يقول:
«اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» . وما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه؛ وجعل أبو بكر من ورائه يرد على منكبيه رداءه ويهيب به: يا نبيّ الله، بعض مناشدتك ربّك؛ فإن الله منجز لك ما وعدك.
ولكن محمدا ظلّ فيما هو فيه أشدّ ما يكون توجها وأشد ما يكون تضرّعا وخشية واستعانة بربه على هذا الموقف الذي لم يتوقعه المسلمون ولم يتخذوا له عدته، حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» .
وسرت من نفسه القوية، أمدها الله من لدنه بما سما بها فوق كل قوّة، إلى نفوس هؤلاء المؤمنين برسالته قوّة ضاعفت عزمهم، وجعلت كلّ رجل منهم يعدل رجلين بل يعدل عشرة رجال. ويسير عليك أن تقدر هذا إذا ذكرت ما لازدياد القوّة المعنوية من أثر في النفس متى توافرت أسباب ازدياد هذه القوّة المعنويّة فيها. فدافع الوطنية يزيدها. وهذا الجندي الذي يقف مدافعا عن وطنه المهدد بالخطر ممتلئ النفس بالعاطفة الوطنية، تتضاعف قوّته المعنوية بمقدار حبه لوطنه وإيمانه به، وبمقدار تخوّفه من الخطر الذي يتهدد العدوّ الوطن به.
ولهذا تغرس الأمم في نفوس أبنائها منذ نعومة أظفارهم حبّ الوطن والاستهانة بالتضحية في سبيله: والإيمان بالحق وبالعدل وبالحرية وبالمعاني الإنسانية السامية يزيد القوّة المعنوية في النفس بما يضاعف القوّة المادية فيها.
والذين يذكرون ما قام به الحلفاء في الحرب الكبرى من دعوة واسعة النطاق ضد الألمان، أساسها أنهم يدافعون عن قضية الحرية والحق ويحاربون في ألمانيا الجندية المسلحة ويمهدون لعهد سلام ونور، يدركون ما كانت تضاعف هذه الدعوة من قوّة في نفوس جنود الحلفاء بمقدار ما كانت تحيطهم به من عطف في أكثر أمم العالم.
وما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب ما كان محمد يدعو إليه! إلى إتصال الإنسان بالوجود كله اتصالا يندمج به فيه ويصبح قوّة من قوى الكون الموجه له إلى سبيل الخير والنعمة والكمال! نعم ما الوطنية وما قضيّة السلام إلى جانب الوقوف في جانب الله ودفع الذين يفتنون المؤمنين عنه، والذين يصدّون عن سبيله. والذين ينزلون بالإنسان إلى درك الوثنية والإشراك. إذا كانت النفس يزيدها حب الوطن قوّة بمقدار ما في الوطن كله من قوّة، ويزيدها حب السلام للإنسانية كلها قوّة بمقدار ما في الإنسانية من قوّة، فما أكثر ما يزيدها الإيمان بالوجود كله وبخالق الوجود كله من قوّة!! إنه ليجعلها قديرة أن تسيّر الجبال، وتحرّك العوالم، وتهيمن بسلطانها المعنوي على كل من كان أقلّ منها في هذا الأمر إيمانا. وهذا السلطان المعنوي يزيد قوتها أضعافا مضاعفة، فإذا لم يصل هذا السلطان المعنوي إلى غاية كماله بسبب ما كان بين المسلمين من خلاف قبل الموقعة، لم تبلغ القوّة المادية كل
ما تطمح إلى بلوغه، وإن هي زادت بفعل هذا الإيمان الذي ازداد قوّة بتحريض محمد أصحابه فعوّضهم بذلك عن قلّة عددهم وعدّتهم. وفي حال النبي وأصحابه هذه نزلت الآيتان: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) «1» .
,
ازداد المسلمون قوة بتحريض محمد إيّاهام ووقوفه بينهم ودفعهم لمقاتلة العدوّ والصيحة بهم أن الجنّة لمن أحسن البلاء منهم ومن غمس يده في العدوّ حاسرا. ووجّه المسلمون أكبر همهم إلى سادات قريش وزعمائها يريدون استئصالهم جزاء وفاقا لما عذّبوهم بمكة، ولما صدّوهم عن المسجد الحرام وعن سبيل الله. رأى بلال أميّة بن خلف وابنه، ورأى بعض المسلمين الذين عرفوه بمكة حوله. وكان أميّة هو الذي عذّب بلالا إذ كان يخرجه إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ويأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ليفتنه عن الإسلام، فيقول بلال: أحد أحد- رأى بلال أمية فصاح به: أميّة رأس الكفر لا نجوت إن نجا! وحاول بعض المسلمين من حول أميّة أن يحولوا دون قتله وأن يأخذوه أسيرا. فصرخ بلال بأعلى صوته في الناس: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. واجتمع الناس ولم ينصرف بلال حتى قتل أمية. وقتل معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام. وخاض حمزة وعليّ وأبطال المسلمين وطيس المعركة وقد نسي كل منهم نفسه ونسي قلة أصحابه وكثرة عدوّه، فثار النقع وامتلأ الجو بالغبار، وجعلت هام قريش تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوّة ويصيحون مهللين: أحد أحد، وقد كشفت أمامهم حجب الزمان والمكان وأمدّهم الله بالملائكة يبشّرونهم ويزيدونهم تثبيتا وإيمانا، حتى لكأن الواحد منهم إذ يرفع سيفه ويهوي على عنق عدوّه إنما تحرك قوة الله يده. ووقف محمد وسط هذا الوطيس يتمشّى خلاله ملك الموت يقطّ رق الكفر، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال شدّوا. وشدّ المسلمون وما يزالون أقل من قريش عددا، لكن كل واحد منهم امتلأت بنفحة من أمر نفسه، فلم يكن هو الذي يقتل العدوّ، ولا كان هو الذي يأسر من يأسر، لولا هذه النفخة التي ضاعفت المعنويّة بما ضعفت قوّته المادية. وفي ذلك نزل قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) «2» ، وقوله تعالى:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) «3» .
لما آنس الرسول أن الله أنجزه وعده وأتمّ على المسلمين النصر عاد إلى العريش. وفرّت قريش فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يقتل ولم يساعفه حسن فراره بالنجاة.
,
هذه غزوة بدر التي استقرّ بها الأمر للمسلمين من بعد في بلاد العرب جميعا، والتي كانت مقدمة وحد شبه الجزيرة في ظلال الإسلام، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، والتي أقرت في معالم حضارة لا تزال ولن تزال ذات أثر عميق في حياته. ولقد تعجب إذ تعلم أن محمدا، على ما كان من تحريضه
__________
(1) سورة الأنفال آيتا 65 و 66.
(2) سورة الأنفال آية 12.
(3) سورة الأنفال آية 17.
أصحابه وما كان يرجو من استئصال عدو الله وعدوه، قد طلب إلى المسلمين منذ اللحظة الأولى من المعركة ألا يقتلوا بني هاشم وألا يقتلوا بني هاشم وألا يقتلوا بعض رجال من سادات قريش، مع أنهم اشتركوا في قتال المسلمين، ومع أنهم كانوا سيقتلون من المسلمين من يستطيعون قتله. ولا تحسب أنه في ذلك أراد أن يحابي أهله أو أحدا ممن يمتون إليه باصرة القربى، فنفس محمد أسمى من أن تتأثر بمثل هذا، وإنما ذكر لبني هاشم منعهم إياه مدى ثلاثة عشر عاما من يوم بعثه إلى يوم هجرته، حتى كان عمه العباس معه ليلة بيعة العقبة.
وذكر لغير بني هاشم من قريش جميل من قاموا وهم على الكفر يطالبون بنقض الصحيفة، التي اضطرتّه بها قريش أن يلزم هو وأصحابه الشعب، بعد أن قطعت قريش بهم كل صلة وكل علاقة. فهذا المعروف الذي تقدّم به هؤلاء وأولئك قد اعتبره محمد حسنة يجزى من قدّمها بمثلها، بل يجزى بعشر أمثالها، لذلك كان شفيعا لهؤلاء عند المسلمين ساعة القتال، وإن أبى بعض هؤلاء القرشيين أن يستظلوا بهذا العفو على نحو ما فعل أبو البختري أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة، فقد أبى وقتل.
ولّى أهل مكة الأدبار كاسفا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم، لا يكاد أحدهم يلتقي نظره بنظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلا من سوء ما حلّ بهم جميعا. أمّا المسلمون فأقاموا ببدر إلى آخر النهار، ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحفروا لهم قليبا فدفنوهم فيه. وقضى محمد وأصحابه تلك الليلة في الميدان في شغل بجمع الغنيمة والسهر على الأسرى. وإذا جنّ الليل جعل محمد يفكر في نصر الله المسلمين على قلّة عددهم، وخذلانه المشركين الذي لم يكن لهم من قوة الإيمان عضد تعتزّ به كثرتهم. جعل يفكر في هذا، حتى سمعه أصحابه جوف الليل وهو يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة! ويا أميّة بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام! - واستمر يذكر من في القليب واحدا بعد واحد- يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقّا» . قال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوما جيّفوا «1» ! قال عليه السلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني» . ونظر رسول الله في وجه أبي حذيفة بن عتبة فألفاه كئيبا قد تغيّر لونه. فقال: «لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء؟
قال أبو حذيفة: لا والله يا رسول الله! ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام. فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما كان عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني أمره» فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير.
,
ولما أصبح الصبح وآن للمسلمين أن يرتحلوا قافلين إلى المدينة، بدؤا يتساءلون في الغنيمة لمن تكون، قال الذين جمعوها: نحن جمعناها فهي لنا. وقال الذين كانوا يطاردون العدو حتى ساعة هزيمته: نحن والله أحقّ بها، فلو لانا لما أصبتموها. وقال الذين يحرسون محمدا مخافة أن يرتدّ إليه العدوّ: ما أنتم ولا هم أحق بها منا، وكان لنا أن نقتل العدوّ ونأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنّا خفنا على رسول الله كرّة العدو فقمنا دونه. فأمر محمد الناس أن يردّوا كل ما في أيديهم من الغنائم، وأمر بها أن تحمل حتى يرى فيها رأيه أو يقضي الله فيها بقضائه.
,
وبعث محمد إلى المدينة عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وبشير بن يلقيان إلى أهلها بما فتح الله على
__________
(1) جيفوا: أنتنوا.
المسلمين من النصر. وقام هو وأصحابه قافلين إلى المدينة ومعه الأسرى وما أصاب من المشركين من غنيمة جعل عليها عبد الله بن كعب. وسار القوم، حتى إذا تخطّوا مضيق الصّفراء نزل محمد على كثيب فقسم هناك النّفل الذي أفاء الله على المسلمين، بين المسلمين على سواء. يقول بعض المؤرخين إنه قسمة بينهم بعد أن أخذ منه الخمس، لقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «1» .
ويذهب الأكثرون من كتّاب السيرة، والمتقدمون منهم خاصة، أن هذه الآية نزلت بعد بدر وبعد قسم فيئها، وأن محمدا جعل القسمة بين المسلمين على سواء، وأنه جعل للفرس مثل ما للفارس، وجعل للورثة حصة من استشهد ببدر، وجعل حصّة لمن تخلف بالمدينة فلم يشهد بدرا ما كان قائما فيها بعمل المسلمين، ومن حرّضه حين الخروج إلى بدر وتخلّف لعذر قبله الرسول. وكذلك قسم الفيء بالقسط. فلم يشرك المقاتل وحده في الحرب والنصر، بل اشترك في الحرب والنصر كل من كان لعمله في الفوز حظ أيّا كان هذا العمل، وفي ميدان القتال كان أو بعيدا عنه.
وبينما المسلمون في طريقهم إلى مكة قتل من الأسرى رجلان: أحدهما النّضر بن الحارث، والآخر عقبة بن أبي معيط. ولم يكن محمد ولا كان أصحابه إلى هذه اللحظة قد وضعوا للأسرى نظاما يكون على مقتضاه قتلهم أو فداؤهم أو استرقاقهم. لكن النضر وعقبة كانا من المسلمين أيام مقامهم بمكة شرّا مستطيرا، وكانا لا ينفكان يوصلان لهم من الأذى كل ما يستطيعان. قتل النّضر حين عرض الأسرى على النبي عليه السلام عند بلوغهم الأثيل، فقد نظر إلى النضر نظرة ارتعد لها الأسير وقال لرجل إلى جنبه: محمد والله قاتلي! لقد نظر إليّ بعينين فيهما الموت. قال الذي إلى جنبه: ما هذا والله منك إلا رعب. وقال النضر لمصعب بن عمير؛ وكان أقرب من هناك به رحما: كلّم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابه، فهو والله قاتلي إن لم تفعل. فكان جواب مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله وفي نبيه كذا وكذا، وكنت تعذّب أصحابه. قال النضر: لو أسرتك قريش ما قتلتك أبدا وأنا حيّ. قال مصعب: والله إني لا أراك صادقا، ثم إني لست مثلك، فقد قطع الإسلام العهود. وكان النضر أسير المقداد، وكان يطمح أن ينال افتداء أهله إياه مالا كثيرا. فلما رأى الحديث حول قتله صاح: النضر أسيري. قال النبي عليه السلام: اضرب عنقه، واللهمّ أغن المقداد من فضلك. فقتله عليّ بن أبي طالب ضربا بالسيف.
ولمّا كانوا في طريقهم بعرق الظبية أمر النبيّ بقتل عقبة بن أبي معيط فصاح عقبة: فمن للصبية يا محمد؟! قال: النار. وقتله عليّ بن أبي طالب أو قتله عاصم بن ثابت، على اختلاف في الرواية.
وقبل أن يصل النبي والمسلمون المدينة بيوم وصلها رسولاه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواح، ودخل كل واحد من ناحية منها؛ فجعل عبد الله ينادي على راحلته يبشر الأنصار بنصر رسول الله وأصحابه، ويذكر لهم من قتل من المشركين. وجعل زيد بن حارثة يصنع صنيعة وهو ممتط القصواء ناقة النبي. وسرّ المسلمون واجتمعوا وخرج من كان منهم في داره وانطلقوا يهللون لهذا النصر العظيم. أما الذين بقوا على الشرك، و؟؟؟
اليهود، فقد كبتوا لهذا النبأ، وحاولوا أن يقنعوا أنفسهم وأن يقنعوا الذين أقاموا في المدينة من المسلمين بعدم صحته، فصاحوا؛ إن محمدا قتل وأصحابه هزموا، وهذه ناقته نعرفها جميعا لو أنه انتصر لبقيت عنده، وإنما
__________
(1) سورة الأنفال آية 41.
يقول زيد ما يقول هذيانا من الفزع والرعب. لكن المسلمين ما لبثوا حين تثبتوا من الرسولين واطمأنوا إلى صحة الخبر أن زاد بهم السرور لولا حادث طرأ خفف من سرورهم. ذلك الحادث هو موت رقية بنت النبي، وكان قد تركها عند ذهابه إلى بدر مريضة، وترك معها زوجها عثمان بن عفان يمّرضها. ولما أيقن المشركون والمنافقون بنصر محمد أسقط في أيديهم، ورأوا موقفهم من المسلمين قد أصبح موقف هوان ومذلة، حتى قال أحد زعماء اليهود: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها بعد أن أصيب أشراف الناس وسادتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن.
ودخل المسلمون المدينة قبل أن يدخلها الأسارى بيوم، فلما جيء بهم ورجعت سودة بنت زمعة زوج النبيّ من مناحة ابني عفراء وكانت بها، رأت أبا يزيد سهيل بن عمرو أحد الأسرى مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلم تملك نفسها أن توجّه إليه الكلام قائلة: أي أبا يزيد! أسلمتم أنفسكم وأعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما! فناداها محمد من البيت: يا سودة! أعلى الله عزّ وجل وعلى رسوله تحرّضين! فأجابت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
وفرّق محمد الأسارى بين أصحابه وقال لهم: استوصوا بهم خيرا. وطفق من بعد ذلك يفكر فيما يصنع بهم:
أفيقتلهم أم يأخذ منهم الفداء؟ إن منهم لأشدّاء في الحرب أقوياء في النضال، ومن امتلأت بالحقد والضغينة نفوسهم بعد الذي كان من هزيمتهم ببدر وما لحقهم من عار الأسر؛ فإن هو قبل الفداء كانوا عليه حربا وألبا، وإن هو قتلهم أثار في نفوس أهليهم من قريش ما ربما هدأ لو أنهم افتدوهم.
,
وعرض الأمر على المسلمين يستشيرهم ويترك لهم الخيار. وكان المسلمون قد آنسوا من الأسرى طمعا في الحياة واستعدادا لفدية عظيمة. فقال هؤلاء: لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا وأكثرهم رحمة وعطفا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه. وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: أبا بكر، إن فينا الآباء والإخوان والعمومة وبني العم وأبعدنا قريب. كلّم صاحبك يمنّ علينا أو يفادنا. فوعدهم خيرا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل قولهم لأبي بكر، فنظر اليهم شزرا. وذهب وزيرا محمد إليه فجعل أبو بكر يلينه ويفثؤه «1» ويقول يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة وبنو العم والإخوان وأبعدهم منك قريب. فامنن عليهم منّ الله عليك، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار، فتأخذ منهم ما أخذت قوة للمسلمين، فلعلّ الله أن يقبل بقلوبهم. وسكت محمد فلم يجبه، فقام فتنحّى. وجاء عمر فجلس مجلسه وقال: يا رسول الله، هم أعداء الله، كذّبوك، وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم؛ هم رؤس الكفر وأئمّة الضلالة يوطئ الله بهم الإسلام ويذلّ بهم أهل الشرك. ولم يجب محمد. فعاد أبو بكر إلى مقعده الأوّل وجعل يتلطف ويستعطف، ويذكر القرابة والرّحم، ويرجو لهؤلاء الأسرى الهدى إن هم أبقى على حياتهم؛ وعاد عمر مثال العدل الصارم لا تأخذه فيه هوادة ولا رحمة. ولما فرغ أبو بكر وعمر من كلامهما، قام محمد فدخل قبّته فمكث فيها ساعة ثم خرج والناس يخوضون في شأنهم، يقف بعضهم في صفّ أبي بكر، ويقف آخرون في صف عمر. فشاورهم فيما يصنع، وضرب لهم في أبي بكر وفي عمر مثلا. فأمّا أبو بكر في الملائكة كمثل ميكال ينزل برضا الله وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدّمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
__________
(1) يفئوه: يكسر غضبه ويسكنه.
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) «1» وأن قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «2» ، ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) «3» .
ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) «4» وكمثل موسى إذ يقول: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) «5» . ثم قال: وإن بكم عيلة؛ فلا يفوتنّكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق. وتشاور القوم فيما بينهم وكان من بين الأسرى شاعر، هو أبو عزّة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحيّ، رأى خلاف القوم واستعجل النّجاة فقال: لي خمس بنات ليس لهنّ شيء فتصدّق بي عليهنّ يا محمد، وإني لمعطيك موثقا لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبدا. فأمّنه النبيّ وأرسله من غير فداء، وكان هو وحده الأسير الذي ظفر بهذا الأمان. على أنه ما لبث أن نكث عهده، وأن عاد فقاتل بعد عام في أحد.
فأسر وقتل. وظلّ المسلمون في تشاورهم زمنا انتهوا بعده إلى قبول الفداء. وفي قبولهم نزلت هذه الآية الكريمة: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «6» .
,
يقف غير واحد من المستشرقين عند أسرى بدر هؤلاء وعند مقتل النّضر وعقبة ويتساءلون: أليس في ذلك ما يدل على ظمأ هذا الدين الجديد إلى الدم ظمأ لولاه لما قتل الرجلان، ولكان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا الموقعة أن يردّوا الأسرى وأن يكتفوا بالفيء الذي غنموا؟ وذلك تساؤل الذي يريد أن يثير في النفوس عوامل إشفاق لم يكن له يومئذ موضع، ليكون له بعد ألف سنة من هذه الغزوة وما تلاها من غزوات وسيلة للنّيل من الدين ومن صاحب الدين. على أن هذا التساؤل ما يلبث أن ينهار ويتداعي إذا نحن وازنا بين مقتل النضر وعقبة، وما يجري اليوم وما سيجري دائما ما دامت الحضارة الغربية، التي تتّشح بوشاح المسيحية، متحكمة في الأرض. فهل تراه يوازي شيئا إلى جنب ما يقع باسم قمع الثورات في بلاد يحكمها الاستعمار على كره من أهلها! وهل تراه يوازي شيئا إلى جانب ما وقع من مجازر الحرب الكبرى؟! ثم هل هو يوازي شيئا مما حدث أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، وأثناء الثورات المختلفة التي وقعت وتقع في أمم أوربا المختلفة؟!
,
وليس ريب في أن الأمر بين محمد وأصحابه كان ثورة قوية من محمد بعثه الله ليقوم بها في وجه الوثنية والمشركين من عبّادها. ثورة قامت أول أمرها بمكة، واحتمل محمد وأصحابه من أجلها ألوان العذاب ثلاثة عشر عاما سويّا. ثم انتقل المسلمون إلى المدينة وحشدوا جموعهم وقواتهم بها، وما تزال مبادئ الثورة قائمة على أشدّها في نفوسهم وفي نفوس قريش جميعا. وانتقال المسلمين إلى المدينة، وموادعتهم اليهود من أهلها؛ وما قاموا به من مناوشات سبقت بدرة؛ وغزوة بدر هذه- ذلك كله كان سياسة الثورة ولم يكن مبادئها. كان السياسة التي قرر القائم بهذه الثورة وأصحابه أن يتّبعوا لإقرار أسمى المبادئ- التي جاء الرسول بها. وسياسة الثورة شيء ومبادئها شيء آخر. والخطّة التي تتّبع قد تختلف تمام الاختلاف عن الغاية المقصودة من هذه
__________
(1) سورة الأنبياء آية 67.
(2) سورة إبراهيم آية 36.
(3) سورة المائدة آية 118.
(4) سورة نوح آية 126.
(5) سورة يونس آية 88.
(6) سورة الأنفال آية 67.
الخطة. أما وقد جعل الإسلام الأخوّة أساس الحضارة الإسلامية، فيجب أن يسلك للنجاح سبله وإن اقتضى ذلك من العنف والشدّة ما لا مفرّ منه.
,
وهذا الذي صنع المسلمون بأسرى بدر آية في الرحمة وفي الحسنى إلى جانب ما يقع في الثورات التي يتغنّى أهلها بمعاني العدل والرحمة. وهو لا شيء إلى جانب المجازر الكثيرة التي قامت باسم المسيحية من مثل مجزرة سان بارتلمي، هذه المجزرة التي تعتبر سبّة في تاريخ المسيحيّة لا شيء من مثلها قطّ في تاريخ الإسلام. هذه المجزرة التي دبّرت بليل، وقام فيها الكاثوليك يذبحون البروتستنتيين في باريس وفي فرنسا غدرا وغيلة في أحط صور الغدر وأبشع صور الغيلة. فإذا قتل المسلمون اثنين من أسرى بدر الخمسين لأنهم كانوا قساة على المسلمين، مدى الأعوام الثلاثة عشر التي احتمل المسلمون فيها صنوف الأذى بمكة، فقد كان في ذلك من مزيد الرحمة ومن اعتبار الفائدة العاجلة ما نزلت معه الآية: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «1» .
,
بينما كان المسلمون في فرحهم بنصر الله وما أفاء عليهم من المغانم كان الحيسمان بن عبد الله الخزاعيّ يحثّ الطريق إلى مكة، حتى كان أول من دخلها وأخبر أهلها بهزيمة قريش ومصابها في كبرائها وأشرافها وسادتها. وقد ذهلت مكة أول الأمر فلم تصدّق الخبر. وكيف لا تذهل وهي تسمع أخبار هزيمتها ومقتل السادة الأشراف منها! لكن الحيسمان لم يكن يهذي وكان يؤكد ما يقول وهو أشد من قريش جزعا لما أصابهم.
فلما استوثقوا من روايته خرّوا صعقين، حتى لقد حم أبو لهب ومات بعد سبعة أيام. وتشاورت قريش ما تصنع فأجمعت على ألا تنوح على قتلاها مخافة أن يبلغ محمد وأصحابه فيشمتوا بهم، وألّا تبعث في أسراها حتى لا يأرب «2» عليها محمد وأصحابه ويغلوا في الفداء. وانقضى زمن وقريش صابرة على محنتها، حتى سنحت فرصة افتدائها أسراها. إذ ذاك قدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو. وكأنما عز على عمر بن الخطاب أن يفتدى وينجو من غير أن يصيبه مكروه، فقال: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فكان جواب النبي هذا الجواب البالغ غاية السمو: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيّا.
,
وبعثت زينب ابنة النبي تفتدي زوجها أبا العاص بن الربيع، وكان فيما بعثت قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها. فلما رآها النبي رق لها رقة شديدة، فقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا. ثم إنه اتفق فيما بينه وبين أبي العاص على أن يفارق زينب وقد فرّق الإسلام بينه وبينها. وبعث محمد زيد بن حارثة وصاحبا معه فجاء بها إلى المدينة. على أن أبا العاص ما لبث بعد مدة إساره أن خرج إلى الشام في مال قريش؛ حتى إذا كان على مقربة من المدينة لقيته سرية لمحمد فأصابوا ما معه.
فانحدر تحت الليل إلى أن دخل على زينب واستجارها فأجارته، ورد المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمنا إلى مكة فلما رده لأصحابه من قريش قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا:
__________
(1) سورة الأنفال آية 67.
(2) لا يأرب عليها: لا يتشدد عليها.
لا! جزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيّا كريما. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا مخافة أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. وعاد إلى المدينة ورد عليه النبي زينب. واستمرت قريش تفتدي أسراها. وكان الفداء يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل إلى ألف، إلا من لا شيء عنده فقد منّ عليه محمد بحريته.
,
لم يهوّن ذلك على قريش مصابها، ولا هو دعاها إلى أن تهادن محمدا أو أن تنسى هزيمتها؛ بل ناحت نساء قريش من بعد ذلك على قتلاها شهرا كاملا، فجززن شعر رؤسهن، وكان يؤتى براحلة الرجل أو بفرسه فينحن حولها؛ ولم يخالف في هذا إلا هند بنت عتبة زوج أبي سفيان. ولقد مشى نساء منهن يوما إليها فقلن:
ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟! فقالت: أنا أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ويشمت بنا نساء الخزرج، لا والله حتى أثأر من محمد وأصحابه! والدّهن عليّ حرام حتى نغزو محمدا! والله لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي لبكيت، ولكن لا يذهب إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة. ومكثت لا تقرب الدهن ولا تقرب فراش أبي سفيان وتحرض الناس حتى كانت وقعة أحد. أما أبو سفيان فنذر بعد بدر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا.
الفصل الرّابع عشر بين بدر وأحد
المسلمون واليهود- غزوة بني قينقاع- جلاء اليهود عن المدينة- قريش تتحرك- غزوة السويق- القبائل تتحرك.
فتفر- هزيمة صفوان بن أمية.
,
تركت بدر بمكة من عميق الأثر ما رأيت. تركت الحرص على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ فرصة الثأر. لكن أثرها بالمدينة كان أوضح وأكثر اتصالا بحياة محمد والمسلمين معه. فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوّة المسلمين؛ ورأوا هذا الرجل الأجنبيّ الذي وفد عليهم منذ أقلّ من عامين فارّا مهاجرا من مكة، يزداد سلطانا وبأسا، ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعا لا في أصحابه وحدهم. وكان اليهود، على ما رأيت، قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشاتهم المسلمين، حتى لكأن ما بين الفريقين من عهد الموادعة هو الذي حال في أكثر من حادث دون الانفجار. لذلك ما كاد المسلمون يعودون من بدر معتزين بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة الآخرى تتغامز وتأتمر، وحتى بدأت تغري بهم وترسل الأشعار في التحريض عليهم. بذلك انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة، وانتقل من الدين إلى السياسة. فلم تبق دعوة محمد إلى الله هي وحدها التي تحارب، بل كان كذلك سلطانه ونفوذ أمره موضع الرهبة والخوف، وكان لذلك سبب الائتمار به والتفكير في اغتياله، ولم يكن محمد لتخفي عليه من ذلك كله خافية؛ بل كان يقع على أخباره جميعا ويتصل بعلمه كل ما يدبّر ضدّه، وجعلت النفوس من جانبي المسلمين واليهود تمتلئ بالغلّ والضغينة شيئا فشيئا، رويدا رويدا، وجعل كل فريق يتربص بصاحبه الدوائر.
,
وتحرّك جيش المسلمين من المدينة قاصدا مكة ليفتحها، وليضع يده على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا. تحرّك هذا الجيش في عدد لا عهد للمدينة به؛ فقد بعثت القبائل، من سليم ومزينة وغطفان وغيرها من انضم إلى المهاجرين والأنصار وسار معهم في يلب «2» الحديد يسيلون في فسيح الصحراء، حتى كانوا إذا ضربوا خيامهم اكتست بها رمال البيداء فما يكاد يبدو منها للناظر شيء. تحركوا وأغذّ هؤلاء الألوف سيرهم، وصاروا كلما نقدموا فيه انضم إليهم من سائر القبائل من زاد عددهم وزاد منعتهم، وكلهم ممتلئ النفس بالإيمان أن لا غالب لهم من دون الله. وسار محمد على رأسهم وأكبر همه وكل تفكيره أن يدخل البيت الحرام من غير أن يهرق قطرة دم واحدة. وبلغ الجيش مرّ الظّهران «3» وقد كملت عدّته عشرة آلاف لم يصل إلى قريش من أمرهم خبر، فهي في جدل مستمر ماذا تصنع لاتقاء عدوة محمد عليها.