وكانت الظروف التي أحاطت بقريش، وروح الشر التي بدأت منهم، هي السبب المباشر الذي يحتم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- غزوهم حتى لا يستفحل الشر ويتفاقم الخطر، وذلك أن قريشًا نقضت ما تعهدت به في صلح الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنصرت قبيلة بكر الموالية لها على قبيلة خزاعة الموالية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان العهد القائم بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش أنه من أحب أن يدخل في حلف محمد فهو آمن. فدخلت بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ولو أن قريشًا احترمت عهودها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما فكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة، ولقدر لهذا البلد الأمين أن يقضي فترة أخرى في ظلمات الشرك والوثنية.
ولكن الله أبى أن يتم نوره، فأبت قريش إلا أن تغدر وتظلم وتنتهك حقوق الضعفاء، وأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يقاوم الظلم والغدر ويكون رمزًا للإنصاف والوفاء.
وكانت خزاعة قد تعرضت لعدوان قبيلة بكر، بتأييد ومعونة من قريش فقتل منهم عدد كبير، عند ماء لهم يقال له الوتير1 دون ذنب إلا أنهم مسلمون، وداخلون في حلف مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- وحينئذ خرج زعيمهم عمرو بن سالم الخزاعي2 حتى وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال مستجيرًا بالرسول -صلى الله عليه وسلم:
__________
1 الوتير اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.
وقيل: بل قتل لخزاعة رجل واحد عند ذلك الماء قتله بنو بكر، فتقاتلوا جميعًا حتى دخلوا الحرم فأمدت قريش بني بكر بالسلاح.
2 مع أربعين راكبًا.
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدًا وكنا والدا ... ثم أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرًا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إلى أن قال:
إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعًا وسجدا
فأجابه الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلًا:
"نصرت يا عمرو بن سالم".... 1.
ثم قام من فوره ليعد للأمر عدته، وليقوم بواجب الوفاء نحو خزاعة -وبين هذا الوفاء من جانب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والغدر من جانب بكر وقريش ستكون الحكمة البالغة والآية الكبرى، حيث يريد الله أن ينتصر الحق ويؤتي ثماره الطيبة، ويتداعى الباطل وتزلزل بنيانه، وإن في ذلك لعبرة.
إن الوفاء بالعهود والمواثيق يكاد يكون في حياة الأمم والشعوب حبرًا على ورق، بل إنه لأقرب إلى الوهم والخيال منه إلى الحقيقة والواقع.
وهذا هو الذي جعل الإنسانية تشقي دائمًا بالثورات والفتن والمعارك الدامية،
__________
1 ووقع عند الطبراني في "المعجم الصغير": أنه رأى راجز خزاعة يستصرخ -في الرؤيا- ويزعم أن قريشًا أعانت عليهم بني بكر.
قلت: والظاهر أنه حصل له ذلك، ثم جاء عمرو بمثل ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم.
ولو عرفت كل أمة ما لها وما عليها، واحترمت عهودها مع غيرها من الأمم، وألزمت نفسها بروح الإنصاف والوفاء ... لأمكن أن تهدر نار البغضاء والشحناء، وأن تجف الأرض من الدماء والدموع، لكي تشرق السعادة بين الناس، ويعيشوا في جوٍ مزدهر بالأمن والسلام.
,
كانت هذه السرية في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وكان أعظم ما يلفت النظر فيها أنها موجهة إلى أمير بصرى، وهي إمارة كانت تابعة لدولة الروم، ومعنى ذلك أن المسلمين سوف يلتقون وجهًا لوجه بهذه الدولة الكبرى، التي كانت -حينئذٍ- إحدى دولتين تملكان زمام العالم وتسيطران على أممه وشعوبه، وكان الغرض منها الانتقام للحارث بن عمير الأزدي، وهو الرسول الذي كان يحمل كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الأمير فأساء أنصاره إليه وقتلوه ظلمًا وبغير حق، وخالفوا بذلك أبسط القواعد المعروفة لدى جميع الأمم، وهي
__________
1 انظر غزوة مؤتة في:
"صحيح البخاري" 4013، 4017، و"مسلم" 1753، 1754، و"سنن أبي داود" 2719، 2720، و"النسائي" 4/ 26، و"سيرة ابن هشام" 4/ 15، و"طبقات ابن سعد" 1/ 405 ترتيب طبقاته، و"المواهب اللدنية" 1/ 549، و"البداية" 4/ 241، و"مجمع الزوائد" 6/ 156، و"السيرة الحلبية" 2/ 786، و"منتقى القاري" 280، وغير ذلك.
ومؤتة تقع جنوبي شرقي عمان بالمملكة الأردنية اليوم.
أن الرسل لا تقتل، لأن في قتلهم إهانة وقتلًا لمن أرسلهم.
ومن هنا يتضح لنا أن هذه السرية من وجهة النظر السياسية ليست سرية انتحارية، وليست تهورًا، ولا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وإنما هي سرية خرجت للتضحية والجهاد، ولتدفع ضريبة الشرف والعزة والكرامة، ولترفع صوت الإسلام، أمام هؤلاء الذين تمادوا في غيهم وضلالهم مهما بذلت من ثمن وتحملت من أعباء.
وكانت هذه الحملة مكونة من ثلاثة آلاف مقاتل، وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها زيد بن حارثة، وقال لهم: "إن أصيب فالأمير: جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة".
,
1- أتيح لنا في هذه الغزوة أن نلمس عن كثب سماحة الإسلام وسمو مبادئه وحرصه على صيانة المجتمع الإنساني من الذلة والهوان، ولا غرو، فهذه الوصية التي وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- للجيش وهو ذاهب إلى مؤتة بعدم التعرض للعجزة والمرضى والمنازل والمزارع، وتلك التعاليم التي تميزت بها حروب المسلمين في القرن الأول الهجري -السابع الميلادي- هذه الوصية وتلك التعاليم يتيحان لنا فرصة المقارنة بين هذه الحالة، وبين ما نراه في هذه الأيام التي نعيشها، وما يقع بين سمعنا وبصرنا من غارات وحشية على السُّكان الآمنين في فيتنام، وفي الشرق الأوسط1، وكيف تزهق الأرواح البريئة، وتدمر المساجد، والكنائس، والمصانع والمساكن، فتهدم في لحظات، ما بنته المدينة والحضارة في سنوات.
2- هذا الإيمان العميق الذي جعل المسلمين يتقدمون لملاقاة جيش يفوق جيشهم، في غير تردد أو خوف من الموت في سبيل الله يحفزنا إلى الجهاد والكفاح وبذل الأرواح فداء للدين والوطن2، واقتداء بأسلافنا الأماجد الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وألقوا بها في وجه كل من يقف في سبيل الدعوة
__________
1 وفي الاتحاد السوفيتي السابق، وأوربا الشرقية بل وفي كل بقاع الأرض.
2 يعني أرض الإسلام.
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1.
3- موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أسر الشهداء، فيه توجيه للمسلمين إلى ما يجب عليهم نحو المحزونين من مواساة لهم وإعداد طعام يبعثون به إليهم، لأنهم قد شغلوا بأنفسهم. أما ما عليه المسلمون الآن من إقامة حفلات أحيطت بإسراف ممقوت، فهذا ليس من السُّنة النبوية في شيء2.
4- موقف خالد بن الوليد ومهارته الحربية غيرت الوضع في هذه المعركة، من خوف إلى أمن، ومن هزيمة إلى نصر، لأن إنقاذ الجيش من فناء محقق والنجاة في مثل هذا الظرف العصيب يوم مقامه النصر وزيادة3.
وحسبنا دليلًا على ذلك ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الجند المسلمين لدى عودتهم من مؤتة، فلقد قابلهم المسلمون في المدينة يسخرون منهم ويحثون التراب في وجوههم، ويقولون لهم: يا فرار، فررتم من الجهاد في سبيل الله، فأنكر
__________
1سورة آل عمران، الآية 171.
2 وقد نص على كراهته جماعة من العلماء، وصح في "سنن ابن ماجه" أن هذا مثل النياحة المحرمة.
3 قد اختلف العلماء في نتيجة مؤتة، فرأى جماعة أنها انتهت بالنصر للمسلمين، ورأى آخرون أن خروج المسلمين القلة منها على هذا الوجه نصرًا، وقد ناقش الحافظ ابن كثير هذه القضية فقال 4/ 247:
وقال الواقدي: ... -وساق القصة من عنده، وفيها-: ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين ...
وقال ابن كثير:
فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالدًا إنما حاشى بالقوم حتى تخلصوا من الروم. وموسى بن عقبة والواقدي مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعًا: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله على يديه" رواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه ومال إليه البيهقي بعد حكاية القولين ... انتهى.
قلت: والذي قاله ابن سعد أن المسلمين انهزموا شيء لا دليل عليه البتة.
وانظر ما يأتي.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليهم هذه السخرية والاستهزاء، وحياهم تحية طيبة، وقال: بل هم الكرار، وأثنى على خالد في مهارته وحسن حيلته، في إنقاذ الجيش من الهلاك1.
__________
1 الحديث في "مسند أحمد" 2/ 86، 100-111، و"سنن أبي داود" 2647، و"الترمذي" 1716 وحسنه، وذكره ابن كثير في "البداية" من طرق كثيرة جدًّا، وقد قامت أنه حديث قوي بطرقه وشواهده.
ولكن ثمة أمر ذكر الحافظ ابن كثير يجب التنبه له هنا، فقد قال بعد أن ساق هذه الرواية 4/ 284:
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسملون معه ... فجعلوا -أي الصبيان- يحثون التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار". قال ابن كثير: هذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة. وعندي -القائل ابن كثير- أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا جمهور الجيش، وإنما كان هذا للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين على المنبر في قوله: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه" فما كان المسلمون ليسمون فرارًا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكرامًا وإعظامًا، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هناك، وكان فيهم عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وفي "مسند أحمد" عن ابن عمر قال:
كنت في سرية من سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة ... فذكر الحديث.
-وساقه ابن كثير بروايات متعددة- ثم قال 4/ 249:
لعل طائفة منهم فزعوا لما عاينون كثرة جموع الروم، وكانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف ... ، وفي مثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر ... انتهى.
- ثم رجع ابن كثير في مواطن عديدة يؤكد ذكر نصر المسلمين من الروايات فأطال، وانظر 4/ 250-251.
قلت: فظهر أنه قال ينصر المسلمين في هذه المعركة جماعة منهم موسى بن عقبة، والواقدي، حيث لم يحكيا غيره، والبيهقي وابن كثير واستدلا له كما مضى، والحاكم كما يفهم من قوله في "الإكليل" الذي نقله القسطلاني في "المواهب" 1/ 551 وكذا رجح هذا بنفس الطريقة التي قالها ابن كثير العلامة الحلبي في "السيرة الحلبية" 2/ 789.