وهو بضم الميم وفتح الراء: ماء لبني خزاعة، بينه وبين الفرع مسيرة يوم.
قال في «القاموس» : (خزاعة حيّ من الأزد) اهـ، سمّوا بذلك لأنّهم تخزّعوا؛ أي: تخلّفوا عن قومهم وأقاموا بمكة.
ويقال لها أيضا: غزوة بني المصطلق- بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء، وكسر اللام- وهو لقب لجذيمة بن سعد بن عمرو الخزاعي، لقب به لحسن صوته،
ثمّ المريسيع أو المصطلق ... كلاهما على الغزاة يطلق
وهو أول من غنّى من خزاعة نقله الزرقاني عن القسطلاني، وقال أيضا: (روى الطبرانيّ من حديث سفيان بن وبرة قال:
كنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع: غزوة بني المصطلق) وأشار الناظم إلى ترادفهما بقوله: (ثمّ المريسيع أو المصطلق) فأو للتخيير في التسمية (كلاهما) أي: الاسمين (على الغزاة) بفتح الغين المعجمة؛ أي:
الغزوة (يطلق) وتسمّى به.
,
وظاهر النظم كما يفيده الترتيب بثم: أنّ هذه الغزوة كانت سنة ست؛ فإنّه جعلها بعد الغابة، والغابة كانت في السنة السادسة كما تقدم، وهو قول ابن إسحاق، وأنّها في شعبان، وإليه ذهب المقريزي في «الإمتاع» .
ولكن عند ابن سعد: أنّها كانت في شعبان سنة خمس، وهو الذي قال فيه أصحاب السّير: إنّه أشبه بالصواب؛ لأنّ فيها جرى حديث الإفك، قال في «الإمتاع» : (ولا يشك أحد من علماء الآثار أنّ حديث الإفك في غزوة بني المصطلق هذه) اهـ، وسيأتي هنا، وقد ثبت فيه: أنّ سعد بن معاذ تنازع مع سعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت سنة ست مع كون الإفك كان فيها.. لكان ما وقع من الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا؛ لأنّه مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح.
,
(ووهب) صلى الله عليه وسلم (السبي لها) أي:
لجويرية، لما طلبته منه ليلة دخوله بها (لتدريه «1» ) أي:
لتعلم جويرية بإجابة طلبها مكانتها عنده صلى الله عليه وسلم.
قال الزرقاني: (ولا يشكل بما رواه ابن إسحاق وغيره من حديث عائشة، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أنّه صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجها مئة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها؛ لأنّ طلبها إيّاهم منه، وكونه وهبهم لها.. لا يمنع كون المسلمين حين سمعوا أنّه تزوجها أطلقوا الأسرى، فكان ذلك زيادة إكرام من الله لنبيه؛ حتى
__________
- إليه.. قالت: ما رأيت طائلا؟ قال: «بلى، لقد رأيت خالا في خدها اقشعرّت منه كل شعرة في جسدك» اهـ
(1) والهاء في (تدريه) هاء السكت، وإنّما قلت ذلك مخالفا لصاحب «روض النهاة» في أنّ الصيغة خطاب لمذكر؛ حرصا على عدم حمل كلام الناظم على الحشو؛ فإنّه يقل في نظمه كما ترى، والله أعلم.
لا يسأل أحدا منهم في ذلك بشيء، أو مجانا؛ أي: بلا بدل) اهـ
وأشار سيدي غالي في «نظم الأمهات» إلى قصة جويرية هذه، وإلى اجتماعها في النسب مع سيد البشر صلى الله عليه وسلم ما اتصلت عين بنظر، وإلى أنّ والدها الحارث صحابي بقوله:
ومن بني مصطلق جويريه ... أبرك عرس أمّنا الخزاعيه
نال بها عشيرها إذ أسروا ... ما لم ينله بالنساء معشر
إذ أعتقوا وهم زهاء مئة ... بيت من استرقاق أهل الملّة
وهي بنت حارث نجل أبي ... ضرار القائد صاحب النبي
يجمعها مع النّبيّ الهادي ... جدهما إلياس ذو الأيادي
وتوفيت أمنا جويرية رضي الله عنها سنة خمسين من الهجرة، وقيل: سنة ست وخمسين، كما حكاه في «الإصابة» عن الواقديّ، قال: (وصلّى عليها مروان) .
وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة ثمانية وعشرين يوما، وقدم المدينة لهلال رمضان.
وأسلموا بعد وفي من فسّقا ... أرسله الهادي لهم مصدّقا
,
(وأسلموا) أي: بنو المصطلق (بعد) أي: بعد أن أسروا، وأعتقوا؛ لمصاهرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأسلم الحارث بن أبي ضرار، وسبب إسلامه: ما ذكره الحافظ عن ابن إسحاق في «المغازي» : (أنّ الحارث جاء إلى المدينة ومعه فداء ابنته بعد أن أسرت، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان بالعقيق.. نظر إلى الإبل، فرغب في بعيرين منها، فغيّبهما في شعب من شعابه، ثمّ جاء فقال: يا محمّد؛ هذا فداء ابنتي، فقال: «فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟» فقال الحارث:
أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما اطلع على ذلك إلّا الله، قال: فأسلم، وأسلم معه ابنان له وناس من قومه رضي الله عنهم، فدفع الإبل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت وحسن إسلامها) .
,
(وفي من فسّقا) بالبناء للمفعول، وألفه للإطلاق، وهو بتضعيف العين؛ أي: فسقه الله تعالى، و (من) الموصولة واقعة على الوليد بن عقبة بن أبي معيط، والجار والمجرور يتعلق بقوله بعد: (أنزل) .
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ أنزل وهم ... خزاعة مصطلق جدّ لهم
(أرسله الهادي) صلى الله عليه وسلم، حال من نائب فاعل فسّق (لهم) أي: لبني المصطلق (مصدقا) بكسر الدال المشددة؛ أي: آخذا الصدقة.
وقوله: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) مبتدأ على إرادة اللفظ أو الآية، خبره جملة (أنزل) ، نظيره: «لا حول ولا قوة إلّا بالله كنز من كنوز الجنة» يعني: أنّ في الوليد المذكور الذي فسّقه الله تعالى في الآية حال كونه مرسلا من قبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق ليأخذ الصدقة.. أنزلت وهي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
قال اليعمري في «العيون» : (ثمّ بعد ذلك بأزيد من عامين، بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدّقا، فخرجوا للقائه، فتوهّم أنّهم خرجوا لمقاتلته، ففرّ راجعا، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظنّه، فهمّ عليه الصّلاة والسّلام بقتالهم، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية والتي بعدها) .
وقال ابن إسحاق: (حدّثني يزيد بن رومان: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلمّا سمعوا به.. ركبوا إليه، فلمّا سمع بهم.. هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم، حتى همّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم.
فبيناهم على ذلك.. قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله؛ سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنّه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنّا خرجنا إليه لنقتله، ووالله؛ ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
قال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (ولا خلاف بين أهل العلم بالتأويل للقرآن فيما علمت أنّ قول الله عزّ وجلّ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ نزلت في الوليد بن عقبة وذكر البعث ... ) إلخ.
(وهم) تفسير للضمير المجرور في قوله: (أرسله الهادي لهم) (خزاعة) يعني: أنّ بني المصطلق من خزاعة؛ فإنّ بني المصطلق هم بنو جذيمة، و (مصطلق جدّ لهم) .
قال في «المواهب» : (والمصطلق: لقب، واسمه:
جذيمة بن سعد بن عمر، بطن من بني خزاعة) .
وأفزعت ريح خيار النّات ... فقال لا باس بموت عات
فوجدوا كهف المنافقينا ... رفاعة يومئذ دفينا
,
ثمّ أشار الناظم إلى حادثة وقعت في اليوم الثّاني من يوم الواردة الآتي ذكرها فقال:
(وأفزعت) أي: خوّفت (ريح) شديدة، ومفعول (أفزعت) قوله: (خيار النّات) لغة في الناس، وخيارهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخافوها، فإنّما هبّت لموت عظيم من عظماء الكفار» وهو معنى قوله: (لا باس) أي: عليكم (بموت عات) بالإضافة: متجاوز للحد متكبر.
(ف) لمّا قدموا المدينة.. (وجدوا كهف المنافقينا) أي: ملجأهم، وأبدل من الكهف قوله: (رفاعة) وهو ابن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود، وكهفا للمنافقين (يومئذ دفينا) أي: وجدوه يوم قدومهم المدينة مدفونا، ولو أخّر هذه الحادثة عن حادثة الواردة.. لكان أولى، كما صنعه صاحب الأصل الحافظ اليعمري في «سيرته» وكذا غيره.
,
قال في «روض النّهاة» : (ومن كان معه- أي: رفاعة- على النفاق من أحبار يهود من بني قينقاع؛ سعد بن حنيف،
وهو النّفاق في الشّيوخ لا الشّباب ... والخير كلّ الخير في عصر الشّباب
ونعمان بن أوفى بن عمرو، وأخوه عثمان، وزيد بن اللصيت، ولم ينافق شباب من اليهود ومن الأنصار إلّا قيس بن عمر بن سهيل بن النجار) وذلك قوله رحمه الله تعالى:
(وهو) أي: الشأن، أو ضمير مبتدأ يفسره ما بعده؛ أي:
(النفاق) خبره قوله: (في الشيوخ) جمع شيخ، وهو: من طعن في السن (لا) في (الشباب) جمع شاب (والخير كل الخير) أي: جميعه (في عصر) أي: في مدة (الشباب) يعني: في مدة حداثة السن، فلا إيطاء، وإنّما كان الخير كله في عصر شباب الإنسان وفتوته؛ لأنّه الوقت الذي إذا قابل الخير فيه وهو على استعداد القابلية دخل قلبه، فتمكن فيه، كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا
فمن أجل ذلك أتى الناظم بالقضية المسوّرة ب (كل) واعتبر ما قاله في هذه الغزوة من عمل ابن أبيّ، وهو ممّن بلغ سن الشيخوخة وقد باء بالنفاق، ونزل إلى الدركات، ومن عمل ابنه الشاب المؤمن المخلص وقد تبوأ بحبوحة الإيمان، وجلس على عرشه، حتى كان حربا على من تألب على بيضة الإسلام يريد أن يصدعها ولو كان والده، كما سيأتي خبره معه.
وكذلك زيد بن أرقم، وهو رضي الله عنه من قوم ذلك
ووردت واردة العرمرم ... فافتتن الوارد في المزدحم
المنافق، لكن يباينه في الإخلاص والأدب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكثير من الشباب من أولئك الصحب الكرام على هذا الخير، بل كلهم من هذا الطراز المبارك.
وإنّما قلت: على استعداد القابلية؛ لأنّه إذا كان على فساد في الاستعداد، فلا شيء فيه من الخير، كما هو مشاهد في أفراد من الشباب، ذهبوا بشبابهم النضير مذهب اللهو والغرور والهوى، ولا وازع ولا زاجر، ولا يسعنا إلّا أن نتوجه إلى الله تعالى بأن يهديهم، ويدخلهم في حظيرة المتمسّكين بالهدي النبوي؛ حتى يكونوا عدة قويمة قوية على الملحدين أعداء الدين؛ فإنّ ذلك على الله يسير.
,
(و) لمّا خرج عليه الصّلاة والسّلام لبني المصطلق، ولقيهم على ماء المريسيع، وأسفرت الغزاة عن نصر المسلمين.. (وردت واردة العرمرم) بفتح العين المهملة والراءين، بينهما ميم ساكنة؛ أي: الجيش، والواردة:
القوم يردون الماء (ف) بينا هم على ذلك (افتتن) واقتتل (الوارد) أي: الواردون (في المزدحم) أي: موضع الزحام على الماء، وذلك أنّ أجيرا لعمر بن الخطاب من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود جاء يقود فرسه، فازدحم مع سنان بن وبرة الجهنيّ فاقتتلا.
فاستصرخ الأنصار فارط لهم ... لطمه من ناله معروفهم
واستصرخ المهاجرين اللّذ كسر ... عصا النّبي جهجاه عامل عمر
(فاستصرخ) واستغاث (الأنصار) مفعول لاستصرخ، مقدم على فاعله الذي هو (فارط) أي: مقدّم (لهم) أي:
للأنصار، وهو الجهني، فقال: يا معشر الأنصار، وذلك أنّه (لطمه) أي: ضربه بكفه مبسوطة (من) أي: الذي (ناله) وأصابه (معروفهم) هو ضد المنكر، وضميره للأنصار، وهذه الجملة من كلام عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين كقوله وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم: (أوقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله؛ ما أعدّنا وجلابيب «1» قريش هذه إلّا كما قال الأول: سمّن كلبك.. يأكلك) .
(واستصرخ المهاجرين اللّذ) أي: الذي (كسر عصا النّبيّ) صلى الله عليه وسلم بركبته، وكانت في يد سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه يخطب بها؛ إذ كان أحد المعينين على قتله، وأبدل من الموصول قوله: (جهجاه) بن مسعود بن سعد بن حرام (عامل عمر) وأجيره فقال مستغيثا:
يا للمهاجرين، فلمّا سمعها النّبيّ صلى الله عليه وسلم..
قال: «دعوها؛ فإنّها منتنة» قال السهيلي في «الروض» :
(يعني: أنّها كلمة خبيثة؛ لأنّها من دعوى الجاهلية، وجعل الله المؤمنين إخوة وحزبا واحدا؛ فإنّما ينبغي أن تكون الدعوى: يا للمسلمين.
__________
(1) الجلابيب: الغرباء.
وقال فيها ابن أبيّ منكرا ... وعاه زيد موقنا وما امترى
فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية.. فيتوجه للفقهاء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يجلد من استجاب لها بالسلاح خمسين سوطا، اقتداء بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في جلده النابغة الجعدي خمسين سوطا حين سمع: يا لعامر، فأقبل يشتد بعصبة له.
والقول الثّاني: أنّ فيها الجلد دون العشرة؛ لنهيه عليه الصّلاة والسّلام أن يجلد أحد فوق العشرة إلّا في حد.
والقول الثّالث: اجتهاد الإمام في ذلك على حسب ما يراه من الذريعة وإغلاق باب الشر: إمّا بالوعيد، وإمّا بالسّجن، وإمّا بالجلد.
فإن قيل: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعاقب الرجلين حين دعوا بها.. قلنا: قد قال: «دعوها؛ فإنّها منتنة» فقد أكّد النهي، فمن عاد إليها بعد هذا النهي، وبعد وصف النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها بالإنتان.. وجب أن يؤدب حتى يشم نتنها كما فعل أبو موسى بالجعدي، فلا معنى لنتنها إلّا سوء العاقبة فيها والعقوبة عليها) .
,
(وقال فيها) أي: في الواردة عبد الله (بن أبي) رئيس المنافقين قولا (منكرا) وهو قوله- وقد غضب من مقالة
وحلف الفاجر ما قال المقال ... وصدّقته للمكانة رجال
المهاجريّ-: (أوقد فعلوها؟ قد نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلّا كما قال الأول:
سمّن كلبك.. يأكلك، أما والله؛ لئن رجعنا إلى المدينة..
ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: (هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله؛ لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم..، لتحولوا إلى غير داركم) .
إعلام زيد بن أرقم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمقال رأس المنافقين:
فعند ذلك (وعاه) أي: حفظه (زيد) هو ابن أرقم الخزرجي، حال كونه (موقنا وما امترى) أي: وما شك، تأكيد في المعنى لما قبله، فمشى زيد بذلك المقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من عدوّه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطّاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذّن بالرحيل» وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
,
(و) قد مشى عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أنّ زيدا قد بلّغه ما سمع منه، ف (حلف الفاجر) بالله العظيم (ما قال المقال) ولا تكلّم به
(وصدّقته للمكانة) والمنزلة- فإنّه كان في قومه شريفا- (رجال) من الأنصار، فقالوا: يا رسول الله؛ عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.
قال ابن إسحاق: (فلمّا استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار.. لقيه أسيد بن الحضير، فحياه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبيّ الله؛ والله؛ لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبيّ» قال:
وما قال؟ قال: «زعم أنّه إن رجع إلى المدينة.. أخرج الأعزّ منها الأذلّ» قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثمّ قال:
يا رسول الله، ارفق به، فو الله؛ لقد جاءنا الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه؛ فإنّه ليرى أنّك استلبته ملكا.
ثمّ مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض، فوقعوا نياما، وإنّما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ، أخزاه الله وأذلّه) .
فأنزل الله لئن رجعنا ... إلى المدينة ليخرجنّا
وعرك النّبيّ أذن الواعي ... زيد بن أرقم ذي الاستماع
أن شهد الله على المنافقين ... بالكذب المحض وأولاه اليقين
,
(فأنزل الله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّا) بألف الإطلاق للوزن، يعني: فأنزل الله تعالى (سورة المنافقين) فيها تصديق لزيد بن أرقم: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: «هذا الذي أوفى الله بأذنه» وأشار له الناظم بقوله: (وعرك) :
دلك (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (أذن الواعي) أي:
الحافظ، وأبدل منه قوله: (زيد بن أرقم ذي) أي: صاحب (الاستماع) للخبر المذكور من رئيس المنافقين (أن) أي:
لأجل (أن شهد الله) تعالى (على المنافقين بالكذب المحض) أي: الخالص في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (وأولاه) أي: وأعطى الله تعالى زيد بن أرقم (اليقين) والتحقيق في نقل خبر ابن أبيّ.
قال البرهان الحلبي في «إنسان العيون» : (عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذه البرحاء، ويعرق جبينه الشريف، وتثقل به راحلته، فقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورجوت أن ينزل الله تصديقي، فلمّا سرّي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.. أخذ بأذني وأنا على راحلتي يرفعها إلى السماء، حتى ارتفعت عن مقعدي وهو يقول: «وعت أذنك يا غلام، وصدّق الله حديثك، وكذّب المنافقين» وفي رواية: «هذا الذي أوفى الله بأذنه» ونزل: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
فكان يقال لزيد بن أرقم رضي الله عنه: (ذو الأذن الواعية) .
وسيدنا زيد المذكور أنصاري، خزرجي، قيل: أول مشاهده هذه الغزوة، وشهد ما بعدها، وشهد صفينا كسجّين- مع سيدنا علي رضي الله عنه، وتوفي بالكوفة سنة ثمان وستين.
وذكر الإمام النووي في «تهذيبه» : أنّه استصغر يوم أحد، وكان يتيما في حجر ابن رواحة رضي الله عنه، وسار معه في غزوة مؤتة.
,
ولما بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الذي كان من أمر أبيه.. أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدّ فاعلا.. فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، فو الله؛ لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإنّي أخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس.. فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» .
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث.. كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنّفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله؛ لو قتلته يوم قلت لي اقتله.. لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أعظم بركة من أمري.
قال السهيلي: (وفي هذا العلم العظيم، والبرهان المنير من أعلام النبوة؛ فإنّ العرب كانت أشد خلق الله حميّة وتعصبا، فبلغ الإيمان منهم، ونور اليقين من قلوبهم إلى أن يرغب الرجل منهم في قتل أبيه وولده؛ تقربا إلى الله وتزلفا إلى رسوله، مع أنّ رسول الله عليه الصّلاة والسّلام أبعد الناس نسبا منهم، وما تأخّر إسلام قومه وبني عمه وسبق إلى الإيمان به الأباعد.. إلّا لحكمة عظيمة؛ إذ لو بادر أهله وأقربوه إلى الإيمان به.. لقيل: قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له، فلمّا بادر إليه الأباعد، وقاتلوا على حبه من كان منهم أو من غيرهم.. علم أنّ ذلك عن بصيرة صادقة، ويقين قد تغلغل في قلوبهم، ورهبة من الله أزالت صفة قد كانت سدكت في نفوسهم من أخلاق الجاهلية، لا يستطيع إزالتها إلّا الذي فطر الفطرة الأولى، وهو القادر على ما يشاء) .
وأمّا عبد الله بن عبد الله: فكان من كتّاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه حباب، وبه كان يكنى أبوه، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، رضي الله عنه.
وروى الدّارقطني مسندا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على جماعة فيهم عبد الله بن أبيّ، فسلّم عليهم، ثمّ ولى، فقال عبد الله: لقد عتا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله، فاستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يأتيه برأس أبيه، فقال: «لا، ولكن برّ أباك» .
وسيدنا عبد الله هذا كان ممّن شهد بدرا وأحدا والمشاهد، ذكره الحافظ في «الإصابة» وأنّه استشهد باليمامة في قتال أهل الردّة سنة اثنتي عشرة.
وفي قصته هذه ما يدل على عظيم إيمانه، وقوة محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قيل: نزل فيه وفي أمثاله من الصحابة الأجلّاء قول الله عزّ وجلّ: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ الآية.
وفيها تمجيد وتعديل من الله تعالى لأولئك الصحب، وثناء من قبله تعالى عليهم، وأنّ محبتهم له ولرسوله بلغت بهم ذلك المدى وتلك التضحية، وأنّه كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأنّه أثبته وأيّدهم، وقواهم بروح منه هو النور،
والإفك في قفولهم ونقلا ... أنّ التّيمّم بها قد أنزلا
والإيمان، والهدى، ووعدهم الوعد الجميل بما لهم في الآخرة من الفضل الجزيل، جمعنا الله بهم في مستقرّ رحمته بكرمه ومنّه، آمين.
,
وفي هذه الغزوة نهى عليه الصّلاة والسّلام عن العزل، وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أصبنا سبيا، فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «وإنّكم لتفعلون؟ - قالها ثلاثا- ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة» .
وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدّت علينا
ثمّ الحديبية ساق البدنا ... معتمرا وما بحرب اعتنى
العزوبة، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟! فسألنا عن ذلك، فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة» .