بدأت قريش تزداد يقينا، يوما بعد يوم، بأن شروط صلح الحديبية لم تكن في صالحها، وأنها إذا ما ظلت ملتزمة بها فسوف تجد نفسها في يوم قريب أو بعيد وحيدة عزلاء وسط بحر إسلامي تضرب أمواجه حدود أمبراطوريتي العالم القديم وتكتسح مواقع الوثنية البائدة. وحتى الشرط الذي ظنته لصالحها وظنه المسلمون إذلالا لهم، ذلك الذي يعطي قريشا الحق في استرداد من يلحق بالمسلمين ويحجب هذا الحق عن المسلمين، حتى هذا الشرط أخذ يلحق بمشركي مكة متاعب صارت تزداد مع الأيام.
فالمضطهدون الهاربون من قبضة قريش كانوا يجدون أنفسهم ملزمين بعدم الالتحاق بإخوانهم ودولتهم الجديدة في المدينة وإلا ردوا إلى مضطهداهم تنفيذا للعهد، فكانوا يلجؤون إلى جبال تهامة المطلّة على طريق القوافل المكية إلى الشام، ويقومون من هناك بحروب عصابات ضد القوافل القرشية الذاهبة والآتية من الشام، فيقتلون حراسها وأصحابها ويغنمون أموالها، وكان يقودهم في نشاطهم هذا فدائي مسلم يدعى (أبا بصير) كان قد فرّ من مضطهديه في مكة إلى المدينة إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده بصحبة اثنين من حراس مكة جاآ لكي يعيداه إلى سادته فقتل أحدهما واضطر الآخر إلى الفرار، ثم انطلق صوب جبال تهامة لكي يبدأ من هناك حربه ضد قريش، وأخذ يلتحق به كل هارب من جحيم الوثنية «1» .
وما لبثت قريش أن وجدت نفسها مسوقة إلى أن تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إلغاء هذ الشرط فأجابها إلى ما أرادت، ولكن الأيام مضت وقريش تزداد عزلة وتوترا
__________
(1) انظر: الطبري 2/ 638- 639 الواقدي 2/ 624- 629 المقريزي: إمتاع الأسماع 3/ 304- 305.
وتجارتها بوارا وكسادا، والمسلمون يزدادون نشاطا ودأبا، ومن ثم راح زعماء مكة ينتظرون الفرصة لضرب المعاهدة وإبطال شروطها جميعا لأن ثماني سنوات أخرى من الصلح ستؤدي حتما إلى اختناق قريش، وما لبثت الأحداث أن مكنتها من تحقيق هدفها، إلا أنه لم تكن تدري آنذاك أنها تسعى إلى حفر قبرها بيدها وأنها تضع بيد الرسول صلى الله عليه وسلم المعول الذي سيهدم به آلهتها وأصنامها، وسيهيل التراب على قيمها الخاطئة وتقاليدها الظالمة وعقائدها الوثنية إلى الأبد.
ذلك أن بني بكر حليفة قريش، اعتدت في شعبان من السنة الثامنة على خزاعة حليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وداهمتها في ديارها فقتلت أحد رجالها، ففزعت خزاعة تدافع عن نفسها، واتسع نطاق القتال وراحت قريش ترفد حليفتها بالسلاح وبالرجال يقاتلون تحت جناح الليل حتى ألجأوا خزاعة إلى الحرم وقتلوا منها ثلاثة وعشرين رجلا، فنادت بنو بكر بزعيمها نوفل بن معاوية: إنّا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فأجاب نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ورأت خزاعة أن قريشا قد نقضت عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أسهمت في قتالها وهي حليفة المسلمين فبعثت عمرو ابن سالم الخزاعي في أربعين راكبا يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم تفاصيل العدوان ويستنجده على الغادرين، وأعقبه بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة يؤكد ما ذهب إليه عمرو، ولم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن قال لمن حوله: (كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشد العقد ويزيد المدة) ، وكأنه صلى الله عليه وسلم اعتزم أمرا لم يشأ أن يكشفه لرسل خزاعة أو لأصحابه حرصا على السرية والكتمان، ولقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ما لبثت قريش أن أدركت خطأها وأنها ليست بقادرة اليوم على مجابهة غضبة المسلمين وقد ازدادوا قوة وعددا فرأت أن تبعث زعيمها أبا سفيان إلى المدينة على جناح السرعة علّه يعيد الأمور إلى مجاريها ويجدّد مع المسلمين بنود معاهدة كان هو ورفاقه قد قتلوها «1» . التقى أبو سفيان بالرسول صلى الله عليه وسلم وكلمه في الأمر فلم يردّ عليه، فذهب إلى أبي بكر فتوسط لديه أن يكلم له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل، فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله؟ فو الله لو لم أجد إلا الذرّ (الغبار) لجاهدتكم به. فجاء إلى علي وقال: يا علي إنك أمسّ القوم
__________
(1) ابن هشام ص 276- 279 الطبري 3/ 43- 45 ابن سعد 2/ 1/ 96- 97 الواقدي 3/ 781- 786، 788- 789 البلاذري: فتوح 1/ 42 أنساب 1/ 353- 354.
بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه علي: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. ولم يكن هذا الأمر سوى الإعداد الحاسم لاستئصال رأس الوثنية واكتساحها. وعاد أبو سفيان خائبا لكي يخبر قريشا بفشل مسعاه «1» .
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم خلال التجهز على كتمان الأمر حتى عن أقرب أصحابه إليه من أجل أن يفاجىء مكة بهجومه الحاسم فلا تستطيع مقاومة ودفاعا فتذعن للأمر وتحقن الدماء، حتى أن زوجته عائشة عندما سألها أبوها أين ترينه يريد؟
أجابت: لا والله ما أدري! وما أن تمّ الإعداد والتجهز حتى انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه صوب مكة وأمرهم بالجد والهيؤ. وقد روى الواقدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة «ولا يعلم أحد وجهته وقائل يقول يريد قريشا وقائل يقول هوازن وآخر يقول يريد ثقيفا ... ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى بلغ (كديد) » .
وعندما سأله أحد أصحابه في الطريق: يا رسول الله والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم حيث شاء الله «2» .
وفي مكان آخر يقول الواقدي إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأنقاب (أي سد طرق المدينة) وعمى عليهم الأخبار فكان عمر بن الخطاب يطوف على الأنقاب قيّما بهم فيقول: لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه «3» . وعندما ألح عليه أبو بكر بسؤاله: أين تريد يا رسول الله؟ أجابه الرسول: قريشا واخف ذلك يا أبا بكر «4» . ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها) . واستجاب الله لدعاء رسوله وأعلمه وحيه الأمين أن محاولة لأخبار قريش بتحرك الرسول صلى الله عليه وسلم قام بها أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) حيث كتب إلى قريش بهدف الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا حمّله امرأة أخفته في طيات شعرها وانطلقت صوب مكة، فأدركها علي
__________
(1) ابن هشام ص 279- 280 الطبري 3/ 46- 47 ابن سعد 2/ 1/ 97 الواقدي 2/ 792- 795 البلاذري: فتوح 1/ 42.
(2) الطبري 3/ 51- 52 الواقدي 2/ 796- 797.
(3) مغازي 2/ 787- 796.
(4) مغازي 2/ 792.
والزبير في منتصف الطريق وأخذا الكتاب منها وقفلا عائدين ليسلماه إلى الرسول.
فدعا الرسول حاطبا وسأله: ما حملك على هذا؟ فأجاب: أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت أمرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه. فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال الرسول: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع إلى أصحاب بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ إن ماضي حاطب في الجهاد في سبيل الدعوة وإسهامه مع رفاقه في مقاومة الوثنية في أوج عنفوانها يحجب عنه الآن الزلة الكبيرة التي ساقته قدماه إليها، والماضي الكبير يحجب الخطأ الكبير ما دام الإيمان لم ينقلب بعد إلى كفر صريح ... ونزلت كلمات الله لكي تحدد للمسلمين، انطلاقا من هذه المناسبة العابرة، موقفا دائما عليهم ألاينحرفوا عنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... «1» .
انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم في العاشر من رمضان مستخلفا على المدينة أبا رهم الغفاري ومستنفرا كل قادر على القتال من المسلمين، وعندما بلغ مر الظهران عسكر هناك في عشرة آلاف من المسلمين من بني سليم وبني غفار وبني مزينة وتميم وقيس وأسد التي دعاها لموافاته في المدينة، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار أحد. ولم تكن قريش، وقد عميت الأخبار عنها، تعرف حتى ذلك الحين شيئا عما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم هل يريد قريشا أم هوازن أم ثقيف «2» ؟ ويذكر الواقدي أن المسلمين عسكروا بمر الظهران ولم يبلغ قريشا حرف واحد من مسير رسول الله إليهم، فقد اغتموا وهم يخافون أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وكان العباس عم الرسول قد التحق بمعسكر المسلمين وجعل هدفه أن تقتنع قريش بعدم جدوى المقاومة وأن يجيء زعماؤها فيستأمنوا الرسول قبل وقوع المحذور، فخرج يبحث عن رجل يذهب إلى مكة ليخبر أهلها بمكان معسكر المسلمين لكي يجيئوا فيعتذروا ويستأمنوا، وإذا به يسمع عن قرب أبا سفيان وهو يقول لبديل بن
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 1. ابن هشام ص 281- 282 الطبري 3/ 47- 49 ابن سعد 2/ 1/ 97 الواقدي 2/ 796- 799 البلاذري: أنساب 1/ 354 اليعقوبي: تاريخ 2/ 47- 48.
(2) انظر: الطبري 3/ 55.
(3) مغازي 2/ 814.
ورقاء وقد خرجا فيمن خرج من زعماء قريش يتحسسان الأخبار: ما رأيت نيرانا قط ولا عسكرا بهذا الشكل، فيجيبه بديل: هذه والله خزاعة قد حمشتها «أحرقتها» الحرب، فيرد أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها! فتقدم العباس إليهما وأعلمهما حقيقة الخبر وأردف أبا سفيان وراءه في محاولة لاستئمان الرسول صلى الله عليه وسلم إياه، أما صاحبه فقد قفل عائدا، ولمحهما عمر بن الخطاب وهما يجتازان معسكرات المسلمين فانطلق إلى الرسول قائلا: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه، إلا أن العباس سرعان ما أعلن جواره له. ولما رأى عمر يلح على قتله قال له: مهلا يا عمر فو الله إن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فأجابه عمر: مهلا يا عباس فلإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم! وأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى عمه أن يذهب بأبي سفيان إلى رحله فإذا أصبح أتاه به، وفي الصباح جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟
قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد!!
استمر الرسول: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟
قال: بأبي أنت وأمي.. أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. عند ذاك أعلن أبو سفيان إسلامه. وأراد الرسول أن يتخذ منه مفتاح أمان يفتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة الدماء ويكبت به روح المقاومة الوثنية المتعطشة للقتل والدماء، فأراد أن يشبع فيه عاطفة الفخر ويحقق هدفه عن هذا الطريق، فأعلن أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن. وبذلك سعى الرسول إلى تنفيذ أسلوب (منع التجول) لكي يتمكن من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات وإراقة الدماء.
وجعل لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدء. ولم يكتف الرسول بذلك بل أمر العباس أن يحجز أبا سفيان عند مدخل المضيق الذي ستنساب منه قوات المسلمين في طريقها إلى مكة فيراها رأي
العين فيزداد يقينا بألا قدرة للمكيين على المقاومة «1» . ووقف العباس وأبو سفيان حيثما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم وراحت قبائل المسلمين تمرّ حاملة راياتها الخاصة واحدة تلو الآخرى، وكلما مرت قبيلة كبّرت ثلاثا فسأل أبو سفيان: يا عباس من هذه؟
فيقول سليم، فيقول: ما لي ولسليم! ثم تمر القبيلة الآخرى فيسأل: يا عباس من هؤلاء؟ فيجيبه مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى إذا استعرضت القبائل كلها مرّ رسول الله في كتيبته (الخضراء) التي تضم ألف دارع من المهاجرين والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق خلل الحديد، فسأل أبو سفيان: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ فأجابه: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. فطلب منه العباس أن يسرع إلى قومه يعلمهم بما رأى وسمع «2» .
دخل أبو سفيان مكة وراح يصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فانبرت له امرأته تقبح رأيه، وقام القوم مستنكرين قائلين: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟
فاستأنف أبو سفيان: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، وأدركت الأغلبية العظمى من المكيين ألاجدوى في مخالفة زعيمها أبي سفيان وهو يدعوهم إلى الأمان قبل أن تكتسحها سيوف المسلمين، فتفرقت إلى دورها وإلى المسجد الحرام وأغلقت من دونها الأبواب «3» .
وزع الرسول صلى الله عليه وسلم قواده لكي يدخلوا كل من الجبهة التي حددت له: سعد ابن عبادة وابنه يدخلان بقواتهما مكة من الجهة الشرقية، أبو عبيدة عامر بن الجراح يتقدم بقواته بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدخل مكة من جهتها الغربية، الزبير بن العوام يقود خيل المهاجرين والأنصار إلى أعلى مكة حيث الحجون لكي يغرز راية المسلمين هناك، وخالد بن الوليد يدخل مكة من الجنوب حيث تجمع مقاتلو قريش وحلفاؤهم وأحابيشهم لمنع القوات الإسلامية من اجتياز مكة.
__________
(1) ابن هشام ص 282- 286 الطبري 3/ 49- 54 ابن سعد 2/ 1/ 97- 98 الواقدي 2/ 799- 801، 814- 818 البخاري: تجريد 2/ 90 البلاذري: أنساب 1/ 355 اليعقوبي: تاريخ 2/ 48.
(2) ابن هشام ص 286- 287 الطبري 3/ 54 الواقدي 2/ 818- 822 البخاري: تجريد 2/ 90.
(3) ابن هشام ص 287 الطبري 3/ 54 الواقدي 2/ 822- 823.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قواده ألّا يقاتلوا إلا اضطرارا، وسمى نفرا من مكة أمر بقتلهم حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة بسبب مواقف كانوا قد اتخذوها ارتدادا عن الإسلام، أو قتلا لمسلمين، أو إيذاء لدعاتهم في مكة أو هجاء قبيحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغ عددهم ثمانية بين رجل وامرأة قتل بعضهم وفر البعض الآخر واستأمنت فئة ثالثة فأمنها الرسول صلى الله عليه وسلم وعفا عنها.
وقد دخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع بسهولة بالغة، بعد أن هزم خالد القوات القرشية التي اعترضت مسيرته في الجنوب وقتل وجرح منهم ثلاثة عشر رجلا «1» ، ولم يفقد من رجاله سوى اثنين كانا قد شذا عن الطريق التي سلكها «2» .
وما أن تمت سيطرة المسلمين على مكة في العشر الأواخر من رمضان واستقر أمرهم فيها حتى خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من خيمته التي ضربت له بالحجون حيث رفض النزول في بيوت مكة طيلة مكوثه هناك «3» .
خرج على راحلته فطاف بالبيت سبعا وتكبيرات المسلمين من ورائه تشق عنان الفضاء، ثم دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها وكسر أوثانها بيده وطرحها أرضا ومحا صور الملائكة والأنبياء، وعندما رأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها قال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «4» .
ثم أمر بتلك الصور فطمست وخرج إلى الأصنام المصفوفة حول البيت والمشدودة بالرصاص فراح يعمل بها تحطيما ويقول وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «5» . وأرسل خالد بن الوليد إلى بطن نخلة ليهدم العزى كبير آلهة المنطقة، فانطلق خالد إلى هدفه فكسر الصنم وهدم بيته وسادنه يصرخ:
__________
(1) وقيل ثمان وعشرين: الواقدي 2/ 825- 826، البلاذري: فتوح 1/ 44.
(2) ابن هشام ص 289- 291 الطبري 2/ 56- 60، 63- 64 ابن سعد 2/ 1/ 98 الواقدي 2/ 823- 828 البلاذري: فتوح 1/ 44- 45 أنساب 1/ 355- 361 البخاري تجريد 2/ 90.
(3) الواقدي 2/ 829.
(4) سورة آل عمران، الآية: 67.
(5) سورة الإسراء، الآية: 81. ابن هشام ص 291- 294 ابن سعد 2/ 1/ 98- 99 الواقدي 2/ 831- 832، 834، البلاذري: فتوح 1/ 46 البخاري: تجريد 2/ 90- 91.
أعزى اغضبي بعض غضباتك، دونما جدوى «1» . وانطلق عمرو بن العاص لهدم سواع، وكان حجرا، وجرى بينه وبين السادن هذا الحوار:
السادن: ما تريد؟
عمرو: هدم سواع.
السادن: لا تطيق هدمه.
عمرو: أنت في الباطل بعد.
وهدم الوثن فلم يجد في خزانته شيئا. وفي الوقت نفسه كان سعد بن زيد الأنصاري يهدم مناة، الإله الذي كانت الأوس والخزرج تعبده وتطوف به أيام الجاهلية «2» . ومن مكة أيضا بث الرسول صلى الله عليه وسلم سراياه في الجهات المحيطة تدعو إلى الإسلام وهي تحمل أمرا بعدم القتال، مستهدفا بذلك تعزيز انتصاره على الزعامة الوثنية ومدّ الدعوة إلى مناطق كانت قريش قد جعلتها حكرا على آلهتها وأصنامها «3» .
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة وقد تجمع الناس في المسجد فخاطبهم قائلا: (لا إله إلا الله وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «4» .
(يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ أجابوه بصوت واحد: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستهدف من حرصه على السلم تأليف القلوب وتوحيد كلمتها لتقبل على الإسلام، فلم يكن من السهل على قريش أن تقبل بمصيرها الذي آلت إليه وهي سيدة العرب دون منازع لأنها أعظمهم حضارة وأشدهم بأسا وأكثرهم مالا وفي بلدها البيت الحرام، ليس من السهل أن تقبل قريش بمصيرها
__________
(1) الواقدي 2/ 870 الطبري 3/ 65 ابن سعد 2/ 1/ 105 خليفة بن خياط 1/ 51.
(2) الطبري 3/ 66 الواقدي 2/ 870 ابن سعد 2/ 1/ 105- 106.
(3) الطبري 3/ 66 ابن سعد 2/ 1/ 106- 108 الواقدي 3/ 875- 884 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 51.
(4) سورة الحجرات: الآية: 13.
هذا وتقبل على الإسلام طائعة وتحمل رايات الجهاد لو لم تعامل هذه المعاملة السلمية التي لم تكن تتوقعها، وبذلك انقلب موقفها من أشد الناس عداوة للإسلام إلى أحرص الناس على رفع راية الإسلام «1» .
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده وقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فلما جيء به، قال له: هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برّ ووفاء «2» . وأمر مؤذنه بلالا أن يصعد فيؤذن في الناس معلنا بشهادته انتهاء عهد الوثنية في مكة، قلب الوثنية، وبداية عهد جديد لا يعبد فيه غير الله، وفق التعاليم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبادة التي تحرر الإنسان وتباركه وتزكيه وتقوده إلى الفلاح الواحد في الدنيا والآخرة وترفع رأسه فلا يعود ينخفض مرة أخرى لقوة في الأرض بشرا كانت أم حجارة صماء «3» .
وفي يوم الفتح هذا يقول الغزالي: «ترجع بنا الذكريات إلى رجال لم يشهدوا هذا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال يرن فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يروا الأصنام مكبوبة على وجوهها.. إنهم قتلوا أو ماتوا إبان المعركة الطويلة التي نشبت بين الإيمان والكفر، ولكن النصر الذي يجني الأحياء ثماره اليوم لهم فيه نصيب كبير وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يظلم مثقال ذرة. إنه ليس من الضروري أن يشهد كل جندي النتائج الأخيرة للكفاح بين الحق والباطل، فقد يخترمه الأجل في المراحل الأولى وقد يصرع في هزيمة عارضة كما وقع لسيد الشهداء حمزة ومن معه. والقرآن الكريم ينبه أصحاب الحق إلى أن المعوّل في الحساب الكامل على الدار الآخرة لا على الدار الدنيا فهناك الجزاء الأوفى للمؤمنين والكافرين جميعا فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «4» .
__________
(1) شيت خطاب: الرسول القائد ص 239- 240.
(2) ابن هشام ص 292- 293 الطبري 3/ 60- 61 ابن سعد 2/ 1/ 99 الواقدي 2/ 833- 838 البلاذري: فتوح 1/ 47- 48 أنساب 1/ 355- 356. وانظر عن نص خطبة الرسول في أعقاب فتح مكة: حميد الله: الوثائق ص 90- 91.
(3) عن الآيات المتعلقة بفتح مكة انظر سورة التوبة: الآيات 8- 16، 23- 24، سورة الممتحنة: الآيات 1- 3.
(4) سورة غافر، الآية: 77. فقه السيرة ص 418.
ولّد سقوط مكة قاعدة الوثنية رد فعل عنيف لدى القبائل العربية في الشمال وعلى رأسها هوازن وثقيف، ورأت أن تتحرك لتوجيه ضربة قاصمة للقوات الإسلامية قبل أن يستفحل الخطر وتجد هذه القبائل نفسها محاطة من كل مكان.
إذ أن السكوت إزاء ما يحققه المسلمون من انتصارات، يعني فتح الطريق أمامهم لتغطية الجزيرة كلها بدينهم الجديد، واكتساح مواقع الوثنية واحدة واحدة، سيما وأن (أم القرى) قد ألقت السلاح دونما قتال أو مقاومة، هذا إلى أن هذه القبائل كانت- لدى سماعها بمغادرة الرسول المدينة على رأس قواته- قد تجمعت خوفا من أن يغزوها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال زعماؤها بعد فتح مكة: «قد فرغ لنا، فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه» .
وتولت هوازن كبر المحاولة حيث جمعها زعيمها مالك بن عوف النصري وانضمت إليها ثقيف كلها، ولحق بهما بعد قليل قبائل نصر وجشم وسعد بن بكر وعدد من أبناء بني هلال وبني مالك، واتفق قادتهم على أن يسلموا بزعامة مالك ابن عوف، فرأى هذا أن يسير مع المقاتلين، نساؤهم وأطفالهم وأموالهم كي يستميتوا في القتال ... وعندما عسكر في أوطاس، أحد وديان هوازن، اعترض دريد بن الصمة الجشمي على رأي مالك في جلب النساء والأطفال والأموال، وسأله لم ذاك؟ فأجاب مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال دريد وهو شيخ كبير مجرب: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فرفض مالك الأخذ برأيه أنفة واستعلاء ونادى قومه: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد «1» .
عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأ هذا التحرك الوثني بعث أحد أصحابه مستخبرا، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم. فتسلل الرجل إلى مواقع العدو وعاد ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجمع عليه هؤلاء من قتال المسلمين. فانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع شوال على رأس اثني عشر ألف مقاتل كان من ضمنهم ألفان من المكيين أسلموا بعد الفتح. وسرعان ما وجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى اجتياز واد من أودية تهامة، شديد الانحدار يدعى حنينا، في
__________
(1) ابن هشام ص 297- 299 الطبري 3/ 70- 72 الواقدي 3/ 885- 889.
طريقهم لمجابهة التجمع الوثني، ولم يكن الصبح قد اتضح بعد، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي فكمنوا لهم في شعابه ومضايقه، وتهيؤوا للانقضاض على المسلمين في جو يسوده المطر والضباب. وما أن دخلت قوات المسلمين الوادي حتى انقض عليهم أعداؤهم دفعة واحدة، من حيث لم يكونوا يتوقعون، فأصابهم الفزع والاضطراب وكرّوا راجعين لا يلوي أحد على أحد «1» !!
انحاز الرسول صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ونادى: (أيها الناس هلموا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله) ، ثم تقدم بحربته أمام المقاتلين، وكان يقف إلى جانبه صامدا عشرات من المهاجرين والأنصار فيهم علي وأبو بكر وأسامة وعمر ...
وقال للعباس ذي الصوت الجهوري «يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة» وسرعان ما انطلقت النداآت من بعيد (لبيك لبيك) ، وكان الرجل منهم إذا ما أراد ثني بعيره والانطلاق ثانية إلى قلب المعركة، لا يقدر على ذلك، لشدة التدافع والزحام وضغط المتراجعين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويحمل سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره مخليا سبيلها، ومنطلقا صوب النداء.
حتى إذا اجتمع إلى الرسول مائة من المقاتلين، استقبلوا العدو واقتتلوا معه قتالا مريرا وقال الرسول وقد رأى أصحابه يجتلدون مع المشركين: الآن حمي الوطيس. وتمكن علي ورجل من الأنصار من قتل حامل راية هوازن. وبدأت الكفة ترجح لصالح المسلمين، وما لبث المشركون أن أخذوا بالتراجع صوب الوراء وانقض عليهم المسلمون يعملون فيهم قتلا وأسرا ... وما أن عاد إلى الميدان أولئك الذين تراجعوا إلى الخلف من المسلمين، حتى وجدوا أسارى المشركين مكتفين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» .
تراجع المشركون بقيادة مالك بن عوف صوب الطائف، وعسكر بعضهم في أوطاس، وتوجهت فئة ثالثة نحو نخلة، ولم يتح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرصة يستردون فيها قواهم ويعيدون تنظيم أنفسهم، فأرسل قوة من فرسان المسلمين لمطاردة أولئك الذين توجهوا نحو نخلة، وقوة ثانية بقيادة أبي عامر الأشعري كلفت بقتال المشركين في أوطاس، فأصابوه بسهم أودى بحياته، فأخذ الراية ابن عمه أبو
__________
(1) ابن هشام ص 299- 301 الطبري 3/ 72- 74 ابن سعد 2/ 1/ 108 الواقدي 3/ 889- 897.
(2) ابن هشام ص 301- 303 الطبري 3/ 74- 77 ابن سعد 2/ 1/ 109 الواقدي 3/ 897- 914 البلاذري: أنساب 1/ 365 اليعقوبي: تاريخ 2/ 52.
موسى الأشعري وقاتلهم حتى فتح عليه وتمكن من هزيمتهم «1» .
وبعد أن أمر الرسول بحبس سبايا معركة حنين وأموالها الكثيرة في مكان يدعى (الجعرانة) مجمّدا التصرف بها، انطلق صوب الطائف حيث اعتصم المنهزمون بحصونها المنيعة وأعدوا العدة للقتال، ونزل قريبا منها حيث عسكر هناك. وجرت مناوشات بين الطرفين ذهب ضحيتها نفر من المسلمين بنبال العدو، الأمر الذي دفع الرسول إلى إبعاد معسكره عن مدى النبال التي كانت تنطلق من حصون ثقيف. وظل يحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، قدمت خلالها وفود المناطق المجاورة معلنة إسلامها. واستمر القتال، عنيفا حينا ومتقطعا أحيانا، استعمل فيه المسلمون آلات الحصار لأول مرة كالمنجنيق والدبابة وقد تمكنت قوة من المسلمين من الزحف بدبابتهم إلى جدار الطائف وبدأوا بخرقه لولا أن أرسلت عليهم ثقيف قطعا من حديد محمية بالنار اضطرتهم إلى الانسحاب بعد أن سقط عدد منهم. وردا على المقاومة العنيفة التي أبداها المشركون، أمر الرسول بتقطيع كروم ثقيف المنتشرة في البساتين المجاورة لإرغامهم على التسليم، وتسلل إلى معسكر المسلمين من الطائف، آنذاك، نفر من عبيدها أعلنوا إسلامهم، فأعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم «2» .
لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة للاستمرار في الحصار، وأدرك أن الطائف ستجد نفسها في يوم قريب أشبه بجزيرة منقطعة يحيط بها بحر طام من كل مكان، وستسعى إليه حينذاك طالبة الانتماء إلى الدين الجديد، رغبة وإيمانا لا حقدا وخوفا. وبدلا من أن تكون هذه المدينة ذات الطاقات البشرية المعروفة، على المسلمين في مستقبل الأيام، فإنها ستكون لهم. ولقد كانت رحلة تبوك الكبرى بعد ذلك بقليل مما يسوغ القول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير خطرا من ترك الطائف إلى فرصة أخرى ورأى العودة والتعجيل برحلة تبوك «3» . لذلك كله لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ابن هشام ص 305 الطبري 33/ 78- 80 ابن سعد 2/ 1/ 109 الواقدي 3/ 915- 916 البلاذري: فتوح 1/ 65 أنساب 1/ 365 البخاري: تجريد 2/ 91- 92.
(2) ابن هشام ص 307- 310 الطبري 3/ 83- 85 ابن سعد 2/ 1/ 114 الواقدي 3/ 923- 937 البلاذري: فتوح 1/ 65 أنساب 1/ 367 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 53.
(3) دروزة: سيرة الرسول 2/ 369- 370.
أن يفتتحها عنوة، ولم يأمر بهجوم حاسم عليها، كما حدث في العام الماضي مع حصون خيبر على سبيل المثال، واكتفى بأن يدير القتال على أضيق نطاق، بحيث أن جميع من استشهد من أصحابه خلال الحصار لم يتجاوزوا اثني عشر رجلا «1» ، ومن ثم أمر أن يؤذن في الناس بالرحيل، فقفل المسلمون عائدين، بعد بضع وعشرين يوما من الحصار، إلى الجعرانة حيث جمعت السبايا والغنائم الكثيرة في أعقاب حنين: ستة آلاف رأس من السبي، وأربعة وعشرون ألف بعير، وأربعون ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة. ولم يتسرع الرسول صلى الله عليه وسلم في توزيعها أملا في أن يعود قادة هوازن مسلمين فيرد عليهم سبيهم وأموالهم، ولكنهم لم يجيئوا إلا بعد انتظار طويل وزعت خلاله المغانم. وفي الجعرانة التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك. فسألهم الرسول: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم، فأجابوه: نساؤنا وأبناؤنا، فردهم إليهم عن طيب خاطر من المسلمين، وسألهم أن يخبروا زعيمهم مالك بن عوف الذي كان قد احتمى بالطائف أنه إن جاء مسلما ردّ عليه الرسول أهله وماله، فاستجاب مالك لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلل من الطائف حيث قدم عليه معلنا إسلامه، فرد عليه الرسول أهله وماله واستعمله على من أسلم من قومه والقبائل المجاورة. فأخذ مالك يداهم ثقيفا بمسلمي قومه، ويهاجم قطعانهم وقوافلهم حتى ضيق عليهم «2» .
وبذلك حقق الرسول صلى الله عليه وسلم هدفين اثنين بسياسته المرنة هذه أولهما كسب قبيلة هوازن ذات الشوكة وحلفاءها إلى معسكر المسلمين، وثانيهما اتخاذها رأس حربة يضرب بها بقايا القوى الوثنية في المنطقة.
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مهمة توزيع الغنائم على جنده وأتباعه. وناداه الأعراب: يا رسول الله، أقسم علينا من الإبل والغنم، وازدحموا عليه حتى ألجؤوه إلى جذع شجرة اختطفت عنه رداءه فقال: ردّوا عليّ ردائي أيها الناس فو الله إن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعم لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا
__________
(1) ابن هشام ص 310 الطبري 3/ 85 ابن سعد 2/ 1/ 114- 115 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 54- 55.
(2) ابن هشام ص 311- 314 الطبري 3/ 86- 89 ابن سعد 2/ 1/ 110- 111 الواقدي 3/ 949- 956.
ولا جبانا ولا كذابا. ثم تقدم إلى بعير قريب منه فاستل منه وبرة جعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: (أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) !! ثم راح يوزع الغنائم، مختصا بقسمها الأكبر زعماء القبائل العربية التي أسلمت أخيرا من أجل أن يتألفهم وقومهم بها، فأعطى كل واحد منهم عشرات من الجمال. وعندما رأى الأنصار أن الغنائم قد حجبت عنهم، وانصبت بين أيدي قريش وقبائل المنطقة وجدوا في أنفسهم، وتناوشتهم الظنون، فراحوا يتهامسون بها، وقال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ولم يشأ زعيمهم سعد بن عبادة إلا أن يصارح الرسول بما يدور بين أتباعه، فسأله الرسول: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ أجاب: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، فقال له الرسول: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في جموع الأنصار خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا:
بلى، والله ورسوله أمنّ وأفضل. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم:
أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك. أو؟؟ جدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) .
فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا «1» .
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرقوا وهم يعلمون يقينا البعد الحقيقي للدرس الذي منحهم إياه نبيهم ومعلمهم.
__________
(1) ابن هشام ص 314- 318 الطبري 3/ 89- 94 ابن سعد 2/ 1/ 110- 111 الواقدي 3/ 943- 949، 956- 958 وانظر: البخاري: تجريد 2/ 93.
إن هذه الكتلة النقية في تاريخ الحركة الإسلامية يجب أن تظل على نقائها تعطي ولا تأخذ، ولا تؤخر، لأن الذي قادها إلى الإيمان، ورفعها مجاهدة في طريقه اللاحب الطويل، شيء آخر غير اهتمامات الذهب والفضة.. إنه النور العميق الذي انقدح في أعماقهم يوم بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.. وأما الكتل الجديدة في تاريخ الدعوة، فأسلوب التعامل معها، وكسبها، وكف أذاها، غير أسلوب التعامل مع كتلة كالأنصار آثر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقى معها دوما: حيا وميتا (معاذ الله..-
قال لهم الرسول- المحيا محياكم والممات مماتكم) !!
قفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا إلى مكة فأدى مناسك العمرة هناك في ذي القعدة وولى عتاب بن أسيد إمرة مكة، ومعاذ بن جبل تفقيه الناس في الدين وتعليمهم القرآن، ومنح عتابا راتبا يوميا مقداره درهم واحد!! وقد قام الأمير الشاب يوما خطيبا في الناس فأعرب عن قناعته بما يتقاضى أجرا على أتعابه، وقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست بي حاجة إلى أحد. وقد حج عتاب بالمسلمين ذلك العام الذي شهد حجا مختلطا شمل المسلمين والوثنيين على السواء «1» . وفي الأيام الأخيرة من ذي القعدة ومطلع الشهر التالي كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد سلكوا طريق العودة إلى المدينة في أعقاب أكبر انتصارين حققهما الإسلام في صراعه مع الوثنية.
__________
(1) ابن هشام ص 318 الطبري 3/ 94- 95 الواقدي 3/ 959- 960.