فصل
في غزوة الفتح العظيم الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ وَرَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وحرمه الأمين، وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي اسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَضَرَبَتْ أَطْنَابُ عِزِّهِ عَلَى مَنَاكِبِ الْجَوْزَاءِ، وَدَخَلَ الناس به في دين الله أفواجا. خرج له صلى الله عليه وسلم سنة ثمان لعشر مضين من رمضان. ثم ذكر القصة.
ثم قال: وفيها من الفقه أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ إِذَا حَارَبُوا مَنْ هُمْ في ذمة الإمام صاروا حربا له بذلك، فَلَهُ أَنْ يُبَيَّتَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ أن يعلمهم على سواء، وإنما يكون ذلك إذا خاف منهم الخيانة، فإذا تحققها فلا.
وفيها انتقاض عهد الجميع بذلك إذا رضوا به، كما أنهم يدخلون في العهد تبعا.
وفيها جواز الصلح عشر سنين، والصواب أنه يجوز فوق ذلك للحاجة والمصلحة، وأن الإمام إِذَا سُئل مَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ أَوْ لا تجب فسكت لم يكن سكوته بذلا؛ لأن أبا سفيان سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، ولم يكن بهذا السكوت معاهدا له.
وفيه أن الرسول لا يقتل؛ لأن أبا سفيان ممن نقض، وقتل الجاسوس المسلم، وتجريد المرأة كلها للحاجة، وأن الرجل إذا نسب المسلم بكفر أو نفاق متأولا غضبا لله لا لهواه لم يأثم، وأن الكبيرة العظيمة قد تكفر بالحسنة الكبيرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (1) وبالعكس كقوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] (2) وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] (3) .
ثم قرر قصة حاطب، وقصة ذي الخويصرة وأمثاله، ثم قال: وَمَنْ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ يَعْلَمُ قَدْرَ هَذِهِ المسألة، وشدة الحاجة إليها، ويطلع منها على باب عظيم من معرفة الله وحكمته، وَفِيهَا جَوَازُ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إحرام، ولا خلاف أنه لا يدخل من
_________
(1) سورة هود، الآية: 114.
(2) سورة البقرة، الآية: 264.
(3) سورة الحجرات، الآية: 3.
أراد النسك إلا بإحرام، وما عدا ذلك فَلَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وفيه البيان الصريح أن مكة فتحت عنوة، وقتل سابه صلى الله عليه وسلم، وقوله: «إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس» ، وهذا التحريم قدري شرعي سبق به قدره يوم خلق الْعَالَمَ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبراهيم، قوله: «لا يُسفك بها دم» هذا التحريم لسفك الدم المختص بها هو الَّذِي يُبَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا لِكَوْنِهَا حرما كتحريم عضد الشجر، وقوله: «ولا يعضد بها شجر» ، وفي لفظ: «لا يعضد شوكها» ، وهو ظَاهِرٌ جِدًّا فِي تَحْرِيمِ قَطْعِ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ، لكن جوزوا قطع اليابس لأنه بمنزلة الميتة، وفي لفظ: «ولا يخبط شوكها» صريح في تحريم قطع الورق.
وقوله: «لا يختلى خلاها» لا خلاف أن المراد ما نبت بنفسه وأن الخلا: الحشيش الرطب، والاستثناء في الإذخر دليل على العموم، ولا تدخل الكمأة فيه، وما غيب في الأرض، لأنه كالثمر.
وقوله: «وَلَا يُنَفَّرُ صيدُها» صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ التَّسَبُّبِ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَاصْطِيَادِهِ بِكُلِّ سَبَبٍ حَتَّى إِنَّهُ لَا يُنَفِّرُهُ عَنْ مَكَانِهِ، لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُحْتَرَمٌ فِي هَذَا الْمَكَانِ قَدْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَفِي هَذَا أَنَّ الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكانه لم يزعج عنه.
وقوله: «لا يلتقط ساقطتها إلا لمن عرفها» ، وفي لفظ: «لا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُقَطَةَ الْحَرَمِ لَا تُمْلَكُ بِحَالٍ، وَأَنَّهَا لا تلتقط إلا للتعريف، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقال في الرواية الأخرى، والشافعي في قول: لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِحِفْظِهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنِ الْتَقَطَهَا عَرَّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صاحبها، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَالْمُنْشِدُ: الْمُعَرِّفُ، وَالنَّاشِدُ: الطَّالِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " إِصَاخَةُ النَّاشِدِ للمنشد "، وفي القصة أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت حتى محيت الصور، ففيه دليل كراهة الصلاة في المكان الذي فيه الصور، وهو أحق بها من الحمام، لأنه إما لكونه مظنة النجاسة وإما بيت الشيطان، وأما الصور فمظنة الشرك، وغالب شرك الأمم من جهة الصور والقبور.
وفي القصة جواز أمان المرأة لِلرَّجُلِ وَالرَّجُلَيْنِ كَمَا أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمان أم هانئ، وقتل المرتد تغلظت ردته من غير استتابة لقصة ابن أبي سرح.
[