أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهرًا واحدًا بالمدينة بعد عودته من الحديبية2 ثم تحرك بأصحابه الذين بلغ عددهم ألفًا وأربعمائة3، وهم الذين حضروا صلح الحديبية، ليحول بين قبائل غطفان وبين ما صمموا عليه من الانضمام إلى يهود خيبر ... وقد استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يلقي الرعب في قلوب غطفان حيث أوهمهم أن القتال موجه ضدهم، فلما تفرقوا عن يهود خيبر ورجعوا إلى ديارهم انتهز الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفرصة واتجه إلى اليهود في آخر معقل من معاقلهم ليتخلص من خطرهم الذي يلاحقه بين الحين والحين.
وحينما وصل جيش المسلمين إلى خيبر رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء، فقال -عليه السلام: "أرفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمًّا ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم". وقد وصلوها ليلًا وبيتوا أمام حصونها. فلما
__________
1 خيبر باللغة العبرية اليهودية: الحصن أو القلعة، وخيبر واحدة كبيرة على بعد ستة وتسعين ميلًا من المدينة في الشمال الشرقي، وهي ذات حصون ومزارع ونخيل.
وانظر تفاصيل هذه الغزوة في:
"صحيح البخاري" 3960، و"مسلم" 1802، و"سنن أبي داود" 1702، و"النسائي" 6/ 30، و"ابن ماجه" 3195، و"طبقات ابن سعد" 2/ 106، و"سيرة ابن هشام" 2/ 283، و"مغازي الواقدي" 2/ 633، و"تاريخ الطبري" 3/ 5، و"أنساب الأشراف" 1/ 169، و"سيرة ابن حزم" 211، و"عيون الأثر" 2/ 168، و"البداية" 4/ 181، و"شرح المواهب" 2/ 217، و"المواهب" 1/ 517، و"السيرة الشامية" 5/ 180 و"الحلبية" 2/ 726، "دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 194، و"مجمع الزوائد" 6/ 147، "منتقى القاري" ص 278، وغير ذلك.
2 وقيل أكثر، كما في "المواهب" 1/ 517، وما قدمت من المصادر.
3 ونيفًا، كما رجح الحافظ ابن حجر، وأن من ذكر أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة فقد جبر الكسر، ومن قال: ألفًا وأربعمائة ألغاه، وأما قول ابن إسحاق أنهم سبعمائة فاستنباط خاطئ منه.
أصبح الصباح وغدا عمال خيبر خارجين إلى مزارعهم ورأوا جيش المسلمين صاحوا يقولون: محمد والجيش معه، وولوا الأدبار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين" ثم انتظم جيش المسلمين، ووقف أمام الحصون بكامل معداته ينتظر أمر قائده.
أما اليهود فقد أشار عليهم سلام بن مشكم بجمع أموالهم وعيالهم في حصن الكتيبة وحشد المقاتلة في حصن نطاة الحصين، ودخل عليهم يحثهم ويحرضهم على القتال والصبر.
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع النخيل المحيط بحصن النطاة، لأن كثرته تحول دون تحركات القوات العسكرية، فخرج اليهود للقائهم واستماتوا في الدفاع عن حصونهم، لأن في هزيمتهم القضاء الأخير على بني إسرائيل في بلاد العرب، وانتهى اليوم الأول ولم ينل أحد من الطرفين نصرًا نهائيًّا، واستؤنف القتال في الغداة واستمر ثلاثة أيام واليهود يحاربون أمام حصونهم، فزعين من الحرب في الميدان، فإذا انهزموا عادوا إليها وأغلقوها دونهم، وفي اليوم السادس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأعطين الراية غدًا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" وأخذ كل من الصحابة يتمنى أن تكون الراية من نصيبه، وفي الغد بعث إلى علي بن أبي طالب وسلمه الراية.
وتقدم علي -رضي الله عنه- فلما قرب من حصن الناعم خرج إليه أهله، ودارت رحى معركة هائلة قتل فيها قائد الحصن الحارث بن أبي زينب فتولى بعده أخوه مرحب وهو من أبطال اليهود، وخرج يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أطعين حينًا وحينًا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب1
إن حماي للحمى لا يقرب ... يحجم عن صولتي المجرب2
وقد تقدم له علي بن أبي طالب يريد مبارزته 3، وكاد مرحب أن يقتله ولكن عليًّا في النهاية سدد إليه ضربة فلقت هامته فوقع قتيلًا، ثم هجم المسلمون على الحصن وفتحوه، ثم سقطت حصونهم الواحد بعد الآخر وطلبوا الصلح، واتفقوا أخيرًا على أن يحقن المسلمون دماء المقاتلين من اليهود ويتركوا الذرية وأن تجلوا اليهود من خيبر وأراضيها بذراريهم ولا يأخذ أحدهم أكثر من ثوب واحد.
وهكذا تم الصلح واستولى المسلمون على خيبر 4، وجلا عنها اليهود إلى بلاد الشام.
__________
1 أي تغضب.
2 وقد اختلفت الروايات في سرد هذه الأبيات.
3 وهو يرتجز:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة
أكيلكم بالصاع كيل السندرة
4 وقد استمر الحصار بضعة عشر يومًا، على الصحيح من الروايات ورجح ذلك الحافظ ابن حجر في "الفتح".
,
ظهر نصر الله وتأييده للمسلمين ووضحت شجاعتهم وإيمانهم، فلم يزد قتلاهم عن العشرين، بينما كان القتلى من اليهود يزيدون عن التسعين1.
__________
1 وحدهم صاحب "المواهب" 1/ 524 بخمسة عشر من المسلمين، وثلاثة وتسعين من اليهود.
وقد غنم المسلمون في هذه الغزوة ألف رمح وأربعمائة سيف ومائة درع وخمسمائة فرس، وكميات كبيرة من الحاصلات الزراعية والمتاع والماشية.
وكان مما غنمه المسلمون صحفًا من التوراة. وقد سلمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليهم حينما طلبوها منه فضرب بذلك أعظم الأمثال في الصفح والتسامح.
ومن النتائج المباشرة لهذه الغزوة أن أهل فدك 1 وقع الرعب في قلوبهم فبعثوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفدًا يعرض عليه طاعتهم، وأن يدفعوا له نصف حاصلاتهم من غير قتال، فوافق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ما عرضوه.
وما وقع بعد ذلك في حصار وادي القرى 2، وقد أُجبروا على التسليم والولاء.
وهكذا ساد سلطان النبي -صلى الله عليه وسلم- على جميع اليهود، وانتهى كل ما كان لهم من نفوذ في شبه الجزيرة.
__________
1 بلدة يهودية قريبة من خيبر.
2 موضع قريب من المدينة إلى جهة الشام، وهو آخر حصن لليهود.
كتب الرسول إلى الملوك والرؤساء