من صعيد مصر، ومن بيت أحد الناسكين الأقباط ذوي الشأن، جاءت مارية القبطية رضي الله عنها، لم تكن تدري أن الله قد مهّد لها قدرا مغايرًا لبنات جنسها وملتها؛ فكانت إحدى هدايا المقوقس عظيم القبط وحاكم مصر لرسول الله الخاتم، وكان قلبها مهيأً لدين الفطرة، ووقعت عليها محبة النبي وعنايته، وشهدت معه النعمة الكبرى والمحنة أيضًا بوفاة وليدهما الصغير إبراهيم، ورحلت بعده بسنوات قليلة معتكفة في بيتها بعد أن صارت بركة كبرى على بر مصر ووصل حقيقي بمنبع الإسلام .
لم يختلف الرواة على فضل السيدة مارية رضي الله عنها ومكانتها العظيمة، حتى غارت منها بعض أمهات المؤمنين أحيانا! وإن تراوحت أقوال العلماء في مسألة هل حظت بلقب أم المؤمنين، أسوة بزوجاته الإحدى عشرة؛ خاصة وأنه ضرب عليها الحجاب مثلهن وأنجبت للنبي ولدًا فكان عتقًا لها.
وكذا كانت تساؤلات حولها من مثل: هل تزوجها النبي زواجا حقيقيًا أم بملك اليمين على عادة تلك الأيام؟ وهو نظام أقره الشرع باتخاذ السراري، وجاء ذكره بكتاب الله من مثل الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}[الأحزاب: 50]
فمن هي السيدة مارية القبطية التي ورد ذكرها في وصية رسول الله « إنكم ستفتحون مصرَ . وهي أرضٌ يسمى فيها القيراطُ . فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلِها . فإن لهم ذمةً ورحمًا . أو قال : ذمةً وصهرًا»؟! [رواه مسلم 2543]
ولدت مارية بنت شمعون في قرية "حِمن" بمحافظة المنيا، والتي صار اسمها "الشيخ عبادة"، وقد نشأت في بيت لأب قبطي مصري معروف بورعه، وأم رومية اكتسبت منها جمالها..
أمضت مارية رضي الله عنها في صعيد مصر حداثتها الأولى قبل أن تنتقل في مطلع شبابها الباكر مع أختها "سيرين" إلى قصر "المقوقس" عظيم القبط. [نساء النبي لعائشة عبدالرحمن ص195 نقلًا عن مصادر السيرة]
وقد سمعت مارية هنالك بما كان من ظهور نبي في جزيرة العرب يدعو إلى دين سماوي جديد، وكانت في القصر حين جاء "حاطب بن أبي بلتعة" ذلك الصحابي البليغ الفصيح موفدًا من هذا النبي العربي، يحمل رسالة إلى المقوقس يدعوه فيها إلى دين الإسلام.
في تلك الفترة كان اهتمام النبي عليه السلام بعد صلح الحديبية بنشر الدعوة في بلاد العالم، وبدأ يكتب للحكام والملوك بالاستعانة من ذوي الرأي والحكمة الخطابات يدعوهم فيها إلى الدخول إلى الإسلام. ومنهم كسرى ملك فارس، وهرقل ملك الروم، والمقوقس ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة.
وجاء رد المقوقس كما هو معروف في الرواية التاريخية مفعمًا بتصديق هذا النبي الخاتم الذي يأمر بالحق وينهى عن المنكر، وصاحبه لا ساحر ولا كاهن ضال، بل رجل يحمل آيات النبوة وقد أقرَّ المقوقس بعلمه أن نبيًا سيأتي ومذكور في كتابهم، وآمن بنبل دعوته، وإن لم يستطع أن يجهر بذلك لمعارضة القبط له [سيرة ابن هشام 1/7]
انطلق الصحابي "حاطب" - رضي الله عنه - عائدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بكتاب المقوقس وهديته محفوفًا بالتكريم: وكانت الهدية على غالب رأي الرواة "مارية" وأختها "سيرين" وعبد كهل خصي، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا لينًا من نسج مصر، وبغل مسرج ملجم، وحمار أشهب، وجانب من عسل "بنها" وبعض العود والند والمسك [تاريخ الطبري 3/85]
أحس حاطب ما تجد الأختان الشابتان من شجن الفراق، فأقبل عليهما يحدثهما عن تاريخ لبلاده عريق، ثم انثنى يتحدث عن النبي الرسول ودعوته، فانشرح قلبهما للإسلام ونبيه الكريم. [نساء النبي، مرجع سابق]
لما بلغ الركب المدينة سنة سبع من الهجرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد للتو من "الحديبية" بعد أن عقد الهدنة مع قريش.. وتلقى النبي بترحاب كتاب المقوقس وهدية مصر.
وذكر بعض الرواة أن مارية وأختها أسلمتا قبل قدومها على النبي، فيما أقام العبد الخصي على دينه حتى أسلم بالمدينة في عهد رسول الله.
كان رسول الله معجبًا بمارية، وكانت بيضاء جميلة، فاكتفى بها ووهب أختها لشاعره حسان بن ثابت، وقد أنزل النبي مارية في عالية [بستان كانت تسكنه السيدة مارية] يقال لها اليوم "مشربة أم إبراهيم" ، وكان رسول الله يختلف إليها هناك، وضرب عليها الحجاب، وكان نكاحها بملك اليمين [الطبقات الكبرى لابن سعد 8/212]
ورجح رواة آخرون بأن تكون مارية قد أسلمت بعد قدومها على النبي وبدعوة مباشرة منه، ولما اتخذها لنفسه بملك اليمين حولها إلى مال له من أموال بني النضير [ما أفاء الله به على نبيه من غنيمة بني النضير]، تسكن فيه صيفًا، وكان يأتيها هناك، وكانت حسنة الدين. [البداية والنهاية لابن كثير 8/229]
طار النبأ إلى دور النبي، أن شابة مصرية حلوة، جعدة الشعر، جذابة الملامح، قد جاءت من أرض النيل هدية للرسول، فأنزلها صلى الله عليه وسلم بمنزل للصحابي حارثة بن النعمان، قرب المسجد، في باديء الأمر، فكانت جارة لأمهات المؤمنين..
راحت السيدة عائشة رضي الله عنها ترقب في كثير من القلق، مظاهر اهتمام زوجها بتلك المصرية، وقد أثار جزعها أن تراه صلى الله عليه وسلم يكثر من التردد عليها، ويمكث لديها طويلًا ! [نساء النبي، بنت الشاطيء، ص197ـ نقلا عن طبقات ابن سعد]
وتحدثنا المصادر كالطبري وابن كثير وابن القيم عن القسط الوافر من المحبة والتكريم الذي أحاط الرسول به "مارية"، كما تحدثنا عن اشتداد غيرة نساء النبي بعد إنجاب مارية الولد للنبي.
وهناك رواية بأن لاحظت السيدتان عائشة وحفصة حبَّ النبي عسل بنها الذي جاء مع ماريا، فادّعتا أن به رائحة كريهة، وكان النبي حريصًا على طيب رائحته، فامتنع عنه. [ماريا القبطية، محمد علي السيد، نقلا عن مراجعة منشورة ] ، وقيل بأن ذلك سبب آيات سورة التحريم أي أنه حرم على نفسه ما أحل الله.
أثيرت في كتب السيرة مسألة خلاف السيدة حفصة والسيدة مارية رضي الله عنهما، لوجود الثانية في بيت الأولى حال غيابها، وهذه الرواية لن نجدها مثبتة في صحاح السنة الستة، وروايتها فيها نظر، ويعنينا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم، لم يكن قد هم؛ بافتراض صحة الرواية، بشيء حرام، وأنه لم يكن يعرف عنه إلا العدل بين زوجاته، ومسألة تمتعه بملك اليمين فهو مما أحل الله به لنبيه، لحكمة يعلمها.
ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعًا من سابقيه في تسريه، بل كان التسري معروفًا في الأديان السابقة؛ فقد كانت هاجر سرية إبراهيم عليه السلام، وأم ولده إسماعيل عليه السلام، وكان لداود ثلاثمائة سرية كما ورد في التوراة، وقد عرف الجاهليون التسري أيضًا، وقد نص القرآن والسنة المطهرة، على جواز التسري، هذا فضلا عن أن التسري كانت له فوائد للمجتمع المسلم، إذ فيه وجاء ووقاية من أمراض الفساد والغواية والرذيلة.[موقع المركز العالمي للقرآن وعلومه، رد شبهة أن النبي خان أمهات المؤمنين]
أبلغ سيدُنا جبريل أمين الوحي النبيَّ بما حدث، فغضب غضبًا شديدًا لإفشاء سره. واعتزل زوجاته، فأُنزلت عليه الآية الكريمة:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] وأمر الله تعالى بأن يتحلل النبي من يمينه ويعود إلى زوجاته جميعًا بمن فيهم مارية.
وفي قول الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] رجح مفسرون أن السيدة حفصة دخلت بيتها وكانت مارية بحجرتها، وكان ما كان من غضبها، فاسترضاها رسول الله لعطفه على نسائه وشفقته بقلوبهن، وبشرها أيضا بأن أبا بكر يلي الخلافة من بعده ثم أبيها عمر، ولكنه نهاها عن أن تخبر بشيء عن مارية وحرمتها عليه، فلم تكتم السر وطارت للسيدة عائشة تبشرها، فعاتبها النبي عن مارية بشدة ولم يعاتبها عن الثانية بخصوص خلافته، فقالت السيدة عائشة : من أنبأك هذا، قال النبي: أنبأني العليم الخبير. [تفسير القرآن لابن كثير 8/192]
ثم حذر الله نساء النبي من مغبة التحالف على النبي ومخالفة نهجه وأوامره التي هي من عند الله، لقول الله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]
أنعم الله على السيدة مارية رضي الله عنها بأن تكون سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسيدة مارية هي أم آخر أبناء النبي الذكور "إبراهيم" والذي توفي وهو بعد صغير، وكانت الوحيدة التي أنجبت له بعد السيدة خديجة زوجه الأولى رضي الله عنهما.
نالت مارية محبة النبي عنها ورضاه وكان يختلف إليها كثيرا في علية خاصة له، حتى غارت أمهات المؤمنين. ثم كانت ماريا سببًا في اعتزال النبي نسائه مدة شهر عربي (29 يومًا)، حتى شك المسلمون أنه طلقهن، وأقام في عش بسيط أعلى شجرة.
بنزول آيات سورة التحريم التي أخبر الله فيها نبيه بمظاهرة نسائه عليه، ودفعهن إياه لتحريم ما هو حلال بالفعل، من التسري بمارية زوجته بملك اليمين، وكانت مكرمة مارية بعودة النبي إليها بأمر من الله، وجاء التكفير عن اليمين بتحرير رقبة.
وكانت لمارية مكرمة أخرى بتشريع عتق الجارية «أم الولد» التي تلد ولو «سقطاً» ميتًا لسيدها والتي أصبحت أهم وسائل تحرير الجواري وتحولهن زوجات بعدما أنجبت إبراهيم، وقال النبي عنها: «حررها ابنها» [رواه ابن ماجة] وبرواية أخرى «أعتقها ولدها» [رواه البيهقي ووردت في مسند أحمد 1/208]
أيضًا سرت على "مارية" جميع أحكام أمهات المؤمنين الخاصة بهن، ومنها ضرب الحجاب "بمعنى النقاب" على سبيل الوجوب، إضافة إلى تحريم زواجها من بعد النبى صلى الله عليه وسلم.
الراجح عند العلماء ان السيدة مارية كانت من سرايا الرسول لا زوجاته، وقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أربع إماء ، منهم مارية . وعن أبي عبيدة :كان له أربع : مارية وهي أم ولده إبراهيم ، وريحانة ، وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي ، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. [زاد المعاد، ابن القيم، 1/114]
ويرى بعض العلماء أنه لا يتصور أن النبي الذي جبر كسر نسائه : صفية وجويرية وريحانة بالعتق ثم الزواج ، فهل يتصوّر أحد أن يبخل أكرم ولد اّدم على أم "إبراهيم" أحب أولاده إليه بالزواج، و لقد كانت عادة بعض العرب أن يعتقوا ثم يتزوّجوا أمهات الولد حماية لأطفالهم من العار. والثابت أيضًا أنه عليه السلام لم يترك- لحظة وفاته – عبدًا ولا جارية ولا دينارًا ولا درهمًا كما روت كل كتب السيرة ، فقد بادر عليه السلام بعتق 63 نفسًا في حياته- وهم كل من وصل إلى يده الشريفة من مماليك - فهل تنفرد السيدة مارية من بين كل هؤلاء بالبقاء في الرق حتى موته؟![زوجات لا عشيقات، حمدي شفيق]
وحتى لو كان الرأي الصحيح هو أنها بقيت ملك يمينه حتى مات صلى الله عليه وسلم ، فيكفى أنها نالت حريتها في الإسلام - على الأقل - وشرفت بالاقتران والإنجاب من سيد الأنام، وهو شرف لم تنله ابنة سيدها السابق- المقوقس- ولا ابنة كسرى أو قيصر. وقد كان عقد ملك اليمين آنذاك يكفل للجارية النفقة وحسن المعاشرة وقضاء حاجتها الفطرية إلى الرجل بعقد شرعي شريف يشبه عقد الزواج اليوم، ويحفظ لأولادها من السيد حقهم في الانتساب إلى أبيهم وأن يكونوا أحرارًا مثله ولهم حقوقهم كاملة، ويمتنع سيدها عن بيعها وتتحرر لحظة وفاته إن لم يتزوجها ويعتقها في حياته. [المرجع السابق نفسه، زوجات لا عشيقات]
كان النبي للسيدة مارية الصاحب والأهل والوطن، وربما تذكرت هاجر زميلتها المصرية التي جاءت من أرض النيل، وحملت من سيدها إبراهيم عليه السلام فأثارت غيرة زوجته السيدة سارة بعد أن أنجبت الولد.
لقد تزوج المصطفى منذ ماتت السيدة خديجة، عشر زوجات، منهن الشابة الفتية، والمرأة الناضجة، ومنهن من كانت ذات ولد من غيره، ولكن أرحامهن جميعًا أمسكت فما تجود بولد واحد للزوج المصطفى الذي تخطف الموت أبناءه من خديجة، فلم يدع له سوى ابنة واحدة، هي السيدة فاطمة الزهراء.
لكن سرعان ما سرت البشرى في أنحاء المدينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينتظر مولودًا له من "مارية المصرية" [نساء النبي، مرجع سابق، ص198]
وخاف المصطفى على مارية، فنقلها إلى ضواحي المدينة، توفيرا لراحتها وسلامتها.. وجاءت أختها سيرين ترعاها حتى بلغ الجنين أجله، وحانت ساعة الوضع ذات ليلة من شهر ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة ..
ودعا المصطفى قابلتها(القابلة: المرأةُ التي تساعد الوالدة وتتلقَّى الولد عند الولادة) سلمى: زوج أبي رافع ثم انتحى ناحية من الدار، يصلي ويدعو..
هنَّأ رسول الله مارية بولدها والذي أعتقها من الرق؛ فبولادة إبراهيم أصبحت مارية حرة، وقال ابن كثير أن النبي عقّ عن ولده إبراهيم بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، وسماه إبراهيم، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته، وجاء أبو رافع وبشر النبي، فوهب له عبدًا، وغار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهن حين رُزِقَ مِنْهَا الْوَلَدَ.
وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، وأحبوا ان يفرّغوا مارية للنبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من هواه فيها، فاختار مرضع ولده، وجعل في حيازتها سبعًا من المعاز كي ترضعه بلبنها إذا شح ثدياها [الاستيعاب 1/55]
راح رسول الله يرقب نمو إبراهيم الصغير وهو من ابتلي بوفاة أبنائه واحدا تلو الآخر، وقد حمله يومًا بين ذراعيه إلى عائشة ودعاها في تلطف وبشر، لترى ما في الصغير من ملامح أبيه، لكنها أمسكت عبرتها وقالت: ما أرى بينك وبينه شبهًا!
كان إبراهيم ابن النبي مسترضعًا في عوالي المدينة، وكان النبي ينطلق مع أصحابه، فيدخل البيت الذي فيه ابنه إبراهيم، وكان ظئره يعني زوج مرضعته قينًا حدادًا، والبيت كله دخان، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع، من شدة رحمته بأولاده, وعطفه عليهم, وحبه لهم . [نساء النبي، بنت الشاطي،200]
يشاء الله أن يخلص قلب النبي إليه، وألا يكون من بعد النبي ولد فيأتي بما لا يلائم عصمة أبيه النبي الخاتم، وسبحانه الحكيم العليم. [موقع د.راتب النابلسي]
لم تدم سعادة مارية والنبي سوى عام وبعض عام، ثم كانت المحنة الفاجعة حين مرض إبراهيم ولما يبلغ عامين من عمره، وقد مرضته مارية وأختها، لكن الحياة أخذت تنطفيء فيه رويدًا رويدًا، فجاء أبوه معتمدًا على يد "عبدالرحمن بن عوف" لشدة ألمه، فحمل صغيره من حجر أمه وهو يجود بنفسه، ووضعه في حجره محزون القلب ضائع الحيلة، لا يملك إلا أن يقول في أسى وتسليم: "إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا" [الاستيعاب، 1/57]
انحنى النبي على جثمان فقيده فقبله والدمع يفيض من عينيه ثم تمالك نفسه.. تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، ثم نظر إلى مارية في عطف ورثاء وقال يواسيها: "إن له لمرضعًا في الجنة" [رواه أبوداود: 467]
وأقبل ابن عمه الفضل بن عباس فغسل الصغير الميت، وأبوه الثاكل جالسًا يرنو إليه في حزن بالغ وحمل جثمان إبراهيم من منزل أمه على سرير صغير، وسار وراءه أبوه وصحابته إلى البقيع، فصلى عليه النبي، وأضجعه بيده في قبره، ثم سوى عليه التراب ونداه بالماء.. [بنت الشاطيء نقلا عن مصادر السيرة ومنها ابن سعد]
ويروى أن الصحابة كانوا عند رسول الله جلوسًا؛ وقد انكسفت الشمس، فقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فزعا يجر ثوبه حتى دخل المسجد، فصلى ركعتين، ولم ينزل يصليها حتى انجلت، وكان ذلك عند موت إبراهيم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا حَتَّى يَكْشِفَ مَا بِكُمْ» رواه ابن حبان في صحيحه حديث رقم 2834.
طوى النبي جرحه صابرًا مستسلمًا لقضاء الله فيه، واعتكفت مارية في بيتها تحاول أن تتجمل بالصبر حتى لا تنكأ الجرح في قلب الأب الرسول، فإذا عز الصبر خرجت إلى البقيع فاستروحت لقرب فقيدها، والتمست راحة في البكاء..
شارف عليه الصلاة والسلام الستين من عمره، وبدا كأنه كفّ عن رجاء الولد، وبعد حمل السيدة مارية سرت همسة مريبة تتهم مارية بمثل ما اتهمت به قبلها أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما [الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبدالبر، 4/921]
وجاء في الصحيح أن رجلا كان يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه. [صحيح مسلم: 4975]
يقول الإمام ابن القيم: لقد أمر رسول الله ابن عمه عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه، بأن يتبين أمر ذلك العبد الخصي الذي جاء مع مارية من مصر، وهل بالفعل كما نقل بعض الوشاة، اجتاز حرمة النبي، فإن وجده عندها ضرب عنقه، ولكن عليًا الذي ذهب شاهرًا سيفه متخفيًا، دخل فوجده في نخلة يجمع تمرًا، وهو ملفوف بخرقة، سقطت عنه حين ارتعب من السيف وارتعد، فإذا هو لا ذكر له، وبالتالي فلا يشك منه وقوع الفاحشة.
وقال الإمام ابن تيمية : من نكح أزواج النبي او سراريه فان عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته [الصارم المسلول ج: 2 ص: 120] أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنق هذا الرجل لما قد استحل من حرمته ولم يأمر بإقامة حد الزنى لأن حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة بل إن كان محصنًا رُجم وإن كان غير محصن جُلد ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء او بالإقرار المعتبر.
لم تطل أيام المصطفى بعد موت ولده إبراهيم في السنة العاشرة للهجرة، فما أهل ربيع الأول من السنة التالية حتى شكا صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بربه الأعلى، وترك مارية من بعده تعيش خمس سنين في عزلة من الناس، لا تكاد تلقى غير أختها سيرين، ولا تكاد تخرج إلا لكي تزور قبر الحبيب بالمسجد، أو قبر ولدها بالبقيع.
فلما ماتت سنة ست عشرة من الهجرة، أخذ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحشد الناس لجنازتها، ثم صلى عليها ودفنها بالبقيع.
وحسب مارية أنها دخلت في حياة النبي العظيم، وأن الله آثرها بفخر أمومتها لولده إبراهيم عليه السلام.. ثم حسبها بعد هذا كله، أن دعمت ما بين مصر والجزيرة العربية من صلة عريقة بدأت بهاجر من أعماق الماضي الموغل في القدم، فجعلت نبي الإسلام يوصي أتباعه بقوم مارية فيقول
"الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فإن لهم نسبًا وصهرًا" [ابن سعد الطبقات الكبرى 8/154]
ولقد ترك صلى الله عليه وسلم هذه الوصية ميراثًا بعده، فيقال أن الإمام الحسن بن علي، رضي الله عنهما، طلب إلى معاوية في مفاوضات الصلح بينهما ،أن يرفع الخراج عن أهل قرية حِفن وفيها خئولة إبراهيم عليه السلام.. كما يروى أن عبادة بن الصامت لما جاء مصر بعد فتحها، بحث عن تلك القرية وسأل عن موضع بيت مارية الأول، فبنى به مسجدًا .. [نساء النبي، بنت الشاطيء، 208]