كانت هذه الغزوة هي الجولة الطبيعية للمسلمين بعد أن أتم الله عليهم النعمة بفتح مكة لأن القبائل المجاورة لقريش كقبيلتي هوازن وثقيف، وما يتفرع عنهما من بطون وأفخاذ وفصائل، قد أزعجهما أن تستسلم قريش -وهي أعظم قبائل العرب- لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وكانت قريش قبل الفتح الإسلامي لمكة هي أقوى خصومه وألد أعدائه، وكان وجودها في هذا المكان المتوسط بينهم وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- هو صمام الأمان بالنسبة لهم، ومن أجل ذلك تجمعت هذه القبائل واتفقت كلمتها على غزو محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يغزوهم وعلى مفاجأتهم بهذا الغزو قبل أن يأخذ جيش المسلمين حظه من الراحة والاستقرار ... وحينما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بذلك كانت نفوسهم مستعدة لتلقي هذه الأنباء حيث كانوا يتوقعون هذا الخطر، ويفكرون في طريقة سريعة لاستئصاله قبل أن يزحف عليهم.
__________
1 وتسمى غزوة هوازن أيضًا، وانظر تفاصيلها في:
"صحيح البخاري" 4068، 4064، 4060، 4066، 2886، 4061، 4075، و"صحيح مسلم" 2498، 1809، 7061، 1751، 1059، 1777، 1754، 1776، 1775، 1602، و"سنن أبي داود" 5694، 2693، 2718، 2658، 2717، 2654، 3194، 2501، و"سنن النسائي" 6/ 262-264.
و"سنن الترمذي" 1688، 1689، 3897، و"سنن ابن ماجه" 2837، 1493، "وسيرة ابن هشام" 4/ 51، و"طبقات ابن سعد" 2/ 149، و"مغازي الواقدي" 3/ 885، و"سيرة ابن حزم" 236، و"عيون الأثر" 2/ 242، و"البداية والنهاية" 4/ 322، و"المواهب" 1/ 596، و"شرح المواهب" 3/ 5، و"السيرة الحلبية" 3/ 121، و"الشامية" 5/ 45، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 119، و"مجمع الزوائد" 6/ 178، و"منتقى القاري" ص 283، وغير ذلك. وجلُّ ما ذكره المصنف فيها صحيح، وما احتاج لتعليق علقنا عليه.
استعداد هوازن وثقيف 1 للقاء المسلمين:
أرسلت هوازن وثقيف إلى بطونها وفروعها تطلب إليها أن تجتمع بخيلها ورجلها عند وادي قرب الطائف2، وأسندت الرياسة إلى مالك بن عوف، وكان شابًا في الثلاثين من عمره قوي الإرادة ماضي العزيمة، فاجتمع إليه عدد كبير منهم بنو سعد الذين كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسترضعًا فيهم، ومعهم دريد بن الصمة، وكان شيخًا كبيرًا عمي بصره، وصار لا ينتفع إلا برأيه وتجاربه في الحروب، وأمر مالك رجال القبائل أن يسوقوا معهم إلى الحرب المواشي والأموال والنساء والأطفال وجعلهم في مؤخرة الجيش ليثيروا الرجال إلى الاستماتة في الدفاع عن متاعهم وحريمهم، فلما سمع دريد رغاء البعير وبكاء الصغير، وصوت النساء، سأل مالكًا لم ساق هذه مع المحاربين؟ فأجابه بأنه أراد بذلك تشجيع المحاربين، قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك، فلم يقبل مالك رأي الشيخ، وتخطى احتجاجه ورماه بضعف الرأي لكبر سنه، ثم صف جموعه وكانت تبلغ عشرين ألفًا في كمين عند مضيق الوادي، وانتظر قدوم الجيش الإسلامي.
__________
1 هوازن وثقيف قبائل من العرب تسكن الجهات الواقعة في الجنوب الشرقي من مكة، وأهم مدنهم الطائف، حيث تسكن قبيلة ثقيف، وهي من أخصب بلاد العرب.
2 والطائف مدينة معروفة تبعد عن مكة حوالي مائة وعشرين كيلو مترًا.
,
وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب، وكان جهوري الصوت1،
__________
1 أي عالية، ومما قيل فيه: أنه كان إذا صرح أول المدينة أسمع آخرها.
ينادي في الناس، فنادى: يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، هلموا. هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وأخذ يكرر النداء الذي هز أوتار قلوبهم، فرجعوا يتصايحون من كل جهة لبيك لبيك حتى انتظم عقدهم.
وكانت هوازن قد انحدرت من مكانها وأصبحت وجهًا لوجهٍ أمام المسلمين، وهجم الأنصار واشتد القتال. فنظر إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم يطيحون برءوس الأعداء قائلًا: "إن الله لا يخلف رسوله وعده"، فلما رأت هوازن أنهم معرضون للفناء، وأن كل أمل في النصر قد غض، ولّوا الأدبار منهزمين، فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وغنموا مؤخرة جيشهم كلها، وكانت غنائم المسلمين 25000 من الإبل، و 40000 من الشياه، 4000 أوقية من الفضة، و 6000 من الأسرى، وقد نقلت كلها في حراسة قوية إلى وادي الجعرانة1.
__________
1 الجعرانة تبعد عن مكة حوالي أربعين كيلو مترًا. وقد جاء في عددها غير هذا.
حصار الطائف: 1
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون قد تابعوا مطاردة العدو حتى ألجئوهم إلى صياصي الجبال، وإلى الطائف، وحاصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطائف، ولكنها استعصت عليه لسورها الحصين، فآثر تركها2؛ لأنه ليس من مصلحة المسلمين بذل ضحايا كثيرة 3، وعاد إلى الجعرانة حيث الغنائم والأسرى. ثم لم يلبث أهل
__________
1 والطائف شرقي مكة، كثيرة الأعناب والفواكه.
2 وقد جاءت روايات في مدة ,
أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجانب الكبير من الأموال لحديثي الإسلام من قريش الأعراب الذين كانوا إلى أيام قريبة أشد الناس عداوة له.
فكان ما أخذه فعل معاوية، ويزيد ابني أبي سفيان، فقال له أبو سفيان: بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب. وأعطى حكيم بن حزام مثل ما أعطى أبا سفيان، فاستزاده فأعطاه، ثم استزاده فأعطاه مثلها، وقال له: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى" 1.
فاهتزت نفس حكيم لما سمع من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونفض يده من كل ما أخذه بعد العطاء الأول، فأخذ المائة الأولى وترك ما عداها، وأقسم ألا يأخذ عطاء من أحد بعد هذا العطاء، وبر بيمينه، فكان الخلفاء يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه من بيت المال فلا يأخذه.
بل لقد بلغ العطاء لبعض الذين أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يؤلف قلوبهم للإسلام مبلغًا لا يخطر بالبال، ولا يجول في الخيال ... وذلك هو صفوان بن أُمية فلقد رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرمق شعبًا مملوءًا نعمًا وشاءً فقال له: "هل يعجبك هذا؟ " قال:
__________
1 حديث صحيح، وانظر ما مضى من المراجع.
نعم، قال: "هو لك". فقال صفوان: ما طابت بمثل هذا نفس أحد. وكان ذلك سبب إسلامه.
ثم أمر -عليه الصلاة والسلام- زيد بن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم وقسمه على الغزاة، فاجتمعوا عليه وتسابقوا في الحصول على تلك الأموال حتى ألجئوه إلى شجرة فتعلق بها رداؤه فقال: "ردوا ردائي أيها الناس. فوالله إن كان لي مثل شجرة تهامة نعمًا لقسمته عليكم. ثم ما ألفيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كدودًا. ثم قام إلى بعيره وأخذ وبرة من سنامه وقال: والله ما لي من غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس. والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط1. فإن الغلول2 يكون على أهله عارًا وشنارًا3 ونارًا إلى يوم القيامة".
وقد أثمرت هذه النصيحة الغالية ثمرتها المرجوة، ففاء كل من لعب الشيطان برأسه إلى نفسه. ورد ما أخذه بغير حق مهما كان زهيدًا.. ثم شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقسمها، فأصاب الرجل أربعة من الإبل وأربعون شاة.
__________
1 يريد كل شيء مهما كان صغيرًا.
2 الاختلاس من الغنيمة.
3 أي عيبًا.
,
وعلى أثر تقسيم الغنائم، والفوارق الفادحة التي بدت في تمييز البعض عن البعض، وعدم إعطاء الأنصار من هذه الغنائم شيئًا، ساد بين الأنصار لغط شديد وذهبت الظنون بنفوسهم كل مذهب، وكاد الأمر يؤدي إلى كارثة محققة، لولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تدارك الشر قبل استفحاله، فجمع الأنصار وبين لهم وجهة نظره في هذا التقسيم الذي يعترضون عليه فقال:
"يا معشر الأنصار، ما قالة1 بلغتني عنكم، موجدة2 وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلالًا فهداكم الله؟ وعالة3 فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ " قالوا: بلى، لله ورسوله أمنُّ وأفضل. ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ ". قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تآلفت بها قومًا ليسلموا.. ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ... " فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم4 وقالوا رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.
__________
1 أي مقالة.
2 أي حزن وأسف.
3 أي فقراء.
4 أي ابتلت لحاهم بدموعهم.