ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها ذا الحجة منسلخ سنة ست، وبعض المحرم من سنة سبع.
ثم خرج فى بقية منه إلى خيبر غازيا.
وكان الله وعده إياها وهو بالحديبية بقوله عز من قائل: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الفتح: 20] يعنى بالمعجل صلح الحديبية، والمغانم الموعود بها فتح خيبر.
فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنجزا ميعاد ربه وواثقا بكفايته ونصره، ودفع الراية إلى على بن أبى طالب- وكانت بيضاء- فسلك على عصر فبنى له فيها مسجدا، ثم على الصهباء، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن غطفان لما سمعت منزله من خيبر جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر.
قال أبو معتب بن عمرو: لما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا» «1» . ثم قال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها» ثم قال: «أقدموا بسم الله» «2» . قال: وكان يقولها لكل قرية دخلها.
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (1/ 134) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 446، 2/ 100) ، تفسير القرطبى (8/ 175) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 312، 3/ 215) ، زاد المسير لابن الجوزى (8/ 299) ، الدر المنثور للسيوطى (4/ 224) ، التاريخ الكبير للبخارى (6/ 472) ، المعجم الكبير للطبرانى (8/ 39) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 204) .
وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اصبح لم يسمع أذانا فركب وركبنا معه، فركبت خلف أبى طلحة وإن قدمى لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس معه. فأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت حيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «1» .
قال ابن إسحاق «2» : وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ويفتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتله، ثم القموص حصن أبى الحقيق، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وبنتى عم لها، فاصطفى صفية لنفسه بعد أن سأله إياها دحية بن خليفة الكلبى، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتى عمها، وكان بلال هو الذى جاء بصفية وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أغربوا عنى هذه الشيطانة» «3» ، وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداؤه، فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامراتين على قتلى رجالهما؟!» «4» .
وكانت صفية قد رأت فى المنام وهى عروس بكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق أن قمرا وقع فى حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا! فلطم وجهها لطمة حضر عينها منها. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه فسألها ما هو فأخبرته الخبر.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 104، 159، 2/ 19، 4/ 58، 253) ، صحيح مسلم (1043، 1044) ، سنن النسائى (6/ 132) ، مسند الإمام أحمد (2/ 102، 164، 186، 246، 263) ، السنن الكبرى للبيهقى (2/ 230، 9/ 55، 79، 80، 152) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 215) ، موطأ مالك (469) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 461) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 77، 79) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183، 184، 196) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 203، 227) .
(2) انظر السيرة (3/ 304) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 197) .
(4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 197) .
ولما أعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أو ببعض الطريق وبات بها فى قبة له، بات أبو أيوب الأنصارى متوشحا السيف يحرسه ويطيف بالقبة حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى» «1» .
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع- وكان عنده كنز بنى النضير- فساله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من يهود فقال: إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقى فأبى أن يريه، فأمر به الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده. فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
وفشت السبايا من خيبر فى المسلمين وأكل المسلمون لحوم الحمر من حمرها.
قال ابن عقبة: كانت أرضا وخيمة شديدة الجهد، فجهد المسلمون جهدا شديدا وأصابهم مسغبة شديدة فوجدوا أحمرة إنسية ليهود لم يكونوا أدخلوها الحصن فانتحروها، ثم وجدوا فى أنفسهم من ذلك، فذكروها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن أكلها.
قال أبو سليط فيما ذكر ابن إسحاق: أتانا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية والقدور تفور بها فكأناها على وجوهها.
وذكر- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام- يومئذ- فى الناس فنهاهم عن أمور سماها لهم، قال مكحول: نهاهم- يومئذ- عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلى، وعن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم.
وحدث جابر بن عبد الله ولم يشهد خيبر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم فى لحوم الخيل.
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (37805) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 212) .
وافتتح رويفع بن ثابت قرية من قرى المغرب يقال لها: جربه، فقاك خطيبا فقال: يا أيها الناس، إنى لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا فقال: «لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أ، يصيب امرأة من السبى حتى يستبرئها، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن يالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فىء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فىء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه» » .
وقال عبادة بن الصامت: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال: «ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين، وتبر الفضة بالذهب العين» .
ولما أصاب المسلمين بخيبر ما أصابهم من الجهد أتى بنو سهم من أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله، لقد جهدنا وما بأيدينا من شىء. فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاما وودكا» «2» . فغدا الناس وفتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر كان أكثر طعاما وودكا منه.
ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، وخرج مرحب اليهودى من حصنهم قد جمع سلاحه وهو ينادى: من يبارز، ويرتجز:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب
إن حماى للحمى لا يقرب
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2158، 2159) ، مسند الإمام أحمد (4/ 108، 6/ 385) ، إرواء الغليل للألبانى (1/ 201) ، شرح السنة للبغوى (9/ 321) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (4/ 30) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 192) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 124) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 223) .
فأجابه كعب بن مالك فقال:
قد علمت خيبر أنى كعب ... مفرج الغمى جرىء صلب
حيث تشب الحرب ثم الحرب ... معى حسام كالعقيق عضب
نطؤكم حتى يذل الصعب ... نعطى الجزاء أو يفاء النهب
بكف ماض ليس فيه عتب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذا؟» قال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخى بالأمس. قال: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه» «1» . فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر فجعل أحدهما يلوذ بها من صحابه، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يقول: من يبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام، فيما ذكر هشام بن عروة- فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابنى يا رسول الله، قال: بل ابنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير فالتقيا فقتله الزبير.
وحدث سلمة بن عمرو بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار «2» » فدعا على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وهو أرمد فتفل فى عينيه ثم قال: «خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك» «3» . فخرج وهو يهرول بها هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رايته فى رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال:
من أنت؟ قال: أنا على بن أبى طالب. قال: اليهودى: علوتم وما أنزل على موسى- أو كما قال- فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال أبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجنا مع على- رضى الله عنه- حين بعثه
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 385) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 131) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 150) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 215) ، كنز (30122) .
(2) انظر الحديث فى: السنة لابن أبى عاصم (2/ 608) ، الأسماء والصفات للبيهقى (498) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 210) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وحدث أبو اليسر كعب بن عمرو قال: إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟» «1» فقال أبو اليسر: أنا يا رسول الله، قال: «فافعل» . قال:
فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال: «اللهم أمتعنا به!» «2» قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدى ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معى شىء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما. فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا، فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال: أمتعوا بى لعمرى حتى كنت من آخرهم!
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتيبة؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال ففعل.
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم فى الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئا بين المسلمين.
وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية. وقد سألت أى عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم. ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 427) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 149) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 427) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 195) .
منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم» «1» . ثم دعا بها فاعترفت. فقال: «ما حملك على ذلك؟» «2» قالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه؛ وإن نبيا فسيخبر. فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومات بشر بن البراء من أكلته التى أكل.
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الكتف من تلك الشاة فانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه؛ فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر ما فى فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرنى أنى بغيت فيها» . فقال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت فما منعنى أن ألفظها إلا أنى اعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما فى فيك لم أكن أرغب بنفسى عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغى.
فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول.
قال جابر بن عبد الله: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يومئذ- على الكاهل، حجمه أبو طيبة مولى بنى بياضة. وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذى توفى منه، فدخلت عليه أم بشر، بنت البراء بن معرور تعوده فيما ذكر ابن إسحاق فقال لها: «يا أما بشر: إن هذه لأوان وجدت انقطاع أبهرى من الأكلة التى أكلت مع أخيك بخيبر» «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 211) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (2065) ، السنن الكبرى للبيهقى (7/ 386، 9/ 147) ، مستدرك الحاكم (1/ 483، 3/ 301) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 227، 11/ 236) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 295، 296، 9/ 303، 304) ، مصنف عبد الرزاق (1525، 1526) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 109) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 353، 6/ 183) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3302) ، فتح البارى لابن حجر (17/ 497) ، إرواء الغليل للألبانى (7/ 179) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 100) ، العلل المتناعية لابن الجوزى (1/ 229) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 211) .
قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادى القرى فحاصر أهله ليالى ثم انصرف راجعا إلى المدينة.
قال أبو هريرة: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادى القرى نزلناها أصلا مع مغرب الشمس، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامى ثم الضبيبى، فو الله إنه ليضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله، فقلنا:
هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا والذى نفس محمد بيده، إن شملته- الآن- لتحرق عليه فى النار، كان غلها من فىء المسلمين يوم خيبر» «1» . فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لى. فقال:
«يقد لك مثلهما من النار» «2» .
وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا، إنى رأيته فى النار فى بردة غلها أو عباءة» . ثم قال: «يا بن الخطاب، أذهب فناد فى الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» «3» . قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمات، فرضخ لهن عليه السلام من الفىء، ولم يضرب لهن بسهم. حدثت بنت [أبى] الصلت عن امرأة غفارية سمتها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة من بنى غفار وهو يسير إلى خيبر: فقلن يا رسول الله، قد أردنا الخروج معك إلى وجهك هذا فنداوى الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: «على بركة الله» «4» . قالت: فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر رضح لنا من
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (8/ 179) ، صحيح مسلم فى كتاب الإيمان باب (48) ، رقم (183) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 100) ، مستدرك الحاكم (3/ 40) ، التمهيد لابن عبد البر (2/ 3) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 40) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم، الجامع الصحيح (1/ 75) ، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول.
(4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 380) ، السنن الكبرى للبيهقى (2/ 407) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 214) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 204) .
الفىء وأخذ هذه القلادة التى تزين فى عنقى فأعطانيها وعلقها بيده فى عنقى، فو الله لا تفارقنى أبدا. قالت: فكانت فى عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها.
واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا منهم عامر بن الأكوع عم سلمه ابن عمرو بن الأكوع؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له فى مسيره إلى خيبر: «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك» «1» فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله» «2» . فقال عمر بن الخطاب: وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به! فقتل يوم خيبر شهيدا، وكان قتله أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه، فكان المسلمون قد شكوا فيه وقالوا: إنما قتله سلاحه، حتى سأل ابن أخيه سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبره بقول الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لشهيد» «3» ، وصلى عليه. فصلى عليه المسلمون.
ومنهم الأسود الراعى من أهل خيبر، وكان من حديثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، أعرض علىّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه، فلما أسلم قال: يا رسول الله، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهى أمانة عندى فكيف أصنع بها؟ قال: «اضرب فى وجوهها فإنها سترجع إلى ربها» - أو كما قال- فقام الأسود فأخذ حفنة من الحصباء فرمى بها فى وجهها وقال: ارجعى إلى صاحبك فو الله لا أصحبك. وخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم الأسود إلى ذلك الحصن ليقتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع خلفه وسجى بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض
__________
(1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 16) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 148) ، التاريخ الكبير للبخارى (8/ 100) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 465) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 2/ 37) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 182) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183) .
(3) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 16) .
عنه فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: «إن معه- الآن- زوجتيه من الحور العين!» .
وذكر ابن إسحاق «1» عن عبيد بن أبى نجيح أن الشهيد إذا ما أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه ينفضان التراب عن وجهه ويقولان: ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك.
قال: ولما افتتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن علاط السلمى ثم البهزى فقال: يا رسول الله، إن لى بمكة مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة ومالا متفرقا فى تجار أهل مكة، فأذن لى يا رسول الله فأذن له؛ قال: إنه لا بد لى يا رسول الله من أن أقول. قال: قل.
قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الأخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة وجالا، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان، فلما رأونى ولم يكونوا علموا بإسلامى قالوا: الحجاج بن علاط؟ عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا محمد فإنه بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر وهى بلد يهود وريف الحجاز. قلت: قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم. قال: فالتبطوا بجنبى ناقتى يقولون: إيه يا حجاج؟ قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.
قال: فقلت أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى فإنى أريد أن أقدم خيبر فأصيب به من أهل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. فقاموا فجمعوا إلى مالى كأحث جمع سمعت به وجئت صاحبتى فقلت: مالى- وقد كان لى عندها مال موضوع- لعلى ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار.
قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنى أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيام التجار فقال: يا حجاج، ما هذا الذى جئت به؟ قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم. قلت: فاستأخر عنى حتى ألقاك على خلاء
__________
(1) انظر السيرة (3/ 320) .
فإنى فى جمع مالى كما ترى فانصرف عنى حتى أفرغ قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شىء كان لى بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ على حديثى يا أبا الفضل- فإنى أخشى الطلب- ثلاثا ثم قل ما شئت. قال: أفعل. قلت: فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم- يعنى صفية بنت حيى- ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه. قال: ما تقول يا حجاج؟ قلت: إى والله فاكتم عنى، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآحذ مالى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب.
قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال: كلا والله الذى حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر، قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه. قالوا: يال عباد الله! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.
وقال كعب بن مالك الأنصارى فى يوم خيبر:
ونحن وردنا خيبرا وفروضه ... بكل فتى عارى الأشاجع مذود
جواد لدى الغايات لا واهن القوى ... جرىء على الأعداء فى كل مشهد
عظيم رماد القدر فى كل شتوة ... ضروب بنصل المشرفى المهند
يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة ... من الله يرجوها وفوزا بأحمد
يذود ويحمى عن ذمار محمد ... ويدمع عنه بالسان وباليد
وينصره من كل أمر يريبه ... يجود بنفس دون نفس محمد
وذكر ابن عقبة أن بنى فزارة قدموا على أهل خيبر فى أول أمرهم ليعينوهم، فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم، فأبوا عليه وقالوا: جيراننا وحلفاؤنا. فلما فتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بنى فزارة فقالوا: الذى وعدتنا؟ فقال: «لكم ذو الرقيبة» - لجبل من جبال خيبر- قالوا: إذن نقاتلك؛ قال: «موعدكم جنفاء» فلما سمعوا ذلك من رسول الله خرجوا هاربين.
قال ابن إسحاق «1» : وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبى صلى الله عليه وسلم وسهم ذوى القربى والمساكين وطعم أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك بالصلح.
وقسمت خيبر على أهل الحديبية من شهد خيبر، ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها.
وفى هذه الغزوة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمان الخيل والرجال، فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما وللراجل سهما، فجرت المقاسم على ذلك فيما بعد، ويومئذ عرب العربى من الخيل وهجن الهجين.
وذكر ابن عقبة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر نفر من الأشعريين فيهم أبو عامر الأشعرى، قدموا المدينة مع مهاجرة الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فمضوا إليه وفيهم أبان بن سعيد بن العاص والطفيل- يعنى ابن عمرو الدوسى ذا النور- وأبو هريرة ونفر من دوس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه الحق أن لا يخيب مسيرهم ولا يبطل سفرهم فشركهم فى مقاسم خيبر وسأل أصحابه ذلك فطابوا به نفسا.
ولم يذكر ابن عقبة جعفر بن أبى طالب فى هؤلاء القادمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر من أرض الحبشة وهو أولهم وأفضلهم، وما مثل جعفر يتخطى ذكره، ومن البعيد أن يغيب ذلك عن ابن عقبة، فالله أعلم بعذره.
وقد ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث مرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى فيمن كان أقام بأرض الحبشة من أصحابه فحملهم فى سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية. فذكر جعفرا أولهم وذكر معه ستة عشر رجلا قدموا فى السفينتين صحبته. وذكر ابن هشام عن الشعبى أن جعفرا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عينيه والتزمه وقال: «ما أدرى بأيتهما أنا أسر، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» «2» .
ولما جرت المقاسم فى أموال خيبر اتسع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا
__________
(1) انظر السيرة (3/ 324) .
(2) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 106، 14/ 349) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 78) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 107) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 206) .
وجدوه قبل، حتى لقال عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- فيما خرج له البخارى فى صحيحه: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر.
وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فى أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما يخرج منها كما تقدم.
قال ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين وبين يهود فيخرص عليهم، فإذا قالوا: تعديت علينا. قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا. فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض!
قال: وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم أصيب بمؤته- يرحمه الله- فكان جبار بن صخر أخو بنى سلمة هو الذى يخرص عليهم بعده.
فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم حتى عدوا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سهل أخى بنى حارثة فقتلوه، فأتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه وكتب إليهم أن يدوه أو يأذنوا بحرب. فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وأقرهم على ما سبق من معاملته إياهم.
فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم أبو بكر الصديق على مثل ذلك حتى توفى، ثم أقرهم عمر صدرا من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» . ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود فقال: إن الله قد أذن فى جلائكم، قد بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» «1» فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر منهم من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن عمر: خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا فى أموالنا فعدى على تحت الليل فقرعت يداى من مرفقى، فلما أصبحت استصرخ على صاحباى فأتيانى فأصالحا من يدى؛ ثم قاما بى على عمر فقال: هذا عمل يهود، ثم قام فى الناس خطيبا فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 121) .
ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصارى قبله لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به فإنى مخرج يهود. فأخرجهم.
ولما أخرج عمر- رضى الله عنه- يهود خيبر ركب فى المهاجرين والأنصار وخرج معه بجبار بن صخر- وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم- ويزيد بن ثابت، فهما قسما خيبر على أصحاب السهمان التى كانت عليها، وذلك أن الشق والنطاة اللتين هما سهم المسلمين قسمت فى الأصل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمانية عشر سهما: نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلاثة عشر سهما، ثم قسم كل قسم من هذه الثمانية عشر سهما إلى مائة سهم، لكل رجل سهم ولكل فرس سهمان؛ وكانت عدة الذين قسمت عليهم ألف رجل وأربعمائة رجل ومائتى فرس، فذلك ألف سهم وثمانمائة سهم.
عمرة القضاء «1» وهى غزوة الأمن
قال ابن إسحاق «2» : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهرى ربيع وما بعده إلى شوال، يبعث فيما بين ذلك سراياه.
ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذى صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التى صدوه عنها، وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه فى عمرته تلك، وهى سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه.
قال ابن عقبة: وتغيب رجال من أشرافهم خرجوا إلى بوادى مكة كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا ونفاسة وحسدا.
وتحدثت قريش بينها فيما ذكر ابن إسحاق: أن محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدة فصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه.
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال:
__________
(1) انظر: المغازى للواقدى (2/ 731) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 87) ، البداية والنهاية (4/ 226) .
(2) انظر السيرة (4/ 5) .
«رحم الله امرء أراهم اليوم من نفسه قوة» «1» ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحى من قريش الذى بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها.
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فى تلك العمرة وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يديه:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير فى رسوله
يا رب إنى مؤمن بقيله ... أعرف حق الله فى قبوله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه جعفر بن أبى طالب إلى ميمونة بنت الحارث ابن حزن الهلالية، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، وكانت تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، وقيل: جعلت أمرها إلى أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه، وأقام بمكة ثلاث ليال، وكان ذلك أجل القضية يوم الحديبية. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب عبد العزى. [فى نفر من قريش] ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن بن عبادة فصاح حويطب: نناشدك الله والعقد إلا خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث.
فقال سعد: كذبت لا أم لك إنها ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يخرج إلا راضيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك: «يا سعد، لا تؤذ قوما زارونا فى رحالنا» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟» «2» قالوا: لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع مولاه فأذن بالرحيل، وخلف أبا رافع على ميمونة حتى أتاه بها بسرف وقد لقيت ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين وصبيانهم، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. ثم كان من قضاء الله سبحانه أن ماتت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فتوفيت حيث بنى بها.
قال موسى بن عقبة: وذكر أن الله- تعالى- أنزل فى تلك العمرة: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: 194] .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 240، 923) ، مسند الإمام أحمد (1/ 305، 306) .
(2) انظر الحديث فى: الحاكم فى المستدرك (4/ 31) .
وذكر ابن هشام أنها يقال لها: «عمرة القصاص» لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست فاقتص منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مكة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام الذى صدوة فيه من سنة سبع.